الفصل الثاني

السلطان

(١) فرعون مصر١

أصبح الفرعون في تاريخ النُّظم السياسية رمزًا للحاكم الفرد، والحُكْم المُطلَق الذي يُسميه ابن رشد «وحدانية التَّسلُّط». ويعني اللفظ في أصل الاشتقاق الهيروغليفي الطويل، الفارع، الضخم الكبير، العظيم القدر، رفيع المقام. كما يعني في الثقافة العربية المتسلط، الجبار، المتألِّه. وهو المعنى السائد في استعمالات لفظ «فرعون» في القرآن الكريم، ويستعمل نكرة «فرعون» أيُّ فرعون، وليس «الفرعون» فرعونًا بعينه. نموذجه الأول في مصر، ولكن يوجد أيضًا خارج مصر لدى عاد وثمود من الشعوب القديمة.

وقد ذكر لفظ «فرعون» في القرآن الكريم أربعًا وسبعين مرة. فهو لفظ متكرر دائم الاستعمال؛ مما يدل على أهميته ومركزيته. ويمكن إجمال معاني اللفظ في أربعة:

  • (١)
    العلو والاستكبار والتأله والثروة، وامتلاك مصر. العلو في الأرض والتبذير والإسراف؛ أي تجاوز الحدود في الاستكبار وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ. وهو يفرق الناس، ويضرب بعضهم ببعض، ولا يجمع التيارات السياسية كلها على حد أدنى من الوفاق الوطني إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا، كما هي الحال في كل نظام تسلطي لإضعاف قوى المعارضة. يضرب اليمين باليسار مرة. ثم يضرب اليسار باليمين مرة أخرى. فيَضْعُف الجانبان الرئيسان للمعارضة. ويقوى النظام ويصبح لا بديل له وكلما جاءته الرسل، وحذرته المعارضة، ازداد استكبارًا وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ. وهو المتأله الذي لا إله غيره وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي. هو الذي يهدي ويقرر ويغير مواد الدستور وقوانين البلاد قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ. ولا يكفيه التأله، بل يريد الصعود إلى السماء ليزداد علوًا. ويأمر رئيس وزرائه ببناء صرح يصعد عليه وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ. هو فرعون ذو الأوتاد المطمئن على نظامه عن طريق وزير داخليته وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ. وهو ذو الجنود المطمئن على نفسه عن طريق وزير دفاعه هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ. يمتلك هو وطبقته ورجال أعماله وحزبه الثروة بلا حدود وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا. بل إنه يمتلك مصر كلها. ويشهد الناس على ذلك بأعماله وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ. ويريد فرعون أن يُورِّث ابنه ملك مصر من بعده وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ. وقد يريد الابن زحزحة الأب قبل الأوان ويعمل لحسابه الخاص، ويحشد رجاله إلى أن يحين الوقت فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. وهو نموذج الطاغية اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهَ طَغَى. فالطغيان نتيجة للعلو في الأرض والاستكبار، والتأله والغنى والملك.
  • (٢)
    له أبواقه الإعلامية ومُبرِّرُو حكمه، ومُشرِّعو طغيانه من ترزية القوانين وفقهاء الدستور. هم سحرة فرعون الذين يزيفون الحقائق. يجعلون الباطل حقًّا، والحق باطلًا، والعصا ثعبانًا، والثعبان عصًا. وينالون المال والجاه في مقابل تزيين أعمال فرعون وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ. ويُحرِّضون فرعون على المعارَضة بالسجن والاعتقال وتزييف التُّهم، والعمل بقوانين الطوارئ، والأحكام العرفية وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ. يحشد السحرة حتى يجندهم كلهم لحسابه وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ. وتأتمر أبواق الإعلام بأوامر فرعون ويُغيِّر الإعلاميون ضمائرهم وهم يعلمون سوء أعماله فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يدبجون المقالات الافتتاحية، ويكتبون التقارير الصحفية اعتمادًا على قوة فرعون فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ. فإذا ما أراد بعض الإعلاميين ترك الزفة الإعلامية، ومغادرة السفينة الغارقة أو الاستقالة من منصب أو مغادرة لجان الحزب، فإن ضميره لا يستطيع أن يصحو. ولا يقول الحق إلَّا بأمر فرعون كذلك. فهو رب العرش والضمير قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ.
  • (٣)
    لا يستمع إلى آراء المعارضة، ولا إلى تحذير المخلصين الوطنيين. تأتيه النصائح فيَصُم الأذان وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وتكثر المعارضة من كل الاتجاهات السياسية، ولكنه يصر على طغيانه ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. يحذرونه من ظلمه، ويبصرونه بعواقب الأمور وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ. ويذكرونه بأن فوق كل ذي علم عليمًا، وفوق كل ذي قوي قويًّا متينًا، أن الله قاصم الجبارين فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا يستمع إلى نصح. وهو الحكيم المتزن الهادئ الوقور الذي لا يتهور ولا يغامر بمغامرة غير محسوبة قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ والرسول شاهد على فرعون وأعماله إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا. والرسول مدعم بالآيات والبينات والوقائع والإحصائيات عن تدهور الأحوال على الظلم الاجتماعي والسياسي، القهر ونهب الأموال، التسلط وبيع الأصول ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا. والأدلة دامغة، والبراهين واضحة وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ. والآيات ليست إلى فرعون وحده، بل إليه وإلى رجاله وحاشيته ورجال أعماله وأعضاء حزبه. وتتعدد الآيات والأدلة على فساد الحكم، وتفصيل القوانين، وقانون الطوارئ، ونهب الأموال والتلاعب بالأسعار، وتهريب الثروات إلى الخارج، وزيادة البطالة، وتفشي الجريمة، وازدياد الفقر، وهي آيات تسع، فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ. وتوالت النذر، حوادث القطارات وغرق العبَّارات، ونواب القروض وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ. ولا يصدقها فرعون ويكذب بالرسل ويَتَّهم إعلامُه صحافةَ المعارَضة بالإثارة قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، ويدعي أنها تريد الفتنة وعدم الاستقرار وهروب المستثمرين وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ. وتتلقى المعارضة كل صنوف الاضطهاد والقمع من أجل استرجاع بعضهم إلى أبواق الإعلام الرسمية فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ. يتهم فرعون المعارضة بالكذب والتمويه فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا. وتتهمه المعارضة بالغرور وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا. ويجمع فرعون أنصاره لإرهاب المعارضة، ولكن يظل فيها ولو واحدًا يجهر بالحق. فأعظم شهادة قول حق في وجه إمام جائر وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ويريد فرعون قَتْل موسى خشية أن يُبدِّل نظامه، ويقوم بانقلاب ضده. وتقع الفوضى بدلًا من الاستقرار. فلا بديل عن فرعون ونظامه وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ. فيضل فرعون وقومه ولا يهديهم وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى.
  • (٤)
    ومع ذلك ينجي الله موسى ويحميه من عذاب فرعون وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، ومن سوء أعماله فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. وهو قانون تاريخي بانتصار الحق على الباطل والصواب على الخطأ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ. فالخطأ العام إثم وجريمة وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ. يجلب على شعبه القحط، والجفاف، والجوع، والموت، وقِصَر العمر وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ. والعاقبة، تدك عروش الفراعنة وقصورهم ومنتجعاتهم وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ. وقد تنهار صروحهم بغتة وينتهي أجَلُهم فجأة فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا. ما يحيق بفرعون من هلاك بالغرق قد حاق بالفراعنة السابقين كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وهذه عبرة التاريخ ونهاية الطغاة نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وكم من نُظم طغيان انهارت ودول تَسلُّط بادت بما في ذلك «قوم تُبَّع» الذين يفرطون في الاستقلال الوطني ويتبعون تلك القوة الكبرى أو هذه القوة المحلية. يجدون في الخارج سندًا وحماية على فقدانهم الشرعية في الداخل. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ. نَجَّانا الله من فرعون وقومه. وكل عام وأنتم بخير.

(٢) الدولة والفرد٢

تَعدَّدَت نظريات نشأة الدولة بين العموم والخصوص

  • أولًا: إن الدولة تشمل أكبر رقعة من الأرض. وتضم جنسيات وقوميات وأعراقًا مُتعدِّدة. هي «الدولة-الأمة» أو «الأمة-الدولة» أو الدولة الأممية. وهي أشبه بالإمبراطورية المترامية الأطراف أو بنظام الخلافة. لذلك يُقال «الدولة الأموية»، «الدولة العباسية»، «الدولة العثمانية»، وفي الحالة الأخيرة يُقال أيضًا «الإمبراطورية العثمانية». وحدث ذلك أيضًا في الغرب في «إمبراطورية» الإسكندر الأكبر، «وإمبراطورية» شارلمان، والإمبراطورية النمساوية، والإمبراطورية الفرنسية في أثناء حروب نابليون وعصبها الدولة القاعدة، أو القومية السائدة. فقد كان العرب هم عصب الدولة الأموية، والفرس عصب الدولة العباسية، وتركيا قلب الإمبراطورية العثمانية، وفرنسا مركز الإمبراطورية الفرنسية، والنمسا ركيزة الإمبراطورية النمساوية. وتنتهي هذه الإمبراطورية بعد ضعف المركز إلى التفكك على حدود القوميات أو الأعراق أو الطوائف بعد أن تنشأ عدة محاولات للإصلاح عن طريق اللامركزية، كما حدث ذلك أيام الإمبراطورية العثمانية في حركات الإصلاح. وما زال يمثلها حزب الخلافة الإسلامي الحالي وبعض التيارات الإسلامية التي لا تدين بالولاء للأوطان ولا للقوميات. فالجهاد واحد في فلسطين والعراق وأفغانستان، والبوسنة والهرسك. وإذا عطس مسلم في أقصى الشرق لقال له مسلم آخر في أقصى الغرب: «يرحمكم الله».
  • ثانيًا: تنشأ الدولة من الموقع الجغرافي السياسي حول الأنهار الكبرى؛ مثل: الصين والعراق ومصر. وهي الدولة النهرية المركزية التي نشأت لتوزيع مياه النيل، وتنظيم الدورة الزراعية، وجمع المحاصيل، وتوزيعها أو تصديرها. وهي دول ذات حضارات عريقة في العلوم، والفنون، والصناعات، والفلسفات، والأديان. وهو ما أبرزه فيتفوجل من أعمدة مدرسة فرانكفورت. إذا قويت الدولة أبدعَت الحضارة. وإذا ضَعُفَت اعتمدت على حضارات الغير. تغيب عنها المشارَكة الشعبية، ويتسع جهاز الدولة لملء الفراغ بين السُّلطة المركزية والشعب. وتغيب عنها الحرية الفردية والرقابة على الدولة. ويحل محلها السمع والطاعة لقوانين الدولة ونُظمها. وهي دولة ذات مهابة، وعمق تاريخي، يصعب تفكيكها أو حتى لامركزيتها. فلولا القلب لما كانت الأطراف. الجيش عصبها، والقوة أداتها. وتغزو ولا تُغزى. تُبدع ولا تنقل، تقود ولا تُقاد.
  • ثالثًا: تنشأ الدولة من روح الشعب، وتاريخ الأمة، وعبقريتها المُتجدِّدة عبر الزمان. وهي الدولة القومية التي نشأت في عصر القوميات الكبرى في الغرب مثل ألمانيا التي ولَّدت النازية، وإيطاليا التي أفرزت الفاشية، وإسرائيل التي أخرجت الصهيونية. وتتسم أيضًا بالمركزية، والقيادة «الكاريزمية»، والزعامة الروحية، والاختيار الإلهي، تتسم بالعدوان والتوسع من أجل توحيد كل الأفراد المنضوين تحت القومية ذاتها بصرف النظر عن الحدود السياسية أو الجغرافية. عمادها اللغة والثقافة والتاريخ والشخصية القومية النمطية. ومشكلتها الأقليات التي لا تنضوي تحت القومية الرئيسة ولا تريد الانصهار فيها؛ مثل اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية والغرب بوجهٍ عامٍّ خاصة ألمانيا بعد أن قَبِل يهود فرنسا أن يكونوا فرنسيين بعد الثورة الفرنسية، ومثل الأقليات المسلمة الآن في الدول الأوروبية، ومثل الأكراد، والبربر، والأفارقة في عصر القومية العربية. وأحيانًا يتم الخلط بين القومية والعرق وتنحرف إلى الرؤية العنصرية.
  • رابعًا: تنشأ الدولة على مجموعة من المصالح الطبقية، وتفرض الطبقة المسيطرة مصلحتها على تشكيل الدولة وصياغة قوانينها فهي دولة البروليتاريا كما تظهر في بعض الأسماء مثل «الجماهيرية»، أو «الشعبية»، أو «الاشتراكية» دفاعًا عن الطبقات الدُّنيا من المجتمع، العمال والفلاحين. وقد تكون الدولة التجارية أو الدولة البرجوازية دفاعًا عن الطبقة المتوسطة. وقد تكون الدولة «الأوليجاركية» التي تقوم على النخبة مثل دولة الإقطاع. وهو توحيد بين الكل والجزء، بين الدولة وجزء من المجتمع وليس المجتمع كله بدعوى نشاط النخبة وسكون الجماهير، عبقرية الخاصة وجهل العامة.

وقد كانت هذه الاختيارات الأربعة حاضرة في حياة العرب المعاصرين منذ الدولة العثمانية واضطهاد باقي القوميات فيها؛ مثل: العرب، والأرمن، وبعض قوميات أوروبا الشرقية. ووضع قانون «الملة» لتحديد الصلة بين المسلمين وغير المسلمين وهو ما يتنافى مع قوانين المواطنة، والتساوي في الحقوق والواجبات. وتضطر الدولة القومية الإجابة عن سؤال القوميات الفرعية المتعايشة مع القومية الأم. والدولة الوطنية تتشابك مصالحها مع دول الجوار المُشارِكة معها في اللغة والثقافة والتاريخ. والدولة الطبقية تعبر عن مصالح طبقة ضد مصالح الطبقات الأخرى؛ فتقع في دوامة الصراع الطبقي الذي لا ينتهي نظرًا إلى طبيعة الجدل الاجتماعي.

والغريب أن الذي يحكم العرب بالفعل ليس هذه الأنواع الأربعة من الدول من حيث نشأتها، بل نوع خامس هو الدولة الفرد التي يتوحد فيها الفرد مع الدولة، وتتوحد فيها الدولة مع الفرد. وهو لا يخص العرب وحْدَهم، بل يوجد أيضًا في بعض النُّظم السياسية الغربية مثل فرنسا الديجولية الذي ردَّد عبارة لويس السادس عشر «الدولة أنا». فعندما عُرِض عليه أن يكون بالأكاديمية الفرنسية أجاب: «وكيف تدخل فرنسا الأكاديمية الفرنسية؟» وهو تضخيم لدور الخليفة أو القائد أو الزعيم أو الأخ. يُطبِّع الدولة بطبعه. بل يسميها باسمه.

وينشأ هذا النظام لعدة أسباب. منها غياب الوعي التاريخي الجغرافي السياسي، وبأن الوضع «الجيوسياسي» هو الذي يفرز الفرد وليس الفرد هو الذي يفرزه، وغياب الوعي الطبقي نظرًا إلى أن الفرد في النهاية ابن طبقته، ويعبر عن مصالح فئوية بما في ذلك عائلته وقبيلته وعشيرته وطائفته وعرقه. كما يغيب عنه الوعي بتجارب الدول السابقة؛ مثل الإمبراطوريات، والقوميات، وإمكانية امتصاص الفرد في القوى الدولية وجعله تابعًا بدلًا من أن يكون متبوعًا. وتأليه الأفراد وَقْتِي، مرتبط بالمستوى التعليمي للشعب. وبازدياد التعليم واتساع رقعته يتعلم الشعب مَعاني تداوُل السُّلطة، والرقابة على الحكام ودور المؤسَّسات المستقلة عن الأفراد، وبأن لا خلود لأحد إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ.

وبالسُّرعة ذاتها التي تتكون فيها دولة الفرد فإنها تنهار أيضًا. فالفرد محدود بِقُوَّته وقُدْرَته وعمره وحياته «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات». وينتهي إما بالاغتيال، وإما بالانقلاب، وأحيانًا بالجنون؛ مثل: كاليجولا، والحاكم بأمر الله. ويتضخم جهاز الدولة كي ينفذ أوامره. كما تنشأ البيروقراطية كبديل عن المؤسَّسات. وتتكون البطانات والشلل وجماعات الضغط، كل يفسر الأمر لصالحه. ويعم الفساد، وتنتشر الرشوة من أجل تحقيق مصالح الناس. ويظهر المنافقون الذين يُسبِّحون بحمد الفرد، ويؤلِّهونه، ويزينونه، ويحسنون صورته في الإعلام. يقلبون الحق باطلًا والباطل حقًّا. وتنشأ المعارضة العلنية أو السرية وتنشأ مياه جوفية سرعان ما يهتز البناء فوقها. دورتها التاريخية قصيرة قد تستغرق أقل من جيلٍ واحدٍ، محدد بعمر الفرد.

ما يحتاجه العرب هو نوع جديد من الدولة، دولة المؤسسات التي تتمايز فيها السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. هي الدولة التي تكون السلطة فيها عقدًا وبيعة واختيارًا. ويكون فيها القضاء مستقلًّا وقادرًا على عزل الحاكم إذا ما أخل بشروط العقد: تقوية الثغور، والذب عن البيضة، وتوفير الأمن والأمان للمواطنين، وليس مصالحة الأعداء أو الرضا بالاحتلال. هي دولة المساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون وهي الدولة التي تقوم على حرية الرأي والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنَّ أعظم شهادة قولةُ حق في وجه إمام جائر. هي الدولة «الموضوعية» التي هي تحقيق الروح في التاريخ، المستقلة عن إرادات الأفراد. الأفراد تجسيد لها وليست هي تجسيدًا للأفراد. وهي دولة العقل وليست دولة الهوى وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.

(٣) لكل أجل كتاب٣

يتوقف القلب عن النبض لثلاثة أسباب: الأول لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ، وعشرات أخرى من الآيات عن الأجل المحدَّد. وهو جزء من الإيمان والعقائد الإسلامية. والثاني الاغتيال، وحوادث الطريق، والكوارث الطبيعية وهي أحداث لا يستطيع أحد أن يتوقَّعها. تأتي فجأة وعلى غير انتظار كما حدث لرئيس الجمهورية الثانية وهو في عزِّ مجده، وقمة سلطته، وأمام جنوده، ووسط احتفاليته حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا، وكما حدث في تسونامي وزلازل باكستان وإيران. والثالث: قوانين الطب، والأمراض والعلل والعمليات الجراحية في الداخل والخارج. فالموت توقُّف العضو الحي عن العمل وأداء الوظيفة. فلا أحد، إذن، يستطيع الاعتماد على نبض القلب ولا أن يوقف مصير شعب ولا نظام سياسي بناءً على نَبْض القلب للرئيس أو الحاكم أو المسئول. فهذه ليست بيده إلا إذا تكبَّر وتجبَّر وظن أن بيده الحياة والموت لشعبه ووطنه.

وهناك ثمانون مليونًا من المصريين. كلهم يخدمون أوطانهم ما دام نبض القلب ما زال قائمًا، عمال وفلاحون وطلاب وجنود ومثقفون. كل في موقعه. يخدم الوطن بصرف النظر عن مكانه. لا فرق بين رئيس ومرءوس، بين حاكم ومحكوم، بين وزير وغفير، بين حكومة ومعارَضة. ولا يخص الرئيس أو الحاكم وحده. إلَّا إذا كان الرئيس يظن أنه وحده هو الذي يخدم الوطن، والباقي مخدومون عنده. وإذا توقف الفلاح والعامل عن الإنتاج، فإن الرئيس نفسه يجوع وتتوقَّف مقوِّمات الحياة من طعام شراب ولبس وسكن وحركة لديه. فالخدمة إنتاجية وليست استهلاكية، بالفعل وليست بالقول.

وتتغير مواقع الخدمة ولا يظل أحد طيلة حياته في مكانٍ واحدٍ، حتى القضاة وأساتذة الجامعات والصحفيون يُفصلون كما حدث في مذبحة القضاة، ويسجنون كما يحدث حاليًّا.

فلا أحد يبقى في وظيفة واحدة مدى الحياة حتى أصحاب العقود الدائمة. ويرفع الأمر إلى محكمة القضاء الإداري للنظر في الخصومات بين الموظفين والدولة، بين العمال وأصحاب الأعمال. إن الرئاسة وظيفة مؤقتة مثل غيرها. والتاريخ شاهد على ذلك. فما زال رؤساء الجمهورية الأمريكيون السابقون؛ مثل: كارتر، وكلينتون نشيطين سياسيًّا، محليًّا ودوليًّا. ينصحون ويوجهون، وتعهد إليهم كبرى القضايا لأخذ آرائهم باعتبارهم أصحاب خبرة. ويعودون إلى أعمالهم الرئيسة، التجارة في الفول السوداني أو المحاضرة والكتابة أو العزف الموسيقي أو كتابة المذكرات إذا كان يحسن الكتابة والقراءة. وما زال جيسكار ديستان رئيس الجمهورية الفرنسي السابق يعمل ويجتهد ويعطي الاستشارات في المال والاقتصاد دون أن ينال ذلك منه أو يقلل من قيمته.

والبقاء مدى الحياة في الحكم مخالف للدستور الذي ينص على تَداوُل السُّلطة. ولا يجوز للحاكم أن يظل في الحكم أكثر من فترتين؛ إلا إذا عُدِّل الدستور بواسطة الحزب الحاكم الذي ينفذ إرادة الحاكم كي يحكم لثالث ولرابع مرة. وبدلًا من التجديد كل أربع سنوات أو ست سنوات يصبح الأمر مفتوحًا، الحكم مدى الحياة. ما دام القلب ينبض، نوع من الخطابة المدرسية لإثارة الخيال، واستجداء البطولة، وطلب التعاطف من أجل الرغبة في البقاء، وإلا وقف الناس ضد من يرغب في خدمة وطنه إلى آخر لحظة ما دام القلب ينبض.

ويمكن أن يظل القلب ينبض، ولكنه في غرفة الإنعاش ونقل الدماء، ولكن المخ متوقف عن العمل. وهي حالة الموت السريري الموت الإكلينيكي، القلب ينبض اصطناعيًّا مثل التنفس الاصطناعي ولكن العقل لا يعمل، والحواس الخمس لا تشعر ومراكز الإحساس في المخ خاملة. وقد تطول هذه الحالة سنوات وسنوات مثل حالة شارون. وفي هذه الحالة يصبح الحاكم غير قادر على أداء وظيفته. وتقوم المؤسسات بتعيين خلف له إلى أن تحدث انتخابات حرة، يختار الشعب رئيسه.

وهي الحالة العامة ذاتها التي تمر بها مصر الآن. فقد توقف الحاكم عن الإحساس بنبض الشارع وحركته، وكَمَّمَ المعارضة لسياساته. التبعية للخارج، أمريكا وإسرائيل، والقهر والفساد في الداخل. وعزلة مصر عمَّا يدور في العراق، ولبنان، وفلسطين، والسودان، وإيران. والآن تُباع أصول مصر، بنوكها وشركاتها بعد خصخصة القطاع العام بأرخص الأسعار. وتجري الصفقات التي تُدِر الربح بالملايين عند أصحاب المليارديرات الجديدة في تجارة الحديد والأسمنت، وعقود شركات الاتصالات، وعمولات شركات النقل البحري، وإلى آخِر ما تزخر به الحياة السياسية والاقتصادية للمصريين.

وبدلًا من الإصلاح من الداخل، ويقظة الوعي وعودته، وبدلًا من إنقاذ المركب الغارق الذي تتقاذف به الأمواج في المحيط يستمر الوضع على ما هو عليه. فالتغيير هروب لرءوس الأموال، والتحرُّك السياسي مُغامَرة غير محسوبة. وضرب الفساد هز للاقتصاد لا تتحمله البلاد. والاستقلال عن أمريكا تجويع لمصر. والوقوف في مواجهة إسرائيل إعادة لاحتلال سيناء، وتحويلها من أرض منزوعة السلاح إلى أرض محتلة.

يستطيع الرئيس أن يترك الحكم وقلبه ما زال نابضًا بالحياة، كما يحدث في كل الثورات والانقلابات. فقد قامت ثورة ٢٣ من يوليو وقلب فاروق ما زال ينبض بالحياة. الثورات قانون تاريخي إذا ما تأجل الإصلاح، وتوقَّف التغيُّر الاجتماعي، وانعزل الحاكم عن الناس، ولم يشعر بنبض الجماهير بالرغم من أن قلبه ينبض.

والخطورة أن يصبح ذلك قانونًا عامًّا لكل الرؤساء في كل الوطن العربي بالرغم من الديكور الديمقراطي، الانتخابات المزيَّفة، والتعددية الحزبية الصورية، والنتيجة المعروفة سلفًا. فيتحول الانتخاب إلى استفتاء عام بالرغم من قلة المُشارَكة في عملية تزييف الوعي القومي لأغلبية الناخبين.

والأخطر أن يكون الحكم مدى الحياة، ما دام القلب ينبض، هو تأجيل لموضوع التوريث الذي ما زال يصعب إخراجه في مصر، وإجماع الأمة على رفضه، ومناقضته للدستور، والقوات المسلحة هي الضامن لمبادئ ثورة يوليو، والأمين على خيارها القومي الاشتراكي. فالطبخة لم تنضج بعد. وتأجيل التوريث حتى يكتمل الاستعداد له خير من الإسراع فيه، ثم يحدث ما لا يُحمَد عقباه. فالاستمرار مع نبض القلب يعطي فرصة لمزيد من تهيئة المسرح للتوريث. وخطأ لا يصحح خطأ. ومجموع الخطأين لا يكوِّن صوابًا.

ما زالت القضية هي البطل الأوحد، والحاكم الفرد، والرئيس الذي ليس له مثال. لا نواب له. ولا انتخابات على الرئاسة ما دام قلبه ينبض. ويتم التلاعب بمواد الدستور من أجل استيفاء الديكور الديمقراطي ذرًّا للرماد في العيون أمام الضغوط الخارجية. وقد ظن الناس أنه انتهى مع آخر فراعنة مصر وملكة مصر بتوقف نبض رئيس الجمهورية الثانية وبمغادرة ملكة مصر البلاد. ويبدو أن سلسلة الفراعنة ما زالت قائمة ومستمرة. فالرسول هو الذي يحكم ما دام قلبه ينبض، ويتلقى الوحي الإلهي. أما البشر فإنهم ميتون فَإِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، «كلكم لآدم وآدم من تراب».

ولماذا يعيب العرب والغرب، إذن، على حاكم العراق السابق تسلطه وتجبره وحكمه مدى الحياة ما دام القلب ينبض؟ ولماذا لا يكون النموذج رئيس الجمهورية السودانية الأسبق «سوار الذهب» الذي قام بتخليص السودان من حكم الطغيان الديني والسياسي باسم الخلافة الراشدة الجديدة، وهو الآن محط احترام الجميع، وتُعْهَد إليه بعديد من المهام الإنسانية المحلية والدولية؟ ولماذا لا يكون النموذج محمد مهاتير، رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، الذي ترك الحكم وهو في قمة مجده بعد أن بنى ماليزيا وجعل معدل تنميتها يلي الصين؟ وكلاهما من المسلمين.

لماذا التشبه بالإله. فالله وحده هو الباقي كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ينشأ تأله الحكام بزيادة مدة الحكم، وتبرير أبواق الإعلام لعبقريته وحكمته وسلامة رأيه واتزانه وعقله وهدوئه. فيزداد الحاكم غرورًا وتصديقًا لأوهام الإعلام. ليس الإسلام هو الحجاب، بل علاقة الحاكم بالمحكوم، إسلام الحياة العامة وليس إسلام غرف النوم، إسلام الحقوق وليس إسلام العورة قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.

(٤) كرامة السلطان٤

للسلطان هيبته في كل الدساتير والنظم السياسية بل الثقافات الشعبية والأمثال العامية والنكات ورسوم الكاريكاتير. ومن دون هذه الهيبة لا تجوز له طاعة، ويفقد قدرته على اتخاذ القرارات. وتشمل كرامة السلطان الاحترام الواجب له والإعجاب بشخصه، والتقدير لإنجازاته، وصورته في أذهان الناس، وفي وجدان الشعب التي تبعث على الطمأنينة والتقدير المتبادَل بين الحاكم والمحكوم.

وفي الشهور الأخيرة ضاعت كرامة السلطان وأصبح موضوع تَندُّر وسخرية ونقد، بل تشهير في الرأي العام أو الحديث الخاص بين الناس أو في أوساط المعارضة. وتم التوجه إليه شخصيًّا وليس فقط للنظام. فهو أساسه ودعامته، رمزه وعلامته. فلأول مرة يرفض التجديد لحاكم من حكام مصر فجأة بعد أربعة وعشرين عامًا من الصمت والانتظار والترقب. فقد طفح الكيل، وبلغ السيل الزُّبى. فهو من أطول حُكَّام العرب مدة والتجديد معناه ثلاثون عامًا، جيلًا بأكمله يحكمه سلطان واحد. ومع رفض التجديد يتم رفض التوريث حفاظًا على مبادئ ثورة يوليو، والنظام الجمهوري. بل يتم أيضًا رفض الأسرة كلها، الأب والابن والزوج بعد أن تصدر الابن والزوج الإعلام تخطيطًا للتحول من التجديد إلى التوريث. ويقوم الكاريكاتير، الرسم الساخر، بالتعبير عن الصورة السلبية للسلطان وبطانته وعصره. ويطالب بالإعلان عن الذمة المالية له وللأسرة من شروط الترشيح للانتخابات، والحديث همسًا عن المليارات المهربة إلى الخارج والعمارات الفارهة وفنادق الخمس نجوم التي يملكها الابن من «مصروفه الخاص» وفتح شقَّتَيْه التمليك على بعضهما بعضًا للتوسيع الأولى بالإسكندرية والثانية بأسوان، وتأسيسه شركة لشراء ديون مصر كوسيط مالي وبفوائد أقل لصالح مصر، وتأسيس آخر شركة مقاولات رسا عليها العطاء لتجديد شبكة الطرق في الخليج لحسن العلاقة بين السلطانين، في وادي النيل وفي الخليج. وتم الحديث عن الأسرة كلها مثل الأسر المالكة أو الحاكمة مثل أسرة البوربون والهابسبورج في أوروبا في القرن التاسع عشر، كما اعتبرت حرم رئيس الجمهورية الثانية ملكة مصر، وهو نفسه آخر فراعنة مصر.

وفي الدعاية الانتخابية الأخيرة تمت تعرية السلطان تمامًا. وزادت الجرأة عليه. إذ إنه لم يفعل شيئًا طيلة ربع قرن، فلماذا دورة خامسة؟ شكله مُنهَك ومُتْعَب. ولم تنفع محاولات التجميل وإضفاء الشباب عليه ولبسه «الإسبور» من مدير حملته الانتخابية وجلوسه مع الفلاحين على ضفاف النيل على أرائك وثيرة مُعَدَّة سلفًا لم يجلس عليها فلاح قط ومع فلاحة ترتدي قفطانًا مزركشًا لم ترتده فلاحة قط. إنما هو سوء الإخراج والتمثيل. ليس لديه شيء يقوله إلا الكلام. وإذا كان وراء الكلام فعل، فلماذا لم يتحقق طوال ربع قرن مضى؟

السلطان هو كوبري لزيادة كم الكباري العلوية أو الأنفاق الأرضية في عهده. وهو الإداري بعد المُناوِر أو المُقامِر في الجمهورية الثانية، والزعيم في الجمهورية الأولى. وهو حارس المرمى الذي لا يعرف كيف يسدد الأهداف. وهو الإداري قارئ التقارير الذي لا يدرك اللحظات الحاسمة في التاريخ كما أدركها عبد الناصر حين تأميم قناة السويس. ضاعت منه فرص تاريخية عدة. وهو قائد القاذفات وليس المقاتلات، يطيع الأوامر، بقذف العدو، كما يُحدَّد له سلفًا من دون مبادَرة وتَصرُّف كما يفعل الطيار المقاتل.

وقامت المظاهرات ضده تحمل اسمه بعد أن كان ذلك من المُحرَّمات أو المُقدَّسات. وكان الشرطي يقول للطالب في المظاهرة: اهتف بسقوط أي شيء، أمريكا أو إسرائيل ولكن إياك أن تقترب من المنطقة الحرام والهتاف بسقوط السلطان أو النَّيْل منه أو من أسرته. ورفعت حركة «كفاية» شعاراتها الدالة وبحرف «لا» الذي كان محرمًا استعماله، مع أن الركن الأول من أركان الإسلام يبدأ ﺑ «لا إله». ونشطت أحزاب المعارَضة تُصوِّب نحو السلطان سهامها. واندلعت المظاهرات في الجامعات تهتف ضده. واعتصمت النقابات والاتحادات والروابط والهيئات والنوادي؛ حتى تتحقق مطالبها في الحريات العامة. بل انضم القضاء إلى الحركة الشعبية رافضًا استخدامه كصورة أو «ديكور» للإشراف الصوري على الانتخابات من دون الإشراف الفعلي.

ولم ترفع الخطابة المدرسية من قدره ولم تحسن صورته؛ إذ أصبح خطاب السلطان أقرب إلى موضوع الإنشاء أو التعبير، عبارات عامة منمقة عن الوطن، والمصلحة الوطنية، وأداء الواجب، والتضحية. والعبارات الفضفاضة ليس لها أي مضمون. تدخل في أذن وتخرج من الأخرى. ويتذكر الجيل القديم خطاب العرش الذي يولي فيه الحكومة واستعماله عبارة «وستعمل حكومتي على …». ثم يتحدث عن عالم الأمنيات مثل خطيب المسجد الذي يتحدث عن النعيم الأخروي تعويضًا عن المآسي والأحزان في الدنيا.

ارتبط اسم السلطان بالأحكام العرفية، وقوانين الطوارئ، والمعتقلين السياسيين والتعذيب، وضرب الشرطة للمتظاهرين، والاعتداء على المتظاهرات، والاعتماد على فتوات الحزب الحاكم. وتحدث الناس بعد صمتٍ طويلٍ عن الضنك والفقر والغلاء وسوء الخدمات، والرشوة والفساد والتهريب. ولم يَعُد أحد يغني: «كنت في صمتك مكره» بل: «فتعلَّم كيف تكره». ويصيح الشاب: «أنا يا مصر فداك، بدمي أفدي حماك». ولم تنفع محاولات التخفيف من أثر التوجه إلى رأس النظام مباشرة بأنها مظاهرات حضرية، أقلية، نخبوية، لمثقفين وكُتَّاب وأدباء وفنانين. يصمت الشعب طويلًا لفضيلة الصبر فيه. ثم يصرخ ويهب لفضيلة الغضب لديه.

قدم تمثيلية هزلية بتغيير مادة وحيدة من الدستور تسمح بالانتخاب بين أكثر من مرشح مع استبعاد القوى الرئيسية الفعالة في البلاد مثل الحركة الإسلامية. ويحرج المخرج باقي المرشحين، والنتيجة معروفة سلفًا. ويوضع اسمه على رأس القائمة بلا مبرر من حروف أبجدية أو تاريخ التقدُّم. تمثيل سيئ وفيلم سيئ الإخراج، وكأن الديمقراطية شكل بلا مضمون.

وانعكس غياب كرامة السلطان على الوطن فأصبح مُجرَّحًا؛ يمكن النَّيْل منه بسهولة. السلطان تعوزه الكرامة، والوطن لا حساب له في موازين القوى الإقليمية والدولية. فالدماء تسيل في فلسطين منذ انتفاضة السلاح حتى الآن. وتسيل في العراق منذ الغزو الأمريكي البريطاني لبوابة العرب الشرقية. ويُصاغ دستور جديد له لا يجعله صراحة جزءًا من الأمة العربية. يكرِّس الطائفية والعرقية. ولا يتحدث عن المواطن العراقي، بل عن الكردي والشيعي والسُّني. غاب الوطن عن الصراعات الإقليمية في لبنان والسودان وسوريا وإيران. وقاطع إيران منذ أكثر من ثلاثة وخمسين عامًا وهي رصيد للعرب، وعمق تاريخي لفلسطين، ونموذج الصمود أمام الهيمنة الأمريكية، والدفاع عن حقها في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية في حين يعقد معاهدة الصُّلح مع الكيان الصهيوني، ويقيم المشاريع الاقتصادية معه مثل مناطق «الكويز» وتوريد الغاز الطبيعي والنفط.

لذلك تجرأت جماعات العنف المُسلَّح على الوطن في الداخل والخارج، بتفجيرات شرم الشيخ، وتفجيرات الأزهر، والسيدة عائشة، وميدان الشهيد عبد المنعم رياض، وقُتِل السفير المصري في بغداد. ونلحق بالسعودية في مطاردة جماعات العنف في سيناء بآلاف من جنود الشرطة. ويعيب الأعداء بأن الأمن في مصر مُخترَق. ويعاتب الأصدقاء «ليس بالأمن وحده يحيا الإنسان».

إن كرامة السلطان فوق كل اعتبار، وهيبته أحد دواعي استقرار الأمن. كانت لعبد الناصر عيون صقر نافذة تخترق قلوب محادثيه ومعارضيه. وكان الإعلامي يُغمى عليه وهو يحادث ديجول الذي يرفض أن يضع على وجهه الأصباغ. وقد يكون ضياع هيبة السلطان أحد مسامير نعشه.

(٥) صورة السلطان٥

طالعَتْنا الصحف القومية أخيرًا بقرار مجلس الشرطة الأعلى أو هيئة الشرطة أو أكاديمية الشرطة؛ فكلها شرطة مثل أقسام الشرطة بتصميم طابع شرطة عليه صورة الرئيس لما له من أفضال على الشرطة أو تيمنًا للشرطة به. وقد كانت سُنَّة من سلاطين آل عثمان. استمرت في عهد محمد علي وأسرته حتى الملك فاروق. وكان من أوائل قرارات ثورة يوليو، رفع صور الملوك من على أوراق البريد والأوراق المالية والإبقاء على رموز الوطن وأعياده ومعاركه وانتصاراته مثل ثورة يوليو ١٩٥٢م، وتأميم قناة السويس، وعيد تحرير سيناء في ١٩٥٦م، ومناهضة الأحلاف، حلف بغداد في ١٩٥٤م، والحلف الإسلامي محور الرياض — طهران — كراتشي في ١٩٦٥م، والوحدة المصرية السورية ١٩٥٨–١٩٦١م، وحرب أكتوبر ١٩٧٣م. ووضعت على طوابع البريد والأوراق المالية صور الفلاح، والإصلاح الزراعي، والعامل، والمصنع، والطالب، والأستاذ في عيد العلم. ويحدث ذلك في وقت تشتد فيه المعارَضة المصرية ضد التمديد والتوريث مُطالِبة بإصلاح الدستور والانتخاب بين أكثر من مرشح لكل برنامجه الانتخابي، وفرصته المتساوية في الإعلام والظهور العام. فالوقت غير مناسب. والجو النفسي غير ملائم؛ مما يكشف عن أن النظام في وادٍ والشعب في وادٍ آخر. مع أن الشرطة أحيانًا لا تستطيع مواجهة الهَبَّات الشعبية؛ مثل: هبة ١٨ / ١٩ من يناير، ١٩٧٧م، وتَحرُّك الأمن المركزي في ١٩٨٦م، ورفض الجيش في الحالتين القيام بوظيفة الشرطة. إذ إن مهمته الدفاع عن الأمن الوطني ضد العدوان الخارجي وليس حفظ النظام في الداخل. كما أن الشرطة لا تقوم بدور الجيش في الدفاع عن البلاد مثل الشرطة في سيناء، بل مهمتها الدفاع المدني، وحماية الجبهة الداخلية.

لم يفكر عبد الناصر مفجر الثورة العربية أن يضع صورته على طابع بريد أو ورقة مالية كما يفعل الملوك أو الضباط، بل أبقى على رموز مصر وتاريخها وحمايتها للوطن العربي ضد غزوات التتار والمغول من الشرق، في مرج دابق وعين جالوت، أو ضد الصليبيين من الغرب في معركة حطين. فالمبدأ له الأولوية على الشخص «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.»

كما وُضِعَت آثار مصر: الأهرام، أبو الهول، معبد الكرنك، وادي الملوك، رأس نفرتيتي، معبد الدير البحري، طريق الكباش، تمثال آمون، آثار مصر الوسطى، عربة رمسيس الحربية، النيل، مكتبة الإسكندرية، القناطر الخيرية، خزان أسوان، السد العالي. فكانت أوراق البريد مدرسة لتعليم تاريخ الوطن والحفاظ على ذاكرته من النسيان. وقد كانت من هوايات الأطفال جمع هذه الطوابع ورؤية تاريخ مصر في استمراريته، «أنا المصري كريم العنصرين».

ولا يحتاج السلطان إلى صورة إضافية؛ فصورة السلطان قبل طابع البريد في كل مكان: محطة مترو، مكتبة، جائزة، أكاديمية، دُور الحكومة والمصالح العامة. والميادين الكبرى بجوار الإعلانات التجارية، بالإضافة إلى الجرائد اليومية ونشرات الأخبار، والبرامج الخاصة، والاشتراك في المناسبات، وافتتاح المشروعات، ووضع حجر الأساس، وإعطاء التوجيهات في توفير الدواء الناقص في ساعات في مقابل عجز وزير الصحة، واقتراحات حل أزمة المرور. وما على وزير المواصلات إلا الطاعة والتنفيذ وكل ذلك أقرب إلى الدعاية في عام الانتخابات الرئاسية. وهو مثل رئيس المدينة الفاضلة عند الفارابي يعلم كلَّ شيءٍ، ويقدر على كلِّ شيءٍ، أكمل العقول والأجسام. وهو الوحيد الذي يتصل بالعقل الفعال، وهو الإمام والنبي والفيلسوف «كامل الأوصاف» الذي يفتتن به كل الناس.

ولا فرق بين شعارات الإسلاميين وصورة السلطان. كلاهما حاكمية، حاكمية الله، وحاكمية السلطان وكلاهما الحل، الإسلام هو الحل، والحزب الحاكم هو الحل. وكلاهما تطبيق للشريعة الإسلامية أو جهاز الدولة. لا فرق بين الرئيس والأمير. كلاهما عبادة للشخص وطاعة للحاكم.

والحقيقة أن تصميم طابع بريد للشرطة وعليه صورة الرئيس ليس تكريمًا له؛ فالشرطة في ذهن الشعب مصدر قهر وتسلُّط وظلم وطغيان. تلفق الاتهامات، وتعذب المواطنين في الأقسام. ترَبَّت على أن المُواطن هو العدو، وأن الطالب هو المشاغب، وأن المعارض الإخواني أو الشيوعي أو الليبرالي الوطني هو عدو البلاد في الداخل، والطابور الخامس للخارج، إيران أو الاتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة الأمريكية. ولم تتغير منذ الملكية قبل ١٩٥٢م حتى الآن. والشرطي بيده اليمنى العصا (الشومة)، وبيده اليسرى الدرع لحماية نفسه من القذف بالطوب. الشرطي هو الهراوة الغليظة، وصاحب الشارب الكبير، والضخم الجسم، والمكفهر الوجه. هو حارس النظام والمحافِظ على أمنه ضد المواطنين. وشعار «الشرطة في خدمة الشعب» تزدان به مداخل الأقسام. و«الشرطة ضد الشعب» ممارسات عملية داخل الأقسام وخارجها. وكثيرًا ما أخرجت أفلام تبين فساد الشرطة وارتكابها الجرائم في كل الدول ولدى كل الشعوب.

ولا يوجد نظام به أنواع من الشرطة كما هي الحال في نظمنا. الشرطة المدنية، الشرطة العسكرية، أمناء الشرطة، الشرطة السرية، الشرطة السياسية، الشرطة الخاصة، شرطة الحراسة، أمن الدولة، الحراسات الخاصة، الحرس الجامعي … إلخ. فالدولة دولة شرطة. همها الأمن الداخلي. وفي أتون هزيمة ١٩٦٧م كانت الشرطة في الداخل تعتقل الإخوان والشيوعيين وتحافظ على أمن النظام.

ومنذ هَبَّة ١٨ / ١٩ من يناير ١٩٧٧م خرجت صور عبد الناصر محمولة على الأعناق. فالصورة الغائبة تزيح الصورة الحاضرة. والصورة في الأذهان تطغى على الصورة في الأعيان. وصورة الماضي تجرف أمامها صورة الحاضر، وكلما اشتد الكرب رُفِعَت الصورة من القلوب في مصر وفلسطين تستنجد بصاحبها: وا معتصماه وا ناصراه. وتذكِّر الخَلَف بسيرة السَّلَف فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. الصورة التي ترفعها المعارضة بالأيادي تطل من فوق الرءوس. تشهد ولاء الناس لتاريخها، وحفاظها على ذاكرتها من غوائل النسيان.

وكما أن الشرطة خاضعة للنظام؛ فهي خادمة للوطن مثل دفاع قسم شرطة حي الأربعين في السويس ضد العدوان البريطاني عليه في ١٩٥٢م؛ مما كان نذيرًا باندلاع الثورة. واستشهد رجال الشرطة العزل من السلاح. وهناك شرطة المطافئ التي تطفئ النيران. وهناك شرطة السياحة للمحافظة على الآثار وسلامة المواطنين والأجانب، وهناك شرطة الأموال العامة، وشرطة مكافحة المخدرات، وشرطة الآداب، وكلها في خدمة الشعب، وليست في خدمة النظام. وهي الصورة المتوارية عن الأنظار أمام الصورة السلبية الأولى. فالشرطي يُخوَّف به الأطفال. ينتصر عليه اللص كما يفعل أرسين لوبين اللص الشريف.

إن دولًا بأكملها تُسمى بأسماء العائلات والقبائل والأنساب. فالشخص أبقى من الدولة. والناس يدينون له بالطاعة أكثر مما يدينون للوطن الأم. فوضع صورة الحاكم على طابع بريد أو ورقة مالية أقل مما يجب إذا كانت الدولة كلها تُسمَّى باسمه.

إن صورة الرئيس مديرًا للكلية الحربية، وقائدًا لسلاح الطيران، ومنفذًا للضربة الجوية الأولى يوم السادس من أكتوبر ١٩٧٣م الساعة الثانية إلَّا خمس دقائق ما زالت راسخة في القلوب، لم يطوها النسيان بعد. وفرق بين بطل الحرب وداعية السلام. فلم تكن حرب أكتوبر آخر الحروب، بل كانت اتفاقات كامب ديفيد في ١٩٧٨م، ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في ١٩٧٩م بداية حروب إسرائيل، غزو جنوب لبنان، وحصار بيروت، وقَذْف المفاعل النووي العراقي، واغتيال أبي جهاد في تونس، والاستيلاء على كامل فلسطين، واحتلالها المستمر للجولان، ومَزارع شبعا في جنوب لبنان، وقتلها الشرطة المصرية على الحدود مع فلسطين.

ليست الصورة طريقًا للخلود، بل الآثار والأفعال إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ.

هذه آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار

(٦) جوقة السلطان٦

للسلطان جَوقَة أو أكثر تُسبِّح بحمده، وتبين مآثره، وتزين له سوء أفعاله، وتؤلهه من دون الله. تريد عَرَض الدنيا، السلطة والثروة، والجاه والمنصب، الشهرة والصدارة. والسلطة زائلة وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. والثروة لا تغني عن نقاء الضمير، وراحة القلب، والجاه في الأرض، والمنصب خدعة، والشهرة مصطنعة، والصدارة زيف.

وتتنوع الجوقة بين فقهاء السلطان، وصوفية السلطان، وموظَّفِي السلطان، وهم المستشارون والوزراء وأعضاء الحزب الحاكم، ورؤساء لجان مجلس الشعب، ورجال الأعمال، وقبل كل ذلك إعلامِيُّو السلطان الذين يُسبِّحون بحمده من خلال أجهزة الإعلام وأخطره التليفزيون والصحافة القومية.

هذا التهليل والتكبير هو الذي حدَث قبل الاستفتاء الأخير على المادة اليتيمة ٧٦ من الدستور. وكان الإعلام، بتوجيهات الرئيس، يقول قبل ذلك: لا مساس بالدستور، لا مساس بالاستقرار، الوقت ما زال مبكرًا، كل شيء في أوانه حتى يتم نهب مصر لآخر قطرة، ويكون هناك الوقت الكافي لتهريب الثروات الخاصة.

وفي غمضة عين، عزفت الجوقة النغمة المضادة، وبعد أن قرر الرئيس تعديل مادة وحيدة من الدستور بشروط معجزة تسمح له بالتمديد بحكم العادة والإمكانات.

أصبح القرار هزة في التاريخ، تحولًا لم يحدث مثله منذ الفراعنة القدماء، حكمة إعلان كل شيءٍ في أوانه، كان الرئيس يفكر فيه منذ عدة سنوات في أن يقوم به وفي الوقت ذاته يجرح المعارضة، ويضرب المتظاهرين الذين ينادون به. لو جاء القرار من الرئيس فهو الصواب، ولو نادت به الشعوب فهو الباطل؛ حتى يتعود الناس على أن استرداد الحقوق منحة من الحكام، وليس حقًّا من المحكومين فيسرق الإعلام جهد المعارَضة، ويطفئ نارها، ويحاصرها بحكمة التدرج في التحول الديمقراطي، وعدم الإسراع في إلغاء قانون الطوارئ والأحكام العرفية، وتحديد مدة الرئاسة بمدتين، وإعادة جدولة الانتخابات، والسماح بحرية تكوين الأحزاب. يأخذ الإعلام جزءًا من مَطالِب المعارَضة ويكبِّرها ويترك الباقي ويصغِّره، ويقلل من شأنه. فالرئيس دائمًا على حق، والمعارضة دائمًا على باطل.

فإذا استمرت الضغوط الشعبية لرفض التمديد، تكفي أربعة وعشرون عامًا، صحيًّا للرئيس، ونفسيًّا للشعب، وسياسيًّا للوطن. ستعزف الجوقة نغم التجرد، والزُّهد، والديمقراطية، وأنه لم يحدث في تاريخ العرب الحديث أن تنازل حاكم عن السلطة، ورفض ما هو فيه من جاهٍ طواعية واختيارًا. وليس انقلابًا ولا اغتيالًا ولا موتًا طبيعيًّا لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.

وإذا قرر الرئيس أنه لا هو ولا ابنه مهتمان بالرئاسة وزاهدان فيها، وأن الأمر يعود إلى الشعب، يهلل موظفو الرئيس، ويكبِّرون على الجمهوري الذي حافظ على النظام الجمهوري، وهو أثمن ما تركته ثورة يوليو ١٩٥٢م، رافضًا العودة إلى النظام الملكي كما حدث في أقطار عربية، وتعد لذلك أقطار عربية أخرى.

وإذا ما قرر الرئيس تعديل باقي مواد الدستور، وتحديد مدة الرئاسة بمدتين فإن الجوقة ستهلل، وتبرز صفات إنكار الذات والتواضع واحترام رغبات الشعب، وتَداوُل السُّلطة، وديمقراطية العسكر «إني وليت عليكم ولست بخيركم. إن أحسنت فأطيعوني. وإن أسأت فقوِّموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم. فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.»

وإذا قرر الرئيس تواري السيدة حرمه عن الأنظار، كما فعل من قبل عند توليه الرئاسة بعد حادث المنصة الدامي، واستفاد من تجربة حرم الرئيس السابق في الجمهورية الثانية، وقرر عدم تَصَدُّر صورها أجهزة الإعلام ولا مكتبة الأسرة ولا الملصقات العامة ولا الإعلانات عن الجمعيات الخيرية؛ الْتِزامًا بالوضع الدستوري لحرم الرئيس؛ لأبرزت الجوقة شهامة الرجال، وتقاليد الحكام ولأعادوا إلى الذكريات صورة حرم الرئيس عبد الناصر التي لم يكن يعلم عنها أحد شيئًا إلا بظهورها في المناسبات الرسمية الضرورية، ولاستعاد بعض أفراد الجوقة آية الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ أو حديث «لا يُفلح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة.»

ولو قرر الرئيس الكشف عن ثروته، وثروة أبنائه وممتلكاتهم وشركاتهم وعلاقاتهم برجال الأعمال، كما تذكر صحف المعارضة لاستعاد موظفو السلطان خطابه الأول بعد حادث المنصة عن نظافة اليد، وضرورة مواجهة الفساد، والزهد في قصور الرئيس السابق واستراحاته وطائرته المروحية التي ينتقل بها هربًا من زحام المرور في شوارع العاصمة، ولاستعادت سيرة عمر بن الخطاب الذي حرَّم على نفسه السمن والزيت عام المجاعة حتى تَقرَّح جلده إلى أن يطعم آخر المسلمين، ولاستعادت الجوقة حياة الرئيس عبد الناصر بزهده في الدنيا، وبقائه في بيته، وعن طعامه من الخبز والجبن.

ولو قرر الرئيس عدم رئاسة الحزب الحاكم حتى يعلم إلى أي حد هو قادر على أن يصمد بعده، ويقيم أداءه، ولا ينفك بعد أن يتركه ليحوله موظفو السلطان إلى الحَكَم بين السلطات، ميزان الثقل بين القوى السياسية، المحايد بينها، تاركًا الخيار للشعب خاصة وأن ذاكرة الناس ما زالت تذكر في الجمهورية الثانية تغيير الحزب من «حزب مصر» إلى «الحزب الوطني الديمقراطي»، فاستقال رجال الحزب الأول، وانضموا إلى الحزب الثاني، باستثناء القلة من الوطنيين الشرفاء. فلا فرق بين الأول والثاني، فكلاهما حزب الرئيس.

ولو قرر الرئيس الإسراع في عملية التحول الديمقراطي، والسماح للحركة الإسلامية وللحركة الشيوعية بتكوين تجمعات سياسية شرعية في صورة أحزاب أو جماعات أو تنظيمات؛ حتى ينشط الشارع المصري وتنتهي قصة الأحزاب الورقية العشرين باستثناء الوفد الجديد، والعربي الناصري، والتجمع الوطني، يهلل موظفو السلطان بأنه الديمقراطي الأول في مصر الحديثة الذي سمح بإعادة جماعة الإخوان المسلمين بعد حلها في ١٩٥٤م، بدلًا من الالتفاف حول الأحزاب القائمة، الوفد مرة، والعمل مرة أخرى. وهو الذي سمح لأول مرة في تاريخ مصر بحزب شيوعي رسمي بدلًا من أن يلتف حول أحد الأحزاب التقدمية القائمة. وهو الذي اعترف أخيرًا بالتيارات الأربعة التي تحكم في الشارع المصري؛ الإسلامي، والناصري، والليبرالي، والماركسي.

وإذا قرر الرئيس إلغاء قانون الطوارئ، وعدم مد العمل بقانون الأحكام العرفية وأمر الشرطة بعدم التصدي للمظاهرات السلمية التي تعبِّر من خلالها جميع الشعوب عن الرأي العام بعد أن زيفته جوقة السلطان لحولته الجوقة إلى الديمقراطي المجهول، والحر المظلوم الذي يستجيب لمطالب الشعب، ويسمع لأصوات المتظاهرين دون ضغوط خارجية تمس كرامة الوطن واستقلال نظامه السياسي.

وإذا ما قرر ضرب الفساد وعدم التحجج بأن الأمر بين يدي القضاء، فساد الحزب الحاكم، وفساد كبار موظفي الدولة، ونواب القروض وتهريب أموال مصر إلى الخارج، وتجار المخدرات، والعمولات والرشاوي تُحوِّلُه الجوقة إلى أمين هذه الأمة، وتقارنه بأبي عبيدة بن الجراح، وبالحرص على ثروات الأمة.

وإذا ما قرر أن تكون رئاسة الجامعات وعمداء الكليات، ورؤساء الأقسام، وشيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، ورؤساء تحرير الصحف بالانتخاب دون التعيين، زفت الجوقة النبأ وبأنه عود الأمور إلى نصابها، والالتجاء إلى الشعب لأخذ مصيره بيده، ورفض تجميع السلطة بيد الحاكم، والضربة القاضية لفرعون من عصا موسى.

وما سمَّاه رئيس الجمهورية الثانية سياسة الصدمات النفسية، تسميه الجوقة التحول البطيء والتدرج في مسار الديمقراطية. فالسلطان هو الذي يحدد التوقيت، وكل شيء له زمانه ومكانه.

لم يعد رئيس الجمهورية الثانية في أواخر أيامه يرى شيئًا أمامه، وأن الناس قد أجمعوا على رفض سياساته: الصلح مع إسرائيل، والانحياز إلى أمريكا، وسياسة الانفتاح، والقطيعة مع العرب، وقهر الحريات وأجمعت كل قوى المعارضة الإسلامية والقومية والليبرالية والماركسية على سياسات بديلة تدافع عن الأوطان في فلسطين، والآن العراق وأفغانستان ولبنان وسوريا والسودان، وتقاوم قوى الهيمنة الجديدة الممثلة في القطب الواحد، والدفاع عن الوطن الأم، الوطن العربي بدلًا من تجزئته إلى دويلات عرقية وطائفية، وحماية حرية المواطنين وحقهم في التعبير. وظنَّ أنهم قلة من «الأراذل» و«الأسافل». وقرر في ليلة من ليالي سبتمبر ١٩٨١م وَضْعَهم جميعًا في السجون. «ومين يقدر ساعة يحبس مصر؟»

(٧) صوفية السلطان٧

«سكت دهرًا ونطق كفرًا». هؤلاء هم صوفية السلطان الذين أعلنوا عن تأييدهم للرئيس قبل الاستفتاء الأخير في مصر. وهم بحسب تعدادهم عشرات من الفِرَق الصوفية وأتباعهم بالملايين. وتصدقهم ملايين أخرى فهم وجدانيًّا يقبعون في قلوب المصريين، ويتحكمون في الملايين منهم.

هم جزء من رئاسة الجمهورية مثل مشيخة الأزهر. يعين رئيسهم، شيخ مشايخ الطرق الصوفية، بقرار جمهوري فالرياسة دين ودولة، جيش وشعب، حزب حاكم في مجلس الشعب، وطرق صوفية متحكمة في الشعب. الأول تحت قبة البرلمان، والثاني تحت قبة الضريح.

يمتلكون قدرة رهيبة على الاتصال بالجماهير من خلال الموالد، للنبي ولأولياء الله الصالحين، والاحتفالات الشعبية في المناسبات الدينية في العيدين، شعبان، وطوال شهر رمضان، بسُرادق بساحة الجامع الأزهر، يذكرون الله. يطعمهم الناس، ويقدمون لهم الفتة واللحم؛ تَقرُّبًا إلى الله عن طريق أوليائه. ويعيشون على الصَّدَقات، ويقبلون التبرعات حتى أصبحوا من أغنياء القوم كشركات توظيف الأموال، ولكن ليس بدافع الربح الدنيوي، بل بدافع الربح الأخروي. وكلاهما تجارة، الأولى تبور، والثانية لن تبور.

أصبح التصوف دينًا شعبيًّا، بديلًا عن الدين الشعائري الرسمي. واختلط بالعادات الاجتماعية منذ الفاطميين؛ من أجل إلهاء الناس بالدين بعيدًا عن السياسة، أو استخدام طاعة مشايخ الطرق كمقدمة لطاعة الشيخ الأكبر، الحاكم بأمر الله. وتلهي الناس بالموالد وعرائس الحلوى وأحصنة الفرسان.

وهم فنانون شعبيون، يمدحون الرسول، ينافسون في مجال الصوت أشهر المقرئين. يتوشحون بالألوان الزاهية، ويلبسون العمم الخضراء، ويتمنطقون بالوشاح الأحمر أو الأخضر. ويرفعون البيارق والأعلام، وفي آخرها النجوم الذهبية. ويذكرون الله. ويتمايلون يمينًا ويسارًا في الأذكار ويرقصون كما يفعل المَوْلَوِيون في إيران، وفي فرقة الفنون الشعبية في قصور الثقافة الشعبية مثل قصر الغوري. ويلفون حول أنفسهم كالنحل حتى يسقطوا مغشيًّا عليهم في حب الله. ويتبرك الناس بهم، ويتوسطون بهم لقضاء حاجاتهم عند الله، يتبركون بهم، وينالون بالبركة الحظوة بما في ذلك «فك الربط» من أجل تنشيط القوة الذكورية ضد العزال.

وبما أن لهم باعًا في السياسة، يؤيدون الرئيس في الاستفتاء، ويبايعونه على فترة خامسة، وكأنهم فرع شعبي من الحزب الحاكم بفروعه في السياسة والاقتصاد، فلماذا لم يذكروا مرة فلسطين وإعلانهم عن تأييد المقاوَمة الفلسطينية، وإحياءهم ذكرى الشهداء؟ لماذا لم يُدينوا العدوان الأمريكي على العراق، وأفغانستان، والعدوان الروسي على مسلمي الشيشان؟ لماذا لا يدافعون عن حق الشعب الكشميري في تقرير المصير؟

وإذا لم يكن لهم باع في السياسة الخارجية فعلى الأقل هم على دراية بالسياسة الداخلية ما داموا قد اختاروا مبايعة الرئيس ضد إجماع الأمة على رفض التجديد والتمديد. فلماذا لم يُدينوا قانون الطوارئ، والأحكام العرفية، وزَجَّ المعتقلين السياسيين في السجون بلا تحقيق، ولا تهمة، ولا محاكمة، ولا إدانة؟ لماذا لم يرفضوا التوريث، والوراثة ليست مصدرًا من مصادر السلطة في الإسلام، ولا الانقلاب الذي سماه القدماء «الشوكة»؟ لماذا لم ينقدوا الفساد، وتبديد أموال الأمة، ونهب ثرواتها، وبيع القطاع العام، وغلاء الأسعار، ونواب القروض، وتهريب الأموال إلى الخارج؟ لماذا لم ينقدوا مظاهر التغريب في حياتنا، وبيان مخاطر العولمة على هوية الأمة؟ لماذا لم ينقدوا نظم الهيمنة السياسة والاقتصادية للخارج وتبعية الداخل، وفيهم من العلماء والمتخصصين الكثير؟

لقد نشأت الطرق الصوفية في العهد العثماني للسبب ذاته أيام الفاطميين، إلهاء الناس بالدين الشعبي بعيدًا عن السياسة، والسيطرة بالدين على مصائر الناس، وتوجيههم نحو الطاعة؛ فَطاعة السُّلطان من طاعة الله أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. وكلما ضَعُفت دولة الخلافة في إدارة شئون البلاد في الداخل والخارج، ازدهَرَت الطُّرق الصوفية كحل بديل لأزمات الناس، وانتشرت خزعبلاتهم وكراماتهم في هذا العصر.

لذلك نقدت معظم الحركات الإصلاحية الحديثة التصوف والمتصوفة مثل الأفغاني وإقبال؛ لخطورته على نضال المسلمين ضد القهر في الداخل والاستعمار في الخارج. وكان أهل السلف قد نقدوهم من قبل وسماهم ابن تيمية «أولياء الشيطان» وميز بينهم وبين «أولياء الرحمن». وبينوا خطورته على الشرع والأحكام الشرعية التي تقوم على التمييز بين الحلال والحرام، وليس على التوحيد بين كل شيء، وكل شيء باسم المحبة المتبادَلة والحب الإلهي.

وما زال التصوف في حاجة إلى إصلاح، أن يتحوَّل من المحور الرأسي إلى المحور الأفقي، ومن العلاقة بين الإنسان والله إلى العلاقة بين الإنسان والإنسان، ومن الصعود من العالم إلى الله، إلى النزول من الله إلى العالم، ومن الذهاب من الدنيا إلى الآخرة، إلى العودة من الآخرة إلى الدنيا، أي من «التأويل» إلى «التنزيل» حتى تلحق الأمة بغيرها من الأمم بدلًا من تصنيفها في عداد الأمم المتخلفة، وأعدائها من الأمم المتقدِّمة.

التصوف في حاجة إلى الخروج من الباطن إلى الظاهر، ومن الداخل إلى الخارج، ومن أفعال القلوب إلى أفعال الجوارح. فما تحتاجه الأمة الآن هي الأفعال في الخارج وليس في الداخل.

ويحتاج التصوُّف إلى أن يتغير من المقامات والأحوال السَّلْبِية، المقامات كالرضا، والتَّوكُّل، والورع، والخشية، والتوبة، والفقر، والأحوال مثل السُّكْر، والقبض، والخوف، إلى مقامات وأحوال إيجابية؛ مثل المقاومة، والرفض، والغضب، والتمرد، والاعتراض، والثورة على الأوضاع حتى تتحول الجماهير من سلبية ولامبالاة كما لاحظ الكواكبي في «أم القرى» بعد دراسة أسباب الفتور عند المسلمين، إلى إيجابية والتزام، والعودة إلى حمل الأمانة وتحقيق الرسالة. كما يحتاج التصوف إلى التحول من علوم الذوق إلى علوم النظر، ومن العلم اللَّدنِّي إلى العلم الإنساني حتى يسيطر المسلمون على نظم المعلومات، ويشاركوا في ثورة الاتصالات. وبدلًا من الكرامات يجتهد المسلمون في تحقيق مطالبهم دون التضرع إلى الأولياء الصالحين، واستجداء النصر من الله أو الانتقام من الظالمين.

لقد نشأ التصوف في البداية كحركة مقاومة سلبية ضد الحكم الأموي بعد مُقاوَمة آل البيت للظلم والقهر واللاشرعية. واستشهد الأئمة الأعلام، واستتب الأمر للحاكم الظالم. فانبرى الأتقياء ليقاوموا بالقلب بعد أن عَزَّت المقاومة باليد، وهو أضعف الإيمان. وتحولت المعركة من الخارج، جهاد العدو، إلى الداخل جهاد النَّفْس. وخَلقَت بالخيال مدينة ينتصر فيها الحق على الباطل، مدينة الأقطاب والأبدال، بفعل الخيال الخلَّاق؛ بحثًا عن الإنسان الكامل في الذهن بعد أن عَزَّ وجوده في الواقع.

والآن، ليست المقاومة ميئوسًا منها بعد نجاحها في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير. وما زالت مقاومة الحاكم الظالم مستمرة بعد تحرُّك الشارع العربي في الآونة الأخيرة، خاصة في مصر مطالبًا بالحرية والتعددية السياسية وإلغاء الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وجميع القوانين المقيدة للحريات، وبيان أوجه الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وحكم البلاد بمجموعة من المصالح الشخصية والإضرار بالمصالح العامة والأمن القومي للبلاد.

لقد ساعدت الطرق الصوفية على انتشار الإسلام في السنغال، وجنوب السودان، وأواسط وجنوب أفريقيا، وأواسط آسيا، وجنوب شرقي آسيا، جنبًا إلى جنب مع حركات المقاوَمة التي قادها الصوفية؛ مثل الحلاج واشتراكه في ثورة القرامطة، ونجم الدين كبرى في مقاومة الصليبيين في الشام، والسنوسية في ليبيا ضد الاستعمار الإيطالي، والمهدية في السودان ضد الاستعمار البريطاني.

فلماذا لا يخرج صوفية السلطان من عمامته ويتوجهون إلى قيادة الشعب ومقاومته للطغيان والتسلط والفساد والتبعية في الداخل والعدوان والهيمنة على الأمة من الخارج؟ ولماذا لا يدافعون عن استقلالهم كتنظيم أهلي غير حكومي، ينتخبون رئيسهم بدلًا من أن يكونوا جزءًا من رئاسة الجمهورية؛ يعين رئيسهم بقرار جمهوري؟ والإصلاح من داخلهم أولى من الإصلاح من خارجهم، ورضا الناس والله عنهم خير من رضا السلطان وسخط الله عليهم.

(٨) مشايخ السلطان٨

منذ الصراع الأول على السلطة بعد وفاة الرسول وانقسام الأمة إلى فريقين، سُنَّة وشيعة، حكومة ومعارضة، ثم انقسام السُّنَّة إلى فِرَق أخرى أشاعرة في السلطة ومعتزلة وروافض في المعارضة، انبرى كل فريق يحشد حُجَجه النقلية من الكتاب والسُّنة وإجماع الأمة وأقوال الصحابة والتابعين لإثبات شرعية موقفه. فتحول النزاع السياسي إلى خلاف ديني، والأحزاب السياسية إلى فرق دينية.

وانقسم العلماء إلى فريقين، فريق يأخذ الخلعة والصرة والركب، ويتقلد المناصب، ويعيش في قصر السلطان وتحت رعايته. جاهز في فتاويه طبقًا لرغبات وَلِي النعم، وفريق يُزَج به في السجون والمعتقلات، ويقضي حياته في الحبس حتى الموت؛ لأنه يفتي رعاية لمصالح الأمة، دفاعًا عن الحق، ومقاصد الشريعة وحقوق الناس، ومبينًا واجبات السلطان، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ رعاية لحقوق الله، وينصح أولي الأمر؛ ابتغاء لوجه الله ومصالح الناس، ويقومون بالحسبة وهي الوظيفة الرئيسة للحكومة الإسلامية.

واستمر الأمر كذلك حتى العصر الحديث عندما بايع علماء الأمة محمد علي واليًا على مصر، لما رأوه فيه من قدرة على بناء البلاد والدفاع عن ثغورها. ولما استتب له الأمر وخشي من المعارضة في يوم ما أو أن تتم البيعة لغيره قضى على استقلالهم، وعَيَّنهم موظفين في الدولة؛ مثل قادة الجند، وأمراء الشرطة، وأصحاب البريد. ومنذ ذلك الوقت أصبح شيخ المشايخ والمشايخ من كبار رجال الدولة لهم وضعهم في التشريفات والمراسم الخديوية والسلطانية والملكية والجمهورية بعد الخديوي والملك والرئيس، ورئيس الوزراء، ورئيس مجلس الشعب. تأتي السلطة السياسية أولًا، ثم السلطة الدينية ثانيًا، المتبوع قبل التابع، والتابع بعد المتبوع لهم الألقاب والزِّي والهِبَات والعطايا حتى بعد إلغاء الوقف. يفتون لسلطان مصر أو لملك مصر والسودان إذا أراد أن يكون خليفة للمسلمين بعد إلغاء الخلافة في إسطنبول.

واستمرت الحال كذلك بعد الثورة لحاجة الضباط الأحرار إلى السلطة الدينية؛ لتبرير شرعيتهم السياسية بعد صدامهم مع الإخوان في أول الثورة في ١٩٥٤م. ولما كان مسار الثورة بين مدٍّ وجذرٍ، ثورة وثورة مضادة؛ فقد سار مشايخ السلطان في الركاب. فبعد قرارات مؤتمر الخرطوم بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، اللاءات الثلاث، لا صلح ولا مفاوضة ولا اعتراف بإسرائيل. انبرى مشايخ السلطان بتبريرها بالفتاوى والنصوص الدينية وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ، وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وما أكثر الآيات والأحاديث في هذا السياق. وبعد أن انقلبت الجمهورية الثانية على الجمهورية الأولى، وعقدت اتفاقيات كامب ديفيد في ١٩٧٨م ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في ١٩٧٩م، انبرى مشايخ السلطان هم أنفسهم، بتبرير قرارات السلطان الجديد بآيات وأحاديث أخرى وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا، ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. وسلام وشالوم من نفس الاشتقاق، وكلانا أولاد عم من نسل إبراهيم.

وحدث التحول ذاته على الصعيد الداخلي من الاشتراكية والقومية وعدم الانحياز اختيار الجمهورية الأولى، إلى الرأسمالية والقُطْرية والانحياز إلى أمريكا وإسرائيل، انقلاب الجمهورية الثانية والذي ما زال مستمرًّا في الجمهورية الثالثة والأخيرة في حقبة من تاريخ مصر المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين، نهاية لمرحلة، وبداية لمرحلة أخرى. فأفتى مشايخ السلطان في الجمهورية الأولى بأن الإسلام دين الاشتراكية «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار»، والقطاع العام من الإسلام كما مَثَّله «الإقطاع»، وهو ما يقطعه الخلفاء للصالح العام كالمراعي للإبل، و«ليس منا من بات جوعان وجاره طاوٍ» وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وجاء الشعر:

الإشتراكيون أنت إمامُهم
لولا دَعاوى القوم والغُلواءُ
أنصفْتَ أهلَ الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق الحياة سَواءُ

ولما حدث الانقلاب في الجمهورية الثانية؛ انبرى مشايخ السلطان لتبرير سياسة الانفتاح ونقد الشيوعية الملحدة، «من لا إيمان له لا أمان له». والكسب الحر مشروع، والتجارة حلال في الأسواق، ومع الله تجارة لن تبور وكل ما أتى الإنسان هو رزق، حلالًا أم حرامًا؛ اعتمادًا على رأي بعض القدماء، والرفاهية حق المؤمنين قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا والغرب مؤمن، والشرق كافر، والانحياز إلى الغرب المؤمن ضد الشرق الكافر خير وبركة، ونصرة للإسلام والمسلمين.

وقد انبرى شيخ مشايخ السلطان أخيرًا بفتوى من النوع ذاته لحث الناس على الاشتراك في التصويت على تغيير المادة ٧٦ من الدستور وعدم مقاطعته كما تريد المعارضة وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. وهي نصف شهادة فأين الشهادة على الباقي، إلغاء قوانين الطوارئ، والأحكام العرفية والإفراج عن المعتقلين السياسيين، ورفض التمديد والتوريث لأن الحكم في الإسلام عقد وبيعة واختيار حر من الناس، لا انقلابًا ولا وراثة، «إني ولِّيت عليكم ولست بخيركم.»، «والله لو عثرت بغلة في العراق لسُئلت عنها يا عمر: لماذا لم تُسوِّ لها الطريق؟» فما بال العدوان الأمريكي منذ ثلاث سنوات على العراق، ومنذ أكثر من أربع سنوات على أفغانستان ومنذ أكثر من خمس سنوات على الشيشان، ومنذ أكثر من نصف قرن على فلسطين وكشمير، ومنذ أكثر من خمسة قرون على سبتة ومليلة في شمال المغرب المحتلة من إسبانيا منذ سقوط الأندلس؟ أين الشهادة على فقر الفقراء وغنى الأغنياء، وتهريب ثروة مصر إلى الخارج، ونواب القروض، وتجار المخدرات، ومظاهر الفساد الاجتماعي والسياسي؟ أين الشهادة على آلاف المعتقلين السياسيين والتعذيب في السجون كما هو وارد في تقرير حقوق الإنسان الذي صدر من مؤسَّسات الدولة ذاتها؟ أين الشهادة على ضرورة التعددية السياسية؛ لأن «اختلاف الأئمة رحمة بينهم.»، «كلكم راد وكلكم مردود عليه.»، وشرعية الاختلاف، وضرورة الخروج على الحاكم الظالم؟

إن لفظ «الشهادة» في القرآن له معانٍ عديدة. فالشهادة لا تكون إلا بالحق. وتشهد الألسنة على شاهد الزُّور، والشهادة على النفس أولى، ولا تجوز الشهادة مع شاهد الزور فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ، وشهادة النفاق وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. والشهادة لا تكون إلا بالقسط يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ. هذه هي الشهادة الكلية على أحوال الأمة ومصالحها وعدم رعاية الحكام لها وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ، وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ.

والأخطر من ذلك كله الشهادة المُضادَّة وهي أخطر من شهادة الزور. والشهادة المضادة تكفير المخالفين في الرأي، والحكم بالردة على معارضي السلطان، وإلقاء تُهَم البغي والفتنة والخروج على إجماع الأمة والإفساد في الأرض عليهم؛ فتقوم بعض جماعات الرفض الإسلامية بتكفير مشايخ السلطان، وتكفير الأمة كلها التي تستمع لفتاويهم. وكل تكفير له تكفير مضاد، وكل فتوى لها فتوى مضادة. ويصبح الدين سلاحًا ذا حدين، للسلطان وضد السلطان. يكفر به مشايخ السلطان المعارَضة، وتُكفِّر المعارَضة السلطان ومشايخ السلطان، وقد يصبح السلطان نفسه ضحية مشايخه كما حدث في الجمهورية الثانية في حادث المنصة.

متى يستقل العلماء عن السلطان ويصبحون فقهاء الأمة، يدافعون عن مصالحها، وليسوا فقهاء السلطان لتبرير مواقفه السياسية التي تضر بمصالح الجماعة؛ حتى تعود المصداقية إلى علماء الأمة، ويجهرون بالحق في وجه السلطان الجائر؟ متى يكون العلماء ورثة الأنبياء؟

(٩) فتاوى السلطان٩

الفتوى جزءٌ من النظام التشريعي الإسلامي. عرض له علماء أصول الفقه في باب «المفتي والمستفتي» كما فعل الشاطبي في «الموافقات». وهي ممارسة فعلية للاجتهاد كمبدأ عام. ولها أبلغ الأثر في سلوك الناس؛ لأنها هي التي تعطي شرعيته. ويطيعها الناس أكثر من طاعتهم لقوانين البلاد فهي تتعلق بالضمير والسلوك القويم، والخوف من الله في اليوم الآخر، وتجنب عذاب النار، في حين أن طاعة قوانين البلاد قانونية، يسهل إزاحتها جانبًا؛ لأن القوانين «المدنية» لا ترعى تطبيق العدل بين العباد، فرضتها الدولة الباغية. بل إن عصيانًا أقرب إلى طاعة الله من طاعتها.

فإذا ما تعلقت الفتوى بالشأن العام، ما تعم به البلوى، فإنها في هذه الحالة تتقاطع مع المواقف السياسية. لا يجوز للأفراد القيام بها، بل فقط مجامع البحوث الفقهية أي الجماعة، أهل الحل والعقد أي أهل الاختصاص. فقضايا الحرب والسلام مهمة مجالس الأمن القومي، وقضايا الغنى والفقر مهمة الجمعيات الوطنية للاقتصاد والتشريع، وقضية شرعية النظام السياسي مهمة المحكمة الدستورية العليا.

ومنذ أن فقد علماء الأمة استقلالهم وأصبحوا موظَّفِين في الدولة ومؤسَّساتها الدينية مثل دار الإفتاء، فإنهم — في الغالب — ما يُبرِّرون قرارات السلطان إلا فيما ندر. هم جزء من جهاز الدولة؛ مثل: الجيش، والمجالس النيابية، والإعلام، والتعليم. وفي الخلافات السياسية داخل جهاز الدولة أو بين الدولة وخصومها السياسيين أي المعارضة أو بين الدول في الحجاز ومصر والأردن من ناحية، ولبنان واليمن والمغرب وتونس والجزائر من ناحية أخرى. تصبح الفتوى سلاحًا سياسيًّا لنصرة هذا الفريق أو ذاك، ولتأييد هذا النظام السياسي أو ذاك، ولتبرير موقف هذه الدولة أو تلك في القضايا الكبرى. فيتحول الخلاف السياسي إلى خلاف ديني. وتزداد الأمة فرقة وتشتتًا، بل تكفيرًا متبادلًا فهي فتاوى ليست لوجه الله ولا لمصلحة المسلمين. ليست خالية من الأهواء وبالتالي تكون كلها باطلة؛ لأنها أقرب إلى الميل منها إلى الحق وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ.

والفتوى التي صدرت من بعض فقهاء الحجاز بتحريم مناصرة حزب الله، فتوى خاطئة منهجًا وموضوعًا، قصدًا وهدفًا وغاية. فهي تبدأ من النص، وعادة ما تبدأ الفتاوى بالواقع. لذلك يُسميها علماء المغرب «النوازل» أي ما يقع للمسلمين من حوادث ومصائب ومآسٍ مثل العدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين. فالبداية بالنص تتوقف على اختيار النصوص. وكل مُفتٍ يختار النص الذي يحقق أهدافه. والنصوص متشابهة. إنما تقوم الفتوى على تحليل العلل في الفرع، ومعرفة مدى اتفاقها مع العلل المذكورة في الأصل وهو النص. وهو تحليل للواقع يقوم به المختصون في العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلاقات الدولية. بل إن فَهْم الأصل وهو النص يَعتَمد على منطق لغوي محكم يفرق بين الحقيقة والمجاز، والظاهر والمُؤَوَّل، والمُحْكَم والمتشابه، والمجمل والمبين، والعام والخاص، والأمر والنهي، وفحوى الخطاب ولحن الخطاب إلى آخر ما يعرفه علماء الأصول. ولا يُترك لسوء التأويل والأغراض الشخصية وأهواء المفتين.

ولا تتعلق الفتوى بالماضي، بل بالحاضر. والحكم على حزب الله بأنه رافضي أسوة بالرافضة أيام الفتنة الكبرى، إنكار لتغير الزمان والعصر. والحكم عليه بأنه صفوي فارسي إنما هو تغليب الجاهلية على الإسلام، وإثارة النعرات التاريخية والعرقية والمذهبية وتضحية بالحاضر ومآسيه. فلكل عصر أحكامه. والحكم الحاضر يدرأ خطأ ماثلًا في الحاضر، وملحًّا في العصر. يدرأ المفاسد، ويجلب المصالح، ويغلب العاجل على الآجل. ولو كان هناك خطر شيعي من محور إيران والعراق وسوريا ولبنان فإنه ليس خطرًا عاجلًا، وقد يكون وهمًا. إنما الخطر العاجل هو العدوان الصهيوني على فلسطين ولبنان، والأمريكي على العراق وأفغانستان، والروسي على الشيشان. وهو ما يحدث الآن حيث تسيل الدماء كل يوم، ويقتل الأطفال والنساء والشيوخ كل يوم، ويتم تدمير البنية التحتية للبنان وفلسطين. هذا هو الخطر العاجل الذي تتصدى له الفتاوى.

وغرض الفتوى توحيد الأمة، وتجميع قواها وحشد طاقاتها ضد الغزو والعدوان وليس تفرقتها إلى سُنِّي وشيعي، رافضي وإباضي، سلفي وعلماني. فالموت لا يُفرِّق بين المذاهب والطوائف والديانات. وكثيرًا ما سعت الاتجاهات الإصلاحية المعاصرة إلى التقريب بين المذاهب منذ الشيخ شلتوت، والإمام القمي، ومجلة «التقريب». وكيف يكون هناك تعارُض بين العرب ودول الجوار الإسلاميين تركيا وإيران وهما أكثر مساندة للمقاومة في فلسطين ولبنان من بعض الأنظمة العربية؟ ومن أين يأتي الخطر على الخليج، من إيران في الشرق أم من العراق في الشمال؟ وإن تغليب التناقض الرئيس بين مصلحة الأمة لا فرق فيها بين عرب وعجم وتُرك على التناقض الثانوي والخلافات بين الأقطار العربية والإسلامية أقرب إلى روح الشرع الذي ينتصر للمظلوم ضد الظالم.

ولا يجوز قياس شيعة لبنان على شيعة العراق. فلكل طائفة ظروفها التاريخية والسياسية والاجتماعية. لقد عانى شيعة العراق من النظام العراقي السابق وكانوا ثورًا عليه. في حين أن شيعة لبنان جزء من الحركة الوطنية اللبنانية ومن نسيج الشعب اللبناني. وإذا أخطأ شيعة العراق أو سُنَّتُه أو أكراده، فإن ذلك لا يعني خطأ شيعة لبنان. ومجموع الخطأين لا يكون صوابًا.

وإن قسمة الوطن في العراق أو لبنان أو الحجاز أو دول الخليج إلى سُنَّة وشيعة هو وقوع في التصور الطائفي ومشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي. فالوطن واحد بصرف النظر عن طوائفه العرقية والمذهبية. والمواطنون مواطنون بصرف النظر عن أصولهم الطائفية. هكذا قرر مؤتمر «الطائف» للمصالحة اللبنانية بعد الحرب الأهلية. حزب الله ليس شيعيًّا طائفيًّا، بل يمثل المقاوَمة الوطنية اللبنانية. تُقاوِم فيه كل ألوان الطيف السياسي الناصري والماركسي والمسيحي والسَّلَفي والعلماني. هُوِيَّته وطنية وليست طائفية. كان الشاه شيعيًّا. وكانت أمريكا تريد إدخاله في حلف إسلامي بين الرياض وطهران وكراتشي للدفاع عن المصالح الأمريكية ومُحاصَرة القومية العربية في مصر وسوريا واليمن والجزائر. ولم يَقُل أحد من علماء الحجاز إن شاه إيران شيعي. وكان متعاونًا مع إسرائيل. ثم جاءت الثورة الإسلامية في إيران في فبراير ١٩٧٩م، وقَطعَت العلاقات مع إسرائيل وسلَّمَت سفارتها لمنظمة التحرير الفلسطينية. وما زالت تُمثِّل أكبر تهديد للكيان الصهيوني بما لديها من قوة عسكرية وأسلحة للردع.

إن فِقْه الواقع يقرر أن الخطر الأعظم على الأمة الآن هو الخطر الصهيوني الأمريكي، ومشروع الشرق الأوسط الجديد، والعدوان على لبنان وفلسطين والعراق؛ مما يستوجب شحذ طاقات الأمة كلها عربية وإسلامية لدرء العدوان وتحرير الأرض. فقد دافعَت لبنان كلها عن بيروت ضد محاولة غزوها في ١٩٨٢م. وحرَّرَت المقاوَمة اللبنانية الجنوب المحتل في ٢٠٠٠م. وها هي الآن مرة ثانية تُدافِع عن لبنان كله مع الشعب اللبناني ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان كله وتدمير البنية التحتية، وقَتْل المدنيين، وهَدْم المنازل والمستشفيات والمساجد والكنائس بعدما عجز عن مواجهة المقاوَمة وجهًا لوجه على الأرض في الجنوب.

كل من قال: «لا إله إلا الله» فهو مسلم، دمه وماله في عصمة المسلمين. فلا يجوز تكفير المسلم ولا استبعاده وإخراجه من حظيرة المسلمين، والإسلام يناصر كل مظلوم مُعتَدًى عليه، بصرف النظر عن دينه وطائفته ومذهبه وعرقه، كما فعل الرسول في «حلف الفضول». الإسلام مع الحرية والعدل في كل مكان، وليس فقط على أراضي المسلمين.

على فقهاء الأمة مراعاة ضمائرهم وإصدار فتاويهم دفاعًا عن مصالح الأمة، وليس لتبرير المواقف السياسية للسلاطين. وعليهم أن يختاروا بين المصالح العامة والخطر العاجل ومسئوليتهم عن دماء الأبرياء، وبين المصالح الخاصة للنُّظم الحاكمة والعائلات المالكة.

١  العربي الناصري، ٤ من فبراير ٢٠٠٧م.
٢  الاتحاد، ١٠ من سبتمبر ٢٠٠٥م؛ الدستور، ١١ من سبتمبر ٢٠٠٥م.
٣  الاتحاد، ٢ من ديسمبر ٢٠٠٦م؛ الدستور، ٣ من ديسمبر ٢٠٠٦م؛ العربي الناصري، ٣ من ديسمبر ٢٠٠٦م.
٤  الاتحاد، ١٢ من مارس ٢٠٠٥م؛ العربي الناصري، ٢٠ من مارس ٢٠٠٥م.
٥  الزمان، ٥ من مارس ٢٠٠٥م؛ الدستور، مارس ٢٠٠٥م؛ العربي الناصري، ٦ من مارس ٢٠٠٥م.
٦  الدستور، ١٦ من أغسطس ٢٠٠٥م؛ العربي الناصري، ٢١ من أغسطس ٢٠٠٥م.
٧  الاتحاد، ٢٥ من يونيو ٢٠٠٥م؛ الزمان، ٢٥ من يونيو ٢٠٠٥م؛ الدستور، يونيو ٢٠٠٥م؛ العربي الناصري، ٢٦ من يونيو ٢٠٠٥م.
٨  الاتحاد، ٩ من يوليو ٢٠٠٥م؛ الزمان، ٢٥ من يونيو ٢٠٠٥م؛ الدستور، ١٠ من يوليو ٢٠٠٥م؛ العربي الناصري، ١٠ من يوليو ٢٠٠٥م.
٩  الاتحاد، ٩ من سبتمبر ٢٠٠٦م؛ العربي الناصري، ٢٦ من أغسطس ٢٠٠٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤