تييوفيل جوتييه١

من فحول النظم والنثر الفرنسيين، وُلِدَ بتارب سنة ١٨١١، وتُوفِّيَ بنويِّي سنة ١٨٧٢، دخل باريس في مقتبل عمره، فعالج أولًا فن التصوير، ثم انتقل إلى الشعر وقرض بعض قصائد حازت استحسانًا عظيمًا.

ولقد أُعْجِبَ به الكاتب الشهير في الانتقاد «سانت بوف Sainte Beuve» هو وفيكتور هوجو، ومن وقتئذ أوجد له مكانًا رفيعًا في عالم الأدب مدة الأربعين سنة التي مرت بعد ظهوره.
وقد حرَّر في جملة مجلات وجرائد، ووضع عدة كتب، وكان شاعرًا وروائيًّا وكاتبًا في الروايات التمثيلية مشهورًا، وعالمًا بالآثار والفنون الجميلة، مما شيد له مجدًا حصينًا وفخرًا رفيعًا، وكان له ابنتان إحداهما من مشاهير الكتاب، وهي «جوديت جوتييه» تزوجت بالشاعر العصري الشهير «كاتول منديس Catule Mendès»، وانفصلت منه سنة ١٨٦٩، ولها من المؤلفات ما يزيد عن العشرين كتابًا.

أما مؤلفات تييوفيل جوتييه فعديدة جدًّا ومتفرقة، وقد قُدِّرَتْ في ثلاثمائة مجلد، ونخص بالذكر منها الأهم.

ففي الشعر: «ألبيرتوس» سنة ١٨٣٣، و«رواية الموت» سنة ١٨٣٨، و«إسبانيا» سنة ١٨٤٥، و«الفصوص المنقوشة والميناء»٢ سنة ١٨٥٢، وهو من روائع البلاغة متين القريض منسجم العبارة.
ومن أشهر رواياته: «ليجون فرانس» سنة ١٨٣٣، وفيها يضحك ويهزأ بعنفوان شباب المذهب المطلق، و«مدموازيل دموبين» سنة ١٨٣٥، وبها مقدمة مؤثرة، و«فورتونيو» سنة ١٨٣٨، وأخبار وقصص، لا سيما «الملك كاندول وأريا مارشيلَّا»، و«رواية الجثة المحنطة» سنة ١٨٥٨، و«القبطان فراكاس» سنة ١٨٦٣، وهي شائقة مضحكة فريدة في بابها من أسلوب رواية «الرواية المضحكة»، التي وضعها «سكارون Scarron» الشاعر المشهور وصاحب الروايات الهزيلة.
ووضع في الانتقاد الأدبي: «من يهزأ بهم» سنة ١٨٣٣، وهو دفاع عن الشعراء الذين كادوا يسقطون من انتقاد «بوالو Boileau» مثل: «سانت أمان Saint-Amant»، و«سكارُّون» وغيرهما. وكان الفضل في إرجاع مكانة هؤلاء الشعراء وقدرهم وشهرتهم راجعًا لهذا الكتاب، و«تقرير على القريض الفرنسي» سنة ١٨٦٨، و«تاريخ المذهب المطلق» سنة ١٨٧٤، و«تاريخ فن وضع الروايات التمثيلية من ٢٥ سنة» سنة ١٨٥٨، وجملة محلقات روائية وتراجم خصوصًا للروائي الشهير «بلزاك Balzac» والشاعر الشهير «بودلير Bodelaire».

وأنشأ عدة كتب في الانتقاد الفني على معارض الصور والرحل في إسبانيا والروسيا وإيطاليا والآستانة وعددًا من الروايات التمثيلية النظمية الصغيرة وغيرها.

وشاعرنا هذا وإن كان في بعض المواضع قليل الفكر والعواطف، لكنه متين الإنشاء رقيقه، ولقريضه شجو جديد، وقد أعاد شباب الشعر المبتكر، وكان كما وصفه «بودلير» شاعرًا مجيدًا خاليًا من العيوب وعالمًا كاملًا أتى بالمدهشات في عالم الأدب.

حذاء كورنيي Le Soulier de Corneille

هذه النكتة التاريخية وربما كانت فكاهة خرافية تمثل شاعر الفرنسيس مورنيي، وقد شاخ وافتقر، واقفًا أمام حانوت إسكاف حقير؛ ليخصف نعلًا لا يملك غيرها ودعاه الحال لينتظرها ريثما يصلحها الإسكاف.

في منعطف طريق بوسط باريس ازدحمت فيه السابلة، وعلت جلبتهم، كان شيخ ماشيًا الهوينا بقدم متثاقلة وشكل غريب، غارقًا في بحار تأمُّلاته وخياله، غائصًا في الوحول وهو غير شاعر، مرتديًا بعباءة لم يبق بها مسكة، وكان نظره كنظر النسر، وفوداه٣ أبيض من لجين، يمثل بكبريائه وخيلائه الصور القديمة التي ابتدعتها بنان المرة من المصورين، الذين لو رأوه لاختاروا وجهه نموذجًا للأوسمة النحاسية التي تمثل وجوه القدماء من المشاهير.

وكان يُخَيَّل للناظر أن كل ثنية من ثنيات خده الغائر تدل على فكرة، ويُقْرَأ في عينيه السوداوين ضجر وملل.

أشرقت الشمس بعد احتجابها وصفت السماء، وكانت النواظر تغضي مهابة أمام عطارد الذي يسمونه الدينار، وقد قضى «بوالو»٤ لياليه الثمينة في تمجيده، وأتى «منصار»٥ بالعجب العجاب للحصول عليه.

ثم وقف كورنيي العظيم أمام حانوت صغير بمكان قذر حافي القدمين منتظرًا الإسكاف ريثما يخصف له نعله.

ولقد كان يمشي هوميروس٦ في أرضه المباركة على الرمل الذهبي، عاري القدمين في طرق يونية، وهو بثوبه الأبيض الناصع كتمثال من المرمر صنعته يد «فيدياس» مصور التماثيل المشهور.

ولو أتى هوميروس باريس ومشى بخفه دون أن يخشى الفضيحة لألجأه يوم مطير لأن يرقع خفه، كما حصل لمؤلف «أوراس» و«سينا»، وهو الذي بفضله أسعدت إلهة الشعر المصور الطائر الصيت «ميكيل إنج» بنفحاتها العظيمة؛ فأبدع في تصوير عظماء اليونان أيما إبداع.

لويس أيها الملك العظيم! إن هذا القصص الذي يعافه كل ذي ذوق سليم، أو بكلمة واحدة: هذا الحذاء المرقع لتجعل رقعه وصمات في ملكك بينما العشاق ترفل في الدمقس وفي الحرير.

وإني ليحزنني أن أرى كورنيي يعاني البؤس ألوانًا، وكيف هذا الحانوت القذر وعرشك الفخيم رفيع العماد، تزينه أزهار الزئبق، ويختال في بردين من زخرف وبهاء، وطيلسانك من المخمل الأرجواني. فهلَّا — رعاك الله — تعطَّفت بشيء على أمير شعراء عصرك وقد أناخت عليه الشيخوخة؛ حتى كاد يموت فقرًا في زوايا النسيان، ولقد خلَّفت نقطة سوداء في صحائف تاريخك البيضاء، وكلفا في وجه شمسك من تركك كورنيي بلا حذاء وموليير بغير قبر.

ولكن علامَ نغضب إذ ستتساوى الحظوظ ويجمعنا الموت سواءً، ويجر النسيان ذيله على الملك، ويطويه في خبر كان، ويبقى ذكر الشاعر حيًّا خالدًا.

وقد حفظ قصر فرساي تماثيل الندماء، وذهب ما كان فيه من التملق، وغاض ماؤه الذي كان يزينه بنوافيره المتنوعة العديدة بعدما كان مقر الملوك؛ فمن خلد بعد موته العظمة أم العقل الراجح؟ طلع الفجر على أحدهما وخيم الظلام على الآخر، وظهر طيف لويس في حديقة فرساي التي اختطها «لونوتر» الشهير هائمًا على وجهه يتخبط في ليل أليل، وخلد ذكر كورنيي كإله من آلهة القدماء، وما فتئ يرى وهو على منبره النيران والأضواء الموقدة احتفاءً بعيده وإعلاءً لشأنه.

وحينما يَبْلى تاج الملك الذهبي ويصير رمادًا، نرى غار٧ الشاعر معمرًا٨ ناميًا مخضرًّا، بينا نرى الشاعر على مر الأعوام يعظم ويخلد ذكره، والملك يتضاءل حتى يُنْسَى.
١  Théophile Gautier.
٢  جوهر الزجاج الذي يُصنع منه، وتطلق الآن على المادة الزُّجاجية الملونة التي تُوضع على الحُلِيِّ حول الفصوص أو وحدها.
٣  الشَّعْرُ الذي فوق الأصداغ.
٤  شاعر وكاتب منتقد فرنسي «١٦٣٦–١٧١١م».
٥  مهندس فرنسي مشهور «١٥٩٨–١٦٦٦م».
٦  أكبر شعراء اليُونان، ومؤلف الإلياذة والأوديسة.
٧  الغار: شجرٌ معمرٌ معتدلُ القامة، كان القُدماء يعملون من أطراف قمته تيجانًا للظافرين في الحروب.
٨  المعمر في اصطلاح النباتيين: الذي يعيش من النبات دائمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤