الفصل الرابع

١

ألحت على محاسن صورة الحبيب المتخيَّل، بعد حديثها مع جارتها، وكانت قبل ذلك سابحة على متن التيار، وهي في شاغل من شئون البيت، ومشقة التدبير، والسخط على أبيها، واستهجان سيرته مع صاحبته، وإشفاقها على أمها، وما جرَّت عليها علاقتها بالأستاذ حليم، وما احتاجت إليه من كسب الرزق بعرق الجبين. وكان مما ساعدها على الانصراف عن التخيل أنها وطنت نفسها على الرضى بالعزوبة والسكون إليها بعد تلك التجربة الأليمة التي جرَّها عليها سوء حظها، وكانت تعود كل ليلة إلى بيتها مهدودة القوى، وإن كان عملها في الشركة قبل فصلها منها كان هينًا، لأنها لم تألف العمل، ومواعيده المنتظمة التي لا تختلف في صباح أو مساء، فكانت تضطرب إذا فاتها ترام، وتشفق أن تتأخر ولو دقيقة واحدة، فمشيها أشبه بالهرولة، وأعصابها لا تهدأ، وقلبها لا يكف عن الخفقان، وكانت إذا انقضى اليوم بسلام وبلغت بيتها تتشهد، ولا تكاد تنطرح على الفراش حتى يأخذها النوم، فإذا حلمت لم ترَ إلا المدير المرهوب أو الوالد الأخرق وإلا صورًا لا تطيب من البأساء والضراء.

وجاء نسيم، فطاب العيش، واستراحت من العمل، ولكن الزواج ظل لا يجري لها في خاطر؛ لما وقر في نفسها، حتى فتح لها الأستاذ حليم عينها ونشر المطوي من الأمل، وعرَّفها أن ما كانت تظنه مستحيلًا قريب المنال، وأنه ما من معضل إلا وله حلٌّ ما، فتهيأت نفسها تهيؤًا جديدًا، وعادت الأرض التي أصارها الإهمال والترك مواتًا وجمادًا كنودًا، حرة جيدة التربة مرجوة الريع، ثم كان حديث الجارة فريدة، وقد تلقته أول الأمر بالامتعاض مما ينطوي عليه من تطلُّع، ثم ما لبث على قِصره أن أيقظ خيالها الذي كان قد بدأ يتقلب ويتنبه؛ فطافت برأسها، فجأة، تلك الصورة لما كانت — في قرارة نفسها وأطواء ضميرها المحجوب عن ناظرها أو إدراكها، بما هي فيه من الهم والكرب — تشتهي أن يكون عليه الحبيب.

وصارت، بعد ذلك، في غدوِّها ورواحها مع نسيم، لا تزال تنقل عينها منه وتديرها في قلبها، وتقيس الحقيقة الإنسانية الماثلة أمامها في صورة حية من اللحم والدم، إلى الصورة التي كانت مكنونة في أصداف من لأْواء العيش، فَشُقَّ عنها وبرزت، وأخذت معارفها تتجسد، وألوانها تتبدى وتعمق، وسماتها تنجلي، وكثُر على الأيام تأملها لها، وطالت إجالة العين فيها، حِتى صار يُخيَّل إليها أنها تنظر إلى رسم بارز أو مجسم، وألِفت — شيئًا فشيئًا — أن يرفَّ لها قلبها، ويفترَّ لها ثغرها، وترقَّ لها نظرة عينها وتلين، وأن تناجيها في خلوتها، وتحاورها، وتنشئ معها أحاديث تفيض عذوبة وحلاوة، وتتخيل لقاءها مع صاحبها، في الحقيقة، على أشكال شتَّى وفي أماكن عدة، وفي ضروب من الثياب متعددة الألوان، متفاوتة الوشي والتفصيل، مختلفة النسيج، وكانت ربما فتنتها هذه الصور التي تتعاقب على عينها، وهي مع نسيم، فتشرد نظرتها وتشخص وقد ثبت حملاقها، فتبدو له كأنها قد نأت عنه وهي إلى جانبه، وغابت وهي قيد لحظِه، فيتعجب، ويحمل هذا منها على محمل الرضى بما هي فيه، ويؤوِّله أحيانًا بأنه هو سهوم الحب، ويتساءل: حب من يا ترى؟ حبه هو؟ أم حب سواه؟ ومن يكون سواه هذا وما يعرف أنها تلتقي بغيره، ولا عهد منها إلا الصدق والصراحة في إطلاعه على أحوالها وأمورها جميعًا؟

ولكنه كان امرأً فيه أناة، وميل إلى أخذ الأمور مأخذ التهوين، فكان يقول لها مفاكهًا على عادته: ممم! يظهر أن مستشارتنا تعبت، وبرح بها فرط اجتهادها لنا، أما والله إن آل نسيم لأنانيون، كيف يتركون مستشارتهم المخلصة ترهق نفسها هذا الإرهاق؟! كلا، هذا لا يجوز، فيجب يا آل نسيم أن تعطوها قسطًا من الراحة، وإني بلسانهم — أو ألسنتهم جميعًا — أسألك: ما قولك في إجازة؟ إجازة لا تطول حتى تعطل الأعمال، ولا تقصر فيقل بها الانتفاع؟

فتفيق، وترتد إليه، وتبتسم له، وتسأله: ماذا كنت تقول؟ معذرة؛ فقد كنت كأني في عالم آخر.

فيقول: تالله، ما أذكاك يا نسيم وأحدَّ فؤادك! ولا عجب؛ فإن آل نسيم كلهم لوذعيون، إي نعم يا صديقتي المستشارة، فإن الذي كنت أقوله — وفاتتك البراعة فيه لسوء حظك — ليس إلا شاهدًا واحدًا من آلاف من الشواهد على هذه اللوذعية التي شاعت في آل نسيم علوًّا وسفلًا كالوباء، وتمثلت خاصة في المتشرف بخطابك. كنت أقول — ولا بأس من أن أعيد؛ فإن أمثال هذه البراعات تحلو على التكرار — إن بك حاجة إلى أن تجدي نفسك في عالم آخر، كما قلت تمامًا، وبعبارة أخرى يجب أن نتعطف فنمنحك إجازة من هذه الواجبات التي تضنيك، تعودين بعدها أنضر وأنشط، وأقدر على الاضطلاع بأعبائك الجسام، فما قولك؟

قالت وهي تضحك: إجازة؟ من قال إني محتاجة إلى إجازة؟! ومن أي شيء وأنا في إجازة دائمة؟!

قال: شكرًا لك على هذا اللطف، فإنه دليل الإخلاص في العمل، ولكن فراستنا الصادقة تقول لنا غير ذلك، ومن أجل هذا قررنا أن نمنحك إجازة بمرتب مضاعف، أو غير محدود، للاستجمام والراحة من عناء الأعمال، وقد وقع اختيارنا لك على الإسكندرية، تعرفينها؟ سمعت بها؟

قالت: وهي لا تزال تضحك: ما رأيتها قطُّ.

قال: هي ثغر صغير، صغير جدًّا، ولكنه على صغره، يقف سدًّا منيعًا في وجه البحر، فلا يزال البحر يكرُّ عليه بأمواجٍ كالجبال، ولا يزال هذا الثغر الصغير الباسل يدفعه ويرده ويترك لججه المتعاقبة متكسرة على صخورها، والمعركة لا تنتهي، ولا تفترُ في ليل أو نهار؟ ولكن الثقة وطيدة بهذا الثغر الباسل، وبقدرته على صد كل كرَّة، وتمزيق كل حملة، فما قولك في أن تقلدي المراسلين الحربيين، وتذهبي إلى هذه الساحة الأبدية لتوافينا بأحدث أنباء هذا النضال؟

فسألته: هل مللتني؟

قال: إنها المرأة لا تكون أبدًا إلا كما خلقها الله، لا كما يريد نسيم أن تكون، على أن هذا لا يسوءنا؛ لأنا ندرك بفطرتنا الذكية أن المرأة المخلصة لطبيعتها هي التي تستحق أن يُعنى بها الرجل، ولهذا نُعنى بك؛ لأنا نراك مخلصة لأنثويتك. كلا، لم نملَّك يا مستشارتنا العزيزة، وإنما نؤْثر لك الراحة، أو نرجو أن تعودي إلينا من معركة ساحل بحر الروم وأنت أشوق إلى مجلسنا الظريف، وأطلَب لحديثنا اللذيذ، وأحرص على الاستماع إلى آرائنا النفيسة، وأنشط في أداء واجباتك الكثيرة الأخرى.

فأطرقت شيئًا ثم رفعت رأسها ونظرت إليه جادَّة وقالت: ألا تمهلني؟

قال: لماذا؟ القطار حاضر، والإسكندرية تنتظر مقدمك السعيد بلهفة.

قالت: لكأني بك تريد أن تحملني الساعة وتضعني في القطار وتدفعه بيديك، ما الداعي إلى العجلة؟!

قال: لا داعي سوى أني أخشى على الوردة الذبول في هذا الجو الثقيل.

وكانت هذه أول عبارة جرى بها لسانه مما يشبه أن يكون إعرابًا عن إعجاب، أو يقرب أن يكون غزلًا، وكانت هي تحمد الله على اتقائه أن يقول شيئًا يجري هذا المجرى؛ فقد كانت تخشى أن تضطر إلى تخييب أمله، وحينئذٍ يكون ماذا؟

بأي لسان تقول: لا، وهو رب نعمتها؟ وكيف تطيق أن يظن بها الجحود، وهي غير جاحدة؟ وإنها لتعلم — على الأقل مذ نبهها الأستاذ حليم — أن هذا حال لا يمكن أن يدوم، وأنه لا معدى عن الانتقال إلى حال أخرى، وها هو ذا قد أجرى لسانه بأول كلمة تشير إلى قرب الانتقال ووشك التحول، أفلا يَحسن أن تغتنم الفرصة التي أتاحها لها وتفر إلى الإسكندرية وتقضي فيها أيامًا تُوسِع فيها هذا الأمر تفكيرًا وتدبرًا؟!

ولقد تلطف فأشار إلى أنه سيدعها وحدها، ويتخلف هو في القاهرة، ففي مقدورها وهي بعيدة عنه، أن تنظر في أمره وأمرها معه، وأن تتأمل ما تحسه له وهي نائية عنه، وأن تشاور نفسها فيما عدا ذلك أيضًا؛ في مستقبلها معه، أو بمعزل عنه، إذا استقر رأيها على التأبِّي والنفور، وفيما ينبغي أن تحدِّثه أو لا تحدِّثه به إذا آثرت الرضى بما يخطو إليه ببطء وعلى حذر.

دار هذا كله بنفسها في مثل لمح البصر، فقالت له: إذا كنت تبغي جادًّا أن أسافر، فأنا أفعل ما تأمر، وإن كنت لا أشعر أن بي حاجة إلى ذلك، ولا أعرف لماذا تبغيه، على كل حال، أمرك، وماذا أقول غير ذلك؟!

وكان نسيم تخير لها مكانًا خاليًا في القطار ولبث معها حتى دق الجرس إيذانًا بالرحيل، ثم وقف على الرصيف يودعها ضاحكًا.

ولم تجد محاسن مشقة في إقناع أمها بأنها نُدبت لعمل في الإسكندرية، أما أبوها فلم تكن بها حاجة إلى استئذانه، وإن كانت في سريرتها تخشاه، ولكنه كان يبيت في حيث لا يعلم أحد، ويغيب يومًا أو يومين أو أيامًا، ثم يئوب على غير انتظار، ويكتفي بأن يقول إنه كان في «مهمة»، ولا يسأل عن شيء أو أحد، كأنما يشفق أن يُسأل هو أيضًا إذا فتح هذا الباب.

ولبثت محاسن وحدها دقائق، فتناولت قصة بوليسية وهمَّت بالقراءة، وإذا برجل يدخل ويضع حقيبة ضخمة على الرف، وينحط على المقعد أمامها، فثقل عليها أن يتطفل على وحدتها غريب، ورفعت رأسها وألقت إليه نظرة استهجان لتطفله واستثقال لوجوده، وما كادت تُصعد طرفها إليه حتى دُهشت وشخصت، فقد كان الرجل تمثالًا حيًّا لمن قالت لجارتها فريدة إنها تحلم به؛ طويلًا، أسمر اللون، ملوحًا، عريض الكتفين، أرسخ، حاد العين كالصياد، قوى الفم، بارز الذقن متينها.

أخذت عينها هذا كله في أسرع من ردِّ الطرف، لولا أنها لم ترد طرفها؛ لفرط دهشتها، فظلت عينها عليه، والراجح أن محياها فضحها، ونمَّ على ما خالجها من العجب والسرور، فقد خلع الطفيلي طربوشه وحسر عن رأسه، وكان قصير الشعر منتصف المشيب.

معذرة، هل بيننا معرفة؟

فهزت محاسن رأسها أن لا، ووجهها كالجمرة.

وهمَّت لما سألها هل بينهما معرفة أن تقول: نعم؛ فإنك أنت بطولك وعرضك الذي أراك بعين خيالي حين أحلم بالرجل الذي أشتهي أن يكون بعلي. ولكنها عضت على لسانها ولم تنبس ببنت شفة، وهزت رأسها منكرة أن تكون ثم معرفة، وصبغ وجهها الحياء فزاده وضاءة.

وأمسك الرجل واضطجع، ومضت ثوانٍ أو دقائق أو حقب، وإذا بها تقول له: أحسب أنك تقول في سرك أني جريئة أو سيئة الأدب، ولك العذر، ولكن الحقيقة أنك توأم رجل أعرفه — نعرفه — من زمان طويل.

ولو طاوعت نفسها لقالت له إنها لم تعرف هذا الرجل المزعوم إلا في أحلامها.

فتبسم الرجل — الحقيقي — وقال: صحيح؟ واثقة أني لست به؟ اسمي حمدي؛ حمدي الديناري.

فاتَّقد محياها مرة أخرى، وهزت رأسها ثانية — ولكن لسانها لم يخذلها فقالت: واثقة، ولكن اسمك أيضًا يُخيل إليَّ أنه مألوف، لا أدري لماذا؟

فقال: كلا، لا أظن أننا التقينا من قبل، فما كنت لأنسى هذا الوجه لو كنت رأيته.

فعاد الدم القاني فتدفق إلى وجنتيها.

وآنست منه رغبة في الحديث، فلم تصده، فقالا في الجو، ثم فيما يمران به خطفًا من الحقول، وعلمت من كلامه ولهجته أنه يؤثر الريف على المدن، وخُيل إليها أن بينهما اتفاقًا في الذوق والميول.

وقالت لنفسها لما دنا القطار من بنها: هنا سينزل، ولن أراه بعدها أبدًا. وكان هو يسأل نفسه: أترى يليق أو يحسن أن أسألها عن عنوانها قبل أن تنزل في بنها، وينتسخ الحلم إلى الأبد؟

ولكن بنها جاءت ومضت، وهما جالسان يتحدثان، وقد تنفس كل منهما الصعداء، أو تشهد، في سرِّه.

وأشرفا على طنطا، فأيقن كلاهما أن صاحبه مفارقه فيها، ونفد صبرها قبل صبره، فأخبرته — لتستدرجه — أنها ذاهبة إلى الإسكندرية وأنها ستقضي فيها بضعة أيام، وأن أحد معارفها دلَّها على نُزلٍ حسنٍ في الرمل على ساحل البحر — في جليم — فأشرق وجهه والتمعت عيناه وقال إنه هو أيضًا ذاهب إلى الإسكندرية، ولكنه سيكون فيها ضيفًا على صديق له.

ونزلا في محطة سيدي جابر، وقال لها وهما يخرجان: هذه السيارة العتيقة لصديقي، فهل تأذنين لي في إبلاغك حيث تريدين؟

قالت: هذا لطف منك، فشكرًا.

وكانت تود لو استطاعت أن تظهر التردد، أو أن تقول له إنها لا تحب أن تكلفه عناءً أو تؤخره، ولكنها أحست أنه لا محل لهذا التكلف معه.

ولما بلغا النُّزُل الذي اختاره نسيم لها وقف معها على بابه هنيهة ويدها في يده وسألها: هل لي أن أطمع في لقائك مرة أخرى؟

قالت: لم لا؟ إذا شئت، إني هنا وحدي ولست أعرف أحدًا.

قال: أشكرك، فما رأيك في أن نقضي النهار غدًا في أبي قير؟

قالت: أنت أدرى بهذا البلد، فاختر ما يحلو لك.

قال: حسن، وسأمرُّ بك في منتصف الساعة العاشرة، يوافقك هذا؟

وهكذا دخلت محاسن هذا النُّزل، وقلبها يغني ويرقص، والسرور يلفها في شملة وردية.

ومر الأسبوع يخطف كأنه ساعة، وكانت تكتب إلى نسيم، تصف له بهجتها واغتباطها بمقامها، فجاءها منه كتاب ينبئها أنه ذاهب إلى بلدته وأن في وسعها أن تقضي أسبوعًا آخر، فأحست أنها وُهبت أسبوعًا ثانيًا من حياة الفراديس.

وارتفعت المعرفة إلى مرتبة الصداقة، وتحولت الصداقة بسرعة إلى ما هو أدق وأعمق، ولا عجب إذا ذكرنا أن هذا كان رجل أحلامها، وأنها كانت تعرفه طول حياتها.

وكانت محاسن ربما قلقت أحيانًا، فجفاها الرقاد؛ فقد كانت تحبه حبًّا مستغرقًا، وتعرف أنه يعرف ذلك، ولا يخفى عليها أنه يبادلها حبًّا بحب، كأنما كانت تشعر بالتيار النفسي الذي يجري بينهما حين يلتقيان، أو تلمس يده يدها، أو تنظر عينه في عينها، ولكنه كان لا ينطق، ولا يفصح، وكان يبدو أحيانًا ساهمًا واجمًا شارد اللُّبِّ كأنما يطوي أضلاعه على همٍّ، فكانت تتعجب وتقلب الفكر فلا تهتدي، حتى كان يومٌ قصدا فيه إلى موضع صخريٍّ قصيٍّ على ساحل البحر، فمد يده إليها ليعينها على الانتقال من صخرة إلى صخرة، فأهملتها، وصعدت فوق صخرة كبيرة أشرفت منها عليه، وكانت الشمس على محياها الصابح والهواء يعبث بخصل شعرها ويردها عن جبينها الواضح، فراعه حسنها، وقال: إنك هكذا أجمل من ملكة على عرشها.

فأطلقتها ضحكة فضية، وصوبت إليه عينها فزلت قدمها، فصرخت وارتمت بين ذراعيه، فأحاطها بهما، وطوقت هي عنقه، ولبثا هكذا هنيهة أو دهرًا فيما يحسان، ثم إذا بالشفاه تلتقي عفوًا في قبلة طويلة، ثم تحاجزا قليلًا، ونظر كل منهما إلى صاحبه.

قال: كنت أحس أن هذا سيكون لا محالة.

قالت: وأنا أيضًا، والحمد لله.

فما راعها إلا أنه أقصاها عنه بلطف وقال: لا تقولي هذا. تريثي حتى تعرفي، فإن هناك أشياء يجب أن تعرفيها أولًا.

وتناول ذراعها مترفقًا بها، ومضى بها إلى السيارة التي تركاها على الطريق فدخلا فيها، وقلبها يعصره الأسى، ووجهه ناطق بالألم المر.

وانطلق بالسيارة ينهب الأرض ولا يبالي أين يذهب، وهي إلى جانبه لا ترى شيئًا مما حولها أو أمامها، حتى خرجا إلى الطريق الذي ينثني إلى الريف فوقف.

وقال لها: قلت لك إن هناك أشياء يجب أن تعرفيها قبل.

قالت: يكفيني ما أعرف وتعرف، وما عدا ذلك لا قيمة له عندي، وليس يعنيني أن أطلع عليه.

قال: كلا، وستعرفين أني على صواب بعد أن تسمعي ما سأقصه عليك.

وسكت برهة، وأرسل عينه أمامه، وبدا كأنه يعالج أن يجمع متفرقًا، أو يختصر مطوَّلًا، ثم التفت إليها، وأراح أنامله على راحتها وقال: كان ينبغي أن أقول لك هذا من قبل، ولكني لم أكن أظن أن الأمر يبلغ بك هذا، وقد نظرت إليك في القطار فأحببتك، ولكن لم يدُر لي في خلَدٍ أن تحبني فتاة رائعة مثلك، ولقد فاجأني حبك فأحسست لحظة أني ميت بُعث من قبره، غير أني ما لبثت أن عدت إلى قبري؛ لفَّت الحقائق المرة كفني عليَّ مرة أخرى وردتني إلى التراب والظلمة، لا تقاطعي فإنك لا تعلمين، إي نعم، فإني رجل ولا كالرجال، رجل باع نفسه، تتعجبين؟ لا أعني أني بعت نفسي للشيطان، وإنما أعني أن امرأة تزوجتني، هي التي تزوجتني لا أنا، وأحسب أني أدير لك رأسك بهذا الكلام الغامض، فيحسن أن أقص عليك القصة: أنا رجل فلاح متوسط الحال، أملك بضعة فدادين، ليس معوَّلي عليها؛ فإنها قليلة وغلتها ضئيلة، وكان في وسعي إصلاحها فيكثر ريعها، وكان من الميسور أن أستأجر غيرها من الأرض الجيدة، وأعمل في هذه وتلك فأعيش في رفاهة، ولكني آثرت الأسهل، فعملت في ضيعة كبيرة لرجل من السادات، وقف أرضه على بنته دون زوجته، وإن كانت سيدة يضن الزمان بمثلها، ومات الرجل، فصار الأمر كله إليَّ، فأنا المشرف على الزراعة، ولكني لم أخن الأمانة، فبقي مالي الذي أعيش منه هو أجري، والقليل الذي تغلُّه أرضي، وكبرت الفتاة، وصارت من الحوريات الرعابيب، وأنا أزداد كل يوم تعلقًا بها ووفاء لها، وقدمت يومًا موقومة. لا لا لا، ينبغي أن أوجز مخافة أن تظني أني أحمِّلها التبعة وأبرئ نفسي من الضعف والطمع، ولهذا أقول بإيجاز إنها تزوجتني، إي نعم، قالت لي: كن زوجي، فكنت. وقالت إنها ستحتفظ بالعصمة في يديها، فقبلت عن طيب خاطر، فقد حسبتها تخشى على مالها، ولكن الحقيقة التي عرفتها بعد ذلك أنها لم تتزوجني لرغبة فيَّ، بل فرارًا ممن تحبه هي، لا تستغربي فإن لها لحكاية، وحكايتها أنها أحبت فتًى وأحبها أيضًا، وهو جدير بها وإن كان لا مال له، فقد رأيته وعرفته، ولكن قومه فيهم إباء، فهم يستثقلون أن يكون ابنهم فقيرًا وامرأته ذات ثراء، ويخشون أن يُشقيه ويشقيهم ذلك، وهو أيضًا شديد التحرج لا يرضى أن تُرضخ له مالها، فألْفت نفسها مقبلة على حياة لن يكون نصيبها منها إلا الشظف — بالقياس إلى ما تعودت — والمال عندها مثل التراب في الكثرة وفي الزهد فيه، ولست ألومها؛ فما من شك في أن إسراف صاحبها في التعفف كان خليقًا أن يُشقيها، ولكنه كان من حقي عليها، وقد اعتزمت أن تهرب منه إليَّ، أن تُفضي إليَّ بالحقيقة، على أني لا أبرئ نفسي، فقد كان ينبغي أن أتريث وأفكر وأستجلي سر إقبالها عليَّ بغتة، وأحسبني طمعت في رغد العيش ولينه وإن لم أطمع في مالها، على كل حال، هذا ما كان، ولست أشكو، ولكني أقول ما أقول تقريرًا للواقع، وما زلت زوجها، ولكن بالاسم، وهي تحملني معها وتبديني للناس هنا وها هنا، وتخلطني بأصحابها، ولكني لا أختلط؛ لأني لست منهم، ولا هم مني، ولست فيما أعلم ضيق الصدر، وأستطيع أن أقول إني لست فظًّا ولا شَكْسًا، ولكن هؤلاء الذين تجرُّني إلى مجالسهم وتدور بي معهم وتكلفني أن أنهز معهم بدلوهم، أولى بهم أن يكونوا في المحابس وعليهم القضبان؛ فإنهم لا أكثر ولا أقل — فيما أرى وأحس — من قردة، وعسى أن أكون ظالمًا لهم، وأعترف أنهم يكرمونني ويلاطفونني، ويحتفون بي، لا أدري لماذا؟ لأجلها على ما أظن، ولكني مللت، ولم أعد أطيقهم، وقد صارحتها بذلك، وآذنتها بالفراق، ولكن الفراق ليس معناه الطلاق؛ فإن الأمر لها وليس لي، وأحسبها ستُجري عليَّ نفقة، (وقهقه) ولم يبقَ أمامي إلا البحث عن عمل آخر أكسب به رزقي، والآن وقد عرفتِ الحقيقة كلها، وتبينت أي رجل أنا، فهل لا تزالين تحمدين الله؟!

وكانت محاسن — ككل بنات حواء — تستطيع، وتُحسن أن تتكلف، ولكنها لم تتكلف في هذا الموقف شيئًا، فقد غضبت — له — وتغير وجهها من الحَرَدِ وقدحت عينها شررًا؛ مما يحتدم في جوفها، وكان هذا مظهر رقة وعطف لم يعرفهما حمدي من قبل، فلا عجب إذا كان حبه قد شب فجأة عن الطوق.

وانطوت يده على أناملها، وانثنى رأسه، ولثمت شفتاه كفها، وهمس: أحسبك تعرفين أني مجنون بك.

قالت: أعرف ذلك، حمدًا لله، فإني أنا أيضًا مجنونة بك.

فانتفض، فقد كان حسبه منها ما بدا من عطفها، أما …

وقال يزجرها: محاسن!

فهزت رأسها، وهي شاخصة لا تطرف، وقالت: صحيح. صدقني.

فطوقها، وأراح خدها على خده، وقال كأنما يحدث نفسه: إني لا أكاد أصدق، وبعد أن كاشفتك بكل هذا! ونحاها قليلًا لينظر في عينيها: أما أني أحبك فطبيعي ومعقول؛ فإنك حنانة عطوف، وجميلة رقيقة كالزهرة، أنت كلك من فرعك إلى قدمك طاقة أزهار شتَّى، لم أرَ أحدًا مثلك، ولا أظن أن لك من يماثلك أو يدانيك، ولكن أنت واثقة أن هذا حب لا عطف؟

قالت: واثقة جدًّا؛ لقد أحببتك في اللحظة التي رأيتك فيها تدخل القطار.

فهمس: محاسن! محاسن! (وشد على خصرها فارتد رأسها إلى الوراء): إني خائف يا محاسن؛ فإنك نرجسة، لماذا لا أموت الساعة؟ فقد بلغت مناي.

قالت: آه لو كنا نموت الساعة معًا! وتعلقت أنفاسها: كلا، ليس حبي لك عطفًا عليك متنكرًا في صورة حب، فإنه حب، ثم إني أحوج منك إلى العطف، وأولى به، فاسمع أنت أيضًا، واعذر واصفح، إذا استطعت، أو أنكر وانفر، فلن ألوم أو أستغرب.

وقصت هي أيضًا قصتها، كما وقعت، ولم ترحم نفسها، ولم تحاول أن تبرئها، أو تلطِّف من وقعها.

ولما انتهت قالت: والآن هاتِ الحكم.

فابتسم وقال برقَّة: لم يكن هذا ذنبك يا محاسن، فإنك ساذجة عطوف، ومن السهل خداعك وإيقاعك في الشرك.

قالت: لم يكن هناك خداع ولا شرك، ولا كان ما كان شيئًا متعمدًا، وإنما جاء كله عفوًا، كما بينت لك، وما أظن الآن به إلا أنه كان أكثر مني سذاجة، ولعله أولى مني بالعطف والرحمة، مسكين.

قال: ليس لهذا قيمة، فتناسيه كله، وليتني أستطيع أن أنحِّي ماضيَّ أنا بمثل هذه السهولة، أو أراه أهون من أن أعيره فكرة، ولست أدري الآن ماذا يجمل بي أن أصنع، فإني أحبك حبًّا لا عهد لي به، ولا كان ظني أن قلبًا واحدًا يتسع له ويحتمله، ولست أطيق أن أدعك معلقة، وإنه لصعب أن نتحابَّ هكذا على غير أمل.

٢

وعادت محاسن إلى حجرتها في النُّزُل، وراحت تتمشى من النافذة إلى الباب، وقلبها مترع حبًّا وحزنًا، لقد وجدت ضالتها، أخيرًا، ووجدت عنده ما كانت تحسب أنه بعيد بل لا سبيل إليه، الفهم والإدراك والصفح أو التجاوز، ولكن يا له من موقف! وأي حال مقلوب! متزوج، ولكن امرأته هي التي تسرحه أو تمسكه، وإن كان يسعه أن يتزوج غيرها، وإنه لمن حسن حظها — أي محاسن — أن حمدي يعد ما كان منه زلة قبيحة وضعفًا يزري بالرجولة، ولعل هذا هو الذي وسَّع صدره لها فغفر زلتها، ولكن انتظارها سيطول ولا ريب، ولكن لماذا؟ وما خير أن تمسكه امرأته هذه، وهي لا تعاشره معاشرة المرأة لبعلها؟ ولم تستطع — على فرط ما أجهدت رأسها — أن تهتدي إلى تعليل هذا، فنفضت يدها منه يائسة وراحت تتساءل عمَّا عسى أن تقول لنسيم، نسيم الذي سخا بماله، وتعهدها وبرَّها وسرَّها؟ ولا شك أنه يتطلع إلى اليوم الذي يأنس فيه ميلًا منها إليه فيخاطبها، تالله ما أكرمه! فهل يسعها أن تعاجله بهذا الخبر الجديد؟ أو ترى يحسن أن تتريث؟ وما الداعي إلى العجلة؟ أليست ستنتظر الفرج المأمول؟ العمل الذي يطلبه حمدي، فلتنتظر إذن، وإذا احتاجت إلى البث والقول بشجوها، فإن هناك الأستاذ حليمًا، وابتسمت وقد طاف برأسها أنه سيسرُّه أنها صارحت حمدي ولقيت منه عطفًا وفهمًا وتسامحًا، فما كان ينهاها عن مصارحة نسيم إلا إشفاقًا عليها، ولكن الكتمان عن نسيم قد يعقد الأمور، ويخلق لها معضلات جديدة بها عنها غنًى، فالأوفق والأصوب والأكرم أيضًا أن تخبره بما كان، وعلى الله الاتكال.

وآن أن تعود إلى القاهرة، فقد تلقت رسالة من نسيم يقول فيها بأسلوبه المعهود إنه أعد «مشروعًا»؛ أمر بأن يفرش رصيف المحطة بالسجاد العجمي النفيس، والطريق رملًا أصفر ضاربًا إلى الحمرة، وأن تصطف فرق الموسيقى في الميادين لتحيتها والترحيب بها، فكان لا بدَّ أن تكتب إليه تنبئه بموعد إيابها، فترددت واشتهت أن تقضي أيامًا أخرى مع حمدي تنعم في خلالها بحبه، فهل تطاوع نفسها وتبقى، أو تعجل بالرحيل؟

وأرجأت الرد إلى المساء، حتى تشاور نفسها، وكانت على موعد مع حمدي في سيدي بشر، فقد كرهت أن يمر بها كل يوم في النُّزُل فيلاحظ النزلاء ذلك، ويلغط ذوو الألسنة الطويلة منهم، ولم تكن تجعل بالها إلى هذا أو تخشى القال والقيل، أو تتقي أن يخوضوا فيهما قبل أن يتصارحا، ولكنها بعد ذلك صارت تحس أن كل عين عليها، وكل أصبع ممدود يومئ إليها، وكل همس يجري بقول فيها لا حسن ولا قاصد.

وبارحت الترام في محطة قريبة من سيدي بشر، ومضت إلى حيث تقف السيارات التي تقل الركاب إلى الشاطئ، ووجدت مقعدًا خاليًا إلى جانب النافذة، وصعد السائق إلى مقعد القيادة وتهيأ للسير، وانطلقت الصفارة فمضت السيارة تخطف في طريقها، وإذا بمحاسن تبصر رجلًا وامرأة على الرصيف؛ فأما الرجل فعرفته من ظهره، فما كان غير أبيها، وأما المرأة فما خالج محاسن شك في أنها صاحبته الأجنبية التي أنْسته زوجته وابنته وأذهلته عن حقوقهما عليه، وأكلت أكثر ماله، ونازعتها نفسها أن تتوضح هذه المرأة وتحد النظر إليها، وأشفقت أن يراها أبوها، فآثرت التحرز، فحجبت جانب وجهها بكفها، وهي تدير رأسها، وغضت شيئًا من بصرها مع إدامته والاستثبات فيه، وكانت النظرة سريعة قصيرة، كما كان لا بدَّ أن تكون؛ ولكنها أرتها ما فيه الكفاية، فأما أبوها فكان على خلاف العهد به في البيت، مشرق الديباجة بشوشًا حفيًّا بصاحبته، وأما المرأة فلم يسع محاسن إلا أن تعترف أنها خَوْدٌ رقراقة حسنة دوائر الوجه، واقتضاها الإنصاف أن تقر لها بالحسن ولأبيها بحسن الذوق، غير أن إقرارها بهذا جعل موجدتها أشد وحقدها أعظم تلهبًا، وحدة غيظها أعنف، وحدثت نفسها أن هذا هو الرجل الذي لا ينفكُّ يزعق ويصيح ويزعم أنه يؤدبنا ويقيمنا على طريق الهدى والفضيلة، ويحمينا أن نضل ونغوى، وتجيء امرأة — حُسَّانة، نعم، ولكن من يدري أي امرأة هي؟ — فتظهر له الود، فتنتزعه من أهل بيته، وتذهب به أنَّى شاءت، فلا يبالي ما صنع أو ترك، وإذا ركبت أنا أمرًا على غير هداية، بالغًا ما بلغ من التَّفه، قامت القيامة، فأين العدل هنا؟! وأي قدوة هذه؟ وكانت تستولي عليها الحجة إذا واجهها بغلطة هينة، فالآن ماذا تراه يصنع إذا تركت السيارة وأقبلت عليه وقالت له: آه، بابا؟ ماذا جاء بك إلى الإسكندرية، وكان الظن أنك في مهمة كما تقول كلما غبت وعدت؟ ومن هذه السيدة الجميلة التي تتأبط ذراعها وتضحك إليها؟ ألا تعرِّفني بها عسى أن أستفيد منها خلقًا حسنًا فوق ما استفدت من حسن تأديبك باللسان والقدوة الصالحة؟ وماذا تراه يقول إذا ابتسمت له وقالت إن بي حاجة إلى شيء من المال أنفق منه كما ينفق؟ أيضن أم يسخو؟ أيكون هذا ابتزازًا؟ أيسخط ويلعن في سره ويدعو الله أن يقبضني إليه وهو يمد يده بما أعطى مضطرًّا؟ أم تهش لابنته نفسه وترتاح إلى البذل كما ترتاح إذ يخرج عمَّا معه لهذه المرأة التي لا تدع لنا إلا الرقعة من العيش؟ وهبه رآني مع حمدي على شاطئ البحر نتمشى ونتناجى بحبنا، كما يتمشيان ويتناجيان فماذا تراه يجرؤ أن يقول لي، وما أفعل إلا ما يفعل، ولا أحتذي إلا مثاله، بل هو يركب بكهولته — التي كان حقها أن تكون رزانًا حافظة لمروءتها تاركة للقبيح والحرام — ما لا أركب أنا بشبابي على فرط ما يهم بأن يجمح بي؟ ولو انقدت لشبابي لكان لي عذر منه ومن غرارته، فما ذقت من نعيم الحياة شيئًا إلا تخيلًا، على حين امتلأ هو، وكان حريًّا ألَّا يشتهي فريدًا أو يتصدى له، فإذا به لا يزال مسعورًا حريصًا على اللذة، يُسيم سرح اللهو حيث يُتاح، ولا ينفكُّ كالمنهوم الذي ينتصب قاعدًا كلما اكتظَّ، ليوسع مكانًا في بطنه لقدر جديد.

وبلغت سيدي بشر، وهذه الخواطر الثقيلة تدور في نفسها، فألفت حمدي في مدخل تلك الرقعة من الشاطئ ينتظرها ويتلفت، فلما رآها أقبل عليها يعدو، ولم يفته تغير وجهها وإشفاؤها على البكاء، فسألها، مالها؟ ماذا جرى؟ قالت: لا شيء، ولكني لا أستطيع أن أبقى هنا، فامضِ بي إلى أبعد موضع تعرفه، أبعد موضع والسلام.

وكان حكيمًا فلم يقل شيئًا، ولم يسألها عن شيء، ومرت سيارة فارغة فأشار إليها، وأمر سائقها أن يمضي بهما إلى محطة فكتوريا، وهناك انتظرا إحدى السيارات التي تغدو وتروح بين الإسكندرية وأبي قير، واستقلَّاها إلى تلك الضاحية القصية.

وكان كلاهما صامتًا؛ هي تدير في نفسها ما أثارته رؤية أبيها مع صاحبته، وإن كان لا جديد عليها إلا الرؤية، فقد كانت تعرف سرَّه ولا تجهله، ولكن العيان غير السماع، وهو يتساءل فيما بينه وبين نفسه عمَّا اعتراها من الغم والزهق، ما علته؟ وعن رغبتها في الذهاب إلى أقصى مكان، ما داعيه؟ أهي تفرُّ من شيء؟ ولكن هذا وجوم الحزين، لا امتقاع الخائف، ولم يرَ من اللائق أن يستفسر وهما في السيارة بين الناس، فهل تُرى يليق أو يكون من الحكمة أن يسألها عمَّا بها بعد خروجهما من السيارة وافتراقهما عن الناس؟ وكان رجلًا طويل السكوت، وقد ألِف أن يلم من الأخبار بطرفٍ بعد طرفٍ دون سؤال، وأن يحفظ السر ويتقي أن يبدو أنه ينقِّب، فكان من أجل هذا ربيئة القرية كلها ومجمع أسرارها، يحدثه كل امرئ بما عنده ولا يحدِّث هو بشيء، وينظر لغيره في أمره، ولا ينظر له أحد في أمرٍ له.

وبلغا أبا قير فأخذا طريقهما إلى الشاطئ، وهو غير ممهَّد ومعظمه رملة يتعقد بعضها على بعض، وتنقاد في مواضع وتغيب فيها الأرجل في مواضع أخرى، فشُغلت محاسن بالوَعْس وما كان يدخل في حذائها عن همها الذي تُجنُّه، حتى بلغا البحر، فألفيا هناك كازينو دخلاه وجرَّا كرسيين إلى النافذة المطلة على الماء وقعدا ينظران إلى البحر، ويسمعان صوته ولا يقولان.

وبعد أن شربا قهوةً قالت محاسن: معك سيجارةٌ؟

فهز رأسه، وقال: آسف، لا أدخن، ولكن إذا شئت اشتريت لك سجاير.

قالت: لا بأس. شكرًا.

فخرج، ثم عاد بسجاير، وقال لها دون أن يقعد: تعالي انظري.

وتقدمها خارجًا، فنظرت إلى حيث أشار فرأت بيتًا من خشب ذا طبقتين، مشرفًا على البحر وعليه رقعة كتب عليها: للإيجار.

فقالت محاسن: يا له من موقع! إني لأحسد من يُقسم له أن يسكنه.

قال حمدي: ما دام أنه للإيجار فلنزعم أننا نبحث عن بيت؛ لندخل ونرى، ونقف برهة في هذه الشرفة الرحيبة الجميلة، ومن يدري عسى أن يأذنوا لنا في البقاء فيها حتى نتغدى، وما المانع؟!

فسُرت محاسن وقالت: عسى ولعل، ولقد أجدَّت لي هذه الشرفة منًى، فإن قضينا فيها نهارنا فذاك حسبي من إدراكها.

فصار همُّ حمدي أن يُبلغها سؤلها، ويحقق لها مناها، وسأل صاحب الكازينو عن البيت أهو كله للإيجار أم بعضه فقط؟ فأخبره الرجل أن الطبقة العليا — التي عليها عين محاسن — هي وحدها الخالية، ونادى ربة البيت وأخذ منها المفتاح وصعد قدامهما، ودخلا فإذا بيت فيه من الغرف والأثاث ما لا حاجة بمصطاف إلى أكثر منه.

ووقفوا في الشرفة، فسأل حمدي عن أقصر مدة لاستئجار هذا البيت؟

قال الرجل: إنه لا مستأجر اليوم، ومن شاء أن يستأجره بضعة أيام فله ذلك.

فالتفت حمدي إلى محاسن، فأطرقت، وقد صبغ وجهها الحياء، وطافت برأسها صور لها إغراؤها، وأخرى تُخاف وتُتقى، وكان يغريها طيب المكان، وإمكان الإخلاد إلى حمدي بالثقة، ولكن الحذر لا يمنع القدر كما لم يمنعه من قبل، وإن حمدي ليحبها، ولكن هل لها أن تأتمنه؟ وفي خلوة تامة كهذه؟ أو هل تأمن نزق نفسها؟ وإذا بدا له منها أنها قد لا تبالي التضييع فماذا يكون رأيه فيها؟ وهبْه احتج عليها بأنها ضيعت فلا خوف من زيادة التضييع فماذا تصنع؟

وهاجت حُرقاتها على سوء حظها وعلى أبيها، هذا رجل كأنما صاغه الله على هواها، ولكن سوء الحظ يأبى إلا أن تكون له زوجة لا يملك أن يفارقها حتى تطلقه، وأن له إذا شاء أن يتزوج؛ فما انقلب امرأة بأن صار الطلاق لامرأته، ولكنه لا يُقدم على ذلك حتى يقع على عمل يغنيه عن عمله في ضيعة امرأته، وما هو بمُسْحِتٍ؛ فإن له لخربة يعيش منها إذا راضَ نفسه على القناعة، ولكنه يتحرج أن يتزوج وهو مخِفٌّ، فهل تستطيع يا ترى أن تقنعه بالاكتفاء بهذا القليل، حتى يأتي الكثير؟ هذا أمل تسأل الله أن يتحقق، ولعله إذا تحقق يفتح باب الفرج، فتطلقه تلك الزوجة التي تكتفي من الزواج بوثيقةٍ، لا يدري أحد لماذا، إلا أن يكون بها حبُّ مَن فرَّت منه، وهل كان لا بدَّ أن تتزوج هذا لتفرَّ من ذاك؟ أما إنها لخرقاء مدلهَّة!

وأبوها ما الرأي فيه؟ إنه إن يعلم أن خطيبها زوج أخرى يأبَ ويركب رأسه، ولَهو أحرى أن يلجَّ في العناد إذا علم أن العصمة بيد الزوجة؛ فإنه متكبر متجبر — على أهله على الأقل — والرجل عنده هو الرجل، والمرأة هي المرأة، وما عدا ذلك كلام فارغ، فهل تخفي هذا وتكتمه عنه؟ لم لا؟! وما شأنه هو؟! وهل يقبل حمدي أن يغالط أباها؟ أم ترى الرأي أن تتزوجه أولًا ثم تواجه أباها بالأمر الواقع؟ فهل تؤاتيها الشجاعة يا ترى؟ نعم، تؤاتيها، وما عليها إلا أن تصكه بالحجر الذي وضعه في يدها في هذا الصباح … وأمها المسكينة؟ تتركها تحتمل الإهمال والضنك والشكاسة وحدها؟ إن أمها صابرة أوَّاهة، ولكن محاسن لا تقوى على تركها تكابد هذه الشِّقْوة بلا مُعين، أفلا سبيل إلى تدبير يرفِّه عن هذه المسكينة؟ ألا يمكن أن تشاور في أمرها حمدي؟ ولكن المشاورة تحوج إلى الكشف عن سيرة أبيها، وهذه فضيحة يجب أن تُستر وتُطوى وإذا كان أبوها غير أهلٍ للرحمة؛ فإنها هي قد تَضْرَس بالحصرم الذي يأكله هو. وهو أبوها، كائنًا ما كان ما يصنع، وإنها لَمن لحمه ودمه، وليس الدم ماء، ولقد حرصت على كتمان خبره عن أمها؛ حتى لا تزيد حرقة كبدها، ولأنه يعز عليها — ولا يهون — أن تكون هي التي تفضح أباها، ولكن هذا لا يوجب أو يسوغ أن تشقى هي وتُحرم حقها في الحياة.

والخلاصة؟ إن عين حمدي في عينها، بل في قلبها، فماذا توحي إليه؟ ماذا يكون جواب عينها، أو قلبها، أو … لا تدري، فإن الجواذب من هنا وها هنا تتركها متحيرة، ضالة، لا تهتدي.

ولم تجب عينها بشيء؛ لأنها خرجت من لا، ونعم، بأن دارت على عقبها، ومضت إلى حافة الشرفة، ووقفت تنظر إلى البحر.

وأقبل حمدي عليها بعد هنيهة يقول: بعد الغداء أذهب وأجيء بحقبتك وحقيبتي، فإن هذا خير من الفنادق، وفي البيت ثلاث غرف للنوم، ثلاثة، فاهمة؟

فما راعها هي إلا أنها دارت وواجهته، ودفعت يديها فطوقت عنقه، وتعلقت به، فأهوى على فمها بالقبلات.

وكان صاحب الكازينو قد نزل، وصعَّد عينه، فرآهما متعانقين فهز رأسه الذي أخذ من جبينه أكثر مما يأخذ نهار الصيف من ليله وتمتم: شباب، شباب، إيه، يا خسارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤