مقدمة

نظرية الدوائر الثلاث التي صاغتها ثورة يوليو ١٩٥٢م هي التي حدَّدَت دوائر التحرُّك المصري؛ مصر، والوطن العربي، والعالم الأفريقي الآسيوي. وقد عُرِفَت هذه النظرية في الحركة الإصلاحية منذ الأفغاني حتى حسن البنا، وعلَّال الفاسي باسم «الوطن والعروبة والإسلام».

مصر هي بؤرة الدوائر الثلاث هي الدولة القاعدة، والقاسم المُشترَك. وعلى أساسها قامت نهضة مصر الثالثة بعد نهضة محمد علي الأولى في القرن التاسع عشر، والنهضة الليبرالية الثانية في النصف الأول من القرن العشرين. دافعت مصر عن استقلالها الوطني ضد التكتلات والأحلاف حلف بغداد، والحلف الإسلامي، وأسهمت في صياغة سياسة عدم الانحياز والاتحاد الإيجابي. وحاولت تذويب الفوارق بين الطبقات وسنَّت قوانين الإصلاح الزراعي الأولى والثانية. وأصدرَت قوانين يوليو الاشتراكية في ١٩٦٢-١٩٦٣م. وأقامت صرحًا صناعيًّا ضخمًا للتحول من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي. وقرَّرَت مجانية التعليم في كل مراحله من المرحلة الابتدائية حتى الجامعة. وبَنَت المدارس للقضاء على الأمية، مدرستين كل يوم. وشيَّدت القطاع العام لسد الحاجات الأساسية. ودَعمَت المواد الغذائية الأساسية لغير القادرين. وحدَّدَت إيجارات المساكن. وأقامَت تنظيمًا سياسيًّا يجمع تحالُف قوى الشعب العامل. وأقامَت صرحًا ثقافيًّا وأدبيًّا وفنيًّا يُجسِّد نهضة مصر. وكانت ذروة استقلال مصر في الخمسينيات والستينيات قبل أن تنتهي بهزيمة يونيو ١٩٦٧م للقضاء على المشروع النهضوي لمصر.

ومنذ السبعينيات حتى الآن هدمَت مصر ما بَنَتْه بسواعد أبنائها. فرَّطَت في استقلالها الوطني، وتابَعت الولايات المتحدة الأمريكية؛ واعترَفت بإسرائيل وعقَدت معها معاهدة سلام في ١٩٧٩م، والأراضي العربية ما زالت مُحتلَّة. وزادت الفوارق بين الطبقات، وبِيع القطاع العام باسم الخصخصة، وانتشر التعليم الخاص على كل المستويات من رياض الأطفال إلى الجامعة. وبدأ رَفْع الدعم عن المواد الغذائية. واندلعت مظاهرات الخبز في يناير ١٩٧٧م، والأمن المركزي في ١٩٨٦م، والعمال في أكتوبر ٢٠٠٧م. وتكرَّرَت مظاهرات الجامعات ضد العدوان الأمريكي على العراق وضد قانون الطوارئ، وضد إسرائيل دفاعًا عن المسجد الأقصى. ونشأت حركات احتجاج مثل «كفاية». ونَشطَت مؤسَّسات المجتمع المدني مثل حقوق الإنسان. وتساءل المفكرون: «ماذا جرى للمصريين؟» وعَبَّر الأدباء عمَّا «يحدث في مصر الآن». عاود المصريون الحنين إلى الستينيات يجدون فيها حلمهم المُجهَض، وروحهم الضائعة، ووجودهم المفقود.

في هذا الجزء الأول «مصر» تَتحدَّث عن نفسها أيام كانت بؤرة الدَّوائر الثلاث قبل أن تَتحوَّل إلى ثورة مُضادة ويتسلط الحكم، ويبدأ النَّيْل من هيبة مصر، وعكوف مصر على ذاتها لمداواة جِراحها الداخلية وصراعاتها الداخلية من أَجْل استمرار النظام السياسي بصرف النظر عن قضايا مصر الوطنية، ومشروعها القومي، وخيالها السياسي. يبدأ تفتيتها من الداخل، بين حكومة ومُعارضة، وبين أجنحة المُعارَضة سلفيين وعلمانيين، مسلمين وأقباط. وفي الوقت ذاته تظهر بؤرة جديدة في الوطن العربي في الخليج للقيام بدور مصر. وتقفز إسرائيل فوق مصر لتحلَّ محلها كبؤرة جديدة للتحديث في مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير.

حسن حنفي
مدينة نصر، ٢٨ من سبتمبر ٢٠٠٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤