العمال في البلاد العثمانية

أخ جاءَ يدعوني إلى نصر إخوة
وهذا يراع سامع ومجيبُ
فقلت لهُ لا تسلم النفس للأَسى
إذا ساء عيش إنهُ سيطيب
وهذي الليالي لا يقر قرارها
فمن لم يصبهُ الخير سوف يصيب
لنا أكبد لا تخمد النار تحتها
ولا هي من حر اللهيب تذوب
أظن لنا في ذمة الدهر طية
وإدراكها للآملين قريب
قضى زعماءُ السوءِ فينا بما قضوا
لهم دوننا في الطيبات تصيب
نخال جديدات الأمور عجيبة
وما تحت فسطاط السماء عجيب

أيها الأخ العامل

لبيك ألفًا. هذا يمين الإخاءِ أمدهُ إليك، فإن كنتَ خاطبَ ودٍّ فالودُّ لك، وإن كنت شاكي ظلم فيراعي لسانك وبياني ترجمانك، وأنا وحياتي دريئة لك من المخاوف. لعمري لقد استنجدت بواهن القوى، منعقد اللسان، أسير العجز، حليف الجهل، فإذا كان يغنيك شيءٌ من هذه الخلات، فبالصدق الذي لا أدَّخِر سواهُ، وبالفؤاد الذي لم تستأْسرهُ بغية وإن عزت، ولم يفزعهُ هول وإن جل.

ما كنت غافلًا عما قضى فريد، ولا جاهلًا ماذا أراد فريد. أنا أعرف فريدًا وهو يعرفني؛ يرفع رأْسهُ ويمد من صوتهِ، ويضرب الأرض برجلهِ في مجلس الأمة، ولكن إذا بدا لهُ زهير في جسمهِ الناحل ووجههِ الممتقع أُرْتِج عليه واضطرب المنبر تحت قدميهِ. قل لهُ: ملكت فاسجح، لقد ولى ثم تولى، فلا زمان الجاهلية أغناهُ ولا زمان البعثة، وكم في زعمائنا من المخضرمين ستزل من تحتهم صهواتهم، وتعثر في مضمارها جيادهم، إيهٍ لك هذا الدهر أبو العجائب، يفتن ثم يطغى ثم ينكي، ما أدراهُ بسنة التدرك، لكأنهُ ينظر إلينا من تحتنا فيدعونا إليهِ.

ادخل حجرة الوزير تلقَ بها الأواني المذهبة في نقوشها وتصاويرها على الخوان البديع من شجر الجوز، مطعمًا بالفضة أو الصدف أو العاج، وإلى جانب ذينك من التحف والبدائع ما لا يصورهُ إلَّا بنان صانعهِ، وهو مضطجع على سرير أقل مسمار فيهِ أغلى من مالكهِ ثمنًا وأنفس قدرًا. جذلان ثمل بين أبهة الدولة وسكرة العز وكبرياءِ الثروة، إذا مشى على ذلك البساط السندسي قلت فيل يمشي على هشيم، يشير لك بيمناهُ ويسراهُ إلى تلك المذخورات فَخورًا منتفخًا؛ لأنهُ امتلكها بدراهم غلبت، والحاجة على نفس صانعها فاقتناها، ولم يشأ أن يكون عند سواهُ نظير لها. هذا رجل قرأَ على أحد تلامذة شيخ الحارة، وتخرج إما في جامع الفاتح أو في أحد أقلام الباب العالي. ثم تنقل من تقبيل أذيال إلى تقبيل أيدٍ إلى أن قُبِّلَتْ يمينه. فأين رأى هذا عاملًا. أما أنهُ لتنظر عيناه ولا تريان.

السرير الذي يهدأ عليهِ جنباهُ إذا غشيهُ الكرى، والكرسي الذي يجلس فوقهُ ليتولى أحكام الناس، والمنظار الذهبي الذي يعضُّ مارن أنفهِ ويريهِ كل كلمة كالدارعة، والملابس الحريرية التي تخفي عن الأبصار حدبتهُ، وما خرج من ركبتيهِ؛ كلٌّ يسرهُ وكلٌّ يرضيهِ، أما عاملهُ فقد نال أجرهُ وقضي الأمر.

هو يحسب أن العامل يدور كاللولب لا يُجهده تعب ولا يضنيهِ كَدٌّ. ولو رآه في معمله متفصِّدًا جبينهُ عرقًا، مشمِّرًا عن ساعدين مفتولين عزمًا، متهللًا فرِحًا في حزنِه شاديًا في مناحة حظِّه؛ لأخذه الرَّوع ولخارت تلقاءَ ذلك المشهد المهيب قواهُ.

إن بين الحيطان السود تحت سحب الدخان أمام النار التي يُذْكِيها الكير الزافر، وتحت أعماق من الأرض ذرعها ثلاثمائة ذراع أو أكثر، لرجالًا شعث النواصي غُبر الوجوه، نبا عن أجسادهم النعيم، وأجفلت عنهم السعادة، يخدمون بني الإنسان كأن لم يكونوا من بني الإنسان. إذا جاء عيد سَرَّهُم منهُ قطعة لحم يأكلونها مع أطفالهم، وجرعة من خمر يشربونها معهم، تُقام الأفراح وتزين البلدان، ويزدلف الناس إلى الناس تفرُّجًا وتنزُّهًا، وهم في ظلماتهم غارقون، وقد ينفجر غاز فيتطايرون في أثناء لهيبِه ويدهم سيل فيغيبون في جائشات غواربهِ، وليس لأهلهم من حامٍ ولا لبنيهم من آوٍ، فيكفيهم حسرات الفراق ولوعات الهموم.

يمرُّ الأمير الجليل في عربتهِ، وهي كدارة الشمس تقودها المطهمات مسابقات الرياح، فيلفت أبو الذهب وجههُ عن أخيهِ المسكين الفقير البائس المجد المجتهد. يرى أطمارَهُ الرثة ووجهَهُ الشاحب، فيعاتب اللهَ كيف خلق خلقًا مثل هؤلاء الناس، ولو أنصف لبادر إليهِ من علياء مركبتهِ وأوسعهُ لثمًا وتقبيلًا، ولأخذهُ وأركبهُ على يمينهِ، فما يتطلف بآثِمٍ ولا بسائلٍ؛ بل بسيدهِ الذي يطعمهُ ويكسوهُ ويسقيهِ ويقيه.

إن فريدًا ليس بنبي وقرارهُ ليس شرعًا، وكما ذهب المؤَثر يذهب الأثر. صنيعة عبد الحميد لا يسلك إلَّا صراط عبد الحميد، وكم في هذه الناشئة من ترى حب الوطن يستطيرهُ، وحب بنيهِ يتقد بين ضالعهِ، ومن أراد أن يجور على العمال فليستغنِ عن العمال.

ليقل هؤلاءِ الكبراءُ والأوسمة تشرق على صدورهم والأثواب المخملة تكاد تلتهب على أجسادهم، نجوم أفق الدولة ودرر عقدها المنظوم: «إننا في غنية عن العمال، وإذا نزعنا عنَّا هذه الحلل الباهرة مِلنا إلى المعامل، وشمرنا عن سواعدنا، فصنعنا لأنفسنا وليصنع العمال لأنفسهم، هنالك يعلم كلٌّ عملهُ ويقتصر كلٌّ على هواه. أما الكلام على الكراسي المصفوفة بين السجف المرفوعة فذلك تستطيره الليالي هباءً.»

يا نواب الأمة، يسألكم خَلَّاق الأمة ماذا تريدون بالأمة؟ هنيئًا لكم من الجاه والحسب والذكر ما نلتم، بلى هذه الألسن تزيدكم منها بقدر ما تطلبون. ولكن انظروا إلى حاجة البلاد فأنيلوها حاجتها، ولا تذهبوا هذه القصور بالذهب الوهاج وتنطقوا بين حجراتها بما يُخجلكم غدًا.

العمال ينتظرون ورجال القلم من إخوانهم ينتظرون. فإذا جرتم عن مهيع الرشاد، قلنا وفعلوا وصِحنا وفزعوا، ونحن لكم أبقى وأنتم في حاجة إلينا.

إن كان هذا يكفيك أيها الأخ العامل العثماني، فالحمد لله على خدمتك وخدمة إخواني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤