الفصل الرابع

الأحزاب السياسية

(١) الانتخابات بين الشكل والمضمون١

الحرية مَطْلَب أساسي في الطبيعة البشرية. يولد الإنسان حرًّا ثم يكبله المجتمع بالقيود والأعراف والقوانين المتبعة. فيتحول من حُر إلى مقهور. ثم يحاول أن يتحرر، يحرر نفسه بنفسه بالنضال الاجتماعي والسياسي. لذلك قال عمر قولته الشهيرة: «لِمَ استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» كما قال أحمد عرابي متأثرًا بتعاليم الأفغاني أمام الخديوي توفيق في قصر عابدين: «إن الله خلقنا أحرارًا، ولم يخلقنا عقارًا، والله لا نُورَّث بعد اليوم.»

والحرية أيضًا مَطْلَب واقعي فعلي. يشعر المواطن العربي بأن ما في قلبه ليس على لسانه، وأن ما يُقال في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء لا يُعبِّر عَمَّا في نفسه، بل يبرر النظم السياسية القائمة. فالإعلام أحد أجهزة الدولة مثل الشرطة والجيش وقوات الأمن. لذلك لجأ إلى حديث الهمس والنِّكات الشعبية والكتابة على الآثار ودورات المياه والمركبات العامة وحوائط المنازل في الطريق العام وكتابة شعاراته التي لا يسمح أحد بكتابتها في الإعلام الرسمي وهو ما يُعْرَف في الثقافة الشعبية باسم «هتاف الصامتين».

والحرية مَطلب تاريخي. فمنذ أن قامت الثورات العربية الأخيرة في أوائل الخمسينيات، هُمِّشَت قضية الحرية لصالح التنمية الاجتماعية، والتحرر الوطني، والعدالة الاجتماعية، والتصنيع وبناء الدولة الحديثة؛ مما يستدعي استقرار النظام، وعَمَّت تجربة الحزب الواحد، والطليعة الثورية، والتغير من أعلى، والتخطيط المركزي. وكان من نتيجة ذلك صعود طبقة البيروقراطيين، والتكنوقراط، وضباط الجيش، ورجالات الحزب، وتَضخُّم جهاز الدولة، واتهام كل المعارضين السياسيين من داخل النظام أو من خارجه بأنهم أعداء النظام متعاونون مع الخارج، من أنصار النظام البائد. وبعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، بدأ التسليم بقضية الحرية، وبضرورة التعددية الحزبية. وواكب ذلك بعد حرب أكتوبر صدور قانون الاستثمار في ١٩٧٤م، والانقلاب على النظم «الشمولية» أي «الناصرية»، والتحول إلى القطاع الخاص، والتعاون مع الغرب. واشتد هذا التحول الرأسمالي خاصة بعد كامب ديفيد في ١٩٧٨م، وبعد سقوط النظم الاشتراكية في أوائل التسعينيات، وفرض العولمة واقتصاد السوق نظامها على العالم. وواكبت الدعوة إلى الحرية الدعوة إلى الرأسمالية، وربط الاشتراكية بالقهر والنظم الشمولية.

والحقيقة أن الحرية مَطْلَب الفرد، وحقه الطبيعي في التعبير الحر بالقول والفعل والتنقل والاعتراض. وكما ارتبطَت الحرية بالفرد، ارتبطت الديمقراطية بنظام الحكم. وأصبح كلاهما قرينين: حرية الفرد وديمقراطية الحكم.

ولما تفاقَمَت الأزمات بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وتم عقد معاهدات الصلح مع الكيان الصهيوني منذ زيارة القدس في نوفمبر ١٩٧٧م، واتفاقيات كامب ديفيد في ١٩٧٨م، ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في ١٩٧٩م، والأردنية الإسرائيلية بعدها، ومع موريتانيا في ٢٠٠١م، بدأت الهَبَّات الشعبية تطالب بالخبز في مصر في يناير ١٩٧٧م، وفي المغرب وتونس في ١٩٨٣م، وفي الأردن في حوادث عَمَّان في التسعينيات. وسرعان ما سكنت. وبعد العدوان على فلسطين بعد انتفاضة الأقصى واحتلالها كلها، وبعد العدوان على العراق في ٢٠٠٣م والعدوان على أفغانستان والشيشان، وعجز الأنظمة العربية عن أن تدافع عن الأوطان تحركت الشعوب تطالب بالحرية والديمقراطية والتعددية السياسية وإلغاء قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وإنهاء سيطرة الحزب الحاكم، والوقوف أمام التمديد والتوريث. وتحت الضغوط الشعبية في الداخل والأمريكية في الخارج بضرورة التحول الديمقراطي بعد أن كانت أمريكا تؤيِّد أعتى النظم الديكتاتورية في العالم بما في ذلك الوطن العربي، قرر النظام السياسي في مصر تعديل مادة يتيمة في الدستور رقم ٧٦م التي تسمح بانتخاب الرئيس من بين أكثر من مرشح دون غيرها من المواد التي تتعلق بمدة الرئاسة وحرية إنشاء الأحزاب السياسية.

وتَحرَّك الشارع العربي في مصر ولبنان واليمن صراحة، وفي سوريا والسعودية وليبيا خلسة؛ من أَجْل المُطالَبة بضرورة التحول إلى الديمقراطية من الداخل وليست من الخارج. بدأت مظاهر هذا التحول بالاستعداد للانتخابات الرئاسية في مصر من بين أكثر من مرشح بلغوا العشرة دون ندية بينهم. فالرئيس الذي تربع على عرش مصر ما يقرب من ربع قرن في كفة وباقي المرشحين كلهم، بما في ذلك مرشح حزب الوفد العريق مع باقي مُرشَّحِي الأحزاب الورقية في كفة أخرى. والنتيجة معروفة سلفًا. لذلك قاطعت معظم أحزاب المعارَضة الانتخابات. ومُنِع المُستقِلُّون والإخوان المسلمون والذين قد يحصلون على أكثر من نصف أصوات الناخبين من الترشيح لاستحالة حصول المستقل على توقيعات مائتين وخمسين عضوًا من المجالس النيابية والمحلية.

تحوَّل المضمون الحقيقي للديمقراطية إلى مُجرَّد شكل. فقرَّرَت كبرى أحزاب المعارَضة كالعربي الناصري، والتجمع الوطني المقاطعة لعدم الجدية، وعدم توافر الفرص المتكافئة للمرشحين، ومنع مرشحين آخرين، وسيطرة الإعلام الرسمي على الرأي العام، والصحافة القومية. وفي بطاقة الانتخاب الرئيس هو أول الأسماء دون مراعاة للحروف الأبجدية للمرشحين أو لتاريخ التقدُّم للترشيح. وحكم الواقع رئيس عَرَفه الناس على مدى ربع قرن وآخرون لم يسمع عنهم أحد باستثناء مرشح الوفد وحزب الغد لاتهامه واعتقاله ثم الإفراج عنه. وجهاز الدولة كله بما في ذلك أجهزة الأمن والشرطة بجانب الرئيس، والمؤسَّسات الدينية الإسلامية والقبطية كلها مع الرئيس، وإعلان ذلك على لسان شيخ الأزهر وبابا الأقباط وكأنه لا توجد تعددية في الرأي بين المسلمين والأقباط باعتبارهم مصريين. وهناك أقباط ومسلمون في حركة «كفاية»، وفي الحركة الوطنية من أجل التغيير، وفي معظم حركات المعارَضة التي نشأت تلقائيًّا في الأشهر الأخيرة والتي بلغت أربعة عشر تنظيمًا أهليًّا من تنظيمات المجتمع المدني.

خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف. ما أُعطي باليمين أُخذ باليسار. وتحولت الانتخابات من آلية لتحقيق الديمقراطية إلى مُجرَّد شكل يتستر على النظم التسلطية السابقة. القوى السياسية في الشارع العربي أربعة: الإسلاميون، والناصريون، والليبراليون، والماركسيون. ووجود أربعة مرشحين على مستوى الندية تعبير عن المضمون وليس الشكل. وإذا كان الحوار بين أحزاب المعارَضة جادًّا، فإنه يمكن الاتفاق على مرشح واحد لقوى المعارَضة ضد مرشح الرئاسة لعدم تفتيت الأصوات. ويختار الشعب بين مرشحين رئيسين: مرشح الحزب الحاكم الذي استمر على مدى ربع قرن ومرشح أحزاب المعارَضة التي تريد تداوُل السلطة، وبداية مرحلة جديدة في تاريخ مصر. ولا فرق بين السياسة الداخلية حول البطالة والإسكان والفقر ونقص الخدمات الصحية والاجتماعية، والسياسة الخارجية، والتحالف مع أمريكا والصلح مع إسرائيل، وتواري الدور القومي، وغلبة القُطْرية، وغياب العرب عن الساحة الدولية.

لقد أدرَك الرأي العام في مصر الذي يمثله رجل الشارع أن الانتخابات مُجرَّد تمثيلية أو مسرحية أو فيلم سيئ الإخراج. تحولت إلى مهزلة يضحك منها الجميع. فالنتائج معروفة مسبقًا. هي انتخابات هشة لن تبقى حتى يظهر سيناريو آخر يقلب الموازين، من التمديد إلى التوريث أو إنهاء عصر بأكمله وفترة من حياة مصر السياسية مضى عليها نصف قرن تضم الحرية والاشتراكية، الوطنية والقومية، ائتلاف وطني وتعددية سياسية. يظل المستقبل حتى الآن في المجهول. وقد يتكشف في غضون أشهر إذا ما اشتدت الأزمة في لبنان وسوريا، وإذا ما تقرر العدوان على إيران والسودان، وإذا ما استمر الاحتلال لفلسطين والعراق إلى ما لا نهاية، وإذا ما تَحوَّلت حركات المعارَضة الناشئة إلى ثورات شعبية عارمة في إندونيسيا وأوكرانيا وفنزويلا. فالعصر القادم هو عصر الشعوب.

(٢) هل هناك موانع للديمقراطية؟٢

اختلف النقاد، قدماء ومُحدَثين، حول علاقة الشكل بالمضمون. فصل القدماء بينهما طبقًا للثنائيات التقليدية القديمة اللفظ والمعنى، البدن والنفس. فالمضمون مُستقِل عن الشكل استقلال المعنى عن اللفظ، والنفس عن البدن. المعنى ثابت في الذهن، واللفظ يَتبدَّل، والوجود الذهني سابق على الوجود اللفظي. المعنى في الذهن واللفظ في اللسان والحَلْق. لذلك نشأ عِلْمان منفصلان؛ علم المنطق لضبط المعاني وطرق الاستدلال، وعلوم البلاغة لاختيار أحسن الألفاظ وأفضل الأساليب طبقًا لتعريف البلاغة القديم «حُسْن القول طبقًا لمقتضى الحال.»

أما النُّقَّاد المُحْدَثون فقد وحَّدوا بين الشكل والمضمون. فلا مضمون بلا شكل، ولا شكل بلا مضمون يفرض الشكل مضمونه كما يفرض المضمون شكله. ومن هنا نشأَت البنيوية والأسلوبية ومناهج تحليل الخطاب. وإذا كان القدماء قد وقعوا في المثالية وعالَم الماهِيَّات المُستقِل عن عالَم الوقائع، فإن المحدثين قد وقعوا في الشكلانية اللفظية.

وربما تحتاج علوم اللغة إلى نظرية جدلية ثالثة تجعل العلاقة بين الشكل والمضمون ليست علاقة آلية ثابتة، تمييزًا أو توحيدًا، انفصالًا أو اتصالًا، بل علاقة مُتحرِّكة. يختار المضمونُ شكلَه أولًا، ثم يُعيد الشكلُ تكييف مضمونه ثانيًا. ثم تظهر الوحدة العضوية الحركية بينهما في تجددٍ مستمرٍّ لكليهما معًا طبقًا لآليات الإبداع.

والانتخابات مُجرَّد شَكْل أو آلية لتحقيق الديمقراطية وليست غاية في ذاتها، وإلا وجد الشكل دون المضمون، أو وجد مضمون مغاير، بل نقيض للديمقراطية وهو الطغيان، أو كما يقول ابن رشد في جوامعه على جمهورية أفلاطون: «وحدانية التَّسلُّط». الانتخابات هنا مجرد تبرير للتَّسلُّط وتشريع للطغيان. تهدف إلى معرفة رأي الناس وإدراكهم للمصالح العامة ولأفضل من يُمثِّلهم في الديمقراطية التمثيلية، أو الديمقراطية البرلمانية، أو في الديمقراطية المباشرة. الانتخابات آلية لآلية، آلية للديمقراطية والديمقراطية آلية لتحقيق المصالح العامة. الانتخابات وسيلة لا غاية، وسيلة لإشراك الناس في إدارة شئون البلاد واختيار حُكَّامها. والديمقراطية أيضًا وسيلة لا غاية، وسيلة لتحقيق المصالح القومية بمشاركة الناس؛ ضمانًا لتحقيق أنجح وأفضل من بيروقراطية الدولة أو فردية الحاكم.

والسؤال هو: هل هناك موانع للديمقراطية في بعض الثقافات ولدى بعض الشعوب كما تروج لذلك بعض النظم العنصرية صاحبة التفوق الحضاري؟ فأوروبا نموذج للديمقراطية في نظم حكمها وليست آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. في الغرب وحده منذ القرن السابع عشر نشأت نظرية العقد الاجتماعي عند لوك واسبينوزا ونَظَّرَها رُوسُّو في القرن الثامن عشر لتُفسِّر نشأة السُّلطة في المجتمع عن طريق التفويض، تفويض الناس عن رضى جزءًا من سلطتهم إلى واحد يختارونه فيما بينهم ليحقق الإرادة العامة La Volonté Générale. في حين عاش الشرق في «الاستبداد الشرقي» Le Déspotisme Oriéntale كما نظره مونتسكيو. ثم أضيفت عليها نظريات «المستبد العادل»، أو «الزعيم» لتفسير بعض النظم السياسية في بعض الثقافات الأخرى في أفريقيا وأمريكا اللاتينية التي يحب فيها الفرد الدولة، ويُعبِّر بقدراته الخاصة عن روح الشعب ومصالح الأمة.

ويضرب المثل قديمًا بالفرعونية في مصر والتي ما زالت في اللاوعي الجمعي للمصريين. هو الله الذي يُقرِّر ماذا يفعل، وما على الشعب إلا الطاعة. وعندما أتى الإسكندر إلى مصر اعتبره المصريون ابن الإله رع أو آمون. ورأى فيه المفسرون «ذو القرنين» الذي يتحدث عنه القرآن بلغة الإعجاب. وجعله الفلاسفة موحدًا بالله ينشر التوحيد في ربوع أفريقيا وآسيا، وليس فقط تلميذ أرسطو. واستمرت الفرعونية في الكنيسة القبطية في الدور المركزي الذي يقوم به رئيس الكنيسة الأرثوذوكسية الذي يتوحد مع الملك أو الإمبراطور في العصر البيزنطي. وكانت الثقافة اليونانية الرومانية التي مارست الديمقراطية اللاتينية في أثينا والرومانية في روما، ثقافة وافدة من الخارج. وبقت هامشية في مقابل مركزية الموروث.

واستمرت مركزية السُّلطة في الثقافة الإسلامية في مصر السُّنية في الفقه، الشيعية في الثقافة الشعبية التي تقوم على تأليه الإمام كما ظهر لدى الحاكم بأمر الله، وتقديس الأئمة المعصومين، وتبجيل آل البيت. وعمت ثقافة الأولياء وسلطتهم وقدرتهم على إجراء المعجزات. وظهر حورس من جديد؛ رمزًا لشركة مصر للطيران، والمَعارِض الفنية في الداخل والخارج في صورة «ابن البلد»، وفي الأغاني الشعبية «البلد عاوزة ولد» والفتوة في ملحمة «الحرافيش»، والزعيم في مسرحية «الزعيم». وتَعلَّم التلاميذ في المدارس دَوْر مُنقِذي مصر الكبار، أحمس طارد الهكسوس، وصلاح الدين محرِّر القُدس، ومحمد علي باني مصر الحديثة، وعبد الناصر مُفجِّر ثورة يوليو ومؤسِّس التجربة الاشتراكية ورائد القومية العربية.

وفي الحياة الوطنية، تم التركيز أيضًا على زعماء مصر الوطنيين: أحمد عرابي، عبد الله النديم، مصطفى كامل، محمد فريد، سعد زغلول، مكرم عبيد، مصطفى النحاس أكثر مما ذُكِر الشَّعب وحركات الجماهير وصفوف المقاوَمة. فالزعيم يُجسِّد روح الشعب. والغناء له والمدح في «كامل الأوصاف»، و«عاش اللي قال»، و«زعيمنا جمال»، ورئيس الجمهورية الثانية «آخر فراعنة مصر»، وزوجته «ملكة مصر» نفرتيتي، وكليوباترا، وحتشبسوت، وشجرة الدر معًا.

ولم يقتصر ذلك على مصر. بل عمَّ النموذج في آسيا عند ماوتسي تونج، وهوشي منه، وغاندي ونهرو. وظهر أيضًا عند محمد مهاتير، باني ماليزيا الحديثة في المادة ١١٦ التي تُعطي له سُلطات استثنائية. وظهر في أمريكا اللاتينية عند بيرون والبيرونية في الأرجنتين. بل لم يَخلُ النموذج الأوروبي الديمقراطي منه في المادة ١٦ في الدستور الفرنسي التي تُعطي ديجول سلطات استثنائية لإنقاذ البلاد من الخطر.

وإذا كانت الانتخابات مُجرَّد آلية للديمقراطية، والديمقراطية مُجرَّد وسيلة لمعرفة اتجاهات الرأي العام ورُؤى القوى السياسية، فقد يستوفي النموذج الأوروبي الشكل دون المضمون. فلا فرق بين الجمهوريين والديمقراطيين، أكبر حزبين سياسيين في الولايات المتحدة الأمريكية، في العدوان على العراق، وتأييد إسرائيل، وتدعيم النظام الرأسمالي. ولا فرق بين المحافظين والعمال، أكبر حزبين سياسيين في بريطانيا أيضًا، في العمل للأهداف ذاتها. لذلك إن لم تكن الديمقراطية وآلية الانتخابات وسيلة لتحقيق نسق من القيم أو مشروعًا قوميًّا يجسد مصالح الناس، فإنها تكون مجرد شكل دون مضمون.

وليس للديمقراطية شكل واحد ولا نموذج أوحد، بل تَتعدَّد أشكالها. والشورى أحد الأشكال، تُحقِّق الديمقراطية سلبًا، وهو عدم التَّفرُّد بالرأي والقرار دون استشارة أهل الاختصاص، أهل الحل والعقد بتعبير القدماء، لتجنُّب الدوافع الشخصية أو المصالح الطبقية. ومعظم مآسي العرب من القرارات الفردية مثل زيارة رئيس الجمهورية الثانية للقدس، وعقد اتفاقيات كامب ديفيد، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل والخصخصة، والاعتماد شبه الكامل على الولايات المتحدة، وغزو العراق للكويت. شرط الديمقراطية الأول هو حرية الرأي، وتداوُل السُّلطة. «إني وُلِّيت عليكم ولستُ بخيركم.» ضد التمديد إلى ما لا نهاية. والعقد والبيعة والاختيار ضد التوريث، وضد الانقلاب العسكري الذي سمَّاه القدماء «الشوكة».

(٣) الدروس المستفادة من الانتخابات المصرية٣

أَخْذ العِبَر من الماضي سُنَّة حميدة إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ. والانتخابات المصرية في الإعادة في المرحلة الثالثة أوشكَت على الانتهاء. والكل يحلل ويستخلص العِبر وأهمها:

  • (١)

    ارتفاع صوت المعارَضة العلمانية بكل فصائلها؛ الناصرية، واليسارية، والليبرالية في جرائدها وآرائها، وداخل مَقارِّها، وضَعْف وجودها في الشارع. هناك فَرْق بين الصوت والجسم، بين الكلام وأثره. تُعبِّر عن أشواق الجماهير وطموحاتها ولكنها لا تُسيِّسها ولا تُجنِّدها، باستثناء شرائح كبرى من المثقفين والفنانين. تُعبِّر عن خطورة الموقف السياسي في الداخل والخارج ولكنها عاجزة عن استقطاب الناس باستثناء القلة. وما فائدة النَّقد دون الجمهور العريض؟ مع أنها هي المعارَضة الأكثر وعيًا من الناحية السياسية، والأكثر قدرة على صياغة برامجها الاجتماعية والسياسية تفصيليًّا دون الاكتفاء بالشعارات الوجدانية أو الإيمانية. وهي الأكثر تواصلًا مع تاريخ مصر، الوفد مع ما قبل الثورة المصرية في ١٩٥٢م، والناصريون واليساريون مع ما بعد الثورة المصرية المغدورة بها منذ السبعينيات وحتى الآن. والسؤال هو: كيف يَتحوَّل اليسار العلماني إلى قوة شعبية، له قواعده الجماهيرية وثقافته الثورية النابعة منه وليست الأيديولوجيات الجاهزة الوافدة التي لا يعلمها الكثير من الأغلبية الأمية الصامتة؟ فِكْر دون جمهور، ورُوح بلا جسد، وصورة بلا مادَّة، ورأس بلا جسم.

  • (٢)

    ظهور المعارَضة الإخوانية وكأنها اللاعب الأول في الساحة وهي المسماة حتى الآن في أدبيات الدولة والحزب الحاكم، الجماعة المحظورة، وبِلُغة وزارة الداخلية الجماعات الدينية. فبعد خمسين عامًا من قرار الحل في ١٩٥٤م ما زالت موجودة على الساحة. تشارك في الحياة السياسية منذ السبعينيات. تقود المظاهرات من أجل تدعيم المقاومة الفلسطينية وضد العدوان الأمريكي على العراق، وضد الأحكام العرفية، وقوانين الطوارئ، والفساد والتبعية. والجماعة غير شرعية، وليس لها منبر إعلامي. فقد أُغْلِقَت جريدة «الشعب» لسان حال حزب العمل. وليس لها منبر آخر غير حركة الشارع. إلا أن ثقافتها السياسية نابعة من الموروث الثقافي للناس. ويؤثر شعارها «الإسلام هو الحل» على الجماهير التي تبحث عن حل لمشاكلها بعد أن جربت أنظمة الحكم فيها الليبرالية مرة قبل ثورة ١٩٥٢م، والاشتراكية مرة أخرى بعدها. وضاعت نصف فلسطين في التجربة الأولى في ١٩٤٨م، وضاع النصف الآخر في التجربة الثانية في ١٩٦٧م. كانت الجماهير قبل الثورة مطحونة بالإقطاع والقصر والإنجليز، وما زالت مطحونة بعد الثورة والانقلاب عليها منذ السبعينيات برجال الأعمال وهيمنة الولايات المتحدة وغطرسة إسرائيل. فلشعار «الإسلام هو الحل»، دلالة نفسية، المفتاح السحري، وكلمة السر للتخفُّف من الضنك. والناس مرتبطة بتراثها. تعرف الإسلام ولا تعرف الليبرالية، والقومية، والاشتراكية، والماركسية باعتبارها شرائع لم يُنْزِل الله بها من سلطان. الشعار يمثل هروبًا إلى الأمام حتى تمر هذه الموجات العالية من الأيديولوجيات العلمانية للتحديث. هو هروب سلبي. وقد لا تعرف معنى الشعار إيجابيًّا كنظام اقتصادي سياسي اجتماعي لحل المشاكل التي تعاني منها البلاد. هو طريق للخلاص، وحلم مستقبل أفضل. وهو شعار قصير مركز يجيب عن السؤال الضمني الذي يسأله كل الناس: ما الحل؟ ما البديل؟ ويكون الجواب النفسي «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل» والحل لأزمة الروح والأخلاق والضمير. فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. وهو ما دعته الجماعة أكثر مما دعاه المثقفون الذين حاولوا إقناع الجماعة بترجمة الشعار إلى برنامج اجتماعي سياسي اقتصادي ما دامت تخاطب الرأي العام ولا تخاطب نفسها وجماعتها.

  • (٣)

    عدم التنسيق الكافي بين قوى المعارَضة المدنية ناصرية ويسارية وليبرالية، وبينها وبين قوى المعارَضة الإخوانية. وحدة قوى المعارضة ما زالت بعيدة المنال. كان هدف كل منها الحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد في مجلس الشعب، وليس تفويت الفرصة على الحزب الحاكم للحصول على الثلثين فنزل مرشحو المعارَضة المدنية ضد بعضهم بعضًا، الوفدي ضد اليساري، واليساري ضد الناصري، وكل منهما ضد الإخواني كل مرشح يريد المكسب إيجابًا لنفسه وليس سلبًا بإسقاط خصومه في الحزب الحاكم. وقد اشتهر أحد رؤساء الأحزاب اليسارية بالهجوم المستمر على «المتأسلمين» وعلى الإخوان؛ لأنه لا لقاء بين العلمانية والإسلام، ولا تداخل بين السياسة والدين. وهو خطأ تاريخي وعلمي في آنٍ واحدٍ. فالإسلام دين علماني كما يبدو في مقاصد الشريعة، الحفاظ على الحياة والعقل والحق والكرامة (العرض) والثروة (المال). يبحث في العلل المؤثرة في سلوك الناس وقيم العلمانية. العقل والعلم والإنسان والطبيعة والتقدم قيم إسلامية كما لاحظ الطهطاوي في «مناهج الألباب» ورؤيته مدى الاتفاق بين فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر والشريعة الإسلامية بين «الشرطة» لنابليون والشريعة بين مونتسكيو وابن خلدون.

  • (٤)

    ذكاء الإخوان المسلمين في إمساك كل الخيوط، الحزب الحاكم بيد، والمعارَضة باليد الأخرى. مع الحزب الحاكم «مشارَكة لا مغالَبة»، ومع المعارضة تنسيق جزئي لا منافَسة. يكسبون من الحزب الحاكم في ضعفه وعجزه وحاجته إلى المؤازرة فما زال يمسك بزمام السلطة. ويُنسِّقون مع المعارضة خاصة مع الحركة الوطنية من أجل التغيير. بل إنهم في البداية لم يرفعوا شعاراتهم النمطية «الله غايتنا»، «الرسول زعيمنا»، «القرآن دستورنا»، «الجهاد سبيلنا»، «الموت في سبيل الله أسمى أمانينا». والتفوا حول الشعارات الوطنية العامة التي رفعتها حركة كفاية، لا لقانون الطوارئ، لا للأحكام العرفية، لا للتوريث، لا للتمديد، نعم لإصلاح الدستور، نعم للتعددية السياسية، نعم لتداوُل السلطة، نعم للحريات العامة، نعم لإعادة توزيع الدخل، نعم لتأييد المقاوَمة في فلسطين والعراق. عَلَّمَت التجاربُ الإخوانَ، صدامهم مع النظام الليبرالي واستشهاد حسن البنا، صدامهم مع النظام الاشتراكي واستشهاد سيد قطب.

  • (٥)

    تقهقر الحزب الحاكم وضعفه وانقساماته وتَقاتُلهم على المكاسب والخلاف بين الرعيل القديم بمساندة الرئيس، والرعيل الجديد بزعامة ابن الرئيس. الأول يريد الاستمرار في الثروة والسلطة. والثاني يريد حظه في تَرِكَةِ مصر. أصبح الرعيل القديم عبئًا على الحزب، وهو مكروه من الشعب. وهو الذي جعل الحزب يفقد أصواته لصالح المعارَضة بقسميها المدني والديني. بقي الحزب في السلطة أكثر مما يجب. وحامت حول رجاله الشُّبهات. وأصبحوا في ذهن الشعب رموز الفساد. وقد يحل الحزب نفسه إذا ما فقد الثلثين من المقاعد في مجلس الشعب حتى لا تُسقِطه المعارَضة، ويكون لها الحق في ترشيح رئيس للجمهورية. وقد يُشير الحزب الحاكم من طرف خفي إلى البديل الأسوأ إذا ما أتى الإخوان. وقد تريد أمريكا نظامًا جديدًا يجمع بين الوفد والإخوان لضمان أغلبية شعبية والاقتصاد الحر في آنٍ واحدٍ بدلًا من إقامة آليات السوق الحرة على نظام فاسد وتسلطي.

  • (٦)

    ظاهرة المستقلين الانتهازيين الذين يرشحون أنفسهم مستقلين بعيدًا عن الحزب الحاكم، إما طوعًا وإما قسرًا. ثم يكسبون ثقة الناخبين لكراهيتهم للحزب الحاكم، ثم يعلنون انضمامهم للحزب الحاكم بعد الفوز، ويعودون إليه من الباب الأمامي، من أوسع الأبواب بعددٍ من المقاعد ينقذ الحزب الحاكم من أن يصبح حزبًا للأقلية. وهي انتهازية مزدوجة. يريدون أن يكسبوا مرتين. الأولى من الشعب بالابتعاد عن الحزب الحاكم، والثانية من الحزب الحاكم والابتعاد عن الشعب. هي ظاهرة أقرب إلى الخيانة الوطنية، خيانة الدائرة التي انتخبته على مبادئ ثم غَيَّر مبادئه بعد نجاحه. يُطعن فيها دستوريًّا من الناخبين.

  • (٧)

    ظاهرة البلطجة واستعمال العنف ضد الخصوم من مرتزقة الحزب الحاكم بالسيوف والخناجر والهراوات وسقوط القتلى والجرحى، ورجال الأمن لا يتحركون ما دام ذلك كله يساعد على إنجاح الحزب الحاكم. صوت الناخب قوة يده. ويده هي التي ستحسم لمن الأغلبية وليست صناديق الانتخابات. وهي فضيحة عالمية أمام أجهزة الإعلام والقنوات الفضائية عن التحول الديمقراطي في مصر. لقد تحرك الشارع لأخذ حقه بيده. وتحركت القوى المضادة لإجهاض هذا الحق والاستمرار في الباطل.

  • (٨)

    القضاء المستقل النزيه المُشرف على الانتخابات، وتسجيل كل المخالَفات وألاعيب التزوير بمنع المرشحين من الدخول إلى مراكز الاقتراع، وتغيير بطاقات الانتخاب داخل الصناديق والتسجيل الجماعي لموظفي الوزارة أو الهيئة التي منها يأتي المرشح. يصر القضاء على إصدار قانون السلطة القضائية والإشراف الكامل على العملية الانتخابية، واستقلالها عن وزارة العدل وعن وزارة الداخلية، شكلًا ومضمونًا، وإبطال التزييف دون تمييز بين قاضٍ مُعارِض وقاضٍ مُوالٍ للحكومة، الأول يُستبْعَد، والثاني يبقى.

دروس وعبر، لمن يعتبر إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى.

(٤) الأحزاب السياسية بين الشرعية واللاشرعية٤

الأحزاب السياسية تعبير عن القوى الاجتماعية والتيارات الفكرية والحركات السياسية في أي مجتمع. فالحزب السياسي أساسًا هو تعبير عن طبقة اجتماعية، مثل أحزاب العمال التي تُعبِّر عن الطبقة العاملة. ولم تنشأ أحزاب فلاحين؛ لأن الفلاح عامل زراعي. بالرغم من وجود فَرْق بين علاقة العامل بالآلة وعلاقة الفلاح بالأرض، الأول أقل ارتباطًا بوسيلة الإنتاج، في حين أن الثاني أكثر ارتباطًا بها. وهناك أحزاب الأقلية أو الإقطاع أو النخبة الحاكمة مثل الأحرار الدستوريين في مصر قبل الثورة. وهناك أحزاب الطبقة الوسطى، أحزاب رجال الأعمال. وتتراوح الأحزاب في الوطن العربي بين النخبة الحاكمة ورجال الأعمال.

كما تُعبِّر الأحزاب السياسية عن التيارات الفكرية في المجتمع مثل أحزاب الإصلاح، والأحزاب الإسلامية كالإخوان المسلمين. فالتيار الفكري يخترق الحواجز الطبقية. إذ تجمع الأحزاب الإسلامية بين مختلف الطبقات الاجتماعية، العُليا والوسطى والدنيا. فالحزب فكرة قبل أن يكون مصلحة. وقد جمعت بعض الأحزاب في الدول الغربية بين الاثنين مثل الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة، والأحزاب الديمقراطية المسيحية، والديمقراطية الاشتراكية في ألمانيا خاصة، وأوروبا عامة.

كما تُعبِّر الأحزاب عن حركات سياسية وطنية عامة تَوحَّدَت مع تاريخ البلاد مثل حزب الوفد في مصر قبل الثورة، والأحزاب القومية بعد الثورات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وحزب الاستقلال في المغرب، وحركة التحرر الوطني في الجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية في فلسطين، وحزب الدستور في تونس، وحزب الله في لبنان.

وفي الوطن العربي خاصة، تنشأ الأحزاب السياسية من «حضن» السلطة. فبعد أن قامت الثورات العربية الأخيرة في سوريا، ومصر، والعراق، واليمن، وليبيا، وموريتانيا، والصومال، والسودان أنشأت مجموعات «الضباط الأحرار» أحزابًا سياسية حتى تَحوَّل الانقلاب إلى ثورة، والثورة تيار فكري، والتيار الفكري إلى تَغَيُّر اجتماعي، والتَّغيُّر الاجتماعي إلى حركة شعبية جماهيرية، أصحاب المصلحة في الثورة. وبعد أن ينتهي العمر الأول للثورة، ويبرد نارها بل انقلاب غالبيتها إلى ثورة مضادة، تتحول الأحزاب الثورية الأولى إلى أحزاب سُلطة، تحكم بمفردها. ثم تجاوزها الزمن، ولم تعد قادرة على تغيير أنفسها بالرغم من تغير العصر. فتجد أحلافًا لها في الطبقات الجديدة في الداخل من العسكر أو من رجال الأعمال الجدد الذين كانوا يمثلون الرأسمالية الوطنية، أو في الخارج لدى القوى الكبرى والتي انتقلت من القوى الاستعمارية القديمة، فرنسا، وإنجلترا، وإسبانيا، والبرتغال، وهولندا، وبلجيكا، وإيطاليا إلى القوة الاستعمارية الجديدة، الولايات المتحدة الأمريكية.

ولتنشيط الحياة الحزبية، بدأت أحزاب السُّلطة في خلق أحزاب وهمية جديدة لتفادي الضغوط عليها في الداخل والخارج، نهاية عصر الحزب الواحد، وضرورة «الإصلاح» و«التحول الديمقراطي». ينشأ حزب مرتبط بفرد مثل حزب الأمة في مصر ولا وجود له، لا في الشارع السياسي ولا كتنظيم مؤسَّسي. وينشأ حزب آخر تقليدًا للغرب مثل حزب «الخُضْر» الذي نشأ ضد تلوث البيئة من مخلفات المصانع. ولا توجد في أوطاننا مساحات خضراء للدفاع عنها إذ نعيش في الصحراء وبين رياحها. ولا يوجد تصنيع أثَّر في البيئة، بل توجد نفايات بشرية وحيوانية ومَجارٍ طافحة وأكوام قمامة. وقد تنشأ بعض الأجنحة من الحزب الأم. وبدلًا من الحوار الخصب بين يمينها ويسارها ووسطها، بين جيل الرواد وجيل الطليعة تنشأ أحزاب مستقلة فيضعف الحزب الأم ولا يقوى الحزب المُنشَق. وقد تساعد الدولة في هذا الانشقاق لإضعاف الحزب الأم. فقد تفرع حزب «الغد» في مصر عن حزب الوفد. وخرج حزب «الوسط» من حضن الإخوان، وحزب «الكرامة» من «العربي الناصري». ومعظمها ما زالت تحت التأسيس. في حين استطاعت أجنحة في أحزاب أخرى أن تبتلع الحزب الأم مثل حزب العدالة والتنمية في المغرب بالنسبة إلى حزب الاستقلال، وحزب العدالة والتنمية في تركيا بالنسبة إلى حزب «الرفاه». وبلغت مجموعة هذه الأحزاب «الورقية» في مصر على سبيل المثال أربعة عشر حزبًا.

وفي الوقت ذاته هناك أحزاب سياسية في تكوينها وفكرها وتنظيمها وشعبيتها ومستقبلها لا شرعية مثل الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، وجبهة الإنقاذ في الجزائر، والنهضة في تونس، ومعظم الأحزاب الشيوعية في مصر وليبيا وتونس والسودان وشبه الجزيرة العربية. وقد تكون شرعية في الداخل ولا شرعية في الخارج مثل حماس في فلسطين، وحزب الله في لبنان، والثورة الإسلامية في إيران؛ لأنها آثرت طريق النضال ضد الهيمنة الغربية، والعدوان الأمريكي الإسرائيلي. هي أحزاب لا شرعية في الداخل؛ لأنها ضد نُظُم الحكم القائمة وأحد حركات المعارَضة الرئيسة ومنافس رئيسي لها في الحكم الذي فقد شرعيته بعد أن أصبح تابعًا للخارج وقاهرًا في الداخل. وهي لا شرعية في الخارج؛ لأنها رفضت الخضوع للهيمنة الخارجية. فأصبح سلاح الشرعية سلاحًا مزدوجًا توجهه أنظمة الحكم ضد أحزاب المعارَضة الجذرية، إسلامية أو ماركسية. كما توجهه أحزاب المعارَضة ضد أنظمة الحكم. وتوجهه القوى الخارجية ضد النظم الوطنية المنتخبة ديمقراطيًّا في فلسطين ولبنان وإيران، كما توجهه هذه النظم ضد العدوان الأمريكي اللاشرعي على العراق وأفغانستان، والعدوان الإسرائيلي على فلسطين، كل فلسطين. وقع الوطن العربي في تناقض بين أحزاب شرعية لا وجود لها في الشارع السياسي حتى وإن كان بعضها الحزب الحاكم، وأحزاب لا شرعية لها وجودها في الشارع السياسي وخارج أنظمة الحكم واللعبة السياسية برمتها. فمن الذي يحكم، القصر أم الشارع؟ الرئاسة أم الجماهير؟ الشرعي أم اللاشرعي؟

ومَن الذي يُعطي الشرعية؟ الدولة والرئاسة ولجنة الأحزاب والبرلمان، أي الدولة الحَكَم والخصم، أم الشارع والجماهير؟ وهل استطاعت الشرعية الصورية التي تَهَبُها أو تمنعها الدولة قادرة على منع حركة الشارع وصعود الحركات اللاشرعية إلى المؤسسات السياسية في حالة انتخابات شبه ديمقراطية؟ وهل استطاعت كل وسائل التزوير، وأجهزة الأمن والدولة والرئاسة والإعلام والمخابرات واستعمال العنف والبلطجة وتأجير الفتوات أن تمنع من انتزاع الحركات «اللاشرعية» شرعية وجودها في الشارع وفرضها على المؤسسات الدستورية؟

وقد أدى هذا الوضع بين شرعية الحزب الحاكم اللاشرعية، ولا شرعية الحركات الإسلامية الماركسية الشرعية إلى انعزال الناس عن السياسة، وعدم مشاركة الجماهير في العملية الديمقراطية. إذ يذهب أقل من ربع من لهم حق الانتخاب إلى صناديق الانتخاب. يرفضون شرعية الحزب الحاكم اللاشرعية، ويخافون من لاشرعية الحركة الإسلامية والماركسية الشرعية. فقرت الحياة الحزبية، وبَقِيَت الجماهير خارج اللعبة السياسية. تنتظر الخروج من هذه الحلقة المفرغة بين الشرعية النظرية واللاشرعية العملية للحزب الحاكم، واللاشرعية النظرية والشرعية العملية للحركات الإسلامية والماركسية. وتنأى بنفسها عن هذا التكفير المُتبادَل بين الدولة وخصومها؛ فقد تكون خاسرة في الحالتين، خسارة محسوسة ومشاهَدة من الحزب الحاكم، وخسارة متوهَّمة ومتوقَّعة من أحزاب المعارَضة.

والأحزاب التاريخية في الوطن العربي أربعة: الليبرالية التي حكمت مصر في النصف الأول من القرن العشرين، والقومية التي حكمت معظم أقطار الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، والجناحان الرئيسان في نظام الحكم القائم ليبراليًّا كان أم قوميًّا، الحركة الإسلامية التي يُرمز لها بالإخوان المسلمين، والحركة الاشتراكية التي يُرمز لها بالشيوعيين. الليبرالية العربية لم تجدد نفسها وظلت خصيمًا للاشتراكية بدعوى الاقتصاد الحر، وللحركة الإسلامية بدعوى العلمانية، في أزمة مع نفسها ومع جماهيرها. كما انحسر المد القومي في الخمسينيات والستينيات بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م وحربَي الخليج الأولى والثانية، وظهور النزعات القُطْرِية، بل العِرْقِية والطائفية لتجزئة الأقطار العربية. وذاب الشيوعيون العرب إما في نار العولمة الجديدة، وإما في حضن الدولة، وإما كهوامش في حوار مع التيارات الأخرى. وما تبقى ما زال يعمل تحت الأرض بالطريقة التقليدية. فلم يبقَ إلَّا الحركة الإسلامية في الداخل أو في الخارج التي ما زالت تعمل على الأمد الطويل؛ بغية الوصول إلى الحكم على مراحل، من المشاركة إلى المغالبة بعد أن تم تهميشها على مدى أكثر من نصف قرن. الكل يعمل للحاضر، وهي وحدها التي تستعد للمستقبل.

(٥) لماذا الهجوم على «الإخوان» في مصر؟٥

منذ أن انتهت الانتخابات النيابية في مصر هذا الشهر بدأ التناحر على السلطة بين فِرَق المعارَضة، بدلًا من أن تبكي على حظها، وتتعلم من تجربتها، وتتساءل حول حصول الحزب الحاكم على أكثر من ثلثي المقاعد، وبالتالي سيطرته على الحياة السياسية في مصر على مدى ست سنوات قادمة. وبدلًا من تحليل أسباب الفشل السياسي لكل فصائل المعارَضة: التجمع (ستة أصوات)، والوفد (صوتان)، والكرامة تحت التأسيس (صوتان)، والغد (صوتان)، وهي في مجموعها اثنا عشر صوتًا من مجموع أربعمائة وأربعة وأربعين صوتًا بدأت تهاجم المعارضة الرئيسة التي تمثلها جماعة «الإخوان المسلمون» والتي حصدت ثمانية وثمانين مقعدًا. ولا يكفي تعليق هذا الانحسار للمعارَضة اليسارية، والليبرالية على التزوير والبلطجة وتَدخُّل الشرطة وأجهزة الأمن واستعمال كل وسائل العنف. فقد عانت منها المعارَضة الإخوانية أيضًا. ومع ذلك حصلت على ما يزيد على سبعة أمثال.

بدلًا من العبرة بما حدث، واستنباط الدروس المستفادة منها، والسياسة بأحد معانيها هي فن التعلم من التجارب، فلا يوجد ضمان نظري مسبق لنجاح أي تيار سياسي مُعارض، وبدلًا من النقد الذاتي ومراجعة النفس، ومعرفة أوجه القصور؛ من أجل الاستعداد للجولة القادمة بعد ست سنوات، وتجنُّب عوامل القصور، وزيادة فرص النجاح، بدأ الهجوم على «الإخوان»، إما لتغطية أسباب القصور الذاتي، والهجوم أحسن وسيلة للدفاع، وإما التعبير عن العداء الدَّفِين بين الإخوان والشيوعيين منذ الأربعينيات الذي ما زال قائمًا في اللاوعي السياسي والذي ما زال ظاهرًا بالهجوم المستمر على «المتأسلمين» وكأنهم هم البلاء الوحيد في البلاد من دون نقد للمتأمركين، وللمطبعين، وللمتصهينين، وللطائفيين، والذين باعوا البلاد وخانوا الأوطان، أو التناحر على السُّلطة من الآن بعد انتهاء «التكتيك» الذي كان سائدًا قبل الانتخابات من أجل وحدة قوى المعارَضة ضد الحزب الحاكم، ونهاية شهر العسل بينهما، والعودة إلى الاستراتيجية المتأصلة، العداء التقليدي بين السَّلَفية والعلمانية.

والهجوم على المعارَضة «الإخوانية» من المعارَضة اليسارية يضع هذه الأخيرة في خندق الحزب الحاكم والدولة وأجهزتها ذاتها في الهجوم على الجماعة «المحظورة» أو الجماعة الدينية أو الجماعة المستقلة. وبالتالي يتحول أعداء الأمس إلى أصدقاء اليوم. ويتضح أن التناقض الرئيس ليس بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارَضة، بل بين أحزاب المعارَضة ذاتها بجناحيها «الإخواني» من ناحية والليبرالي واليساري والقومي من ناحية أخرى.

فلِمَ هذا الخوف من «الإخوان»؟ لِمَ هذا الذعر منهم؟ ولتبرير هذا الخوف والذعر تتم تشويه صورة الإخوان بتكرار الصور النمطية التي تروج لها أجهزة الإعلام الغربية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين. فالإخوان ينادون بالدولة الدينية وهم ضد الدولة المدنية. وهو غير صحيح. فالسلطة السياسية في الإسلام منتخبة من الشعب «الإمامة عقد وبيعة واختيار». وهو نائب عن الأمة وليس خليفة الله أو حتى للرسول. ينادون بتطبيق الشريعة أي الحدود على المسلمين وغير المسلمين. وهو غير صحيح. فالشريعة تعطي الحقوق قبل أن تطالب بالواجبات، حق المسلم في بيت المال في الغذاء والكساء والإيواء والتعليم والصحة والعمل والكرامة. والحدود جزء صغير من نسق الشريعة الكلي كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. وهناك الشروط التي يصعب توافرها لتطبيق الحد. وهناك الموانع التي يكثر حضورها لإيقاف تطبيق الحد.

الإخوان يحرمون كل شيء، الموسيقى والفن والرقص والغناء، والتليفزيون والسينما. والحرام عندهم يسبق الحلال. والمنع له الأولوية على السماح. وهي صورة كريهة منقولة مما يروج عن الطالبان وبعض الحركات الأصولية المتشددة في البدو والحضر. وقد كتب الفقهاء من كبار المؤلفين في الحب مثل ابن حزم في «طوق الحمامة». وكان القُرَّاء من أساطين الغناء. وقد علَّم الشيخ أبو العلا سيدة الغناء العربي أم كلثوم أصول الغناء. والموسيقى العربية، والرسم العربي، والفن العربي، والموشحات العربية أشهر من أن تُعرف.

وإذا حضر الإخوان على الساحة السياسية فسيطالب الأقباط بدرجة الحضور ذاتها. وبالتالي يُخاطِر ظهور الإخوان بالوحدة الوطنية، ويكونون بداية لنشر الطائفية. وهو اتهام باطل. فالإخوان وطنيون أولًا، والوطنية تسمح بتعدُّد المرجعيات والأُطُر النظرية. المسلمون والأقباط مصريون أولًا، تجمعهم الهوية الوطنية قبل أن يُفرِّقَهم الدين. وما يريده الغرب هو غرس النعرة الطائفية والعرقية لتفتيت الأقطار العربية بعد أن ضعفت الرابطة القومية.

يمارس الإخوان العنف، ولا يقبلون الحوار. وهم الذين بدءوا بالعنف في الانتخابات الأخيرة. وهو ما تناقلته أجهزة الإعلام الغربية ضد الحركات الإسلامية. الإخوان أهل حوار. يدعون الناس سلمًا لا عنفًا لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، ويدعون إلى كلمة سواء بينهم وبين الناس في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة. يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس. هم جزء من الوحدة الوطنية في الداخل لمقاومة الخارج أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.

ليس الإخوان كلهم من تيارٍ فكريٍّ واحد. فهناك كما هي الحال في كل التنظيمات السياسية، وسط ويمين ويسار. الوسط هو الأغلبية. يقبل المجتمع المدني ومبادئ الحرية والديمقراطية. وهو الذي يمثله حزب «الوسط» تحت التأسيس. واليمين يتلاشى تدريجيًّا. يمثله الإخوان التقليديون الذين لم يتغيروا منذ تأسيس الجماعة في العشرينيات حتى الآن على مدى سبعين عامًا تقريبًا. واليسار ما زال غير مُؤثِّر بعد أن بدأه سيد قطب في المرحلة الثالثة من حياته بعد الإبداع الفني ثم النقد الأدبي، مرحلة «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«معركة الإسلام والرأسمالية»، و«السلام العالمي والإسلام». وهو القادر على مد الجسور وعقد الحوار مع المعارَضة الليبرالية واليسارية والقومية. ويتسع يومًا وراء يوم حتى يستقطب الوسط معه وينحسر اليمين كلية.

وبدلًا من تأسيس الجبهة الوطنية بين أطياف المعارضة كلها، إخوانية ويسارية وليبرالية وقومية، واستئناف التنسيق الذي حدث قبل الانتخابات النيابية، تتفكك المعارضة، ويضرب بعضها بعضا، وتتوجه المعارضة اليسارية والليبرالية إلى حليف الأمس تهاجمه وتنقده، وتقلص حجمه حتى يفسح لها المجال للانتشار والتأثير. ما زالت عقلية الفِرْقة الناجية هي السائدة حتى في المعارَضة اليسارية.

وبدلًا من التعلم من الإخوان، وكيفية توسيع قواعدهم، وتنظيم صفوفهم، وتحزيب نسائهم، والحفر في الموروث الثقافي، ورفع شعارات قادرة على تجنيد الجماهير بالرغم من خطابيتها مثل «الإسلام هو الحل» الذي تعود عليه الناس منذ أكثر من عقدين من الزمان، تتوجه المعارضة اليسارية بالهجوم على الإخوان وترفع شعار «لا للدولة الدينية، نعم للعلمانية». في حين أن الأيديولوجيات العلمانية للتحديث اختيار النخبة، وإن عبرت عن مصالح الجماهير. تستطيع الأيديولوجيات اليسارية الحفر في الموروث لتعميق ثقافتها ولحمها بالموروث الثقافي؛ حتى تكون أكثر ضربًا من الثقافة الشعبية وأكثر أثرًا في سلوك الناس.

بدلًا من الصراع على السلطة ووراثة الدولة، والدولة ما زالت قائمة بالرغم من ضعفها في الداخل وتبعيتها للخارج، يضرب جناحاها الرئيسان بعضهما بالبعض الآخر. كانت الدولة باستمرار وتمثل القلب منذ دولة محمد علي في القرن التاسع عشر حتى الدولة الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين، والدولة القومية والاشتراكية في النصف الثاني منه. وكان جناحاها، الإخوان والشيوعيون، هما المعارضين الرئيسين. وكانت الدولة تضرب الإخوان بالشيوعيين كما حدث بعد الثورة المصرية في الجمهورية الأولى أو تضرب الشيوعيين بالإخوان، كما حدث في الجمهورية الثانية، أو تضرب الاثنين معًا، كما حدث في الجمهورية الثالثة، وفي الدولة الليبرالية الأولى قبل الثورة. ولم يعد الإخوة الأعداء يتصورون، بدلًا من الصراع بينهما، أن الدولة المتسلطة هو العدو المشترك لهما معًا، يتحالفان معًا ضده. وبدلًا من التقاتل على وراثة الدولة الرخوة يتوجه الجميع، القلب والجناحان للتصدي لمخاطر التجزئة، العرقية والطائفية التي تحيط بالدولة القُطْرِية في العراق ولبنان وسوريا والسودان ودول الخليج ومصر وكل دول المغرب العربي.

وأيهما أفضل الهجوم على الإخوان، أم الاستمرار في توحيد قوى المعارضة بفصائلها كافة، ضد دولة التسلط والطغيان وتزوير إرادة الشعوب؟ متى تتعلم قوى المعارضة من تاريخها؟ متى تتراكم تجاربها وتعيد حساباتها على الأمد الطويل، وليس على الأمد القصير؟

(٦) الصدام مع الإخوان، لمصلحة مَن؟٦

وكأن الوطن في حاجة إلى كَبِّ الزيت على النار وإشعال الحريق فيه بعد أن اختار النظام السياسي العزلة والانكماش والتفتيت والنهب والتبعية والاستمرار في السلطة والتضحية بكل شيء. وهذا ما يحدث الآن بالصدام مع الإخوان، الحزب الحاكم وبعض أحزاب المعارَضة. فلمصلحة من يتم هذا الصدام ويُخطط له؟

الإخوان موجودون على الساحة المصرية منذ تأسيسها عام ١٩٢٧م في الإسماعيلية على ضفاف القناة وأمامها جنود الاحتلال البريطاني. واستطاعت في ظرف عقدين من الزمان أن تكون قوة المعارضة الرئيسة في البلاد ضد الاحتلال والقصر وفساد الحكم والأحزاب السياسية بالرغم من عدم اشتراكها في لجنة الطلبة والعمال التي كانت تمثل بؤرة الحركة الوطنية في عام ١٩٤٦م. اشتركت في حرب فلسطين مع الجيش المصري في ١٩٤٨م كمتطوعين. كما نظَّمَت المقاومة المسلحة على ضفاف القناة ضد قوات الإنجليز عام ١٩٥١م. وتم التعارف بينهم وبين الضباط الأحرار في أتون المعارك وفي ميدان القتال. وكان عبد الناصر على صلة معهم باعتبارهم إحدى القوى الوطنية في البلاد. وكانوا على علم بموعد قيام الثورة. وعهد إليهم بحراسة المباني العامة ليلتها.

وبعد أزمة مارس ١٩٥٤م، وانضمام الإخوان للقوى الديمقراطية في البلاد، والتي كانت تريد العودة إلى الحياة النيابية والدستور التي كان يرمز لها محمد نجيب، حُلَّت الجماعة، ودخل أعضاؤها السجون، واستشهد قادتها وهاجر البعض الآخر. وظلوا بعيدين عن الحياة السياسية المصرية حتى عام ١٩٧١م عندما أخرجهم رئيس الجمهورية الثانية من السجون لاستعمالهم ضد الناصريين. ولما سار في سياساته إلى الحد الأقصى؛ التبعية للولايات المتحدة، الصلح مع إسرائيل، القوانين المقيدة للحريات، والقطيعة مع العرب، تَخلَّصَت بعض الجماعات منه وهي التي تكوَّنت داخل السجون، وأصبحت تنقد التنظيم الأم نفسه لتعاونه مع النظام وسيادة التيار التَّغْريبي فيه.

ثم مارس الإخوان الحياة السياسية بشرعية الواقع الجديد. فدخلوا الانتخابات العامة مع حزب الوفد في عام ١٩٧٦م. وتوالت مشاركتهم في المجالس النيابية حتى المجلس قبل الأخير بسبعة عشر عضوًا، وهذا المجلس بثمانية وثمانين. وكانوا قد كسبوا انتخابات معظم الاتحادات والنقابات وأندية الجامعات. وكانت لهم منابرهم الإعلامية ونشراتهم ودعاؤهم واجتماعاتهم لانتخاب المرشد العام كأمرٍ واقعٍ، خاصة وأن قرار الحل في ١٩٥٤م ما زال مطعونًا فيه أمام القضاء.

والآن يتزايد الهجوم على الإخوان من الحزب الحاكم ومن بعض أحزاب المعارَضة خاصة حزب «التجمع». وتكال لهم الاتهامات من رئيس الوزراء بأنهم تنظيم سري داخل مجلس الشعب مع أنهم أتوا بانتخاب حر مباشر بالرغم من محاولات تزوير الانتخابات من الحزب الحاكم وأجهزة الدولة، الأمن والشرطة خاصة. وما زالت الشبهات تُحاك حولهم أنهم يد مع الحكومة ويد مع المعارضة، يرفضون التمديد والتوريث علنًا مع المعارضة، ويقبلونها سرًّا مع الحكومة، ويستغلون أزمة القضاة لصالحهم الخاص. هدفهم الوصول إلى الحكم، وركوب موجة المعارضة، ويتلاعبون بانتخابات النقابات والاتحادات المهنية. والدولة منقسمة على نفسها. رئيس الوزراء يتهم مع الحزب الحاكم، ورئيس مجلس الشعب يدافع، وتستعملهم لجنة السياسات كفزاعة للولايات المتحدة الأمريكية، إما التوريث وإما الإخوان. وعلى أمريكا أن تختار بين الصديق والعدو، بين العولمة والإرهاب. بل إنه يتم التفكير أحيانًا في حل البرلمان للتخلص من المعارضة الإخوانية والقيام بانتخابات أخرى، بعد التأكيد على أن الإخوان جماعة محظورة ما زالت تخضع لقرار الحل منذ أكثر من نصف قرن مضى.

ويخشى من كثرة الضغط عليهم والالتفاف حولهم واعتقالاتهم المستمرة بعد كل مظاهرة عامة أو محاكمتهم وإدخالهم السجون من جديد أن تنشأ جماعات جديدة تبرر استعمال العنف والتصفيات الجسدية، وبالتالي مُمارَسة العنف والعنف المضاد. فلمصلحة من يقع التصادم بين الحزب الحاكم والإخوان؟ ألا يمكن للنظام السياسي أن يتحالف مع الداخل وقواه الرئيسة لفك حصاره في الخارج، في الشام في فلسطين والعراق، وفي الجنوب في السودان؟ ألم يَئِن الأوان لتصحيح مسار ثورة يوليو وإلغاء قرار الحل في ١٩٥٤م بعد أن عاد الوفد والناصريون بقرار القضاء؟ ألم يئن الأوان وثورة يوليو جديدة على الأبواب أن تعيد الثورة ربط نفسها بالقوى السياسية القائمة في البلاد، الإخوان والشيوعيين والناصريين والليبراليين؟

أما أحزاب المعارَضة فما زالت ترى الإخوان منافسًا رئيسًا لها كسلطة بديلة بعد أن ينتهي النظام القائم. وتحاول أن تتخلص منهم وتستدعي النظام الحاكم عليهم. فقد أخذت جميع أحزاب المعارَضة في الانتخابات الأخيرة بالرغم مما شابها من تزوير اثني عشر صوتًا في حين حصد الإخوان ثمانية وثمانين صوتًا. وهي جريمة لا تُغتفر. ويرفع أحد أحزاب المعارَضة الرئيسة في هتافاته الجماهيرية شعار:

الفاشية لها وجهان
الحزب الحاكم والإخوان!

ويستبعدهم الوفد بدعوى العلمانية، فلا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، والحزب الحاكم يستعمل المفاهيم الدينية للترويج لخياراته السياسية. والناصريون التقليديون أكثرهم حياءً، والناصريون الشبان لم يقعوا في مثل هذا الفخ حرصًا على وحدة المعارضة وعدم تفتيتها. نَسَّق الإخوان مع أحزاب المعارَضة كافة في الانتخابات الماضية. ويشاركون في كل المظاهرات والتجمعات السياسية مثل كفاية وحركة ٩ مارس وكل الحركات الوطنية من أجل التغيير. ينزلون الشوارع ويُقبض عليهم بالمئات وينضمون للقضاة الأحرار بالرغم من اتهامهم بركوب الموجة والتفتيش في النيات والضمائر. ومع ذلك تفضل المعارضة الرسمية تغليب التناقض الثانوي بينها وبين الإخوان على التناقض الرئيس بين كل فصائل المعارضة والحزب الحاكم. وفي الوقت ذاته الذي تحاصر فيه حماس في الداخل والخارج، وتحاصر فيه إيران في الخارج يُحاصر الإخوان في الداخل خوفًا من المد الإسلامي. وفي الوقت ذاته تثبت المقاومة الإسلامية فاعليتها ودورها في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير.

ليست من مصلحة القوى السياسية في البلاد، الحزب الحاكم أو أحزاب المعارَضة، الهجوم على الإخوان وجعلهم المشكلة الرئيسة في البلاد والسخرية منهم ومن مرشدهم العام الذي يعامل الحكومة ﺑ «الحذاء». وليس في صالح الوطن تفتيت قواه السياسية في الداخل والتنافس على السلطة، والحزب الحاكم ما زال قائمًا ويمسك بزمام السلطة في كل مكان.

ما ينقذ الوطن هو تكوُّن جبهة وطنية عريضة تتفق على الحد الأدنى من برنامج للخلاص الوطني يقوم على الدفاع على الإرادة الوطنية المستقلة ضد التبعية للخارج، وحرية الشعب والمواطن ضد القهر في الداخل، والقيام بدور مصر الإقليمي والدولي ضد الانكماش على الذات والعزلة من الخارج، ودفاعًا عن العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة، ضد تراكمها في أيدي القلة من الأغنياء ورجال الأعمال الكبار، ضد الفساد والرشوة وتهريب الأموال. وتقوم بدور هذه الجبهة الوطنية المُتَّحِدة حكومة ائتلاف وطني من جميع القوى السياسية بالرغم من تعدُّد أُطُرها الفكرية لتحقيق البرنامج الوطني للإنقاذ، وليس عن طريق تداوُل السلطة الذي يعني حكم حزب واحد على التوالي مع استبعاد الآخرين.

إن البلاد في حاجة إلى تَغيُّر نوعي في الرؤية، الحزب الحاكم وأحزاب المعارَضة؛ طبقًا للإحساس بالمَخاطر المصيرية التي تواجهها وفي وقت يُعاد فيه التخطيط للوطن العربي كله، ولدول الجوار في الشرق الأوسط الكبير جغرافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا. والإخوان لهم القدرة على حشد الجماهير وإخراجها من سلبيتها السياسية على مدى نصف قرن. وهم قادرون على عودة مصر إلى القيام بدورها الإقليمي الطبيعي في محيطها العربي، بالتنسيق مع الإخوان في الأردن، وفتح وحماس والجهاد في فلسطين، والمقاومة الإسلامية في العراق وأفغانستان والشيشان، وتحقيق المُصالحة الوطنية بين القوى الإسلامية وقُوى المعارَضة السياسية في لبنان، والسودان، وليبيا، وتونس، والجزائر. وهم قادرون على عدم وقوع تصادُم بين الوطن العربي ودول الجوار، إيران وتركيا.

ليس من مصلحة أحد الصدام مع الإخوان الآن، وكَب الزيت على النار وإشعال الحريق. فالوطن العربي هو الخاسر. ومِن صالِح الجميع تجميعُ القوى الوطنية وتوجيهها ضد القهر في الداخل والهيمنة في الخارج. فالإخوان هم — في النهاية — سليل الحركة الإصلاحية التي منها خرجت معظم حركات التَّحرُّر الوطني، وإليها قد تعود.

(٧) اللعب بالنار٧

تدور العملية الديمقراطية بين الحكومة والمعارضة. الأغلبية في الحكم، والأقلية في المعارضة. وبسبب سوء الأداء والسياسات، تصبح الأغلبية في الحكم أقلية في المعارضة، وتصبح الأقلية في المعارضة أغلبية في الحكم. وفي كلتا الحالتين، الفارق ضئيل بين الحكم والمعارضة؛ لأنه في السياسة لا يوجد حق مطلق وباطل مطلق. ويتم الاختيار بين سياسات وليس استفتاء على أشخاص ولا تنصيبًا لحزب حاكم، يسمح لبعض أفراد المعارضة بالنجاح في الانتخابات كنوع من «الديكور» الديمقراطي حتى تكون هناك أغلبية وأقلية، حكومة ومعارضة.

وفي مصر المعاصرة منذ عقدين من الزمان تتفق الحكومة مع المعارضة المستأنسة على عدد مقاعد المعارضة وعلى زعيمها الذي يمثلها، هذا الحزب الليبرالي مرة، وذاك التجمع اليساري مرة أخرى. وتشجع قيام حزب للغد أو للمستقبل مرة ثالثة يقوم بدور المعارضة من داخل الحزب الحاكم بعد الاتفاق على قواعد اللعبة وعدم تجاوز الخطوط الحمراء؛ وذلك من أجل قسمة قوى المعارضة إلى معارضة شرعية من داخل النظام ومعارضة لا شرعية من خارجه إما من أحزاب الرفض التي ما زالت تعيش بأحلامها في الخمسينيات والستينيات، والعالم قد تغير، والناس قد تبدلوا، ولم يَعُد العصر يتحمل الروايات الكبرى والمشاريع التاريخية العظمى، وإما من الجماعات المحظورة إسلامية وماركسية على مدى نصف قرن بالرغم من وجودها في الشارع وفي المؤسسات الدستورية والهيئات والنقابات والأحزاب وجهاز الدولة وربما الجيش والشرطة.

فإذا اشتدت المعارضة خارج هذه اللعبة التقليدية وقوي عودُها وأصبحت شوكة في جسد النظام السياسي، فإنه يستعمل معها سياسة «فَرِّق تَسُد» السياسة الاستعمارية القديمة التي استعملتها القوى الاستعمارية الكبرى مثل بريطانيا، من شق صف النضال الوطني، وضرب الحركات الوطنية بعضها بالبعض الآخر، وقسمتها إلى حليف وعدو، عاقل ومتهور، تدريجي وانقلابي. وكلما اشتد حصار المعارضة للنظام وعجز النظام عن الدفاع عن النفس، فإنه ينتقل إلى الهجوم على صفوف المعارضة بخلق طابور خامس فيها. يُعارض في الواجهة ويتحالف من الخلف مع النظام. وسرعان ما تنكشف هذه اللعبة إما بانقلاب النظام على حلفائه من المعارضة واستبدالها بفريق معارض آخر، وإما بانقلاب المعارضة على النظام ويقظتها وانضمامها لباقي فرق المعارضة الوطنية. فهو الاختيار الأبقى حتى ولو كان الأصعب والأطول، والأقل ضمانًا في الوصول إلى الحكم.

والأخطر من ذلك ما يحدث هذه الأيام من تَحوُّل النظام إلى استئناس بعض أحزاب المعارَضة التقليدية الشرعية أو مغازلة البعض الآخر اللاشرعي؛ طبقًا للعبة شد الحبل بينهما إلى ضرب المعارضة التي وصلت إلى حد المقاومة الشعبية والعصيان المدني، ونزلت إلى الشارع، وحشدت الجماهير في تنظيمات شعبية جديدة تجاوزت أحزاب المعارَضة الرسمية. وانضمت إليها المنظمات الأهلية. واستعملت سياسة النفس الطويل، وجمَّعت قواها، واتفقت على برنامج موحد للعمل الوطني ورفعت شعارات واحدة، متجاوزة الاستقطاب بين السلفية والعلمانية.

ولم يجد النظام الحاكم أمام هذه الظاهرة الجديدة التي استرعت انتباه الداخل والخارج إلَّا اللعب بالنار وتأجير بعض فتوات الحزب الحاكم مع بعض المأجورين، عشرون جنيهًا يوميًّا، للقيام بمظاهرات مضادة تستعمل العنف ضد تكتل المعارضة وصلت الذروة يوم الأربعاء الأسود ٢٥ من مايو، يوم الاستفتاء على الاستفتاء، والمعروفة نتائجه مستقبلًا، وتم العدوان على الشعب بلا حياء ولا كرامة، ولا تمييز بين رجل وامرأة بين صحفي وسياسي، وهي مستعدة للضرب منذ أيام الملك قبل الثورة حتى صاحب التاج بعد الثورة ضد خصوم النظام. هذا هو تركيب الداخلية وأجهزة الأمن في خدمة السلطان أيًّا كان، وتلحق مصر حينئذ بالحروب الأهلية والطائفية والعرقية في لبنان والجزائر والسودان والعراق وأفغانستان والشيشان. وتضيع الوحدة الوطنية التي كانت دومًا من مآثر مصر منذ ثورة ١٩١٩م.

لم يشأ النظام فقط مواجهة المعارضة بالشرطة بالطريقة التقليدية، بل مواجهتها بمظاهرات مضادة للإيحاء بانقسام الشعب بين تيارين واتجاهين وطريقين. والحزب الحاكم يُمثِّل تيار الأغلبية، والمعارضة تمثل تيار الأقلية. ولما كان الشعب غير راشد وغير قادر على الممارسة الديمقراطية تصادم التياران في الشارع. وكما تنظم المعارضة احتجاجاتها في النقابات والاتحادات والنوادي، نقابات الصحفيين والمحامين والمهندسين ونوادي القضاة وهيئات التدريس بالجامعات، فإن الحزب الحاكم ينظم أيضًا مظاهرات تأييدًا للنظام الحاكم. ويدعو للتجديد والتمديد، بل للتوريث، فهذا الشبل من ذاك الأسد. وتساعد الشرطة من طرفٍ خَفِيٍّ مظاهرات الحزب الحاكم ولا تدافع عن المُعتدَى عليهم من جماعات المعارضة. فإذا ما اتسع النطاق، وتوالت الصدمات تظهر مقدمات الحرب الأهلية، وذريعة إصدار الأحكام العرفية، والعمل بقانون الطوارئ كما حدث من قبل في نهاية الجمهورية الثانية بإشعالها الفتنة الطائفية؛ من أجل التخلص من المعارضة الوطنية والتي انتهت بمذبحة سبتمبر، ثم بتصفية المنصة عام ١٩٨١م.

يلجأ النظام إلى اللعب بالنار كلما اشتدت به حالة اليأس، وضاق حوله الحصار في الداخل والخارج، وارتبك في كيفية تعامله مع قوى المعارضة بالمغازلة والاتفاق أم بالقوة والعين الحمراء. وفي حالة العسرة يخرج من هذا المأزق عن طريق «عليَّ وعلى أعدائي يا رب»، ويهدم المعبد. يُفضِّل الحكم على الوطن، وأمن النظام على الأمن القومي، والنخبة الحاكمة على مستقبل البلاد.

وماذا كان يضير النظام لو سمح بمعارضة ومظاهرة هنا وهناك، وهو يمسك بزمام السلطة في كل شيء، في المؤسسات الدستورية والإعلامية وبيده أجهزة الأمن والشرطة والقوات المسلحة؟ يضيره أنه يخشى الشعب ومنظماته الأهلية. ويصيبه الرعب من تحرك الشارع الذي ظل ساكنًا على أكثر من ثلاثة عقود إلا من عِدَّة هَبَّات شعبية وقتية، من الطلاب أو العمال أو الأمن المركزي أو مجموع الشعب تنتهي بعد أن تبدأ لعدم وجود تنظيم شعبي قادر على أن يجسد مَطالب الجماهير، ويحولها من فورة إلى ثورة، ومن هَبَّة إلى نظام بديل يضيره أنه يعلم أن السلطة بيد المعارضة بالرغم من أنها ليست في السلطة، وأن السلطة تتهاوى بالرغم من أن بيدها كل وسائل القوة والبطش. وقد كان نيلسون مانديلا يحكم جنوب أفريقيا من سجنه في روبين أيلاند على مدى ربع قرن بالرغم من بطش النظام العنصري الأبيض بالشعب بكل ما لديه من قوات الأمن والشرطة.

قد يحرق اللعب بالنار الوطن كله، وليس فقط الشارع بتأجير مظاهرة حكومية لضرب مظاهرة وطنية. فبعد انقسام الشعب تنقسم الشرطة التي يرفض فريق منها أن يكون أداة في يد النظام لضرب الشعب. وقد ينقسم الجيش. فالجنود والضباط أفراد من الشعب، تتجاذبهم تياراته السياسية الإسلامية والقومية. فهو — في النهاية — جيش الثورة والأمين عليها بنص الدستور. وقد تنقسم مؤسسات الدولة، ويحدث انهيار دستوري كما هي الحال الآن برفض نادي القضاة الدخول في لعبة تزييف الانتخابات من دون إشراف قضائي كامل.

قد يحدث في الوطن العربي عن قريب والذي تتجاذبه المياه الجوفية من أسفل والعواصف أعلى؛ انهيار للنظام السياسي ابتداء من مصر إلى الوطن العربي كله كما حدث في أوروبا الشرقية حتى الاتحاد السوفيتي ابتداء من بولندا.

الحطب جافٌّ، يكفي الشرارة. الواقع العربي يموج، والنظام العربي ساكن أو يتحرك في المكان. وكل ما يحدث الآن من ترقيع قليل للغاية، ومُتأخِّر للغاية. قد يُؤدِّي اللعب بالنار إلى حرق الوطن كله، حكامًا ومحكومين.

والنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله

(٨) كيف يتم التعامل مع الحركات الإسلامية؟٨

ما زالت الحركات الإسلامية في الوطن العربي، والعالم الإسلامي مَبْعَث قَلق لدى نُظُم الحكم، وموضع تساؤل لدى عديد من الباحثين. وأصبحَت ظاهرةً تُهدِّد الجميع، في الداخل والخارج. ويتساءل الجميع: هل يتم التعامل معها بالصدام وإراقة الدماء، أم بالاحتواء والضم وإدخالها في النسيج الاجتماعي، أم بالحوار والفهم المتبادَل كي تتغير من الداخل؟

ارتبط اسمها بالإرهاب في الخارج بعد حوادث سبتمبر في نيويورك وواشنطن ولندن ومدريد، بل في قلب العالم العربي في مصر والأردن وتونس والمغرب والكويت والمملكة العربية السعودية واليمن. بل تحول في الجزائر إلى حرب أهلية كانت حصيلتها فوق المائة وخمسين ألف قتيل. ولم ينج العالم الإسلامي منها في تفجيرات بالي بإندونيسيا وباكستان والهند وتركيا. وتم الخلط بين المقاومة في العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان وكشمير والإرهاب. وأصبح كل عمل يقوم على العنف إرهابًا من دون تفرقة بين إرهاب الدول ومقاوَمة الأفراد والشعوب. وتم الانتقال من الواقع إلى الفكر، ومن الظروف السياسية والاجتماعية التي أفرزت العنف إلى الإسلام ذاته والحكم على جوهره بأنه دين يمارس العنف وينتشر بالسيف. شريعته الإسلام أو الجزية أو القتال. وشعاره سيف ومصحف. وفي رأي الغربيين سيف تقطر منه الدماء، ومصحف يدعو إلى الكراهية ونبذ الآخر واعتباره، إما كافرًا وإما أهل ذِمَّة وإما معاهدًا.

ما زالت الطريقة الغالبة في التعامل مع هذه الحركات الإسلامية هو طريق الأمن والشرطة والجيش والحرس الوطني، عنفًا بعنف، وقوة بقوة، وسلاحًا علنيًّا في مقابل سلاح سري، وقوة الدولة ضد قوة الجماعات. وبطبيعة الحال تكون الغلبة للدولة. فهي الأقوى عدة وعتادًا وتنظيمًا. ويُقْتَل أفراد جماعات العنف أو يُعْتَقلون ويُعَذَّبون في السجون للحصول على المعلومات، فيزدادون عنفًا على عنف، وتطرفًا على تطرف، كما حدث لسيد قطب في السجن وتحت وطأة التعذيب عندما تحوَّل من «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«معركة الإسلام والرأسمالية»، و«السلام العالمي والإسلام» في أوائل الخمسينيات إلى «معالم في الطريق» بعد اعتقاله في ١٩٥٤م. وقد حدث الشيء ذاته لبعض الجماعات وتحولهم إلى العنف في السجون مثل شكري مصطفى وجماعة التكفير والهجرة في السبعينيات. وهاجر البعض إلى خارج البلاد. وانضم بالمجاهدين الأفغان ضد الاحتلال الروسي. وقاتلوا في البوسنة والهرسك. وعاد «الأفغان العرب» إلى الأوطان ليقوموا بالجهاد في الداخل بعد أن انتصروا في الخارج.

ومع زيادة صعود المد اليميني في الغرب، بدأ العداء للإسلام والمسلمين إما بتشويه صورة الإسلام في أجهزة الإعلام الغربية بالأفلام، وإما بالصور الرسوم المتحركة، وإما بالروايات والقصص. وبدأت مظاهر الاضطهاد لهم في القوانين الاستثنائية لمحاربة الإرهاب، ومنها الحجاب والتعليم الديني والمؤسسات الخيرية والمصارف الإسلامية، بل المعاهد ومراكز الأبحاث والجامعات. وطالب اليمين الأوروبي بإيقاف سيل الهجرات الشرعية واللاشرعية من الجنوب إلى الشمال، من أفريقيا وآسيا إلى أوروبا. بل طالب اليمين المتطرف ببدء القيام بعملية نزح للمسلمين وإرجاعهم إلى بلادهم الأصلية، كما طُرد المسلمون من الأندلس من قُبْلُ حمايةً للهوية الأوروبية؛ ودفاعًا عن التجانس الأوروبي؛ وتمسكًا بالعقيدة المسيحية واليهودية، وبنقاء العنصر الأبيض، وحماية للحضارة الأوروبية.

وآثر بعض المستنيرين داخل النظم السياسية البداية بالحوار مع أفراد هذه الجماعات وقياداتها داخل السجون من أجل إعلان توبتهم وإرجاعهم إلى الإسلام الصحيح، إسلام الدولة والنظام والاستقرار. وهي سياسة الاحتواء فالجماعات على خطأ وفي ضلال مبين. والدولة على هُدًى وطريق مستقيم. ونجحت بعض هذه المحاولات. وتمت مراجعات في السجون بلغت الآن حوالي العشرين كتيبًا لرفض العنف المسلح وتكفير المسلمين، وقبول العمل في المجتمع المدني، ورفض الحاكمية والدولة الدينية، وقبول مبدأ المواطنة والتعددية السياسية، والانتخابات البرلمانية، وإطلاق حرية الفكر، وممارسة الاجتهاد. وخرج «التائبون» من السجون بالفعل، وانخرطوا في الحياة الاجتماعية من جديد، وإن كانت مشاركتهم في الحياة السياسية بأحزاب دينية ما زال بعيد المنال لمنع الدستور لذلك؛ حماية للبلاد من الطائفية. وقد تحول أحد زعمائهم في الجزائر إلى أديب وروائي.

ليست طريقة التعامل مع الحركات الإسلامية الاحتواء والاستئناس ما دامت المنطلقات الفكرية والظروف السياسية والاجتماعية لم تتغير، بل الطريق هو الحوار مع هذه المنطلقات حتى يتضح اللَّبْس في فَهْم النصوص، والابتسار لها والانتقاء لبعضها دون البعض الآخر. الطريق هو الحوار معها، النِّد للنِّد كطرفين متكافئين، واجتهادين شرعيين بين أحرار متساويين، وليس بين سجَّان وسجين. الطريق هو الحوار مع تصوراتهم للعالم ومع فهمهم للتراث وموقفهم منه. فليس كل ما في التراث هو السيف والتكفير والرِّدَّة والحدود، والقتل والعقاب والردع. في التراث أيضًا الرحمة، وحرمة أرواح المسلمين وأعراضهم وأموالهم، واحترام الآخر والحرية، والحوار مع المخالفين، وقبول الرأي والرأي الآخر.

المطلوب فَهْم الدوافع والغايات، وبيان تعدد الطرق والوسائل لتحقيقها طبقًا للقاعدة الفقهية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشرط عدم الإتيان بمنكر أعظم منه، وطبقًا لمبادئ الحوار في الإسلام، والجدال بالتي هي أحسن، وافتراض أن الإنسان على صواب وقد يكون على خطأ، وافتراض الآخر على خطأ وقد يكون على صواب، دون تعيين أحد الطرفين في خطأ مطلق أو في صواب مطلق وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. وتلك مهمة العلماء في إعادة بناء الموروث القديم وتحويله من الجانب المغلق إلى الجانب المفتوح. فالإنسان ما يقرأ وما يرث.

والمطلوب أيضًا العمل على تغيير الظروف الاجتماعية والسياسية التي أفرزت هذه الجماعات، وهي حالة الضيق العام والأزمة المستغلقة التي يعيشها الشباب، قهر وفقر وفساد وضياع في الداخل، واحتلال وعدوان وإهانة وجرح للكرامة في الخارج. وليس لهذا الشباب أي تنظيم سياسي شرعي يضمه. فيظل يعبر عن نفسه سياسيًّا خارج إطار الشرعية، ويعنف ضد القانون، ويكفِّر الحاكم الظالم، ويخرج على المجتمع الذليل، يعيش تحت الأرض أو يكوِّن جماعات مثالية مغلقة على أطراف المدن أو في الصحراء. ويتزوجون فيما بينهم، الأطهار للطاهرات، والمؤمنون للمؤمنات بلا تكلفة تُذكر، يكفي وهب النفس والرضا بين الطرفين، والشهود من أعضاء الجماعة. وزوجات الشهداء يردن الاستقرار وإعادة التأهيل. كثير من النظم العربية لا تُعطي شرعية للحركات الإسلامية. لذلك فيها يشتد العنف، في مصر وليبيا وتونس والجزائر وسوريا وغيرها. وأقلها يضعف فيها العنف نسبيًّا حيث توجد أحزاب سياسية ذات مرجعية إسلامية مثل الأردن والمغرب والكويت واليمن وغيرها.

والأوضاع الخارجية تبعث أيضًا على القلق، احتلال العراق وفلسطين والصومال وهم أعضاء في الجامعة العربية، وأفغانستان والشيشان وكشمير وهي دول إسلامية بعضها أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي. أسهمت الحركات الإسلامية في حركات التحرر الوطني. وكانت البوتقة التي انصهرت فيها كل حركات الاستقلال الوطني من ليبراليين وقوميين وماركسيين. وبعد نيل الاستقلال حكمت الأيديولوجيات العلمانية للتحديث وحدها. واستبعدت الحركات الإسلامية. ثم وقع الصدام بين الفريقين. ودخلت الحركات الإسلامية السجون فازدادت تطرفًا وعنفًا. وظلت مستبعدة من العمل السياسي على مدى أكثر من نصف قرن. لم تتعود فيه إلا على الخصومة مع نظم الحكم، مع إحساس قوى بالاضطهاد. هم مواطنون مثل غيرهم ولكنهم مطارَدون باستمرار من أجهزة الأمن. تسخر منهم الرسوم في الصحف، من اللحى والجلباب، والحجاب والنقاب، والمعتقدات والممارسات.

فإذا ما تغير هذا الجو من الإحباط العام، والإحساس بالغضب والظلم والعجز، وإذا ما عادت الأوطان إلى مسارها الطبيعي، واعترفَت النُّظم الحاكمة بأهمية التعددية السياسية، ونبذ حديث الفِرْقة الناجية، وأن الحق من جانب واحد، وإذا ما أصبح هذا الوطن للجميع على قدم المساواة تنحسر هذه الجماعات الغاضبة التي لم تجد حتى الآن إلا العنف وسيلة للتعبير عنها.

ومن منظور تاريخي عام، قد تكون الحضارة الإسلامية على أعتاب ازدهار ثانٍ بعد الازدهار الأول قبل ابن خلدون في القرون السبعة الأولى، وبعد التوقف الأول بعد ابن خلدون على مدى سبعة قرون أخرى في العصر العثماني. وقد بدأ ذلك منذ حركات الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر وفي الصحوة الإسلامية في أواخر القرن العشرين. الإسلام الآن هو الدين الثاني في أوروبا. والمسلمون يكوِّنون رُبع سكان المعمورة، أكثر من مليار وربع، وإمكاناتهم المادية والمعنوية بلا حدود، والعالم الإسلامي الأفريقي والآسيوي مرشح أن يخرج منه قطب ثانٍ في مواجهة القطب الأول. لذلك يشتد عليه الحصار من الخارج والتهديد من الداخل. ويُبالَغ في استعمال القوة معه بالغزو المباشر، وبالقواعد العسكرية، والأحلاف، ومناطق النفوذ، والتجزئة والتقسيم إلى فسيفساء عرقي طائفي منعًا لوحدته. فإذا كان الإسلام قادمًا وليس مُولِّيًا، أليس من الأفضل الحوار معه وترشيد حركاته، بدلًا من تركه كالثور الهائج يَقْتل ويُقْتل؟

(٩) مَن يملأ الفراغ السياسي؟

الحاجة إلى حزب جديد٩

ما زالت الانتخابات الأخيرة في مصر ونتائجها تُثير تساؤلات كثيرة. فقد حصل الحزب الحاكم على ٧٨٪ من أصوات الناخبين. وحصل الإخوان المسلمون بالرغم من أنها محظورة، لا شرعية في نظر القانون، وشرعية في نظر الناس والشارع السياسي على ٢٠٪. وحصلت باقي أحزاب المعارضة؛ الناصرية، والقومية، والليبرالية على حوالي ٢٪ إلا أن مجموع الناخبين الذين ذهبوا للمشارَكة في العملية السياسية من خلال صناديق الاقتراع لا يتجاوز ٢٣٪ أي أقل من ربع عدد الكتلة الانتخابية التي لها حق التصويت.

وفوجئ الجميع، الحزب الحاكم والمعارضة، الدولة وخصومها، الداخل والخارج، بهذه النتائج. واسْتُعمِلَت كفزاعة للولايات المتحدة الأمريكية؛ كي تقبل النظام القائم وليس النظام المُحتمَل في المستقبل طبقًا لمبدأ اختيار أهون الضررين، خاصة وأن أمريكا بدأت تعلن عن رغبتها في حوار مع الجماعات الإسلامية المعتدلة. فلا ضير أن تحكم بشرط الدخول في السوق، وقبول الخصخصة، والدخول في مشاريع التسوية ومعاهَدات السلام مع إسرائيل لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.

وكان من نتائجها أيضًا قرار تأجيل الانتخابات المحلية سنتين وإلا حصد الإخوان الأصوات، وسيطروا على الحياة المدنية والحُكم المحلي. وشفطوا المجتمع من أسفل، من أجهزة الدولة، والخدمات الاجتماعية، وهو المنهج الجديد للوصول إلى الحكم، دون ما حاجة إلى الانقلاب عليها من أعلى، وهو الأسلوب القديم. وفي اللغة الأردية التي استعملها المودودي، «ثورة» تعني «انقلاب» في «منهاج الانقلاب الإسلامي». وهو السيناريو ذاته الذي حدث في الجزائر عندما سمحت بانتخابات حرة بعد المظاهرات العارمة التي اجتاحت الجزائر من الشباب العاطل. نجحت جبهة الإنقاذ، وحصدت حوالي ٧٠٪ من الأصوات. فانقلب عليها الجيش، وألغى النتائج، وحظر نشاط الجبهة. وبدأت الحرب الأهلية بين الجبهة والجيش والتي كلفت الجزائر حتى الآن أكثر من مائة وخمسين ألف قتيل. وهو ما حدث في فلسطين أيضًا بنجاح «حماس» على غير توقُّعات مراكز قياس الرأي العام. وهو ما حدث من قبل في انتخابات الرئاسة في إيران بنجاح المحافِظين والرئيس الحالي وتواري الإصلاحيين. وهو مُؤشِّر على ما قد يحدث في أي انتخابات ديمقراطية حرة في أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي كافة.

فإلى أي مَدًى يستمر هذا الوضع السياسي الغريب، المفرَّغ من الداخل: حزب حاكم نال الأغلبية بالتزوير وبتدخل أجهزة الأمن وبسلطان الدولة، وبالتعود على مدى نصف قرن على نجاح حزب الحكومة، وحزب رئيس مُعارض من جماعة محظورة لا شرعية، هرب الناس إليها بشعارات تُمثِّل طوق النجاة للناس: «الإسلام هو الحل» بعد أن استعصت الحلول، وتفاقمت الأزمات وغامت الرؤية. و«الإسلام هو البديل» بعد أن جربت الليبرالية أولًا ثم الاشتراكية ثانيًا، وزاد فَقْرها وقَهْرها في كلا النِّظامَين، واحتلت الأراضي، وضاع الاستقلال. و«الحاكمية لله» بعد أن ظلمت حاكمية البشر، وسَجَنَت واعْتقَلَت وفَسدَت ووالَت الأجنبي على حساب الوطني، وصالَحَت الأعداء. و«تطبيق الشريعة الإسلامية» بعد أن شقي المواطن وعُذِّب في أجهزة الحكم وبيروقراطية الدولة وتعسف القوانين، وعظمت الرشاوى والوسائط. وعادة ما يتعاطف الناس مع المضطهد. ويجد فيه معبرًا عن الغضب الاجتماعي مثلهم. والناس تشعر بوجود الإخوان في الحياة اليومية في الخدمات العامة والمستشفيات والمستوصفات، ودور المناسبات، والدروس الخصوصية الجماعية والترابط الاجتماعي، وحماية الشباب، والدفاع عن الفضيلة.

أما الأحزاب الناصرية، واليسارية، والليبرالية، فبدأت تقوم بالنقد الذاتي السِّرِّي أو العلني؛ فحدثَت انشقاقات في حزب الوفد، وحزب الغد. وسُجِن مُؤسِّسُه الذي أخذ ٨٪ من الأصوات في الانتخابات الرئاسية. وكان رئيس حزب الوفد رهن الاعتقال داخل مقر الحزب من معارضيه ولم تفرج عنه إلا أجهزة الدولة. مما يدل على أن الرئيس وحده هو الذي في حصن الأمان أمام هشاشة منافسيه. والناصريون مُنقسِمون بين الرعيل الأول (العربي) وجيل الشُّبَّان (الكرامة). والتجمع به هَمْس خفي عن مسئولية أمينه العام، يد مع النظام، ويد أخرى ضد خصومه خاصة المتأسلمين أي الإخوان المسلمين.

هناك، إذن، فراغ سياسي، تُمثِّله الأغلبية الصامتة، وهم ٧٧٪ ممن لهم حق الانتخاب؛ أي ثلاثة أرباع الكتلة الانتخابية في مصر، تفوق كل الأحزاب، الحزب الحاكم، والحزب «المحظور»، والأحزاب العلمانية ثمنًا باهظًا. هناك حاجة إلى حزب سياسي جديد يملأ الفراغ السياسي، ويخاطب الأغلبية الصامتة. يتجاوز الاستقطاب التقليدي بين الإسلاميين، الإخوان المسلمين، والعلمانيين؛ الوفد، والناصري، والتجمع. ويتجاوز الصراع على السلطة، والتنافس عليها. كل منها يدعي أنه وريث الحزب الحاكم. والنظام يعتمد على هذا الفريق الإسلامي مرة ليضرب به الفريق الآخَر (العلماني) كما كانت الحال في الجمهوريتين الثانية والثالثة، أو يضرب الفريق الإسلامي بالفريق الاشتراكي التقدمي كما كانت الحال في الجمهورية الأولى حتى يَضْعُف الجناحان، ويَقْوى القلب. وكل فريق يكفِّر الفريق الآخَر مما استحال معه إقامة ائتلاف وطني وتحويل التنسيق الانتخابي في الدوائر إلى جبهة وطنية متحدة وبرنامج عمل وطني موحد. كل فريق يريد أن يحكم بمُفرَده بدعوى تداوُل السلطة، وهو — في الحقيقة — انفراد بالسلطة من كل فريق على حدة، باسم الفِرْقة الناجية.

والجبهة الوطنية المتحدة إمكانية فعلية. فالإسلام ثقافة مصر الشعبية. والمكوِّن الرئيس لوجدانها الوطني منه خرجت حركات التحرر والمقاومة للمحتل. ويقوم بدور الأيديولوجية السياسية لدى الناس. يعطيهم تصوراتهم للعالم، وموجهات السلوك والاشتراكية بكل روافدها الدينية والأخلاقية والعلمية، أي الماركسية تعبر عن حاجة الناس إلى العدالة الاجتماعية، وتقليل الفوارق بين الطبقات، ووضع سياسة متوازنة للأجور، تتناسب مع طبيعة العمل وحده. والليبرالية شكلت وجدان مصر الحديث والذي بلغ الذروة في ثورة ١٩١٩م. وما زال الناس يحنون إليها لِمَا كانوا يتمتعون به من حرية في الصحافة، وتعددية حزبية، ووزارة مسئولة أمام البرلمان، ومؤسسات المجتمع المدني. والقومية تجربة مصر الحديثة منذ محمد علي والعصر الليبرالي. وتأمين مصر في الشام والسودان وشبه الجزيرة العربية، ووحدة وادي النيل، والقضية الفلسطينية، واستقلال المغرب العربي حتى عصر عبد الناصر؛ عندما أصبحت القومية العربية نظرية تحررية تقوم على الحرية والاشتراكية والوحدة. وعليها قامت أول تجربة وحدوية بين مصر وسوريا، الجمهورية العربية المتحدة، في تاريخ مصر الحديث. وعليها أيضًا قامت كل التجارب الاشتراكية والتنموية في مصر وسوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن. وبسببها وقع العدوان على مصر في يونيو (حزيران) ١٩٦٧م؛ لإجهاضها دون تعميمها في أرجاء الوطن العربي كافة.

إن الذي يملأ الفراغ السياسي في الوطن العربي هو أيديولوجية جامعة للأيديولوجيات السياسية كافة على اختلاف مدى انتشارها في الشارع السياسي: الإسلامية، والاشتراكية والليبرالية، والقومية. تتضمن تحرير الأوطان من الاستعمار القديم في سبته ومليلة، والاستعمار الاستيطاني في فلسطين، والاستعمار الجديد في العراق، وفي دول الجوار، أفغانستان والشيشان وكشمير، وحماية الأوطان من التهديد بالعدوان مثل سوريا والسودان وإيران، وحصار مصر من أجل إسكات القلب حتى تشل الأطراف. ثم يأتي تحرير المواطن من كل صنوف القهر والتسلط وخرق حقوق الإنسان في التعبير والحركة وحرية النقد السياسي والاجتماعي. ثم تأتي العدالة الاجتماعية من أجل إعادة توزيع الدخول في الوطن العربي بين الأغنياء والفقراء، بين من يملكون ومن لا يملكون؛ فأغنى أغنياء العالم منا، وأفقر فقراء العالم فينا. ثم تأتي وحدة بعد تجزئتها إلى أقطار ثم تفتيت الأقطار إلى فسيفساء طائفي عرقي تشاهد بداياته في العراق بين سُنَّة وشيعة وأكراد وتركمان وآشوريين ويمتد إلى الخليج بين سُنة وشيعة، وإلى شبه الجزيرة العربية بين نجديين وحجازيين، وإلى اليمن بين زيدية وشوافع، وإلى السودان وموريتانيا وتشاد ومالي ونيجيريا من دول الجوار بين عرب وزنوج، وإلى مصر بين مسلمين وأقباط، وإلى المغرب العربي كله بين عرب وبربر، وإلى لبنان بين سُنَّة وشيعة وموارنة. فتصبح إسرائيل هي أكبر دولة طائفية عرقية في المنطقة تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية بها، وليس من أساطير الميعاد وشعب الله المختار المكونة للكيان الصهيوني كما تصوره هرتزل في «الدولة اليهودية» في أواخر القرن التاسع عشر. ثم تأتي التنمية المستدامة بالمشاركة الشعبية وليس فقط بتخطيط الدولة. وأخيرًا يوضع ملامح المشروع القومي الجديد تأكيدًا للهوية القومية التي تذوب فيها كل الهويات الزائفة العرقية والطائفية والقبلية والعشائرية.

ويستطيع «اليسار الإسلامي» أن يقوم بذلك بصرف النظر عن الاسم، الثورة الإسلامية، لاهوت التحرير، عودًا إلى أبي ذر الغفاري، واستئنافًا لجمال الدين الأفغاني.

إن التفكير في حزبٍ جديدٍ يملأ الفراغ السياسي ليس حلمًا طوباويًّا أو مجرد أمنية، بل هو تفكير جدي لدى بعض المثقفين الوطنيين لإنشاء حزب وسط يسار أو يسار وسط في مواجهة يمين رجال الأعمال التابع للولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما قد يفرزه الحراك السياسي عن قريب إذا ما تعقدت الأزمة وتفاقمت الأحداث.

١  الاتحاد، ٣ من سبتمبر ٢٠٠٥م؛ الدستور، ٤ من سبتمبر ٢٠٠٥م.
٢  الاتحاد، ٢٤ من سبتمبر ٢٠٠٥م؛ الزمان، ٢٣ من سبتمبر ٢٠٠٥م.
٣  الاتحاد، ١٠ من ديسمبر ٢٠٠٥م؛ الدستور، ١٣ من ديسمبر ٢٠٠٥م؛ العربي الناصري، الأول من يناير ٢٠٠٦م.
٤  الاتحاد، ٤ من مارس ٢٠٠٦م؛ الدستور، مارس ٢٠٠٦م؛ العربي الناصري، ١٩ من مارس ٢٠٠٦م.
٥  الاتحاد، ١٧ من ديسمبر ٢٠٠٥م؛ الدستور، ١٨ من ديسمبر ٢٠٠٥م؛ العربي الناصري، ١٨ من ديسمبر ٢٠٠٥م.
٦  العربي الناصري، ١٨ من يونيو ٢٠٠٦م.
٧  العربي الناصري، ١٢ من يونيو ٢٠٠٥م.
٨  الاتحاد، ١٠ من فبراير ٢٠٠٧م؛ العربي الناصري، ١٨ من فبراير ٢٠٠٧م.
٩  الاتحاد، ١١ من مارس ٢٠٠٦م؛ الدستور، مارس ٢٠٠٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤