الفصل الثالث

عصر التنوير والرومانتيكية

كان من أبرز سِمات الحركة التجريبية الإنجليزية، موقفها الذي كان في عمومه مُتسامحًا، تجاه أولئك الذين يتَّبِعون اتجاهاتٍ فكريةً مُخالفة. وهكذا أكد لوك أنَّ التسامُح ينبغي أن يمتدَّ بلا تمييز، حتى إلى الكاثوليك.١ وعلى الرغم من أنَّ هيوم لم يكن يتمسَّك بالدِّين عامة، وكان يستخفُّ بالكاثوليكية الرُّومانية بوجهٍ خاص، فقد كان مُعارضًا لتلك الحماسة التي هي شرطٌ ضروري للقمع. وقد أصبح هذا الموقف المُستنير في عمومِه مُمثِّلًا للمناخ العقلي للعصر، واكتسب خلال القرن الثامن عشَر موطئ قدمٍ في فرنسا أولًا، ثم في ألمانيا. والواقع أنَّ حركة التنوير Enlightenment (أو Aufklarung كما أصبح يُسمِّيها الألمان فيما بعد) لم تكن مُرتبطةً ارتباطًا دائمًا بأية مدرسة فلسفية مُعينة، وإنما كانت نتيجة الصراعات الدينية الدموية غير الحاسِمة التي شهدها القرنان السادس عشر والسابع عشر. فمبدأ التسامح الديني كان، كما رأينا، مُستحبًّا عند لوك بقدْر ما كان عند اسبينوزا. وفي الوقت ذاته كان لهذا الموقف الجديد في مسائل الإيمان نتائج سياسية بعيدة المدى. ذلك لأنه كان لا بدَّ أن يقِف في وجه السلطة الجامحة في أي ميدان. فحقوق الملوك الإلهية لا تتمشَّى مع التعبير الحُرِّ عن الآراء حول الدين. وكان الصراع الديني قد بلغ ذروته في إنجلترا قبل نهاية القرن السابع عشر. وبالرغم من أنَّ الدستور الذي انبثَقَ عنه لم يكن ديمقراطيًّا، فإنه كان مُتحررًا من بعض التطرُّفات السيئة التي كانت تُميِّز حُكم النبلاء ذوي الامتيازات في البلاد الأخرى. ومن هنا لم يكن من المُتوقَّع حدوث قلاقل عنيفة. أما في فرنسا فكان الوضْع مُختلفًا. فهناك بذلت قوى التنوير جهودًا كبيرة من أجل تمهيد الأرض لثورة ١٧٨٩م. وفي ألمانيا ظلَّ التنوير مسألة إحياءٍ ثقافي إلى حدٍّ بعيد. فمنذ حروب الأعوام الثلاثين، التي ظلَّت ألمانيا فترة طويلة تُضمِّد جراحها بالتدريج، كانت ألمانيا خاضعةً للسيطرة الثقافية لفرنسا. ولم يبدأ الألمان في التحرُّر من خضوعهم للثقافة الفرنسية إلَّا بعدَ ظهور بروسيا في عهد فردريك الأكبر، وإحياء الآداب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ولقد كانت حركة التنوير مُرتبطة أيضًا بانتشار المعرفة العلمية. فعلى حين كان الناس في الماضي يُسلِّمون بأمورٍ كثيرة ارتكازًا إلى سلطة أرسطو والكنيسة، أصبح الاتجاه الجديد هو الاقتداء بآراء العلماء. وكما أنَّ البروتستانتية قد طرَحت، في الميدان الديني، الفكرة القائلة إنَّ كل شخص ينبغي أن يتصرَّف حسب تقديره هو، فكذلك أصبح من واجب الناس الآن، في الميدان العلمي، أن يتطلعوا إلى الطبيعة بأنفسهم، بدلًا مِن أن يضَعوا ثقتَهم العمياء في أقوال أولئك الذين كانوا يُدافعون عن النظريَّات البالية. وهكذا بدأت كشوف العِلم تُغيِّر وجه الحياة في أوروبا الغربية.

وعلى حين أنَّ الثورة الفرنسية سحقتِ النظام القديم، آخِر الأمر، في فرنسا، فإنَّ ألمانيا كانت خاضعةً طوال مُعظم سنوات القرن الثامن عشر، لمُستبدِّين «عادلين». كانت حرية الرأي مكفولة بقدْرٍ ما، وإن كانت قد اعترضتْها مُعوِّقات كثيرة. وعلى الرغم من كل ما كانت تتَّسم به بروسيا من طبيعة عسكرية، فإنها ربما كانت تُمثل أفضل حالةٍ لبلدٍ بدأ يظهر فيه شكلٌ من أشكال الليبرالية، في الميدان الثقافي على الأقل. فقد كان فردريك الأكبر يصِف نفسه بأنه الخادم الأول للدولة، وسمح لكلِّ شخصٍ بحرية البحث عن الخلاص لنفسه على طريقته الخاصة، داخل حدود الدولة.

لقد كان عصر التنوير في جوهره عودةً إلى تقدير النشاط العقلي المُستقل، تستهدِف — بالمعنى الحرفي — نشر النور حيث كان الظلام يسُود من قبل. ومن الجائز أن الناس كانوا يسْعَون إلى نشر هذا النور مدفوعين برُوحٍ من التفاني والحماس، غير أنَّ سعيَهم هذا لم يكن يُمثل أسلوبًا في الحياة يرتكز على الانفعالات العارمة. ومع ذلك فقد بدأ يظهر عندئذٍ تأثير قوَّةٍ مضادة: هو القوة العاتية للرومانتيكية.

إنَّ بين الحركة الرومانتيكية وحركة التنوير علاقة تُذكرنا في نواحٍ مُعينة بالنظرة الديونيزية في مقابل الأبولونية. فجذورها ترجع إلى ذلك التصوُّر المُصطبِغ بصبغةٍ مثالية، والذي كوَّنه عصر النهضة عن اليونان القديمة. وقد تطوَّرت الحركة في فرنسا خلال القرن الثامن عشر بحيث أصبحت عبادة للانفعالات، وكانت في هذا التطوُّر تُمثل ردَّ فعلٍ على الموضوعية الباردة المُترفِّعة لدى المُفكرين العقليين. وبينما كان الفكر السياسي لدى العقليين يسعى، منذ أيام هبز، إلى إقرار الاستقرار الاجتماعي والسياسي والمحافظة عليه، فقد كان الرومانتيكيُّون يفضلون العيش في خطر، ومن هنا أخذوا يبحثون عن المُغامرات بدلًا من السعي إلى الأمان، واحتقروا الراحة والسلامة على أساس أنها تَحُطُّ من قدْر الإنسان، ورأوا — نظريًّا على الأقل — أنَّ الحياة المُعرضة للخطر هي الأسمى. وهكذا انبثقت الفكرة المُصطبِغة بالصِّبغة المثالية، فكرة الفلاح الفقير الذي يحيا حياة شظَفٍ من جهده الذي يبذُله في قطعة أرضه الصغيرة، ولكنه يُعوَّض عن هذا بأن يعيش حرًّا، ويظلَّ بمنأًى عن فساد حضارة المدن. لقد كانوا يُولون قيمةً خاصة للاحتفاظ بالصِّلة الوثيقة مع الطبيعة، وكان نوع الفقر الذي يتحمَّسون له ريفيًّا في جوهره، أما حركة التصنيع فكانت لعنةً في نظر الرومانتيكيين الأوائل، ولقد كانوا في ذلك على حقٍّ لأن الثورة الصناعية جلبتِ الكثير من القُبح، على المُستويَين الاجتماعي والمادي، ولكن في العقود التالية ظهرت نظرةٌ رومانتيكية إلى الطبقة العاملة الصناعية، بتأثير الماركسية، ومنذ ذلك الحين تمت الاستجابة للكثير ممَّا كان يشكو منه العمال الصناعيُّون. ومع ذلك فإن النظرة الرومانتيكية إلى «العامل» ما زالت سائدةً في السياسة.

وقد ارتبط بالحركة الرومانتيكية إحياء للرُّوح القومية. ولنذكُر في هذا الصدد أنَّ الجهود العقلية الكبرى في العلم والفلسفة كانت في صميمها بعيدةً عن المشاعر القومية، كما كانت حركة التنوير قوةً لا تعرف حدودًا سياسية، حتى على الرغم من أنها لم تستطع أن تزدهر في بلادٍ مثل إيطاليا وإسبانيا، جنبًا إلى جنبٍ مع الكاثوليكية. أما الرومانتيكية فقد عملتْ على تقوية الفوارق القومية وساعدت على ظهور تصوُّرات صُوفية للوطنية. ولقد كانت هذه إحدى النتائج غير المُتوقَّعة التي ترتَّبت على كتاب التنِّين، لهبز؛ إذ أصبحَتِ الأمة تُعَدُّ شخصًا على نطاقٍ أوسع، يملك نوعًا من الإرادة الخاصَّة به، هذا الشعور القومي الجديد أصبحت له السيطرة على القوى التي أشعلت ثورة ١٧٨٩م. أما إنجلترا، التي كانت تملك، لحُسن حظها، حدودًا طبيعية، فكانت قد اكتسبَتِ الحس القومي في ظروفٍ أهدأ بكثير، وبدا أنَّ مركزها وسط الظروف العامَّة للعالم مَنيعًا لا يمكن مُهاجمته. وفي مقابل ذلك فإن الجمهورية الفرنسية الفتية، التي كان يتربَّص بها حُكام مُعادون من كل الجوانب، لم يكن في وسعها أن تُنمِّي في داخلها مثل هذا الاقتناع التلقائي بهويتها. أما في حالة الألمان فقد كان مثل هذا الاقتناع أصعبَ حتى من ذلك، لا سيما بعد أن احتلَّت جيوش نابليون الإمبراطورية أراضيهم. وعندما نشبتْ حروب التحرير في عام ١٨١٣م، كانت تستلهِم فورةً عارمة من الحسِّ الوطني، وأصبحت بروسيا هي النقطة التي تتجمَّع عندها الأماني القومية الألمانية. ومن الطريف أن نُلاحظ أنَّ بعضًا من الشعراء الألمان العظام قد تنبَّئوا بأنَّ هذا أمرٌ قد يجلب المتاعب في المستقبل.٢

لقد ازدرى الرومانتيكيُّون كلَّ ما له علاقة بالمنفعة، وارتكزوا في كلِّ شيءٍ على المعايير الجمالية، وهذا ينطبق على آرائهم في السلوك والأخلاق، وكذلك في المسائل الاقتصادية، إن كانت هذه المسائل قد طافَتْ بفكرهم. وفيما يتعلَّق بأوجُه الجمال في الطبيعة، كان مَيلهم يتَّجِه إلى الجمال العنيف والمُترفِّع، وقد بدَتْ لهم حياة الطبقة الوسطى مُملَّة مُقيَّدة بأعرافٍ خانقة. والحق أنهم كانوا في هذا الرأي على حق. وإذا كنَّا قد أصبحْنا اليوم أكثر تسامُحًا بالنسبة إلى هذه القيود، فإنَّ من أهمِّ أسباب ذلك تمرُّد الرومانتيكيِّين الذين تحدَّوا أعرافَ عصرهم.

ويمكن القول إنَّ الرومانتيكية قد مارستْ تأثيرها من الوجهة الفلسفية في اتِّجاهَين مُتعارضَين، فهناك أولًا التأكيد المُفرِط للعقل، ومعه الأمل الهادئ في أننا لو أعملْنا عقلَنا بمزيدٍ من القوة في المشكلات التي تُواجهنا، لَحُلَّت كافَّة صعوباتنا إلى الأبد. هذا النوع من العقلانية الرومانتيكية، الذي لم يكن يعرفه مُفكرو القرن السابع عشر، يظهر في أعمال المِثاليِّين الألمان، وبعدَهم في فلسفة ماركس. كذلك يظهر تأثيره لدى النفعيين، وذلك في افتراضهم أنَّ الإنسان، بالمعنى المُجرد، قابل للتشكُّل إلى غير حدٍّ عن طريق التعليم، وهو أمر واضح البطلان. والواقع أنَّ الأفكار الطوباوية بوجهٍ عام، سواء أكانت ثقافيةً خالصة أم مُنتمية إلى الميدان الاجتماعي، إنما هي نواتج تُمثل العقلانية الرومانتيكية خيرَ تمثيل. ومع ذلك فقد أدَّت الحركة الرومانتيكية ذاتها إلى الإقلال من قدْر العقل. ويمكن القول إنَّ هذا الموقف اللاعقلي، الذي ربما كانت الوجودية أشهر مظاهره، هو في جوانب مُعينة تمرُّد على العدوان المتزايد الذي كان يُمارسه المُجتمع الصناعي على الفرد.

كان أشد مؤيدي الرومانتيكية تحمُّسًا هم الشعراء، فربما كانت أشهر شخصية رومانتيكية هي شخصية بايرون؛ إذ نجِد فيه كلَّ العناصر التي يؤدي امتزاجُها إلى تكوينٍ رومانتيكي بالمعنى الكامل. ففيه نجِد التمرُّد، والتحدِّي، واحتقار الأعراف السائدة، والتهوُّر والمَسلك النبيل. ويمكن القول إنَّ الموت في مُستنقَعات ميسولونجي Missolonghi دفاعًا عن قضية الحُرية عند اليونانيين، إنما هو أعظم تعبير رومانتيكي على مرِّ التاريخ. ولقد مارس بايرون تأثيرَه على الشعر الرومانتيكي اللاحق في ألمانيا وفرنسا. كما أنَّ الشاعر الروسي ليرمونتوف Lermontov وصف نفسه صراحةً بأنه تلميذه، كذلك كان لإيطاليا شاعرها الرومانتيكي العظيم، وهو ليوباردي Leopardi الذي تعكس أعماله حالة القمع اليائسة التي كانت تُعاني منها إيطاليا في مطلع القرن التاسع عشر.
إنَّ الأثر البارز الذي خلَّفه عصر التنوير في القرن الثامن عشر هو «الموسوعة» العظيمة التي أعدَّتْها مجموعةٌ من الكُتَّاب والعلماء في فرنسا. فقد أدار هؤلاء الرجال ظهورهم، بوعيٍ تام، لتعاليم رجال الدين والفلاسفة الميتافيزيقيين، ورأوا في العلم القوة الدافعة الجديدة في الميدان العقلي. وهكذا جمَعوا في عملٍ ضخم كلَّ المعرفة العلمية المُتاحة في عصرهم، لا بوصفِها سجلًّا مُرتبًا ترتيبًا أبجديًّا فحسب، بل من حيث هي وصف للطريقة العلمية في التعامُل مع العالم. وكانوا يأمُلون أن يُنتجوا بهذا العمل أداةً فعَّالة في الصراع ضدَّ جهالة السلطة القائمة. وقد أسهم في هذه المهمة معظم الشخصيات الأدبية والعلمية في القرن الثامن عشر. ومن هؤلاء اثنان يستحقَّان تنويهًا خاصًّا. أولهما دالمبير D’Alembert (١٧١٧–١٧٨٣م) الذي ربما جاء أكبر قدرٍ من شُهرته نتيجة لكونه عالمًا رياضيًّا، وهناك مبدأ أساسي في الميكانيكا النظرية يُطلَق عليه اسمه. ولكنه كان في الواقع ذا اهتماماتٍ فلسفية وأدبية واسعة. ومن بين إسهاماته كتابته لمُقدِّمة الموسوعة. أما الرجل الذي كان يحمل على أكتافه العبء الأكبر في القيام بمسئوليات تحريرها فهو ديدرو Diderot (١٧١٣–١٧٨٤م)، الذي كتبَ في موضوعاتٍ مُتعدِّدة، وكان يرفض كلَّ الأشكال التقليدية للعقيدة.
على أنَّ الموسوعة لم تكن عملًا مُعاديًا للدِّين بالمعنى الأوسع. فقد كان رأي ديدرو قريبَ الشبَهِ بمذهب شمول الألوهية Pantheism عند اسبينوزا. كما أنَّ فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨م)، الذي أسهم بدورٍ كبير في ذلك العمل الضخم، قال إنه لو لم يكن يُوجَد إلهٌ لوجَب علينا أن نبتدِعه. وبطبيعة الحال فقد كان يُعارض بشدَّة مسيحية المؤسسة الدينية الرسمية، ولكنه كان يؤمن بوجود قوَّةٍ خارقة للطبيعة، يُحقِّق الناس غاياتها لو أنهم عاشوا حياةً خيرة. وتلك في الواقع صورة من صور مذهب بيلاجيوس Pelagianism٣ خالية من كافَّة الارتباطات التقليدية. وفي الوقت ذاته يسخَر من رأي ليبنتس القائل إنَّ عالمنا أحسن عالم ممكن، إذ اعترف بالشَّرِّ بوصفِه شيئًا إيجابيًّا ينبغي مُحاربته. ومن هنا كان صراعه المرير والشرِس ضدَّ الأشكال التقليدية للعقيدة.
على أنَّ الماديين الفرنسيين كانوا أشدَّ تطرُّفًا بكثير في رفضهم لعقيدتهم. ولقد كان مذهبهم تطويرًا لنظرية الجوهر كما قال بها ديكارت؛ فلقد رأيْنا كيف يؤدي «مذهب المناسبة Occasionalism» إلى الاستغناء واقعيًّا عن دراسة الذهن إلى جانب المادة. فما دام العالم الذهني والعالم المادي يعملان بطريقةٍ متوازية تمامًا، ففي وسعنا الاستغناء عن أيٍّ منهما. ونستطيع أن نجد أفضل عرضٍ للنظرية المادية في كتاب لامتري Lamettrie «الإنسان الآلة L’homme machine» الذي رفض فيه ثُنائية ديكارت، واحتفظ بجوهرٍ واحد فقط، هو المادة. غير أنَّ هذه المادة ليست جامدة بالمعنى الذي كانت تقول به النظريات الآلية القديمة، بل إنَّ من سِمات المادة في ذاتها أنها ينبغي أن تكون في حركة. وليس ثمة حاجة إلى مُحرك أول، كما أنَّ افتراض أي إلهٍ هو، حسب التعبير الذي سيقول به لابلاس فيما بعد، افتراضٌ غير ضروري. وتبعًا لهذا الرأي تكون القدرة الذهنية وظيفة من وظائف العالم المادي. والواقع أنَّ لهذه النظرية علاقةً ما بتصوُّر ليبنتس للمُونادات، على الرغم من أنها لم تقُل إلا بجوهرٍ واحد في مقابل لا نهائية المونادات. ومع ذلك فإنَّ القول بأن المونادات «نفوس» يُشبه إلى حدٍّ ما الفكرة القائلة إنَّ للمادة أحيانًا وظيفةً شِبه عقلية. ولنذكُر في هذا الصدد أنَّ هذا هو المصدر الذي استمدَّ منه ماركس النظرية القائلة: إنَّ العقل ناتج من نواتج التنظيم الجسمي العضوي.

وعلى أساس هذه النظرية اتَّخذ هؤلاء الماديُّون مواقف مستقلة تمامًا عن الدين، الذي رأوا أن طريقة نشره تحمِل أخطارًا يُشجِّع عليها الحُكام والقساوسة تحقيقًا لمصالحهم الخاصة، ما دام من الأسهل لهم أن يتحكموا في الجهلاء. وفي هذا أيضًا كان ماركس مدينًا للماديين عندما تحدَّث عن الدين بوصفه أفيونًا للشعب. ولقد كان الهدف من حملة الماديين على التفكير الدِّيني والميتافيزيقي هو دعوة الناس إلى طريق العِلم والعقل الذي يمكن أن يؤدي إلى إقامة شكلٍ من أشكال الفردوس على الأرض، وهم في ذلك يشتركون مع «الموسوعِيين»، كما أنَّ الاشتراكية الطوباوية عند ماركس تستلهِم هذه الأفكار أيضًا، ولكن يمكن القول إنَّ الجميع كانوا في هذه الناحية ضحايا لوَهْمٍ رومانتيكي. ومع الاعتراف بصحة الرأي القائل إن اتخاذ موقفٍ مُستنير من الحياة ومشاكلها يقدِّم إلينا عونًا هائلًا في سَعيِنا إلى إيجاد حلولٍ مناسبة نتغلب بها على صعوباتنا، فمن الواضح أنَّ الحلول النهائية الدائمة لكافة المشكلات لا يمكن أن تنتمي إلى هذا العالم.

لقد كان ما حرص هؤلاء المفكرون جميعًا على تأكيده هو أولوية العقل. ولكن بعد الثورة الفرنسية التي زعزعتْ أركان العقيدة السائدة، اخترع الناس «كائنًا أسمى»، كان يُخصَّصُ للاحتفال به يومٌ معين. وكان ذلك في جوهره تأليهًا للعقل، وفي الوقت نفسه لم تُبدِ الثورة احترامًا كبيرًا للعقل في مسائل مُعينة أخرى، فقد حوكم لافوازييه، مؤسس الكيمياء الحديثة أمام محكمة ثورية في عهد الإرهاب، وكان قد اقترح قبل ذلك إصلاحاتٍ ضريبيةً مفيدة عندما كان مشرفًا على شئون الزراعة، ولكن مجرَّد شَغلِه منصبًا في النظام القديم، جعلهم يتَّهِمونه بارتكاب جرائم ضدَّ الشعب. وحين قيل للمحكمة إنه من أعظم العلماء، ردَّت بأن الجمهورية لا حاجة بها إلى العلماء، وهكذا قطعت رأسه بالمِقصلة.

إنَّ الموسوعة هي، في نواحٍ معينة، رمز لعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفيها ينصبُّ الاهتمام على المناقشة العقلية الهادئة، بينما الهدَف منها هو تحقيق مُستقبلٍ جديد أكثر سعادة للبشر، ولكن في نفس الوقت الذي ظهرت فيه الموسوعة نمَتْ حركة رومانتيكية مُعادية للعقل، كان من أبرز مُمثليها جان جاك روسو (١٧١٢–١٧٧٨م). ولم يكُن روسو فيلسوفًا بالمعنى الدقيق، إذا جاز لنا أن نستثنِيَ أعماله في ميدان النظرية السياسية والتربية، وهي الأعمال التي كان لها، بالإضافة إلى سائر جوانب نشاطه الأدبي الواسع، تأثيرٌ كبير في الحركة الرومانتيكية فيما بعد.

ويُقدِّم إلينا روسُّو سجلًّا لحياته الخاصة في كتاب الاعترافات، وإنْ كانت القصة التي يَرويها قد شُوِّهَت إلى حدٍّ ما بفعل المُبالغات الشاعرية. وقد وُلِد روسو في جنيف، لأسرة كالفينية، ومات والداه وهو في سنٍّ مُبكرة فرُبِّيَ على يد إحدى عمَّاته. وبعد أن ترك المدرسة في الثانية عشرة جرَّب العمل في عدة مِهَن مختلفة، ولكن لم ترُقْ له واحدةٌ منها. وفي السادسة عشرة رحل عن بيته هاربًا، وفي تورينو اعتنق الكاثوليكية لأسبابٍ مصلحية، وظلَّ يعتنقها بعضَ الوقت، ثم التحقَ بخدمة إحدى السيدات الشهيرات، ولكنه وجدَ نفسه مرةً أخرى على قارعة الطريق حين تُوفِّيَت هذه السيدة بعد ثلاثة أشهر، وفي هذه المناسبة وقعَتْ حادثة مشهورة تكشِف عن الموقف الأخلاقي للشخص الذي يعتمد على أحاسيسه وحدَها. فقد تبيَّن أن روسو كان يملك وشاحًا سرَقَه من السيدة التي كان يعمل عندها. وزعم روسُّو أن خادمةً قد أعطتْه إيَّاه، فلقِيَت هذه الخادمة جزاءها على سرقتها. ولكن روسُّو يقول في «الاعترافات» إنَّ ما دفعه إلى هذا العمل كان تعلُّقه بالفتاة مما جعلها أول من يخطُر بباله حين طُلِب إليه أن يقدِّم تفسيرًا. ولا تتضمَّن الاعترافات أية إشارة إلى أنَّ ضميره أنَّبَه. وهو لا يُنكر بالطبع أنه أدلى بشهادةٍ كاذبة، ولكن عُذره، على الأرجح، هو أنه لم يفعل ذلك بِنِيةٍ سيئة.

وبعد ذلك ارتبط روسو بسيدة تُدعى مدام دي فاران M. de Warens التي كانت قد تحوَّلَت بدورها إلى الكاثوليكية، وكانت تكبرُه بأعوامٍ كثيرة، ولكنها أصبحت أُمًّا وعشيقةً له في آنٍ معًا. وقد قضى روسُّو جزءًا كبيرًا من السنوات العشر التالية في بيتِها. وفي عام ١٧٤٣م أصبح سكرتيرًا للسفير الفرنسي في البندقية، ولكنه استقال حين تأخَّر راتِبُه في الوصول. وفي باريس التقى حوالي عام ١٧٤٥م بتيريز لوفاسير Therese le Vasseur، وهي خادمة عاش معها منذ ذلك الحين بوصفِها زوجةً له، مع دخوله في مُغامرات أخرى من آنٍ لآخَر في نفس الوقت. وقد أنجبَتْ له خمسة أطفال أُخِذوا جميعًا إلى دار اللُّقَطاء. أما سبب ارتباطه بهذه الفتاة فليس واضحًا؛ إذ كانت فقيرة، قبيحة، جاهلة، ولم تكن مع ذلك شديدة الأمانة، ولكن يبدو أن عيوبها كانت تزيد إحساس روسو بالتفوُّق.

ولم يُصبح روسو معروفًا بوصفه كاتبًا إلا في عام ١٧٥٠م؛ ففي هذه السنة نظَّمَت جامعة ديجون مسابقة سهلةً حول مسألةِ ما إذا كانت الآداب والفنون قد أفادت البشرية، فنال روسو الجائزة ببحثٍ أجاب فيه عن السؤال بالنَّفي، ولكن بحُجَجٍ بارعة، فقال إنَّ الثقافة عوَّدت الناس على حاجات غير طبيعية أصبحوا عبيدًا لها.

وأيَّدَ موقف إسبرطة في مُقابل أثينا، وأدان العِلم لأنَّ الدوافع التي أدَّت إلى ظهوره كانت هابطة. وذكر أنَّ الإنسان المُتحضِّر فاسد، أما الفاضل بحقٍّ فهو الهمجي النبيل، وقد توسَّع روسو بعد ذلك في هذه الآراء في كتابه «بحث في اللامُساواة» (١٧٥٤م). ولكن فولتير، عندما وصلتْهُ نسخة من الكتاب في العام التالي، كالَ السخرية والازدِراء للمؤلف، وهي إهانة أدَّت إلى تشاحُنهما فيما بعد.

وفي عام ١٧٥٤م قَبِل روسو دعوة للعودة إلى بلده الأصلي، جنيف، وعاد إلى الكالفينية لكي يستطيع الحصول على الجنسية. وفي عام ١٧٦٢م ظهر كتاب «إميل» وهو بحث في التربية، كما ظهر كتاب «العقد الاجتماعي» الذي عرض فيه نظريَّته الاجتماعية. وقد أُدِين الكتابان: الأول بسبب العرْض الذي قدَّمه للدِّين الطبيعي، والذي أغضب جميع الهيئات الدِّينية على السواء، والثاني بسبب اتِّجاهه الديمقراطي. وقد فرَّ روسُّو إلى نيو شاتل أولًا، ثم إلى بروسيا، وبعد ذلك إلى بريطانيا، حيث قابل هيوم، بل حصل على معاشٍ من الملك جورج الثالث. ولكنه في النهاية تشاجر مع الجميع وتكوَّنت لدَيه عقدة اضطهاد جنونية، فعاد إلى باريس حيث قضى سنواته الأخيرة في فاقةٍ وبؤس.

كان دفاع روسو عن المشاعر في مقابل العقل واحدًا من المؤثِّرات القوية التي شكَّلت الحركة الرومانتيكية. كما كان من نتائجه رسم طريقٍ جديد للاهوت البروتستنتي يُفرِّق بينه بوضوح وبين المذهب التوماوي الذي تابع التُّراث الفلسفي للقدماء. كان الطريق البروتستنتي الجديد يستغني عن براهين وجود الله، ويجعل الشعور بهذا الوجود نابعًا من قلب الإنسان دون مساعدة من العقل. وبالمِثل رأى روسو، في ميدان الأخلاق، أنَّ مشاعرنا الطبيعية تَهدينا إلى الطريق الصحيح، على حين أنَّ العقل يُضلِّلنا. ولا شكَّ أن هذا الموقف الرومانتيكي مُضاد تمامًا لأفلاطون وأرسطو والحركة المدرسية، وهو نظرية شديدة الخطورة، لأنها عشوائية تمامًا، وتُقرُّ أيَّ نوع من الفعل ما دام يرتكز على دعائم انفعالية لدى فاعله. ولقد جاء العرْض الذي قدَّمه روسو للدين الطبيعي في ثنايا كتاب «إميل» وعُرِض بتوسُّع في «اعترافات قسٍّ من سافوي». والواقع أنَّ اللاهوت العاطفي الجديد الذي أتى به روسو لا يمكن مُهاجمته، بمعنًى مُعيَّن، لأنه يقطع صِلته بالعقل على طريقة أوكام، منذ البداية الأولى.

أما كتاب «العقد الاجتماعي» فقد كُتب بروحٍ مختلفة؛ إذ نجد فيه روسو في أحسن حالات كتابته النظرية. وفيه يقول إنَّ الأفراد حين يُفوِّضون حقوقهم للجماعة ككُل، يفقدون جميع حُرِّياتهم. صحيح أن روسو يترك مجالًا لنوع من التحوُّط، حين يقول إن الإنسان يحتفظ بحقوقٍ طبيعية مُعينة، ولكن هذا يتوقَّف على افتراضٍ مشكوكٍ فيه، هو أنَّ الحاكم سيحترِم هذه الحقوق على الدَّوام، بينما الحاكم نفسه غير خاضعٍ لأية سُلطة أعلى، وإرادته هي «الإرادة العامة»، وهي نوع من الحُكم المركَّب الذي يُنفَّذ قسرًا على أولئك الذين قد لا تتَّفِق معه إرادتُهم الفردية.

وعلى الرغم من أنَّ الكثير يتوقَّف على المقصود بالإرادة العامة، فإنَّ روسو لسُوء الحظِّ لا يشرحها بتوسُّع. ويبدو أنَّ المقصود بالنظرية هو أنَّنا، إذا تركنا جانبًا المصالح المُتعارضة للأفراد، يبقى من وراء ذلك نوع من المصلحة الذاتية يشتركون فيه جميعهم. ولكن روسو لا يُتابع هذه الفكرة أبدًا حتى يستخلِص نتائجها النهائية. وهو يرى أنَّ الدولة التي تسير وفقًا لهذه المبادئ لا بدَّ لها أن تحظُر أي نوع من التنظيمات الخاصة، وخاصةً تلك التي تستهدف غاياتٍ سياسية واقتصادية، وهكذا تكتمِل لدَينا جميع عناصر نظام شمولي، وعلى الرغم من أنَّ روسو يبدو على وعيٍ بذلك، فإنه لا يُبيِّن لنا كيف يمكن تجنب هذه النتائج. أما عن إشاراته إلى الديمقراطية فلا بدَّ أن نفهم منها أنه كان يتحدَّث عن مدينة الدولة القديمة، لا عن الحكومة النيابية. وبالطبع فقد أُسيء فَهم الكتاب أولًا في أوساط أولئك الذين عارضوا نظرياته، وفيما بعدُ في أوساط زعماء الثورة الذين أيَّدوه.

لقد اتَّخذ التطوُّر الذي طرأ على الفلسفة الأوروبية بعد ديكارت، كما رأيْنا، اتِّجاهَين مُختلفين؛ فهناك من جهةٍ مختلف المذاهب العقلية التي ظهرَتْ في القارة الأوروبية، وهناك من جهةٍ أخرى الخطُّ العام للتجريبية الإنجليزية، ويتَّصِف الاتِّجاهان معًا بالذاتية، من حيث إنهما مَعنِيَّان بالتجربة الخاصة. فقد أخذ لوك على عاتقه مهمَّة القيام ببحثٍ أولي لمعرفة نطاق الذهن البشري. وكانت المشكلة الكبرى، التي أبرزها هيوم على أوضح نحو، هي كيفية تفسير الروابط بين الظواهر، وكانت إجابة هيوم هي أنَّنا نُكوِّن عاداتٍ مُعينة تجعلنا نرى الأشياء مُرتبطة. وكما أوضحْنا من قبل، فقد تجاوز هيوم حتى في قوله هذا، ما تسمَح مُقدِّماته به، لو التزَم الدقة التامَّة، ومع ذلك فإن في هذه العبارة إشارةً إلى إحدى الطرُق الممكنة لحلِّ هذه الصعوبة. والواقع أنَّ قراءة «كانْت» لهيوم هي التي أيقظتْه من سُباته الدجماطيقي (اليقيني الجامد)، فقد ارتقى كانْت بتلك العادة التي تحدَّث عنها هيوم إلى مرتبة المبدأ العقلي، وبذلك تخلَّص ببساطةٍ من مشكلة هيوم، وإن كان قد كبَّل نفسه بالطبع بصعوباتٍ أخرى جديدة خاصة به.

وُلِد إيمانويل كانْت (١٧٢٤–١٨٠٤م) في كونجزبرج، في بروسيا الشرقية ولم يُبارح بلدتَه الأصلية أبدًا طوال حياته. وقد ظلَّ محتفظًا منذ نشأته الأولى بجانبٍ من نزعة الورع Pietism كان له تأثيره في أسلوب حياته العام وفي كتابتِه الأخلاقية. وقد درس كانْت في جامعة كونجزبرج، بادئًا باللاهوت، ومُنتهيًا بالفلسفة التي شعَر بأنَّ اهتماماته الحقيقية إنما تكمُن فيها. وقد ظلَّ بضع سنواتٍ يرتزق من العمل مُدرسًا خصوصيًّا لأبناء الأرستقراطيين من مُلَّاك الأرض الزراعية، إلى أن حصل في عام ١٧٧٥م على وظيفة مُحاضر للفلسفة في كونجزبرج. وفي عام ١٧٧٠م رُقِّي إلى وظيفة أستاذ كرسي المنطق والميتافيزيقا، وهي الوظيفة التي ظلَّ يشغلها حتى وفاته. وعلى الرغم من أنَّ كانْت لم يكن مُفرطًا في الزُّهد، فإنه عاش حياةً شديدة التنظيم والدأب والمُثابرة، وبلَغ من انتظام عاداته أنَّ أهل مدينته كانوا يضبطون ساعاتهم على لحظات مروره أمامهم. ولم يكن كانْت رجلًا مَتينَ البُنيان، ولكنه أفلتَ من الأمراض بفضل أساليب حياته المُستقرَّة. وكان في الوقت ذاته مُحدِّثًا بارعًا، يلقى الترحيب دائمًا إذا ما حضر مناسباتٍ اجتماعية. أما في المسائل السياسية فكان ليبراليًّا كأحسن ما يكون المُفكر في عصر التنوير، وفي ميدان الدين كان موقفه يُمثِّل نوعًا من البروتستانتية غير التقليدية. وقد رحَّب بالثورة الفرنسية، وأيَّد المبادئ الجمهورية. وقد أكسبَتْه مؤلَّفاته الفلسفية العظيمة شُهرة واسعة، ولكنها لم تجلب له أيةَ ثروة. وفي سنوات حياته الأخيرة تدهورت ملَكَاته الذهنية، ولكنَّ أهل مدينة كونجزبرج كانوا فخورين به. وعندما مات شُيِّعَت جنازته في موكبٍ مهيب، وهو شرَف لم يحظَ به من الفلاسفة إلا أقلُّ القليل.

كانت أعمال «كانْت» تشمل موضوعاتٍ شديدة التنوُّع، كان يُحاضر فيها جميعًا في وقتٍ ما، والقليل من هذه الأعمال هو الذي ظلَّ مُحتفظًا بأهميته حتى يومِنا هذا، إذا استثنَينا نظريةً في نشأة الكون بُنِيت بأكملها على أساس فيزياء نيوتن، وأبدى فيها آراء قال بها فيما بعدُ لابلاس بصورةٍ مستقلة، ولكن الذي يُهمُّنا هنا بوجهٍ خاص هو فلسفة كانْت النقدية. والواقع أنَّ لوك كان أول من طرَح المشكلة النقدية، رغبةً منه في تطهير الأرض، ولكن مسار الأفكار بعد لوك أدَّى بطريقةٍ حتمية إلى مذهب الشكِّ عند هيوم. أما كانْت فقد استحدث ما أسماه «ثورة كوبرنيكية» في هذا الميدان؛ ذلك لأنه بدلًا من أن يحاول أن يُفسِّر المفاهيم العقلية على أساس التجربة، كما فعل هيوم، شرع في تفسير التجربة على أساس المفاهيم العقلية. ويمكن القول بمعنًي مُعين إن فلسفته كانت تُقيم توازُنًا بين الموقف المُتطرِّف للتجريبية الإنجليزية من جهة، والمبادئ الفطرية التي قال بها المذهب العقلي الديكارتي من جهةٍ أخرى. وعلى الرغم من أنَّ نظريتَه كانت صعبة ومُعقَّدة وقابلة للنقد في كثيرٍ من جوانبها، فإنَّ من واجبنا أن نُحاول استيعاب خطوطها العامة إذا ما شئنا أن نفهم ذلك التأثير الهائل الذي مارسَتْه على التطوُّر الفلسفي اللاحق.

لقد اتَّفق كانْت مع هيوم والتجريبيِّين في القول إنَّ كلَّ معرفةٍ إنما تبدأ من التجربة، ولكنه أضاف، على خلافهم، ملاحظةً هامة إلى هذا الرأي، هي أنَّ من الواجب التمييز بين ما يُنتِج المعرفة بالفعل، والصورة التي تتَّخِذها تلك المعرفة. وعلى ذلك، فرغم أنَّ المعرفة تنشأ عن طريق التجربة، فإنها لا تُستمَدُّ منها وحدَها. ويُمكننا التعبير عن هذه الفكرة على نحوٍ مختلف بالقول إنَّ التجربة الحِسِّية شرط ضروري للمعرفة، ولكنها ليستْ شرطًا كافيًا لها؛ فالصورة التي تتَّخذها المعرفة، ومبادئ التنظيم التي تُحوِّل المادة الخام للتجربة إلى معرفة، هي ذاتها لا تُستمَد، في رأي كانْت، من المعرفة. ومن الواضح أن هذه المبادئ فطرية بالمعنى الذي قال به ديكارت، وإن لم يكن كانْت قد قال بذلك.

وقد أطلق كانت اسم «المقولات» — وهو مصطلح أرسطي — على المبادئ العامة للعقل، التي يُضفيها الذِّهن من عنده من أجل تشكيل التجربة في صورة معرفة. ولمَّا كانت المعرفة تتَّخِذ شكلَ قضايا، فلا بدَّ أن تكون هذه المقولات مُرتبطةً بصورة القضايا. ولكن علينا قبل أن نُبيِّن كيف استمدَّ كانْت مقولاته، أن نتوقَّف لبحْث مسألةٍ هامة مُتعلقة بتصنيف القضايا. فقد كان «كانْت» يُتابع ليبنتس في قبوله للمنطق الأرسطي التقليدي، منطق الموضوع والمحمول، بل إنه أعتقدَ أن هذا المنطق كامل يستحيل إدخال تحسينٍ عليه. وعلى هذا الأساس، فمن الممكن التمييز بين قضايا يكون الموضوع فيها مُتضمِّنا للمحمول، وأخرى لا تكون كذلك. فالقضية «كل الأجسام مُمتدَّة» من النوع الأول، لأنها تُعبِّر عن الطريقة التي يَتمُّ بها تعريف مفهوم «الجسم» ومثل هذه القضايا تُسمَّى تحليلية، وكل ما تفعله هو أنها تشرَح الألفاظ أو تُوضِّحها. أما القضية «كل الأجسام لها وزن» فهي من النوع الثاني؛ ذلك لأنَّ فكرة الجسم لا تنطوي في ذاتها على وجود صفة الوزن؛ ولذا فإنَّ هذه قضية تركيبية ومن المُمكن إنكارها دون الوقوع في تناقُضٍ ذاتي.

وقد أدخل كانْت أساسًا آخَرَ للتصنيف إلى جانب هذه الطريقة في التمييز بين القضايا. فهو يُطلِق على المعرفة المُستقلة من حيث المبدأ عن التجربة اسم المعرفة القبلية a Priori أما تلك التي تُستمَدُّ من التجربة فيسميها بَعدية a Posteriori. ولكن الشيء الهام هو أنَّ هذَين التصنيفَين يتقاطعان. وعلى هذا النحو بعينِه يتخلص كانْت من الصعوبات التي تواجِه التجريبيِّين مثل هيوم، الذين كانوا خليقين بأن ينظُروا إلى التصنيفَين على أنهما يُعبِّران عن شيءٍ واحد، بحيث يكون التحليلي مُساويًا لكلِّ ما هو قبلي، والتركيبي مُساويًا لكلِّ ما هو بعدي. أما كانْت فعلى الرغم من أنه وافق على الشطر الأول، فقد أكَّد أنَّ من الممكن وجود قضايا قبلية وتركيبية في آنٍ معًا. والهدف العام من كتاب «نقد العقل الخالص» هو إثبات كيف تكون الأحكام التركيبية القبلية ممكنة. أما الهدف الأخصُّ فهو إمكان قيام الرياضة البحتة أو الخالصة؛ لأنَّ القضايا الرياضية في رأيه قبلية تركيبية. والمَثَل الذي يضربه مُستمَدٌّ من الحساب، وهو حاصل جمع الخمسة والسبعة وهو مثَل مُستمدٌّ بلا شك من محاورة «تيتاتوس» لأفلاطون، حيث استخدم الرقمان ذاتهما، فالقضية ٥ + ٧ = ١٢ قبلية، لأنها لا تُستمَدُّ من التجربة بينما هي في الوقت ذاته تركيبية لأن مفهوم ١٢ ليس متضمَّنًا في تصوُّرَي ٥ و٧ ورمز الجمع، وعلى هذا الأساس يرى كانْت أنَّ الرياضة قبلية تركيبية.

وهناك مثَل آخر هام هو مبدأ السببية. فقد تعثَّر التفسير الذي قدَّمه هيوم أمام عقبة الارتباط الضروري، الذي يبدو مُستحيلًا في إطار نظرية الانطباعات والأفكار. أما عند كانْت فإن السببية مبدأ تركيبي قبلي، وليس وصفُ السببية بأنها قبلية إلا تأكيدًا لرأي هيوم القائل إنها لا يمكن أن تُستمَدُّ من التجربة، ولكن كانْت لم يصِفْها بأنها عادة تتحكم فيها شروط خارجية، وإنما نظَرَ إليها على أنها مبدأ مَعرفي، وهي تركيبية لأننا نستطيع إنكارها دون أن نقَع في تناقُض ذاتي لفظي، ومع ذلك فإنها مبدأ قبلي تركيبي يستحيل بدُونه قيام المعرفة، كما سنرى بعد قليل.

ولنعُد الآن إلى نظرية المقولات عند كانْت. إنَّ هذه المقولات تصوُّراتٌ قبلية للفهم، تختلف عن تصوُّرات الرياضة. ولا بدَّ من البحث عنها، كما أشرْنا من قبل، في صورة القضايا. وهكذا يُصبح من الممكن، في إطار نظرة كانْت إلى المنطق، استنتاج قائمة المقولات بطريقةٍ طبيعية، بل إنَّ كانْت قد اعتقد أنه اهتدى إلى طريقةٍ لاستنباط القائمة الكاملة للمقولات، فبدأ بالتمييز بين سِمات صورية تقليدية مُعيَّنة للقضايا هي الكم quantity، والكيف quality، والإضافة relation والجهة modality. ففيما يتعلَّق بالكَم، كان المناطقة منذ أيام أرسطو يُميزون بين القضايا الكلية والجزئية والشخصية. وهذه الأنواع تُناظرها مقولات الوحدة والكثرة والكلية على التَّوالي. أما كيفُ القضية فقد يكون مُوجبًا أو سالبًا أو محدودًا، وتُناظرها مقولات الواقعية والسَّلْب والتحديد. كذلك نستطيع تقسيم القضايا من حيث الإضافة إلى حَملية وشرطية مُتصلة وشرطية منفصلة، ومن هذه نستخلص مقولات الجوهر والعرَض، والسبب والنتيجة، والتأثير المتبادل. وأخيرًا قد تكون القضية، من حيث الجهة، احتماليَّةً أو تقريرية أو ضرورية. والمقولات المُناظرة لها في الإمكان والاستحالة، والوجود واللاوجود، وأخيرًا الضرورة والعرَض.

ولسْنا بحاجةٍ إلى الخَوض في تفاصيل استنباط كانْت للمقولات، كما أنه ليس من الصعب أن نرى أنَّ قائمة المقولات عند كانْت لم تكن مُكتملة كما تصوَّر، ما دامت تعتمد على نظرةٍ ضيقة إلى حدٍّ ما إلى المنطق. ولكن فكرة التصوُّرات العامة، والتي لا تُستمَدُّ من التجربة، ومع ذلك يكون لها تأثيرها في ميدان التجربة، تظلُّ فكرةً لها أهميتها الفلسفية. وهي تُزوِّدنا بإحدى الإجابات عن مشكلة هيوم، وإنْ كان في وُسع المرء ألَّا يقبل العرْض الذي قدَّمه لها كانْت.

وبعد أن استنبط كانْت قائمة مقولاته على أسُسٍ شكلية، انتقل إلى إثبات أنَّ من المستحيل، بغَير المقولات، قيامَ أيَّةِ تجربة يمكن نقلُها إلى الآخرين. وهكذا فقبل أن تكتسِب الانطباعات التي تصِل إلى حواسِّنا صفةَ المعرفة، ينبني تنظيمُها أو توحيدها على نحوٍ ما، عن طريق النشاط الذهني. وتلك مشكلة إبستمولوجية (معرفية) لن يكون من الممكن إيضاح موقف كانْت منها إلا إذا حدَّدنا طريقة استخدامه للمصطلحات بدقَّة. فهو يقول إنَّ عملية المعرفة تنطوي من جهةٍ على الحواس، التي تقتصر على تلقِّي تأثير التجربة الآتية من الخارج، ومن جهةٍ أخرى على الفَهم الذي يربِط عناصر الحسِّ هذه سويًّا، ولا بدَّ من التمييز بين الذهن أو الفهم وبين العقل. وقد عبر هيجل في مرحلةٍ لاحِقة عن هذه الفكرة بقوله إنَّ العقل هو ما يُوحِّد الناس، على حين أنَّ الفهم هو ما يُفرِّقهم. ويُمكننا القول إنَّ الناس يكونون مُتساوين بقدْر ما يكونون عقلاء، أو مالِكين لنعمة العقل، ولكنهم يتفاوَتون فيما يتعلق بالفَهم؛ لأنَّ هذا الأخير تعقُّل إيجابي يتفاوت الناس فيما يتعلق به تفاوتًا هائلًا.

ولكي تكون لدى المرء تجربة يمكن صياغتها في أحكام لا بدَّ من تحقُّق ما يطلِق عليه كانْت اسم «وحدة الوعي الذاتي unity of apperception». فمن الواضح أنَّ انطباعات هيوم المُنعزلة غير كافية، مهما كانت سرعة تَتابُعها، وبدلًا من التقطُّع الذي تتَّسِم به التجربة الحسِّية عند التجريبيين، يقول كانْت بنوعٍ من الاتصال. فمن المستحيل في رأي كانْت أن تكون لدَينا تجربة بأي شيءٍ خارجي ما لم يكن ذلك في إطار المقولات التي يكون عمَلها شرطًا ضروريًّا لحدوث مثل هذه التجربة. وبالطبع فإنها ليست شرطًا كافيًّا، ما دام من الضروري أن تلعَبَ الحواسُّ دورها. ولكن المقولات بدورها تتدخَّل. وهكذا يبدو أن ما يُنكره كانْت هو إمكان قيام تجربةٍ خالصة تكون مجرَّد استقبالٍ سلبي للانطباعات، ما لم يكن في ذِهننا تيَّارات الوعي التي يستحيل التعبير عنها.
أما عن المكان والزمان، فهو يرى أنهما مفهومان خاصَّان قَبْليان ينتميان إلى الحدْس الخالص للعالم الخارجي والداخلي على التوالي. وقد اتَّسَمتْ مناقشة كانْت لهذه المسالة بقدْرٍ من التعقيد، كما أن حُجَجَه على وجه العموم ليستْ مُقنعة تمامًا. وخُلاصة النظرية كلها هي أنه بدون مفاهيم قبلية للمكان والزمان تستحيل التجربة. وفي هذه الناحية يكون المكان والزمان مُشابِهَين للمقولات. وهكذا فإنَّ التجربة تتشكَّل بتصوُّراتٍ قبلية. غير أنَّ ما يدفع إلى قيام التجربة تتحكم فيه أيضًا موضوعات خارجة عن الذهن. هذه المصادر التي تُستمَدُّ منها التجربة يُسمِّيها كانْت «بالأشياء في ذاتها noumena» في مقابل المظاهر أو الظواهر phenomena. وتبعًا لنظرية كانْت يستحيل أن تكون لدَينا تجربة بالشيء في ذاته، ما دامت كل تجربةٍ تحدُث عن طريق تضافُر المكان والزمان والمقولات (مع أي عنصر خارجي). وأقصى ما يمكننا التوصُّل إليه هو أن نستدلَّ على وجود هذه الأشياء في ذاتها من المصدر الخارجي المُفترَض للانطباعات. ولكن لو شئنا الدقة لكان هذا نفسه مستحيلًا، ما دُمْنا لا نملك طريقةً مستقلة لاكتشاف وجود مثل هذه المصادر، وحتى لو كانت لدَينا طريقة كهذه لظللْنا عاجزين عن القول بأنها تُسبِّب انطباعاتنا الحِسِّية. ذلك لأنَّنا لو تحدَّثنا عن السَّبَبية لكان معنى ذلك أنَّنا عُدنا إلى الدخول في شبكة التصوُّرات القبلية التي تُمارِس عملها في إطار الفَهم. وهنا تعُود الصعوبة التي واجهها لوك مرةً أخرى، فمِثلما أنَّ نظرية لوك لا تسمح له بالتحدُّث عن عالَم خارجي يؤدِّي إلى ظهور أفكار الإحساس، فكذلك لا يَحقُّ لكانْت التحدُّث عن أشياء في ذاتها على أساس أنها هي التي تُسبِّب الظواهر.
إنَّ الشيء في ذاته، الذي هو خارج المكان والزمان، هو كيانٌ ميتافيزيقي يَهدف إلى تمكيننا من تجنُّب نزعة الشك والاعتراف بمجالٍ للتجربة يمكن وصفُه بأنه مشترك بين الذَّوات inter-subjective على الأقل، على الرغم من أنَّ نظرية المعرفة عند كانْت تتَّسِم بقدرٍ من الذاتية. ولقد اضطُرَّ كانْت إلى اتخاذ هذا الموقف لأنه لا يقبل وجود المكان والزمان على نحوٍ مستقل، ولو حذفْنا هذين الاثنين من قائمة التصوُّرات القبلية لَما أصبح هناك داعٍ للشيء في ذاته. ولا شكَّ أن هذا شيء يمكن القيام به دون مِساس بنظرية المقولات عند كانْت. غير أنَّ هناك سببًا آخر مختلفًا كل الاختلاف، جعل الأشياء في ذاتها ضرورية بالنسبة إلى كانْت، وأعني به نظريته الأخلاقية التي سننتقِل إليها بعدَ قليل، ولكن لنُلاحظ الآن أنَّ الشيء في ذاته يقَع خارج نطاق التصوُّرات والمبادئ القبلية تمامًا … والواقع أنَّ من أخطار استخدام هذه التصوُّرات بطريقةٍ نظرية، أنَّنا قلَّما نتجاوز الحدود التي تنطبق خلالها هذه التصوُّرات القبلية بطريقة مشروعة. وأعني بهذه الحدود ميدان التجربة. فلو تجاوزْنا هذا الميدان لدخلْنا في مجالٍ عقيم هو الميتافيزيقا والديالكتيك، الذي يحمل في نظر كانْت معنًى مذمومًا.

غير أنَّ كِتاب «نقد العقل الخالص» لا يُعالج إلا مسألةً واحدة من بين المسائل الرئيسية الثلاث التي تفرِض نفسها علينا. فهو يرسُم حدود المعرفة ولكنه لا يعرِض لِمَوضوعَي الإرادة وما يُطلِق عليه كانت اسم «الحُكم». وأول هذين المَوضوعَين يدخل في نطاق الأخلاق، ويُعالَج في كتاب «نقد العقل العملي». أما الحُكم فيستخدمه كانْت بمعني تقدير الأهداف أو الغايات، وهو موضوع كِتاب «نقد ملَكة الحكم» الذي لن نعرِض له ها هنا، ولكن لنتأمَّل بإيجازٍ نظرية كانْت الأخلاقية كما ناقشَها في «نقد العقل العملي» وفي «ميتافيزيقا الأخلاق».

إنَّ الإرادة تُوصف بأنها ذات طابعٍ عملي بالمعنى الذي يكون به الفعل أو السلوك مقابلًا لعملية المعرفة النظرية. ولا بدَّ أن تُفهَم كلمتا «النظري» theoretical، و«العملي» practical في هذا السياق بمعناهما الأصلي في اللغة اليونانية، من حيث هما يرتِبطان، على التوالي، «بالرؤية» و«الفعل». وهكذا فإنَّ السؤال الأساسي للعقل العملي هو: كيف ينبغي أن نسلك؟ هنا أيضًا يقوم كانْت بنوعٍ من الثورة؛ ذلك لأنه إذا كانت الأخلاق قد ظلَّت من قبل تفترِض دائمًا أنَّ الإرادة تحكُمها مؤثراتٌ خارجية، فإنَّ كانْت يفترض أنها تُعطي نفسها قانونها الخاص، وبهذا المعنى يمكن وصْف الإرادة بأنها مُستقلة استقلالًا ذاتيًّا، فإذا أردْنا أن نصل إلى مبادئ عامة للسلوك، فإننا لن نهتدي إليها في الأهداف أو الأسباب الخارجية، بل ينبغي البحث عنها داخلنا؛ وذلك لكي نتوصَّل إلى ما يُسميه كانت بالقانون الأخلاقي. ولكن من الواضح أن هذا القانون الأخلاقي لا يمكن أن يكون قِوامُه أوامر جزئية مُحددة. فهذا القانون لا يُمكنه أن يَدلَّنا على الطريقة التي ينبغي أن نسلك بها في أية حالة مُحددة، لأن هذا بعَينه ما ينبغي علينا، وفقًا لمبدأ الاستقلال الذاتي، أن نتجنَّبه، وبذلك يتبقَّى لدَينا مبدأ شكلي بحت، خالٍ من أي مضمون تجريبي، هو ما يُطلِق عليه كانْت اسم الأمر المُطلق categorical imperative. وهنا نجد أنفسنا مرةً أخرى إزاء مفهومٍ مُهجَّن يناظر، في الاستخدام العملي للعقل، مفهوم القبلي التركيبي في استخدامه النظري. ففي المنطق التقليدي يستحيل أن تجتمع صيغة التقرير المُطلق (cathegorical mood) مع صيغة الأمر (imperative). ولكنَّ كانْت يذهب إلى أنَّ هنالك قضايا مُعينة مُتعلقة بما يجِب أن يكون، يمكن أن تكون غير مشروطة، وهي تلك التي يُسمِّيها أوامر مُطلقة، وهكذا يرى أنَّ المبدأ الأسمى للأخلاق يتمثَّل في الأمر المُطلق الآتي: اسلك دائمًا بحيث يمكن أن تكون المبادئ المُوجِّهة للإرادة قانونًا كليًّا شاملًا. والواقع أنَّ هذه العبارة الصارمة إنما هي تعبيرٌ آخر، بطريقةٍ استعراضية مُعقدة، عن القول المأثور: أحِبَّ لأخيك ما تُحِبُّ لنفسك. أي أنه مبدأ يُنكر عدالة استثناء المرء لنفسه أو دفاعه عن أيِّ موقفٍ خاصٍّ به وحدَه.

لقد لاحظْنا أنَّ الأمر المُطلق الذي ترتكز عليه الأخلاق عند كانْت هو مبدأ صوري أو شكلي، وبهذا الوصف يستحيل أن يكون مُنتميًا إلى ميدان العقل النظري، ما دام هذا العقل مُنصبًّا على الظواهر. ويستنتج كانْت من ذلك أنَّ الإرادة الخَيِّرة، التي تتحدَّد بهذا الأمر المُطلق، ينبغي أن تنتمي إلى عالم الأشياء في ذاتها. وهنا تتَّضح لنا أخيرًا وظيفة الشيء في ذاته. فالظواهر تتطابق مع المقولات، وبخاصَّة مقولة العِلَّة والمعلول، أما الأشياء في ذاتها فلا تخضع لمِثل هذه القيود. وعلى هذا النحو يتمكن كانْت من التخلُّص من مأزق الإرادة الحُرَّة في مقابل الحتميَّة، فبقدْر ما يكون الإنسان مُنتميًا إلى عالم الظواهر، يخضع لقوانينه الحتمية. ولكنَّ الإنسان، من حيث هو فاعل أخلاقي، ينتمي إلى عالم الشيء في ذاته، ومِن ثَم فلدَيه إرادة حُرة. والواقِع أنَّ هذا حلٌّ بارع حقًّا، وإنْ كان مصيره يتحدَّد تبعًا لمصير فكرة الشيء في ذاته، بحيث ينهار إذا انهارت هذه الفكرة.

إن الأخلاق عند كانْت تنطوي على عنصرٍ صارم من الاستقامة الكالفينية. ذلك لأنَّ من الواضح في هذه الأخلاق أنَّ الشيء الوحيد الذي له أهمية هو أن يكون سلوكنا نابعًا من المبادئ الصحيحة. وتبعًا لهذا الرأي يكون استمتاعُك بالشيء الذي تكون مُلزمًا، من الوجهة الأخلاقية، بعمله، يكون هذا الاستمتاع عقبةً فعلية في وجه السلوك الأخلاقي. فإذا كنتُ أحبُّ جاري، وأشعُر تبعًا لذلك بالمَيل إلى مساعدته في وقت الشدَّة، عندئذٍ لا يكون لهذا الفعل، وفقًا لمبدأ كانْت، نفس القيمة الأخلاقية التي تكون للقيام بعملٍ طيِّب مُماثل تجاه شخصٍ سمِج مكروه تمامًا، وبذلك تتحوَّل المسألة كلها إلى مجموعة من الواجبات الثقيلة غير السارَّة، التي نؤديها، لا بناءً على رغبة، بل بناء على مبدأ. أما الفاعل فهو الإرادة الخَيِّرة، التي تعدُّ هي وحدَها الخَيِّرة بلا قَيدٍ أو شرط.

وبالطبع فإنَّ من الصحيح تمامًا أننا ينبغي أن نمتنِع عن الانقياد للمُيول الوقتية. وهناك ظروف كثيرة نتصرَّف فيها فعلًا بدافع المبدأ، حتى لو كان هذا المبدأ مُتعارضًا مع رغباتِنا المباشرة. ومع ذلك يبدو من الأمور الشاذَّة أن يكون من الضروري فرْض مِثل هذا الحصار على كلِّ أفعال الإنسان. ويجُوز أنَّ اعتقاد كانْت بهذا الرأي كان راجعًا إلى أنَّ حياته اتَّسمَت في عمومها بطابع نظَري إلى أبعَدِ حد، ولولا ذلك لجاز أن يخطر ببالِه أنَّ في ميدان المشاعر الخاصَّة أمورًا كثيرة يحقُّ لنا أن نعُدَّها خيرًا، دون أن يكون من الممكن تحويل أيٍّ منها إلى قانون عام. ولكن من الممكن أن يُوجَّه إلى الأخلاق الكانْتية أعراضٌ أهمُّ من ذلك بكثير. فإذا كان المُعوَّل كله على الحالة الذهنية أو القصد، فعندئذٍ تستطيع أن تُوقِع نفسك في مآزِقَ لا مَخرج منها، وكل ما عليك هو أنْ تشعُر بأنَّ ما فعلتَه واجبٌ عليك. أما النتائج السيئة التي قد يؤدي إليها فِعلك فلا قيمةَ لها على الإطلاق.٤ ولو كان سقراط قد حاوَرَ واحدًا من أنصار هذه الأخلاق، لكان من حقِّه أن يُحذِّره من أنَّ الجهل إنما هو شَرُّ الخطايا.

أما عن الوظيفة الأخلاقية للشيء في ذاته، فإنها تَجرُّ وراءها بعض النتائج الأخرى؛ فقد بيَّن كانت في «نقد العقل الخالص» أنَّ من المستحيل في إطار العقل النظري، إثباتَ وجود الله بالحُجَّة العقلية. غير أنَّ النشاط التأمُّلي للعقل الخالص يترُك بالفعل مجالًا لفكرة وجود الله. ولكنَّ العقل العمَلي هو وحدَه الذي يُزوِّدنا بأساسٍ عقلي لهذا الاعتقاد. بل إنَّنا في الواقع مُلزَمون، في المجال العملي، بقَبول هذه الفكرة ما دام من المستحيل بدونها أن يُوجَد نشاط أخلاقي بالمعنى الصحيح. ذلك لأنه يرى أنَّ إمكان السلوك بناء على الأمر المُطلق للقانون الأخلاقي يلزَم عنه، من الناحية العملية، أن يكون الله موجودًا.

ويمكن القول إنَّ نظرية كانْت ترسُم، على نحوٍ ما، خطًّا فاصلًا يُذكرنا بوليَم الأوكامي. ذلك لأنَّ ما يأخُذه كتاب «نقد العقل الخالص» على عاتقِه هو أن يضع للمعرفة حدودًا من أجل إفساح المجال للإيمان. فوجود الله لا يمكن معرفته كحقيقةٍ نظرية، ولكنه يفرِض نفسه بوصفِه إيمانًا بناءً على أسبابٍ عملية، مع ضرورة أن نأخُذ بعَين الاعتبار مَعنيَي النظري والعملي اللذين أوضحناهما من قبل. ومع ذلك فإنَّ الأخلاق التي قال بها كانْت لم تترُك له مجالًا للتقيُّد بأية عقيدةٍ دينية جامدة. ذلك لأنَّ ما له أهمية بحقٍّ إنما هو القانون الأخلاقي، أما التعاليم المُحدَّدة الجامدة للعقائد فتُنسَب عن غير حقٍّ إلى مصدر إلهي. وهكذا، فعلى الرغم من أنَّ كانْت قد اعتقد أنَّ المسيحية هي العقيدة الوحيدة المُتمشِّية مع القانون الأخلاقي، فإنَّ آراءه في الدِّين قد أدَّت بالحكومة البروسية إلى أن تفرض عليه حظرًا رسميًّا.

ومن الآراء الأخرى التي نادى بها، ولم تَقِلَّ عن هذه سبقًا لزَمَنِها، آراؤه في السلام والتعاون الدولي كما عرَضَها في كُتيبٍ بعنوان «السلام الدائم» نُشر في عام ١٧٩٥م. ومن الأفكار الرئيسية التي اقترحها في هذا الكُتيِّب، قيام حكومة نِيابية، واتحاد عالمي بين الدول، وهما فكرتان ما أحرانا بأن نَذكُرهما في عصرنا هذا.

لقد قدَّمت فلسفة كانْت، كما رأيْنا، نوعًا من الإجابة عن مشكلة هيوم، ولكن على حساب إدخال فكرة الأشياء في ذاتها. ولذلك بادر خلفاء كانْت في الحركة المِثالية الألمانية إلى الكشْف عن نِقاط الضعف في هذا التصوُّر، وإنْ كانت التطوُّرات التي أدخلوها هم أنفسهم على نظرية المعرفة تتعرَّض بدورها للنقد.

لقد كان فِكر الماديين وسيلةً من وسائل تجنُّب الثنائية؛ إذ نظروا إلى العقل على أنه ظاهرة ناتجة عن أشكالٍ مُعينة لتنظيم المادة العضوية. أما الوسيلة الأخرى فهي أنْ تَقلِب الآية، وتنظر إلى العالم الخارجي على أنه نِتاج للعقل بمعنًى ما، ولقد كان إصرار كانْت على الأشياء في ذاتها تعبيرًا عن عدَم رغبته في اتِّخاذ هذه الخطوة الأخيرة. أما فشته Fichte فقد اتَّخذَها عن وعي.
ولد فشته (١٧٦٢–١٨١٤م) في ظروفٍ عائلية يغلب عليها الفقر، وتعهَّدَه راعٍ كريم طوال فترة تعليمه المدرسي والجامعي، وفيما بعدُ أصبح مُدرسًا خصوصيًّا يعيش على حافة الفقر. وحين وقعَتْ في يدِه كتابات كانْت تَوجَّه على الفور للبحث عن الفيلسوف الكبير، الذي ساعدَه على نشر دراسةٍ نقدية عن الوحي، وقد أحرزَت هذه الدراسة نجاحًا فوريًّا، وأصبح فشته أستاذًا في يينا Jena غير أنَّ آراءه في الدِّين لم تلقَ القبول لدى السلطات، فغادر هذه المدينة إلى برلين، والتحقَ بالسلك الحكومي. وفي عام ١٨٠٨م أصدر كتابه الشهير «نداءات إلى الأمَّة الألمانية»، الذي ناشد فيه الألمان ككُل أن يُقاوموا نابليون. وقد اتَّخذت القومية الألمانية في هذه النداءات صورةً حادَّة بقدرٍ ما. ففي رأي فِشته أنَّ «كون المرء أخلاقيًّا وكونه ألمانيًّا هما شيء واحد». وليس من الواضح تمامًا إنْ كان قد اعتقد أنَّ هذه حقيقة تجريبية أم أنها تعريف لفظي صحيح. ولكن الأولى مسألة فيها نظَر، أما إنْ كانت تعريفًا فسوف يتَّفِق معي القارئ على أنَّ في هذا التعريف قدرًا من الشذوذ!

وعندما أُسِّست جامعة برلين في عام ١٨١٠م، أصبح فشته أستاذًا فيها، وظلَّ مُحتفظًا بهذا المنصب حتى وفاته. وحين نشبت حروب التحرير عام ١٨١٣م، أرْسَل تلاميذه ليحاربوا ضدَّ الفرنسيين. والواقع أنه شأنه شأن الكثيرين، كان مُتحمِّسًا للثورة الفرنسية، ولكنه كان مُعاديًا للتشويه الذي طرأ عليها على يدِ نابليون.

ولقد استبقَ فشته، في تفكيره السياسي، بعض المفاهيم الماركسية المُتعلقة ببناء اقتصادٍ اشتراكي تُسيطر فيه الدولة على الإنتاج والتوزيع، ولكنَّ الأمر الذي له أهمية فلسفية أكبر، من وجهة نظرِنا ها هنا، هو مذهبه في الأنا، الذي كان الهدَف منه الردُّ على ثُنائية كانْت، فالأنا، الذي يُناظر في جوانب مُعينة فكرة وحدة الوعي الذاتي عند كانْت، هو كيان فعَّال يتَّسِم بالاستقلال الذاتي بالمعنى الذي حدَّده كانْت، أما عالم التجربة فهو نوع من الإسقاط اللاواعي للأنا، يُسمِّيه باللاأنا، ونظرًا إلى أنَّ هذا الإسقاط غير واع، فإننا نتصوَّر خطأً أنَّ هناك عالمًا خارجيًّا مفروضًا علينا، أما عن الأشياء في ذاتها فإنَّ مُشكلتها لا يمكن أن تنشأ أصلًا، لأنَّ ما نعرفه ليس إلا ظواهر. والواقع أنَّ الكلام عن الأشياء في ذاتها مُناقض لذاته، وهو أشبَهُ بمعرفة ما لا يمكن — حسب تعريفه — أن يُعرَف. غير أنَّ عملية الإسقاط ليستْ غير واعيةٍ فحسب، بل هي أيضًا غير مشروطة. ولمَّا كانت لا تدخل في نطاق تجربتنا، فإنها لا تتحدَّد بمقولة السببية. إنها تنبثِق، بوصفِها عملية حُرة، من الطبيعة العملية والأخلاقية للأنا، حيث ينبغي أن تُفهَم كلمة العملية، بمعناها الاشتقاقي. فبهذه الطريقة يكون للمبدأ الفعَّال الذي يشيع في الأنا مهامُّ يقوم بها في التعامُل مع إسقاطه الخاص.

هذه النظرية التي تتَّسِم بقدرٍ من الروح الخيالية تتجنَّب بالفعل صعوبات مذهب الثنائي، وكما سنرى فيما بعد، فإنها استَبَقَت المذهب الهيجلي، ومن نتائج هذه النظرية أنها تجعل من الممكن نسْج العالم من الأنا، وهذا ما حاولَه بالفعل شلنج Schelling في أول الأمر، ومنه استوحى هيجل فلسفته الطبيعية فيما بعد.
كان شلنج (١٧٧٥–١٨٥٤م)، مثل هيجل والشاعر الرومانتيكي هولدرلن Holderlin من أصل شقابي Swabian،٥ وقد أصبح هذان الأخيران صديقَين له عندما التحق بجامعة توبنجن في سنِّ الخامسة عشرة. وكان المصدران الرئيسيَّان اللذان أثَّرا فيه، من الوجهة الفلسفية، هما كانْت وفشته. وقد تمكن بفضل ذكائه المبكر ورشاقة أسلوبه الأدبي من الحصول على كرسي الفلسفة في يينا قبل أن يبلغ الثالثة والعشرين. وهناك عرَف الشاعرين الرومانتيكيَّين تيك Tieck ونوفالس Novalis، كما عرف الأخوَين شليجل Schlegel: فريدرش Friedrich وأوجست August وقد قام هذا الأخير، بالاشتراك مع تيك، بترجمة شيكسبير إلى الألمانية. وعندما انفصل عن زوجته بالطلاق تزوَّجها شلنج، على الرغم من أنه كان يصغُرها باثني عشر عامًا، وقد كان شلنج مُهتمًّا بالعالم مُتابعًا لآخِر تطوُّراته. وقبل أن يبلغ الخامسة والعشرين كان قد نشر كتابه «فلسفة الطبيعة» الذي أخذ على عاتقه فيه أن يُقدِّم تفسيرًا قبليًّا للطبيعة. ويُلاحَظ أن شلنج لم يتجاهل الوضع الفعلي للعلم التجريبي في محاولته هذه، وإنما اعتقد أنه لا بدَّ أن يكون من الممكن، لاحقًا، استنباط هذه الكشوف العلمية من المبادئ الشديدة العمومية، التي لا تتَّسِم بالطابع التجريبي. ويستطيع المرء أن يتبيَّن في هذه المحاولة ملامح من المذهب العظلي عند اسبينوزا، مُقترنًا بفكرة الفاعلية عند فشته؛ ذلك لأنَّ شلنج ينظر إلى العالم الذي يحاول استنباطه على أنه عالم فعَّال، على حين أنَّ عالَم العلم التجريبي بدا له جامدًا خامدًا. وقد تابعَه هيجل فيما بعدُ في منهجه هذا. ولا شكَّ أن مثل هذه التأمُّلات الأثيرية في المسائل العلمية تبدو للقارئ الحديث أمرًا يكاد يكون مُستحيل الفهم؛ ففي هذه المناقشات الكثير من اللغو اللفظي الفارغ، وفيها قدْر كبير من التفاصيل التي تبدو بالفعل مضحكة. ولقد كان هذا أحد الأسباب التي أساءت إلى سمعة الفلسفة المثالية فيما بعد.
ولكن الشيء المُلفت للنظر هو أن شلنج ذاته أصبح في سنواته المتأخرة يرفض هذا النوع من التفلسُف. فبعدَ مرحلته المبكرة، تحوَّل اهتمامه إلى الصوفية الدينية، وكانت زوجته الأولى قد تُوفِّيت، كما وقعتْ بينه وبين هيجل قطيعة. وعندما دُعِي في عام ١٨٤١م إلى كتابة مقدمة للترجمة الألمانية لأعمال الفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزان V. Cousin، اغتنم الفرصة ليشنَّ حملة شَعواء على فلسفة هيجل الطبيعية. صحيح أنه لم يذكُر أسماء، وأنَّ الذي هاجمَه كان على أية حال قد مات، غير أن مقصده كان واضحًا كل الوضوح؛ فهنا يُنكر شلنج بشدَّة إمكان استنباط الحقائق التجريبية من مبادئ قبلية، ولكن من الصعب أن نُقرِّر إن كان قد أدرك عن وعيٍ عندئذٍ أنَّ هذا الهجوم يهدم فلسفته، الطبيعية هو ذاته، مثلما يهدم نظيرتها عند هيجل.

وفي استطاعتنا أن نجد لدى كلٍّ من فشته وشلنج صورًا للمنهج الجدَلي (الديالكتيكي) كما سوف يستخدمه هيجل فيما بعد. فقد رأيْنا عند فشته كيف يُواجِه الأنا بمهمة تجاوز اللاأنا. وفي فلسفة شلنج الطبيعية نجد فكرةً أساسية هي فكرة الأضداد التي تتجمَّع في وحدة، وهي فكرة تُبشر بالجدل الهيجلي بصورة أوضح. ومع ذلك فإنَّ مصدر الجدل يكمن في قائمة المقولات عند كانْت؛ حيث أوضح أنَّ الطرف الثالث في كل مجموعةٍ هو جمع بين الأول والثاني، اللذين هما ضِدَّان. مثال ذلك أن الوحدة هي بمعنًى ما، ضدَّ الكثرة أو عكسها، على حين أن الكُليَّة تنطوي على كثرة من الوحدات، وهذا يؤدي إلى الجمع بين الفكرتَين الأُوليَين.

وعلى يد هيجل اكتسبَت الفلسفة المثالية الألمانية صورتَها المنهجية الأخيرة، وقد شاد هيجل، بناءً على لمحاتٍ أخذَها من فشته ومن شلنج في عهده المبكر، بناءً فلسفيًّا ما زالت له أهميته وفائدته، على الرغم من كل سِماته التي تفتقر إلى الصواب. وفضلًا عن ذلك فقد كان للهيجلية تأثير بعيد المدى على جيلٍ كامل من المفكرين، لا في ألمانيا وحدَها، بل في إنجلترا بدورها فيما بعد. أما فرنسا فقد ظلَّتْ على وجه العموم غير قابلة للتأثُّر بفلسفة هيجل،٦ وربما كان سبب ذلك هو الغموض الشديد للأصل، الذي يحُول دون التعبير عنه بلغةٍ فرنسية واضحة المعالم. وما زالت فلسفة هيجل حيَّة، بوجهٍ خاص، في المادية الجدلية عند ماركس وإنجلز، التي تُقدِّم إلينا في الوقت ذاته مثلًا جيدًا يكشِف عن أخطاء هذه الفلسفة.

ولد هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م) في شتوتجارت، ودرس في توبنجن في نفس الوقت الذي كان يدرُس فيه شلنج هناك. وقد اشتغل وقتًا ما بالتدريس، ثم انضمَّ إلى شلنج في يينا عام ١٨٠١. وهناك أتمَّ بعد خمس سنوات، كتابة «ظاهريات الروح» عشيَّةَ معركة يينا. وقد رحل عن المدينة قبل دخول الجيوش الفرنسية الظافرة، واشتغل مُحررًا بضع سنوات، ثم أصبح ناظرًا لمدرسة ثانوية في نورمبرج، حيث ألَّف كتاب «علم المنطق». وفي عام ١٨١٦م أصبح أستاذًا في هيدلبرج، وألَّف «موسوعة العلوم الفلسفية» وأخيرًا استُدعي لشغْل كرسي الفلسفة في برلين عام ١٨١٨م، وهو المنصب الذي ظلَّ يشغله بعد ذلك. وكان هيجل شديد الإعجاب ببروسيا، فأصبحت فلسفته هي التعاليم الرسمية للدولة.

إن كتابات هيجل من أصعب المؤلَّفات في النتاج الفلسفي بأكمله. ولا يرجِع ذلك فقط إلى طبيعة الموضوعات التي كان يُعالجها، بل يرجع أيضًا إلى الأسلوب الثقيل والرديء الذي كان يكتُب به المؤلِّف. صحيح أنَّ هناك مجازات رائعة تتناثر في كتاباته، وتبعَث الراحة في عقل القارئ، ولكنها لا تكفي للتخفيف من وقْع الغموض الذي يغلب عليها.

ولكي نحاول فهم الهدف الذي يَرمي إليه هيجل، علينا أن نعود بالذاكرة إلى تمييز كانْت بين النظري والعملي. عندئذٍ يمكن وصْف الفلسفة الهيجلية بأنها تؤكد أولوية العملي، بالمعنى الأصلي للكلمة؛ ولهذا السبب أولى اهتمامًا كبيرًا للتاريخ والطابع التاريخي لكلِّ نشاطٍ بشري. أما عن المنهج الجدَلي، الذي ترجع بعض جذوره إلى كانت وفشته وشلنج، فلا شكَّ أن هيجل قد تنبَّه إلى أهميته من إدراكه للتطوُّر الذي تسير فيه الحركات التاريخية والذي هو أشبَهُ بالأرجوحة في صعودها وهبوطها. وقد بدا له بوجهٍ خاص أن تطوُّر الفلسفة السابقة لسقراط كان يسير وفقًا لهذا النمط، كما ذكرْنا من قبل. ويرفع هيجل هذا المنهج إلى مَرتبة مبدأ للتفسير التاريخي. والواقع أنَّ المسار الجدَلي من مَطلبَين مُتضادَّين إلى نوع من الحل الوسط هو في ذاته أمرٌ مفيد غاية الفائدة، ولكن هيجل ينتقِل إلى بيان أنَّ التاريخ كان لا بدَّ أن يمرَّ بمراحله المُتباينة على أساس هذا المبدأ. وغنيٌّ عن البيان أنَّ هذا أمر لا يمكن إثباته إلا عن طريق تشويه الحقائق، فالاعتراف بنمَطٍ للأحداث التاريخية شيء، واستنباط التاريخ من هذا المبدأ شيء مختلف كلَّ الاختلاف. ولذا فإنَّ نقد شلنج يمكن أن ينطبق على هذا الميدان بقدْر ما ينطبق على فلسفة الطبيعة.

إن المنهج الجدلي يُذكِّرنا في نواحٍ مُعينة بسَعْي سقراط إلى مثال الخير، الذي يُناظره عند هيجل ما أسماه بالفكرة المطلقة؛ فكما أنَّ الجدل السقراطي يؤدي في النهاية، بعد تفنيد الفروض الخاصة، إلى صورة الخير، فكذلك يصعَد الجدل الهيجلي إلى الفكرة المطلقة. وقد شرح هيجل هذه العملية في كتابِه عن المنطق، وهو شرْحٌ قد نقتنع به أو لا نقتنع. وينبغي ألا يَغيب عن أذهاننا أنَّ المنطق عند هيجل مرادف في الواقع للميتافيزيقا. وهكذا يندرج تحت المنطق عرْض للمقولات التي تنسج الواحدة من الأخرى في عمليةٍ ديالكتيكية تنتقل من الوضع Thesis إلى نقيضه Antithesis ثم إلى المُركَّب Synthesis. ولا شكَّ أنَّ هذه الفكرة مُستوحاة من مناقشة «كانْت» للمقولات. وقد كانت نقطة البداية في العرْض الذي قدمه هيجل، شأنه شأن «كانْت»، هي مقولة الوحدة، ولكن هيجل سار بعد ذلك في طريقه الخاص، وشيَّد سلسلةً طويلة، اعتباطية إلى حدٍّ ما، من المقولات، حتى وصل إلى الفكرة المطلقة، وعند هذه المرحلة نكون قد دُرْنا دورةً كاملة وعُدنا إلى الوحدة. ولقد نظر هيجل إلى هذا على أنه ضمان للاكتمال ولسلامة البُرهان، والواقع أنَّ الفكرة المطلقة تتكشَّف بوصفِها أرفع أمثلة الوحدة، أي تلك التي تُستَوعَب فيها جمع الاختلافات.

أما العملية الجدلية التي تؤدي إلى المطلق، فإنها تساعدنا على اكتساب فَهمٍ أفضل لهذه الفكرة المُعقدة. ولا شكَّ أن تقديم شرحٍ لهذه العملية بلُغة بسيطة هو أمر يتجاوز قدرة هيجل، وقدرة أي شخصٍ آخر. ولكن هيجل يعود هنا مرة أخرى إلى واحدٍ من تلك الأمثلة الإيضاحية التي تحتشد بها مؤلفاته؛ فهو يشرَح الفارق بين شخصٍ لا ترتكز فكرة المطلق عنده على معرفةٍ بالمسار الجدلي، وآخَر مرَّ بهذا المسار، فيُشبِّهه بدلالة الصلاة بالنسبة إلى طفل، ودلالتها لرجلٍ عجوز؛ فكلاهما يتلو الألفاظ نفسها، ولكنها عند الطفل لا تعني أكثر من مجموعةٍ من الأصوات، على حين أنها تُثير لدى العجوز تجاربَ عمرٍ كامل.

وهكذا يُنادي المبدأ الجدلي بأنَّ المطلق، الذي يصل فيه المسار إلى نهايته، هو الحقيقة الوحيدة. وفي هذه الفكرة كان هيجل مُتأثِّرا باسبينوزا. ويترتَّب على ذلك أنَّ أي جزءٍ من الكلِّ ليست له في ذاته حقيقة أو معنى فعَّال، بل إنه لا يكتسِب معناه إلا إذا ارتبط بالكون بأكمله. ويبدو على هذا الأساس أنَّ القضية الواحدة والوحيدة التي ينبغي أن نُغامر بالتصريح بها هي أنَّ الفكرة المُطلقة حقيقة. فالكل وحدَه هو الحقيقي، وأي شيء جزئي لا يمكن أن تكون له إلا حقيقة جزئية. أما لو بحثْنا عن تعريفٍ للفكرة المطلقة عند هيجل، لوجَدْناه من الغموض بحيث يغدو أمرًا لا جدوى منه. غير أنَّ المقصود منها بسيط للغاية. فالفكرة المطلقة، عند هيجل، هي الفكرة التي تُفكِّر في ذاتها، وهذا مفهوم ميتافيزيقي يُناظِر في نواحٍ مُعيَّنة إلهَ أرسطو، الذي هو كيانٌ مُنعزل غير معروف، مُغلَّف بفكرِه الخاص، وفي نواحٍ أخرى يُذكِّرنا هذا المفهوم بإله اسبينوزا، الذي كان هو والكون شيئًا واحدًا. والواقع أنَّ هيجل، مثل اسبينوزا، يرفُض أيَّ نوعٍ من الثنائية. فهو يبدأ مثل فشته، من العقلي، ومن ثَمَّ فإن حديثه يدور حول الفكرة.

ويطبق هيجل هذه النظرية الميتافيزيقية العامة على التاريخ. وليس ممَّا يدعو إلى الاستغراب أن نجد هذه النظرية تُلائم أنماطًا عامَّة مُعينة في هذا الميدان؛ إذ إنَّ هيجل إنما استمدَّ المبدأ الجدلي، في الواقع، من التاريخ. غير أنَّ العرْض التفصيلي للأحداث الخاصة ينبغي، كما رأينا، ألَّا يلتمِس بهذه الطريقة القبلية. كذلك فإنَّ المسار نحو المطلق في التاريخ يُتيح له فرصةً لتقديم بعض الدِّعايات القومية التي تتَّسِم بقدرٍ كبير من الفَجاجة؛ إذ يبدو في نظرِه أنَّ التاريخ قد وصل إلى مرحلته النهائية في الدولة البروسية كما كانت قائمةً في عصر هيجل. هذه هي النتيجة التي ينتهي هيجل إليها في فلسفة التاريخ. ولا شكَّ أنَّنا لو تأمَّلنا الأمر بمنظورنا الحالي لبدا لنا أن الفيلسوف الجدلي العظيم في استنتاجه هذا كان مُتسرِّعًا إلى حدٍّ ما.

ويؤدي هذا النمط نفسه من الحُجج إلى إيثار هيجل لدولةٍ تُنظَّم بطريقةٍ شمولية. فتطوُّر الروح في التاريخ هو قبل كلِّ شيءٍ مهمة الألمان، في رأي هيجل، ذلك لأنَّ الألمان هم وحدَهم الذين تفهَّموا الحُرية بنطاقها الكُلي الشامل، على أنَّ الحرية ليست مفهومًا سلبيًّا، وإنما ينبغي أن ترتبِط ببناءٍ قانوني ما، وهو ما يمكن أن نتَّفِق فيه مع هيجل. ولكن هذه القضية لا يترتَّب عليها القول بأنه حيثما يُوجد القانون تُوجد الحرية، كما يبدو أن هيجل يعتقد بالفعل؛ إذ لو كان الأمر كذلك، لكانت «الحرية» مرادفةً لإطاعة القانون، وهو معنًى يختلف إلى حدٍّ ما عن معناها الذي اعتدْناه، ولكن هناك في الوقت ذاته لمحة عظيمة القيمة في فكرة هيجل عن الحرية. فالشَّخص الذي يقوم عادة بضرْب رأسه في جدارٍ من الطوب، لأنه لا يريد الاعتراف بأنَّ قوالب الطوب أكثر صلابةً من الجماجم، يمكن أن يُوصَف بالمُثابرة، ولكن ليس بأنه حُر. وبهذا المعنى تكمُن الحرية في الاعتراف بالعالم على ما هو عليه بدلًا من تعليل النفس بالأوهام؛ أعني أنها تكمُن في إدراك الاتجاه الذي تسير فيه الضرورة، وهي فكرة ألمَحَ إليها هرقليطس، كما رأيْنا من قبل.٧ ولكن عندما يكون الأمر مُتعلقًا بالقوانين الخاصة السائدة في بروسيا، فلا يبدو هناك أي سببٍ للقول إنَّ هذه القوانين ينبغي أن تكون ذات ضرورةٍ منطقية؛ ذلك لأنَّ وصفَها بهذا الوصف، كما يميل هيجل على أن يفعل، إنما يفرض على المواطن الأعزل البريء، طاعةً عمياء لأوامر بلدِه، بحيث تُصبح حُريته هي أن يفعل ما يؤمَر به.٨
وقد استُوحي المنهج الجدلي من سِمةٍ أخرى نشأت عن ملاحظة للتاريخ، ذلك لأنه يؤكد عُنصر الصراع بين قوى مُتعارِضة. ولقد كان هيجل، مثل هرقليطس، يُضفي قيمةً كبيرة على الصراع والنزاع. وهو يذهب إلى حدِّ القول بأنَّ الحرْب أرفع أخلاقيًّا من السلم. فلو لم يكن للأُمَم أعداء تُحارب ضدَّهم، لدبَّ فيها الضَّعف والانحلال الخُلقي. وواضحٌ أن هيجل يعمل هنا حسابًا لقول هرقليطس إنَّ الحرْب هي أمُّ الأشياء جميعًا. وقد رفض فكرة كانْت المتعلقة باتِّحادٍ عالمي، كما عارَض الحِلف المقدس الذي انبثق عن مؤتمر فينا. ويمكن القول إنَّ مناقشته للسياسة والتاريخ قد تعرَّضَت بأسرِها للتشويه نتيجةً لاهتمامه الأُحادي الجانب بالتاريخ السياسي، وهو في هذا يفتقر إلى نظرة فيكو الواسعة التي جعلتْه يُدرك أهمية الفنون والآداب. فما كان في وسع هيجل أن يتوصَّل إلى النتيجة القائلة إنَّ وجود الأعداء الخارجيين ضروري لكي تكتسِب الأمة صحَّةً معنوية وأخلاقية؛ إلا من منظورٍ سياسي بالمعنى الضيِّق. أما لو اتَّخذ المرء منظورًا أرحبَ من ذلك، لاتَّضح له أن في أي مُجتمع معين عناصر كثيرة تُتيح مجالًا واسعًا للتنفيس عن رُوح القتال الصحيَّة لدى المواطنين. والواقع أنَّ الرأي القائل بأنَّ الخلافات بين الأمم ينبغي أن تُحلَّ عن طريق الحرب إنما يفترِض استحالة قيام عقدٍ اجتماعي بينها، وأنَّ مُعاملاتها المُتبادلة ينبغي أن تظلَّ في حالة الطبيعة غير المُتحضرة؛ حيث يكون للقوَّة وحدَها وزن. وفي هذه الناحية كانت بصيرة كانْت، أعمقَ بكثيرٍ من هيجل، وذلك لأنَّ عصورنا الحالية أثبتَت أنَّ الحرب تؤدي في النهاية إلى دمارٍ شامل، وهذا الدمار الشامل يعني بالفعل بلوغ ذروةٍ جدلية لا بدَّ أن تُرضي أشدَّ دُعاة الهيجلية تحمُّسًا.٩
ومن الغريب حقًّا أن نظرية هيجل في السياسة والتاريخ لا تنسجِم حقيقةً مع منطقه الخاص؛ ذلك لأن الكليَّة التي تصِل إليها العملية الجدلية ليستْ مُماثلةً للواحد، عند بارمنيدس، الذي هو مُتجانس لا تنوُّعَ أو تَمايُز فيه، بل إنها ليستْ مُماثلة لإله اسبينوزا الذي كان هو ذاته الطبيعة، والذي يزداد فيه الفرد توحُّدًا مع الكون حتى يندمج فيه آخِر الأمر؛ ذلك لأن «هيجل» على العكس من ذلك، يفكر على أساس الكلِّ العضوي، وهي فكرة كان لها تأثيرها فيما بعدُ في فلسفة ديوي. وتبعًا لهذا الرأي، لا يكتسِب الفرد حقيقته الكاملة إلَّا من ارتباطه بالكل، مثلما ترتبط أجزاء الكائن العضوي. وربما خطر ببال المرء أنَّ هذا كان خليقًا بأن يُؤدي بهيجل إلى قَبول الفكرة القائلة بوجود مؤسَّساتٍ متنوعة داخل الدولة، ولكنه لا يقبل أي شيء من هذا القبيل؛ فالدولة هي السلطة الوحيدة الطاغية. ولقد كان من الطبيعي بالنسبة إلى هيجل، بوصفه بروتستانتيًّا صالحًا، أن يُنادي بسيطرة الدولة على الكنيسة، لأنَّ هذا يضمن الطابع القومي لتنظيم الكنيسة، أما بالنسبة إلى كنيسة روما فقد وقف هيجل منها موقف المُعارَضة بسبب ما يُعدُّ في الواقع ميزةً أساسية فيها بغضِّ النظر عن كافة الاعتبارات الأخرى، وهي كونها هيئةً دولية. كذلك لم يترُك هيجل مجالًا للسَّعي المُستقل من أجل تحقيق اهتماماتٍ عضوية منظمة داخل المجتمع، على الرغم من أنه كان ينبغي، وفقًا لرأيه العضوي، أن يُرحِّب بأوجه النشاط هذه. أما عن البحث النزيه أو ممارسة الهوايات، فهذه لا يمكن قبولها. ولكن على أيِّ أساس لا يسمح مثلًا لهواة جمع طوابع البريد بأن يتجمَّعوا في نادٍ لا هدف له إلا مُتابعة اهتمامهم المُشترك بجمع الطوابع؟ من الجدير بالملاحظة أنَّ التعاليم الماركسية الرسمية.١٠ تحتفظ بقدرٍ كبير من الهيجلية في هذه الناحية، فجميع أوجه النشاط يُنظَر إليها على أنها تخدُم مباشرةً مصلحة الدولة. فإذا كانت هناك جمعية لهواة الطوابع، في ظلِّ النظام، لا تنظر إلى عملِها على أنه يساعد على تمجيد الثورة الاشتراكية، فإنَّ أعضاءها سيجدون أنفسهم مَمنوعين بحزْمٍ من جمْع الطوابع أو من أيِّ شيءٍ آخر.

وهناك عدَم اتِّساق بين نظرية هيجل السياسية ومذهبه السياسي في مسألةٍ أخرى هامة. ذلك لأن التطبيق الدقيق لمبدئه الجدلي كان لا بدَّ أن يكشف له عن عدم وجود سببٍ يحُول دون قيام تنظيم معنوي بين الأمم، على نحوٍ قد يكون مماثلًا لما اقترحه «كانْت»، ولكن حقيقة الأمر هي أنَّ المطلق في السياسة يبدو أنه هو مملكة بروسيا. ولا شكَّ أن استنباطه لهذه النتيجة باطل. صحيح أنَّ المرء لا يستطيع أن يُنكر أنه كان هناك أناس يؤمنون، بنيَّةٍ طيبة، بهذه القضية. ولكن إذا كان الإيمان بأمورٍ كهذه يبعث الراحة في نفوس بعض الناس، فإنَّ ممَّا يتعارض مع الفكر السليم أنْ نعلن أن هذه القضايا مبادئ يُمليها العقل. فبهذا المنهج يستطيع المرء أن يلتمِس أعذارًا زائفة لكلِّ التحيُّزات والفظائع التي تُرتكب في عالمنا ويصبح الأمر كله شيئًا هيِّنًا إلى أبعد حد.

والآن، لنعُد إلى الجدل، الذي هو بحقٍّ الفكرة المركزية في مذهب هيجل. لقد لاحظْنا من قبلُ أن الخطوة الجدلية تنطوي على ثلاث مراحل؛ أُولاها قضيةٌ ما، ثم قضية مُناقضة تُعارضها، وأخيرًا يتجمَّع الاثنتان في تنظيمٍ مركَّب. ولنقدِّم مثلًا بسيطًا يوضِّح ذلك. قد يقول شخصٌ ما إنَّ الذهب قيِّم، فيُعترَض عليه بالقضية المُضادة القائلة إن الذهب ليس قيِّمًا. وعندئذٍ قد يتمُّ التوصُّل إلى المركَّب بالقول إنَّ قيمة الذهب تتوقَّف على الظروف. فإذا كنتَ في شارع أكسفورد،١١ حيث تجِد أناسًا على استعدادٍ لإعطائك مأكولات في مُقابل ذهبك، فعندئذٍ يكون الذهب قيِّمًا. أما إذا كنتَ تائهًا في الصحراء حاملًا كيسًا من الذهب، وكنتَ في حاجةٍ إلى الماء، فعندئذٍ لا تكون للذهب قيمة. وهكذا يبدو أنَّ من الضروري عمل حساب الظروف في كل حالة، وربما لم يكن هذا المثَل ليلقى موافقةً من هيجل، ولكنه يخدُم أغراضنا في هذا المجال. على أنَّ الفكرة التي يؤكِّدها هيجل هي أنَّ المركَّب يُصبح قضية جديدة، وتبدأ العملية الجدلية ذاتها من جديد، وهكذا دواليك حتى نصِل إلى الكون بأكمله. والفكرة من وراء هذا كلِّه هي أنَّ الدلالة الكاملة لأيِّ شيءٍ لا تظهر إلا عندما ينُظَر إليه في جميع ارتباطاته المُمكنة، أي في وضعه داخل العالم ككُل.

وهنا ينبغي أن نطرح مجموعةً من التعليمات. أولها يتعلَّق بالمحتوى التاريخي للجدَل. فمِن الصحيح كلَّ الصحة أنَّ هناك حالاتٍ توجَد فيها مطالب يستحيل التوفيق بينها، ويتم تَسويتها عن طريق نوعٍ من الحلول الوسطى، فقد أقول مثلًا إنَّني لا أرغب في دفع ضريبة الدخل، على حين أنَّ مصلحة الضرائب تتَّخِذ بالطبع الموقف المُضاد وتُصرُّ على أن تأخذ كلَّ شيء. وأخيرًا نصِل إلى نوعٍ من الحل الوسط الذي يُرضي كلا الطرفَين إلى حدٍّ ما. وهذا شيء لا غموض فيه على الإطلاق. وينبغي ملاحظة أنَّ الحل الوسط لا ينشأ عن مَطلبين مُتناقِضين، بل عن مطلبَين مُتضادَّين. وهذه النقطة المنطقية تحتاج إلى بعض الإيضاح. فالقضيَّتان تكونان مُتناقضتَين إذا كان صِدق إحداهما يستلزِم كذِبَ الأخرى، والعكس بالعكس. أما القضيَّتان المُتضادَّتان فمِن الممكن أن تكونا معًا كاذبتَين وإن لم يكن من الممكن أن تكونا معًا صادقَتَين. وهكذا نجد في المثال السابق أنَّ الحل الوسط يُخالف كلا المطلبين المُتعارِضين معًا. والشيء الذي يجعل الجدل يُمارِس عمله في الحالات التاريخية الفعلية هو أنَّ من الممكن في حالات كثيرة التوصُّل إلى نوعٍ من الاتفاق بناءً على مطالب متعارضة. وبالطبع فإنْ لم يكن لدى الطرفَين الصبر الكافي للوصول إلى صيغةٍ مقبولة، فمن الممكن أن تصبح اللعبة أشدَّ عنفًا، وفي النهاية يربح الطرف الأقوى ويترك الخاسر في الميدان. وفي هذه الحالة قد يُنظَر إلى المطالب المتعارضة فيما بعد على أنها مطالب مُتناقضة، ولكن هذا لا يحدُث إلا فيما بعد، لأنَّ وقوعه ليس محتومًا، فحين يكون لدى المواطن ولدى سلطات الدولة رأيان مُتعارضان عن الضرائب، لا يكون أحدهما مُضطرًّا إلى إبادة الآخر.

وثانيًا، من المُلاحَظ أنَّ التطوُّر الثقافي يسير وفقًا لنموذجٍ مماثل. وفي هذه الناحية يرتدُّ الجدَل إلى تبادُل السؤال والجواب في محاورات أفلاطون. وهذه بالضبط هي الطريقة التي يعمل بها الذِّهن حين تعترِضه مشكلة. إذ يُعرَض موقفٌ ما، وقد تُثار عدة اعتراضات، وخلال المناقشة إما أن يتمَّ التوصُّل إلى تسوية، عن طريق الأخذ برأيٍ أدقَّ في الموضوع، وإما أن يتمَّ التخلِّي عن القضية الأصلية، إذا بدا بعدَ إمعان الفكر أنَّ من الضروري قَبول أحد الاعتراضات. وفي هذه الحالة يمكن التوصُّل إلى حلٍّ توفيقي، سواء أكانت القضايا التي توضَع كلٌّ منها في مواجهة الأخرى مُتناقضة أم مُتضادَّة، فقضية هرقليطس القائلة إنَّ كلَّ شيء يتحرَّك، وقضية بارمنيدس القائلة أنه لا شيء يتحرَّك، هما قضيَّتان مُتضادَّتان، ولكن قد يكتفي المرء، في اعتراضه على رأي هرقليطس، بالقول إنَّ بعض الأشياء لا يتحرَّك، وفي هذه الحالة تكون القضيَّتان مُتناقضتَين. وفي كلتا الحالتَين يُمكننا التوصُّل إلى الحلِّ الوسط الذي يقول إنَّ بعض الأشياء يتحرَّك وبعضها لا يتحرَّك.

ويؤدي ذلك إلى إبراز فارقٍ هام لم يكن هيجل على استعدادٍ للاعتراف به. فالتناقُض شيءٌ لا يحدُث في المقال أو الخطاب discourse، حيث يمكن أن يكون شخصٌ مُناقضًا لشخصٍ آخر، أو بعبارةٍ أدق، حيث يمكن أن تكون قضية مُناقضة لقضيةٍ أخرى. أما في عالَم الوقائع اليومية فليس ثمَّة تناقُض. فالواقعة لا يُمكن أن تكون مناقضةً لأُخرى، أيًّا كان الرأي الذي تقول به عن العلاقة بين اللغة والعالم. وهكذا فإنَّ الفقر والغِنى ليسا مُتناقضَين، بل هما مُختلفان فحسب.

ولكن، نظرًا إلى أنَّ هيجل ينظُر إلى العالم نظرةً روحية، فإنه يتَّجِه إلى تجاهل هذا التمييز الأساسي. وفضلًا عن ذلك فمن السهل وفقًا لهذا الرأي، أن نُدرك السبب الذي يؤدي إلى تطبيق الجدَل، لا بوصفِه أداةً لنظرية المعرفة فحسب، بل أيضًا من حيث هو وصْف مباشر للعالم، ولو شِئنا أن نُعبِّر عن ذلك بلغةٍ أكثر تخصُّصًا، لقُلْنا إنَّ هيجل لا يُعطي منهجه مكانة إيستمولوجية (متعلقة بالمعرفة) فحسْب، بل يُعطيه أيضًا مكانة أنطولوجية (متعلقة بالوجود)، وهذا هو الأساس الذي يقدِّم هيجل بمُوجبه تفسيرًا جدليًّا للطبيعة. ولقد تحدَّثنا من قبلُ عن اعتراض شلنج على هذا الجدل. ولكنَّ الماركسيين قد تبنَّوا هذا الهراء بكامله، فيما عدا أنهم وضعوا المبادئ المادية التي قال بها «لامتري» محلَّ تأكيد هيجل المُتحيِّز لجانب العقل.

وهناك مظهر غريب آخَر للتحيُّز، ينبثِق عن المنهج الجدلي، هو ولَع هيجل بالرقم ثلاثة، إذ يبدو أنَّ كلَّ شيءٍ يخضع لهذا الرقم لمجرد أنَّ قوام الجدل هو تلك الخطوات الثلاث، الوضع ونقيضه والمركَّب، وهكذا فكلَّما احتاج شيءٌ ما إلى تقسيم، وجدْنا هيجل يُقسِّمه إلى ثلاثة، ففي العرض الذي قدَّمه للتاريخ، مثلًا، يُميز العالم الشرقي، ثم عالم اليونان والرومان، وأخيرًا عالَم الألمان، أما الباقون فلا يكاد يعمل لهم أيَّ حساب. وبالطبع فإنَّ هذا أمرٌ مقبول إذا نُظِر إليه من زاوية التناسُق والتماثل symmetry، أما مِن حيث هو منهج للدراسة التاريخية فإنه لا يبدو مُقنعًا على الإطلاق. وبالمِثل نجد في الموسوعة، نقشًا ثلاثيًّا، يُناظِر المراحل الثلاث للروح. فهناك أولًا الوجود في ذاته، الذي ينبثِق عنه المنطق، ثم تمرُّ الروح بمرحلة خروج عن ذاتها، تكون خلالَها في حالة تغايُر، وهي المرحلة التي تُناقَش في فلسفة الطبيعة. وأخيرًا تُكمل الروح رحلة الذهاب والإياب الجدلية وتعود إلى ذاتها، وتُناظر هذه المرحلة فلسفة الروح، وينظُر هيجل إلى هذه العملية كلها على أنها مُثلَّث جدلي، ولكن هذا نوع من التنظير يُجافي العقل السليم إلى حدِّ أنَّ أنصار هيجل أنفسهم لم يعودوا يحاولون الدفاع عنه.

ولكن من واجبنا، بعد أنْ أبدَينا هذه الملاحظات النقدية، ألا نغفل عمَّا له قيمة في فلسفة هيجل، فمِن المُلاحَظ أولًا، فيما يتعلَّق بالجدل، أنَّ هيجل يُبدي هنا استبصارًا عميقًا فيما يتعلَّق بالمسارات التي يتَّبِعها العقل، إذ إنَّ العقل كثيرًا ما يسير على أساس هذا النموذج الجدلي، ويمكن القول إنَّ الجدل، من حيث هو إسهام في سيكولوجية النمو العقلي، ينمُّ، إلى مدًى مُعين، عن قُدرة على الملاحظة اللمَّاحة. وثانيًا فإن الهيجلية تؤكد أهمية التاريخ على نحو ما ألمح إليها «فيكو» قبل ذلك بقرنٍ من الزمان، غير أنَّ الطريقة التي يعرِض بها هيجل موقفه يشُوبها افتقارٌ إلى الدقَّة في استخدام الألفاظ، وربما كان هذا يرتبط بتصوُّرٍ شاعري مُعيَّن للغة ذاتها. فمثلًا حين يقول هيجل إنَّ الفلسفة هي دراسة تاريخها ذاته، ينبغي أن ننظُر إلى هذه العبارة في ضوء المبدأ الجدلي، فهيجل يقول إنَّ الفلسفة تنمو بالضرورة وفقًا للنموذج الجدلي، ومن ثم فإن دراسة الجدل، الذي هو المبدأ الأساسي في الفلسفة، تبدو مُطابقةً لدراسة تاريخ الفلسفة. ولا شكَّ أن هذا تعبير شديد الالتِواء عن الفكرة القائلة إنَّ الفهم الصحيح للفلسفة يُحتِّم معرفة شيءٍ عن تاريخها، وهو رأيٌ قد لا يوافِق عليه المرء، ولكنه قطعًا ليس لغوًا فارغًا. والواقع أنَّ هيجل كثيرًا ما كان يتلاعَب، في صياغاته، بالمعاني المختلفة للألفاظ، بل إنه كان يرى أنَّ للَّغةِ نوعًا من العقل الكامِن الذي هو أسمى من عقول من يستخدمونها. ومِن الغريب حقًّا أن هناك رأيًّا قريبًا جدًّا من هذا يقول به فلاسفة اللغة العاديُّون في أكسفورد في أيامنا هذه.

أما بالنسبة إلى الوضْع التاريخي، فقد رأى هيجل أنَّ المُطلَق في متناوَل أيدينا، لذلك كان من الطبيعي تشييد مذاهب فلسفية كانت في رأيه تأتي دائمًا بصورةٍ لاحقة، بعد أن تكون الأحداث ذاتها قد وقعَت. وقد عبَّر عن ذلك بصورةٍ بارعة إلى أبعد حدٍّ في مقدمة فلسفة القانون، حين قال: «إنَّ بُومة منيرفا لا تبدأ تحليقها إلَّا حين يحلُّ الغسق.»١٢

إنَّ الفلسفة الهيجلية تستلهِم مبدأً عامًّا يعاود الظهور على مرِّ تاريخ الفلسفة: هو أنَّ من المستحيل فهم أي جزءٍ من العالَم ما لم يُنظَر إليه في إطار الكون ككُل، ومن ثَم فإنَّ الكل هو الحقيقة الوحيدة.

هذا الرأي كان موجودًا من قبلُ لدى السابقين لسقراط. فعندما ذكر بارمنيدس أن الكون كرة ساكنة، كان يحاول التعبير عن شيءٍ من هذا القبيل، كذلك فإنَّ الفلاسفة الرياضيِّين في المدرسة الفيثاغورية أشاروا إلى هذه الفكرة تلميحًا عندما قالوا إنَّ الأشياء كلها أعداد. وفي وقتٍ أقربَ إلينا، كان إسبينوزا يُمثِّل الرأي القائل إنَّ الكل وحدَه هو الحقيقي بالمعنى المُطلَق. ثُم جاء الفيزيائيون الرياضيون فساروا في طريق التُّراث الفيثاغوري، وكان بحثُهم عن الصِّيغة الواحدة العُليا التي تُفسِّر الكون بأكملِه مدفوعًا بهذا الاعتقاد نفسه. ومِن أمثلة ذلك، التقدُّم الباهر الذي أحرزَتْه فيزياء نيوتن، والذي بلغ ذروته في نظرياتٍ كونية مثل نظرية لابلاس. على أنه ليس من الصعب أن يُثبت المرء بُطلان الفكرة المِثالية المتعلِّقة بنسَقٍ يضمُّ الكون بأسرِه. وفي الوقت ذاته فمِن الخطأ رفضها كليَّةً دون محاولة لتَبيُّن ما ترمي إليه، حتى ولو كان ذلك بطريقةٍ غامضة غير محدَّدة المعالِم.

إنَّ المسألة الهامَّة هي أنَّ مذهب المثالِيِّين يُعبِّر بطريقةٍ صحيحة، في جانبٍ مُعيَّن منه، عمَّا تطمح إليه النظرية العلمية. ذلك لأنَّ مشروع العِلم يهدف بالفعل إلى توسيع فَهمنا المنهجي للطبيعة بطريقةٍ تزداد اتِّساعًا على الدَّوام. وهكذا يُلقي الضوء على الارتباطات المُتبادَلة التي لم يكن أحدٌ ينتبِه إليها من قبل، ويدرج عددًا متزايدًا على الدوام من أحداث الطبيعة في إطار نظريةٍ تؤلِّف نسقًا متكاملًا، ولا يكون لهذا التطوُّر، من حيث المبدأ، أيُّ نهاية. وفضلًا عن ذلك فإن النظرية العلمية لا تسمح بأية استثناءات، وإنما ينبغي أن تنطبِق على نحوٍ شامل؛ فهي إما كلُّ شيءٍ وإمَّا لا شيء. وهكذا يمكن القول إن المذهب أو النسَق الذي يقول به المثالي هو نوع من المثال الأفلاطوني للعِلم ككُل، وهو عِلم إلهي كما تصوَّره ليبنتس. والواقع أنَّ ارتباط كل شيءٍ على نحوٍ ما، بكلِّ شيء هو، من بعض النواحي، حقيقةٌ مُعترَف بها، ولكن ليس من الصحيح أنَّ الأشياء تتغيَّر بارتباطها بالأشياء الأخرى. وهكذا فإنَّ تلك الطريقة في النظَر إلى العِلم ترتكِب خطأً فادحًا في هذه المسألة الثانية، وهي أيضًا على خطأ حين تحاول إظهار المسألة كلِّها وكأنها نِتاجٌ تمَّ وانتهى مع أنَّ من السِّمات المميِّزة للبحث العلمي استحالة أن تكون له نهاية. ويبدو أنَّ الموقف الهيجلي مُرتبط إلى حدٍّ كبير بالنَّزعة التفاؤلية العلمية التي سادت في الجزء الأخير من القرْن التاسع عشر، حين اعتقد الجميع أنَّ الإجابات عن جميع الأسئلة أصبحت قريبة المنال، ثم ثبَتَ فيما بعدُ أنَّ هذا وهْم، كما كان يمكن أن يَتوقَّع المرء منذ البداية.

على أنَّ من غير المُجدي أن يحاول المرء، في هذا الصدد، اللجوء إلى فكرة العلم الإلهي لتبرير موقفه. فهذا العالَم الذي نعيش فيه، أيًّا كان رأيُنا بشأنه، ليس هو الذي ينتمي إليه مثل هذا العِلم، أما العوالم الخارجة عن عالَمِنا فلا يمكن أن تكون لها علاقة بنا. وهكذا فإنَّ النسَق المثالي مفهوم مُزيَّف. ولكنَّنا نستطيع أن نُثبت هذه النتيجة ذاتها على نحوٍ أقرَبَ إلى الطابع المباشر عن طريق ضرْب مَثَل. فأنا أومِن بمجموعةٍ من المُعتقدات الصحيحة، كالقول إنَّ عمود نلسون أعلى من قصْر بكنجهام. أما الهيجلي فلا يقبَل شيئًا من ذلك، بل يعترِض بقوله: «إنك لا تدري ما تتكلَّم عنه. فلا بدَّ لك من أجل فَهم الحقيقة التي تتحدَّث عنها، أنْ تعرِف أنواع المواد المُستخدَمة في البناءين، ومن الذي بناهما ولماذا، وهكذا إلى غير حد، وفي النهاية سيكون عليكَ أن تعمل حسابًا للكَون بأسرِه قبل أنْ يكون من حقِّك أن تقول إنك تعرِف ما تقصده حين تقول إنَّ عمود نلسون أعلى من القصر.» ولكنَّ المُشكلة في هذا الرأي، بالطبع، هي أنه يتعيَّن عليَّ أن أعرِف كلَّ شيءٍ قبل أن أعرف أيَّ شيء، وبذلك يستحيل عليَّ حتى أن أشرَع في اتِّخاذ الخطوة الأولى، ولكنَّ أحدًا لن يبلُغ به التواضُع حدَّ الاعتراف بأنه خالي الذِّهن كليةً. وفضلًا عن ذلك، فليس هذا بالأمر الصحيح، فأنا أعرِف بالفعل أنَّ عمود نلسون أعلى من القصر، وإنْ كنتُ في غير ذلك لا أدَّعي لنفسي علمًا إلهيًّا شاملًا، وحقيقة الأمر أنك تستطيع أن تعرف شيئًا دون أن تعرِف كلَّ شيءٍ عنه، مثلما تستطيع أن تستخدِم لفظًّا بطريقةٍ صحيحة دون أن تعرِف المفردات كلها. وإنَّ هيجل ليبدو هنا وكأنه يؤكِّد أنَّ أية قطعة من مجموعةٍ لألعاب الأطفال تكوِّن شكلًا واحدًا، لا يمكن أن يكون لها معنًى ما لم يتمَّ التوصُّل إلى حلِّ الشكل كلِّه. أما التجريبي فيعترِف بأنَّ لكل قطعةٍ معناها الخاص، ولو لم يكن الأمر كذلك لَما استطعتَ أن تبدأ في تجميع القطع سويًّا.

ولهذا النقد المُوجَّه إلى فكرة النَّسَق المنطقي نتائج هامة في ميدان الأخلاق؛ ذلك لأنه لو كانت النظرية المنطقية صحيحة، لكانت النظرية الأخلاقية المبنيَّة عليها صحيحة بدَورها، أما والأمر على نحو ما قُلنا، فإنَّ الباب يُفتَح لاعتراضاتٍ كثيرة.

في هذا الميدان (أي الأخلاق) تقِف الهيجلية وليبرالية لوك على طرفَي نقيض. ففي رأي هيجل أن الدولة خيِّرة بذاتها، أمَّا الأفراد فليستْ لهم أهمية في ذاتهم، بل تكون أهمية بقدْر ما يُسهمون في أمجاد الكل الذي ينتمون إليه فحسْب. أما الليبرالية فتبدأ من الطرَف الآخر، وتنظُر إلى الدولة على أنها تخدُم المصالح الشخصية لأفرادها. وواضح أنَّ الرأي المثالي يُولِّد التعصُّب والقسوة المُفرطة والطغيان. أما الرأي الليبرالي فيدعم التسامُح والاحترام والتوفيق بين مختلف الاتجاهات.

إنَّ مثالية هيجل إنما هي محاولة للنظَر إلى العالَم بوصفه نسَقًا مُترابطًا. وعلى الرغم من أن محور الاهتمام فيها هو الروح، فليس للهيجلية اتجاهٌ ذاتي على الإطلاق، بل يُمكننا أن نصِفَها بأنها مثالية موضوعية. ولقد سبَق أن رأيْنا كيف انتقد شلنج فيما بعدُ المذهب المُشيَّد على أساسٍ جدلي، وهذا النقد كان من الوجهة الفلسفية، هو نقطة البدء في الهجوم العنيف الذي شنَّهُ على هيجل فيلسوف دنمركي هو سورين كيركجور Soren Kierkegaard الذي لم يكن لكتاباته تأثيرٌ كبير في عصره، ولكنَّها أصبحتْ بعد حوالي خمسين عامًا مصدر الحركة الوجودية.

وُلِد كيركجور (١٨١٣–١٨٥٥م) في كوبنهاجن، التي التحق بجامعتها وهو في السابعة عشرة، وكان أبوه قد قَدِم إلى العاصمة الدنمركية في شبابه واستعاض عن حِرفة الزراعة بالأعمال التجارية التي أحرَزَ فيها نجاحًا كبيرًا، وهكذا لم يكن الابن يُصادِف عناءً من أجل البحث عن مورد رزقٍ وقد ورِث كيركجور عن أبيه حضور البديهة والذكاء، فضلًا عن المزاج التأمُّلي. وفي عام ١٨٤١م حصل على درجة الماجستير في اللاهوت، وكان خلال ذلك قد خطب، بعد تردُّد، فتاةً يبدو أنها لم تُبدِ تقديرًا كافيًا لما كان ينظُر إليه على أنه رسالته اللاهوتية، وانتهى الأمر بفسخه الخطبة، ثم سفرِه بعد انتهاء دراسته إلى برلين حيث كان شلنج يُحاضر، ومنذ ذلك الحين كرَّس حياته للتأمُّل اللاهوتي والفلسفة، أما الفتاة التي كانت في وقتٍ ما خطيبته، فقد سلكت المسلك المعقول، وتزوَّجت شخصًا آخر.

فلنعُدْ إلى النقد الذي وجَّهه شلنج إلى مذهب هيجل. لقد ميَّز شلنج بين الفلسفة السلبية والفلسفة الإيجابية؛ الأولى تبحث في التصوُّرات أو الكليَّات أو الماهيَّات، إذا شئنا أن نستخدِم المصطلح المدرسي، أي أنها تبحث في «كُنه» الأشياء. أما الفلسفة الإيجابية فتتعلَّق بالوجود الفعلي، أي تنتقِل إلى المستوى الإيجابي. وتُذكِّرنا هذه الصيغة بمبدأ الاستقطاب عند شلنج وبالمسار الذي سلَكَه تطوُّره الفلسفي الخاص، الذي مرَّ بهاتَين المرحلتَين عينيهما، فكتابات شلنج الأولى «سلبية»، واللاحقة «إيجابية»، بهذا المعنى للكلمَتَين، وعلى ذلك فإن النقد الأساسي المُوجَّه إلى هيجل هو أنه بعد أنْ وجد نفسه مُنغمسًا في الميدان السلبي، سعى إلى استنباط عالَم الواقع الإيجابي منه، وإلى هذا النقد يرجِع أصل الوجودية.

غير أنَّ هذا ليس إلا اعتراضًا منطقيًّا على هيجل، وهناك اعتراضٌ آخَر لدى كيركجور لا يقلُّ عن هذا أهمية، هو الاعتراض العاطفي أو الوجداني، فالهيجلية اتِّجاه نظَري جاف، يكاد لا يترُك لانفعالات النفس مجالًا، بل إنَّ هذا النقد يَصدُق على الفلسفة المِثالية الألمانية بوجهٍ عام، وحتى تأمُّلات شلنج الأخيرة لم تنجُ منه. ولنتذكَّر أنَّ عصر التنوير كان يتَّجِه، قبل ذلك، إلى النظَر إلى الانفعالات بنوعٍ من الارتياب، أما كيركجور فيُريد أن يُعيد إليها احترامَها الفلسفي، وهذا يتمشَّى مع رومانتيكية الشعراء، ويتعارَض مع الاتجاه الأخلاقي الذي يربط الخير بالمعرفة والشرَّ بالجهل. والواقِع أن الوجودية، إذ فصلَتِ الإرادة عن العقل، على طريقة أوكام بالضبط، إنما حاولتْ أن تلفِتَ انتباهنا إلى حاجة الإنسان إلى أنْ يفعل ويختار، لا نتيجةً لتفكيرٍ فلسفي، بل بدافع المُمارسة التلقائية للإرادة، مما يُتيح له أن يُفسح مجالًا للإيمان على نحوٍ غاية في البساطة؛ إذ يُصبح قبول المعتقدات الدينية في هذه الحالة فعلًا إراديًّا حرًّا.

ويتَّخِذ هذا المبدأ الوجودي أحيانًا صيغة القول إنَّ الوجود يسبق الماهية، وهو ما يمكن التعبير عنه بقَولِنا إنَّنا نعرِف أولًا أنَّ الشيء كائن، وبعد ذلك نعرِف ما يكونُه، وهو ما يعني وضْع الجزئي قبلَ الكُلِّي، أو أرسطو قبل أفلاطون. ولقد وضع كيركجور الإرادة قبلَ العقل، وذهب إلى أنه لا يتعيَّن علينا أن نكون عِلميِّين أكثر ممَّا ينبغي في كلِّ ما يتعلَّق بالإنسان. فالعِلم الذي لا يستطيع أنْ يبحَث إلَّا فيما هو عام، لا يمكنه أن يمسَّ الأشياء إلا من الخارج. وفي مقابل ذلك يعترِف كيركجور بطرُق التفكير والوجودية التي تنفُذ إلى باطن الأشياء. وفي حالة الإنسان على وجهِ التحديد، يرى أنَّنا نُغفِل ما له أهمية حقيقية إذا ما حاوَلْنا فهمه بطريقةٍ علمية، فالمشاعر النوعية الخاصة لأي فردٍ لا يمكن أن تُفهَم إلا وجوديًّا.

ويري كيركجور أنَّ النظريات الأخلاقية أشدُّ عقلانية من أن تسمح للناس بأن يُنظموا حياتهم وفقًا لها. فليس في استطاعة أية نظريةٍ منها أن تتفهَّم الطابع المُميز لسلوك الفرد الأخلاقي بطريقةٍ سليمة. وفضلًا عن ذلك فمن المُمكن الاهتداء دائمًا إلى أمثلةٍ عكسية أو حالاتٍ استثنائية تُخالف القاعدة، ومن أجل مِثل هذه الأسباب، دعا كيركجور إلى اتِّخاذ المبادئ الدينية، لا الأخلاقية، أُسسًا لحياتنا، وهو موقف يتمشَّى مع التراث الأوغسطيني الذي ظلَّ له تأثيرُه في البروتستانتية. فالإنسان لا يكون مسئولًا إلا أمام الله وأوامره، وليس من حقِّ أي كائنٍ بشري آخر أن يتدخَّل لتغيير هذه العلاقة. فالدين عند كيركجور مسألة تفكير وجودي، ما دام ينبثِق من داخل النفس.

لقد كان كيركجور مسيحيًّا شديد الإخلاص، ولكن كان من الطبيعي أن تؤدِّي به آراؤه إلى التصادُم مع الكنيسة الرسمية الدنمركية بوصفها مؤسَّسة جامدة، فقد كان يُعارض اللاهوت العقلاني على النحو الذي صاغَه كبار المدرسيين؛ إذ إنَّ وجود الله ينبغي أن يُدرَك وجوديًّا، ومن المستحيل إثبات هذا الوجود بأية براهين تنتمي إلى ميدان الماهيَّات. وهكذا يفصل كيركجور، كما قُلنا من قبل، بين الإيمان والعقل.

إنَّ نقد هيجل، الذي اتَّخذ منه فكر كيركجور نقطة انطلاقه، هو في أساسه نقد صحيح، غير أنَّ الفلسفة الوجودية التي ظهرتْ بناء على هذا النقد، لا تتَّصِف بنفس القدْر من الصحة. ذلك لأن تضييقها لنطاق العقل يُعرِّضها لمُتناقِضات لا حصر لها. ومن المعروف أنَّ مثل هذا التناقض، على مستوى الإيمان، ليس أمرًا متوقَّعًا فحسب، بل يكاد يكون موضع ترحيب. فهناك شعار قديم يحترِمه المؤمنون بالوحي هو «أومن لأنَّ ما أومن به غير معقول، Cedro quia absurdum» ويمكن القول إنهم، بمعنًى مُعين، على حقٍّ في ذلك، فإذا كنتَ تودُّ ممارسة حريتك في الإيمان، فخير لك أن تتعلَّق بشيء غير مُتعارَف عليه.

ولكن من الواجب أن نتذكَّر أن الإقلال من شأن العقل لا يَقلُّ خطورةً عن المبالغة في تقديره، فهيجل نظَر إلى العقل نظرةً أرفع ممَّا ينبغي، ومن هنا وقع في خطأ الاعتقاد بأنَّ الكون كله يمكن أن يتولَّد عن العقل. أما كيركجور فقد تطرَّف في الاتجاه المُضاد، وذهب إلى أن العقل عاجز عن مساعدتنا على إدراك النَّوعي والخاص، الذي هو وحدَه الجدير بالمعرفة. مثل هذا الرأي يُنكر أية قيمةٍ للعلم، وهو يتمشَّى مع جوهر المبادئ الرومانتيكية. وهكذا فإنَّ كيركجور، على الرغم من انتقاده العنيف لأسلوب الحياة الرومانتيكي، على أساس أنه خاضع كلية لتقلُّبات المؤثرات الخارجية، كان هو ذاته رومانتيكيًّا بالمعنى الصحيح. بل إنَّ نفس المبدأ الذي تقوم على أساسه أساليب التفكير الوجودية إنما هو تصوُّر رومانتيكي يسُوده الخلْط.

هكذا كان رفض الوجودية لهيجل، في أساسه، إنكارًا للفكرة القائلة إنَّ العالم ذاته يكوِّن نسَقًا. والواقع أنَّ الوجودية تفترِض نظريةً واقعية في المعرفة، بالمعنى المضاد للنظرة المثالية، على الرغم من أنَّ كيركجور ذاته لم يتطرَّق إلى هذا الموضوع صراحة. ومن المُمكن أن ينشأ اعتراض آخَر، مختلف كل الاختلاف، عن فلسفة هيجل إذا عُدنا إلى نوعٍ من الثنائية الكانتية المُعدَّلة، وهو ما نجده في فلسفة شوبنهور.

كان آرتور شوبنهور Arthur Schopenhauer (١٧٨٩–١٨٦٠م) ابنًا لتاجرٍ من دانتسج Danzig كان معجبًا بفولتير، وكان يشارك هذا الأخير احترامه لإنجلترا، وعندما ضمَّت بروسيا مدينة دانتسج الحُرَّة في عام ١٧٩٣م، انتقلت الأسرة إلى هامبورج، وفي عام ١٧٩٧م انتقل شوبنهور للإقامة في باريس، حيث أقام لمدَّة عامين كاد فيهما أن ينسى لُغته الأصلية، وفي عام ١٨٠٣م رحل إلى إنجلترا والتحق بمدرسةٍ داخلية لمدة حوالي ستة أشهر وكان هذا كافيًا لجعله كارهًا للمدارس الإنجليزية، ولكنه تعلم اللغة، وقد اعتاد في سنواته المتأخرة قراءة جريدة «التايمس» اللندنية، وعندما عاد إلى هامبورج، قام بمحاولةٍ غير مُتحمسة للاشتغال بالتجارة، ولكنه تخلَّى عنها بمجرد أنْ مات أبوه، وعندئذٍ انتقلَتْ أمُّه إلى فيمار، حيث أصبحت، بعد وقتٍ قصير، صاحبة صالون أدبي يؤمُّه كثير من الشعراء والكتَّاب الكبار الذين كانوا يُقيمون هناك. بل إنها هي ذاتها أصبحتْ فيما بعدُ كاتبةً روائية، غير أنَّ ابنها، الذي لم تكن تُشاركه مِزاجه الحاد، بدأ يثور على أسلوب حياتها الذي يتَّسِم بقدرٍ غير قليل من الاستقلال، وعندما بلغ الحادية والعشرين، حصل على ميراثٍ بسيط، ترتَّب عليه تباعُدٌ تدريجي بين الابن والأم.
وقد أتاح له هذا الميراث أن يلتحِق بالتعليم الجامعي، فدرس أولًا في جوتنجن عام ١٨٠٩م، حيث اطَّلع على فلسفة كانْت للمرة الأولى، ثم انتقل إلى برلين عام ١٨١١م، حيث تركَّزت دراساته على العِلم أساسًا، وقد حضر بعضًا من دروس فشته، ولكنه كان يزدري فلسفته، وقد أتمَّ دراسته عام ١٨١٣م، عندما نشِبتْ حرب التحرير،١٣ ولكنَّ هذه الأحداث لم تُثِر فيه أية حماسةٍ دائمة، وخلال الأعوام التالية تعرَّف على جوته في فيمار، حيث بدأ دراساته في التصوُّف الهندي، وفي عام ١٨١٩م بدأ يحاضر في جامعة برلين.

وكان على اقتناعٍ تامٍّ بعبقريته الشخصية، ورأى أنه ليس من الأمانة أن يُخفي هذه الحقيقة عن بقية البشر، الذين ربما لا يكونون قد عرَفوا بها بعدُ. ولهذا السبب حدَّد لمحاضراته موعدًا هو نفس الساعة التي يحاضر فيها هيجل، وحين لم يجِد استجابةً من الهيجليين، قرَّر التوقُّف عن إلقاء المحاضرات والإقامة في فرانكفورت حيث ظلَّ بالفعل طوال الجزء المُتبقي من حياته.

لقد كان شوبنهور، من حيث هو إنسان، مغرورًا، يتملَّكه الشعور بالمرارة والإحباط، وكان توَّاقًا إلى الشُّهرة، ولكن هذه الشهرة لم تُواتِه إلا في نهاية حياته.

كان شوبنهور قد توصَّل إلى آرائه الفلسفية في سنٍّ مبكِّرة. فقد ظهر كتابه الرئيسي «العالم إرادة وتمثُّلًا» في عام ١٨١٨م، عندما كان في سنِّ الثلاثين بالضبط، وقد لقيَ الكتاب في البداية تجاهلًا تامًّا، وفي هذا الكتاب قدَّم شكلًا مُعدلًا لنظرية كانْت، احتفظ فيه عن عمدٍ بالشيء في ذاته، ولكن شوبنهور، على خلاف كانْت، كان يرى أنَّ الشيء في ذاته هو الإرادة، وهكذا ينظر إلى عالم التجربة، كما فعل كانْت، على أنه يتألَّف من ظواهر بالمعنى الكانْتي، غير أنَّ ما يُسبب هذه الظواهر ليس مجموعة من الأشياء في ذاتها، غير القابلة للمعرفة، وإنما هو الإرادة التي هي شيء في ذاته. وهذا موقف يقترِب كثيرًا من الرأي الكانْتي التقليدي: فقد رأيْنا أنَّ «كانْت» كان ينظُر إلى الإرادة على أنها تقع في جانب الأشياء في ذاتها. فإذا مارستُ إرادتي، كان ما يُناظرها في عالم التجربة حركة جسمي. ولنُلاحِظ، في هذا الصدد، أنَّ كانْت هنا لم ينجح بالفعل في تجاوز مذهب المناسبة Occasionalism؛ إذ لا يمكن، كما رأيْنا من قبل، أن تكون هناك علاقة سببية بين الأشياء في ذاتها والظواهر.

وعلى أية حالٍ فإن شويبهور ينظُر إلى الجسم على أنه مظهر تكمُن حقيقتُه في الإرادة، وكما هي الحال عند كانْت، فإنَّ عالم الأشياء في ذاتها يتجاوَز المكان والزمان والمقولات. فالإرادة، من حيث هي شيءٌ في ذاته، لا تخضع بدَورها لهذه الأمور، ومن ثَمَّ فهيَ لا زمانية، لا مكانية، ممَّا يعني وحدانيتها، فبقدْر ما أكون حقيقيًّا، أعني بقدْر ما يتعلَّق الأمر بإرادتي، لا أكون مُتميزًا أو منفصلًا، بل إنَّ التميُّز والانفصال إنما هو خداع ينتمي إلى عالم الظواهر. فإرادتي، على عكس ذلك هي الإرادة الواحدة الشاملة.

ولقد نظر شوبنهور إلى هذه الإرادة على أنها في أساسها شريرة، ومسئولة عن العذاب الذي يرتبط حتمًا بالحياة. وفضلًا عن ذلك فإنَّ المعرفة ليست كما هي عند هيجل، منبعًا للحرية، وإنما هي مصدر للعذاب. وهكذا فبدلًا من تلك النزعة التفاؤلية التي تتَّسِم بها المذاهب العقلانية. سادت لدى شوبنهور نظرةٌ تشاؤمية لا مكان فيها للسعادة، أما الجنس فكان بدوره عملية شريرة، لأنَّ كل ما يفعله التناسُل هو أنه يقدِّم ضحايا جددًا للألم والعذاب. ولقد ارتبط هذا الرأي بكراهية شوبنهور للمرأة، إذ كان يعتقِد أنَّ المرأة تؤدي في هذا الصدَد دورًا أكثر تعمُّدًا من دور الرجل.

والواقع أنه لا يُوجَد سبب منطقي يجعل نظرية المعرفة الكانْتية ترتبط على هذا النحو بنظرةٍ تشاؤمية إلى العالم. وكل ما في الأمر أن شوبنهور نفسه لم يكن، بحُكم مزاجه، قادرًا على أن يكون سعيدًا، ومن ثَمَّ فقد أعلن أنَّ السعادة شيء يستحيل تحقيقه. وقُرب نهاية حياته القاتمة، بدأ العالم يعترِف بمؤلَّفاته، وأصبحت أحواله المالية أفضلَ إلى حدٍّ ما، ممَّا أدَّى به إلى التحوُّل فجأة نحوَ المزيد من المرَح، على الرغم من نظريته. ومع ذلك فليس من الصواب بالمِثل أن نصِف الموقِف العقلاني المُفرِط في ثقتِه بخيريَّة هذا العالم، بأنه هو الموقِف الصحيح. ففي الوقت الذي لم يكن فيه مُفكر مثل اسبينوزا على استعداد، من الوجهة النظرية على الأقل، لرؤية الشر.١٤ ذهب شوبنهور إلى الطرَف المضاد، ولم يستطِع أن يرى خيرًا في أي شيء.
ولقد رأى شوبنهور أنَّ حلَّ هذا الوضع الأليم ينبغي أن يُلتمَس في الأساطير البوذية. فما يُسبِّب الألم فينا هو ممارستُنا للإرادة بعَينها، ومن ثَم فإنَّنا نستطيع، عن طريق تخدير الإرادة، أنْ نصِل في النهاية إلى «النرفانا» أي العدَم، فالغيبوبة الصُّوفية تجعلنا نخترق حجاب «المايا»، الذي يرمُز للوهم والبطلان. وهكذا نستطيع أن نرى العالم على أنه واحد، وبعد أنْ نكتسب هذه المعرفة، نقهَر الإرادة. غير أنَّ معرفة الوحدة لا تؤدِّي في هذه الحالة إلى الاتِّصال بالله، كما هي الحال لدى الصُّوفية الغربيين من أمثال إكهارت Eckhart، كما أنها لا تؤدي إلى الاتحاد بعالم اسبينوزا الذي كان هو والله شيئًا واحدًا، بل إنَّ الاستبصار بالكل، والتعاطف مع الله وعذابه، يُزوِّدنا — على العكس من ذلك — بمَهربٍ إلى العدم.

إن فلسفة شوبنهور تؤكد أهمية الإرادة، على عكس المذاهب العقلانية في المدرسة الهيجلية. وقد أخذ بهذا الرأي فلاسفة عديدون لم تكن تجمع بينهم نقاطٌ مشتركة كثيرة أخرى؛ إذ نجده لدى نيتشه، وكذلك لدى البرجماتيين. وبالمِثل فإنَّ الوجودية تهتمُّ كثيرًا بالإرادة في مقابل العقل. أما عن نزعة التصوُّف التي تَشيع في مذهب شوبنهور، فإنها تقِف خارج التيار الرئيسي للفلسفة.

والحق أنه إذا كانت فلسفة شوبنهور تسعى في النهاية إلى إيجاد مخرجٍ من العالَم وصراعاته، فإنَّ نيتشه Nietzsche (١٨٤٤–١٩٠٠م) يسير في الطريق المُضاد، وليس من السهل أن يُلخِّص المرء مضمون تفكير نيتشه؛ إذ إنه ليس فيلسوفًا بالمعنى المألوف، ولم يترُك عرضًا منهجيًّا لآرائه. وربما جاز لنا أن نصِفه بأنه صاحب نزعةٍ إنسانية أرستقراطية بالمعنى الحرفي للكلمة، فقد كان أول ما يحرِص على تأكيده هو علوِّ الإنسان الأفضل، أعني الأوفر صحةً والأقوى شخصية. وقد أدَّى به ذلك إلى إبداء الاهتمام بالصلابة في مواجهة البؤس، وهو أمر يُخالف إلى حدٍّ ما معايير الأخلاق الشائعة، وإن لم يكن يُخالف المُمارسات الفعلية بالضرورة. ولقد ركَّز الكثيرون اهتمامهم على هذه السِّمات دون أن يضَعُوها في سياقها الطبيعي، فرأوا في نيتشه مُبشرًا بالأنظمة القائمة على الطغيان السياسي في عصرنا الحاضر، ومن الجائز بالفعل أنَّ بعض الطغاة قد استمدُّوا بعض الوحي من نيتشه، ولكن ليس من العدْل أن نَعُدَّه مسئولًا عن شرور أناسٍ لم يفهموه في أحسن الأحوال، إلا فهمًا سطحيًّا. ذلك لأن نيتشه كان خليقًا بأن يُعارِض بقوةٍ ما طرأ على بلدِه ذاته من تطوُّرات سياسية، لو كان العمر قد امتدَّ به حتى يشهد هذه التطوُّرات.

كان نيتشه ابنًا لقسيسٍ بروتستانتي، ممَّا كان يعني تنشئةً عائلية تسُودها التقوى والاستقامة. وقد ظلَّ تأثير هذا العنصر باقيًا في تلك النغمة الأخلاقية الرفيعة التي نجِدها في أعماله، حتى تلك التي يبلُغ فيها التمرُّد أقصى مداه، وقد أثبت منذ شبابه المُبكر أنه باحث علمي مُمتاز، وأصبح في الرابعة والعشرين أستاذًا لفِقه اللغات القديمة بجامعة بازل، وبعد عامٍ من هذا التاريخ اندلعَتِ الحرب بين فرنسا وبروسيا. ولمَّا كان نيتشه قد أصبح مواطنًا سويسريًّا، فقد كان عليه أن يكتفي بالعمل مُمرضًا في الخدمة العسكرية، وبعد أن تدهورتْ صحته نتيجة لإصابته بالدوسنتاريا، سُرِّح من الخدمة وأُعيد إلى بازل. والواقع أن صحَّته لم تكن أبدًا في حالة جيدة، ولم يصِل أبدًا إلى الشفاء التام من الأمراض التي أصابته أثناء تجنيده، وهكذا اضطرَّ إلى الاستقالة من منصبِه في عام ١٨٧٩م، وإن كان قد حصل على معاشٍ سخيٍّ أتاح له أن يحيا حياةً مريحة إلى حدٍّ معقول، وقد قضى الأعوام العشرة التالية في سويسرا وإيطاليا، مُواصلًا عملَه التأليفي، وكان في معظم الأحيان منعزلًا لا يعرِف به أحد، وفي عام ١٨٨٩م أُصيب بالجنون، وكانت إصابته نتيجةً متأخِّرة لمرضٍ تناسُلي أصيبَ به أيام دراسته، وظلَّ في حالة الجنون حتى وفاته.

إنَّ أعمال نيتشه مُستوحاة في المحلِّ الأول من المُثُل العُليا اليونانية في عصر ما قبل سقراط، وخاصَّة في إسبرطة، وقد استحدث في كتابه الرئيسي الأول «ميلاد التراجيديا» (١٩٧٢م)، التمييز المشهور بين الحالتَين الأبولونية والديونيزية للروح اليونانية، فالمزاج الديونيزي القاتم الشديد الانفعال مُرتبط بالتعرُّف على حقيقة المأساة في حياة الإنسان، أما البانثيون الأوليمبي فهو نوع من الرؤية الصافية التي تُعوِّض تأثير الجانب الأليم في الحياة البشرية، وتنبثِق هذه الرؤية من العنصر الأبولوني في النفس، وهكذا نستطيع أن نصِف المأساة الإغريقية بأنها تَسامٍ أبولوني على الرغبات الديونيزية العارمة، وقد رأيْنا من قبلُ أن أرسطو كانت له آراء مُشابهة في هذه المسائل.

وقد استخلص نيتشه، فيما بعد، من هذا العرض الذي قدَّمه لأصول التراجيديا فكرة البطل المأساوي، فهو، على خلاف أرسطو، لا يرى في المأساة وسيلةً بديلة لتطهير الانفعالات، وإنما يرى فيها قبولًا إيجابيًّا للحياة على ما هي عليه. وبينما كان شوبنهور قد توصَّل إلى نتيجةٍ تشاؤمية، نجد نيتشه يتَّخِذ موقفًا تفاؤليًّا، يعتقِد أنَّ من الممكن التوصُّل إليه إذا ما فُسِّرَت المأساة الإغريقية تفسيرًا صحيحًا، ولكن ينبغي أن يُلاحَظ أن هذا ليس تفاؤلًا بالمعنى الشائع بين الناس، وإنما هو نوع من القبول العدواني لحقائق الحياة الصعبة القاسية؛ إنه يعترِف، مثل شوبنهور بأولوية الإرادة، ولكنه يمضي شوطًا أبعد، ويرى في الإرادة القوية أبرز سِمات الإنسان الحر، على حين أنَّ شوبنهور رأى في الإرادة مصدرًا لكل شر.

ويُميز نيتشه بين نوعَين من الناس، لكلٍّ منهما أخلاقيَّتُه الخاصة، هما السادة والعبيد، وهو يعرض النظرية الأخلاقية المبنية على هذا التمييز في كتابه «ما وراء الخير والشر» (١٨٨٦م). فلدَينا من جهة أخلاق السادة، التي يرتبط فيها الخير بالاستقلال والكرم والاعتماد على النفس، وما شابه ذلك، أعني جميع الفضائل التي يتَّصِف بها الإنسان ذو النفس الكبيرة عند أرسطو، أما النقائص المُقابلة فهي الخضوع والوضاعة والتهيُّب وما إليها، وهذه تُمثِّل الشر، وهنا نجد التقابُل بين الخير والشر يُعادل على وجه التقريب التضادَّ بين النبيل والحقير. أما أخلاق العبيد فتقوم على مبدأ مُختلفٍ كلَّ الاختلاف. فالخير عندها يكون في نوع من الاستسلام الشامل وفي كل ما من شأنه التخفيف عن المُعاناة ووأد الطموح، على حين أنها تُندِّد بتلك الصفات التي تُعَدُّ خيرًا في أخلاق السادة وتراها شرًّا، لا مجرد سوء أخلاق، ذلك لأنَّ الشخص الحُر في أخلاق السادة يبدو في نظر العبيد مُرعبًا، وكل سلوك يُثير الخوف يُعدُّ في نظره شرًّا. أما أخلاق البطل أو الإنسان الأرقى Superman فتقع فيما وراء الخير والشر.

وكان نيتشه قد عرَض هذه الأفكار في كتابه «هكذا تكلَّم زرادشت» على صورة دعوةٍ أخلاقية تحكي في أسلوبها كلمات الكتاب المقدَّس، وبالفعل كان نيتشه فنَّانًا عظيمًا في الأدب، حتى لتبدو مؤلَّفاته أقربَ إلى الشعر المنثور منها إلى الفلسفة.

لقد كان أبغض الأمور إلى نيتشه هو ظهور ذلك النوع الجديد من الإنسانية الجماعية التي نمَتْ مع تطوُّر التكنولوجيا الجديدة، فالوظيفة الصحيحة للمجتمع، في رأيه، هي أنْ يكون بمثابة معملٍ لتفريخ تلك القلَّة من العظماء الذين يُحقِّقون المثَل الأعلى الأرستقراطي. أما المُعاناة التي يمكن أن يُسبِّبها هذا للناس البسطاء فتبدو في نظره أمرًا لا أهمية له، ولقد كان نوع الدولة الذي تَخيَّله مشابهًا إلى حدٍّ بعيد للدولة المُثلى في جمهورية أفلاطون. وكان يرى في العقائد التقليدية مجرد أدواتٍ تستعين بها أخلاق العبيد. وفي رأيه أنَّ الإنسان الحُر ينبغي أن يعترِف بأن «الرب قد مات.»١٥ ومِن ثَم لا يتَّجه سعيه إليه، وإنما إلى نوعٍ أعلى من الإنسان. ويرى نيتشه أنَّ أوضح نموذجٍ لأخلاق العبيد هو المسيحية، ذلك لأنَّ المسيحية تتَّجِه إلى التشاؤم عندما تُعلل النفوس بالأمل في حياةٍ أخروية أفضل، وتبدي تقديرًا عاليًا للفضائل الهابطة، كالتواضُع والشفقة. ولقد كان اتِّجاه فاجنر، في سنواته المتأخرة، نحو المسيحية هو الذي أدَّى بنيتشه إلى مهاجمة هذا الفنان الموسيقي الذي كان من قبلُ يراه صديقًا يدعو إلى الإعجاب. أما عبادة البطولة عند نيتشه فكانت تُصاحبها نزعةٌ حادة كارهة للمرأة تُحبِّذ معاملة النساء على الطريقة الشرقية — كالقطيع — وهو اتِّجاه يعكس في رأيْنا عجز نيتشه عن التعامُل مع الجنس اللطيف.

على أنَّ هذه النظرية الأخلاقية تنطوي على قدرٍ غير قليل من الملاحظات المُفيدة لمختلف أنماط البشر وأساليبهم في معالجة شئون حياتهم. فهناك جوانب إيجابية كثيرة في فكرة الدعوة إلى نوعٍ من الصرامة والانضباط، بشرْط أنْ يُمارسها المرء على ذاته. ولكنَّا لا نستطيع أن نقتنِع، بنفس السهولة بفكرة عدَم الاكتراث التامِّ إزاء المُعاناة التي تتحمَّلها الكثرة لصالح القلَّة.

١  التعبير المُستخدَم هنا هو «البابويُّون Papists»، وهو تعبيرٌ ازدرائي يدلُّ على الكاثوليك (أهل البابا). (المترجم)
٢  الطرافة هنا تكمُن في تنبُّؤ هؤلاء الشعراء بالحروب والكوارث التي ستجلبها النزعة العسكرية الألمانية، وخاصَّة في الحربَين الأولى والثانية. (المترجم)
٣  مذهب مُتمرِّد على المسيحية، قال به أول مرة الراهب الإنجليزي بيلاجيوس Pelagius (حوالي ٣٦٠–٤٢٠) ميلادية، وكان يرفُض فكرة الخطيئة الأولى ويرى أنَّ خلاص المرء بيدِه هو وحدَه. (المترجم)
٤  يُشير رَسل هنا إلى ضرورة حِرص الإنسان على المعرفة والفهم، إلى جانب الإرادة الخيرة؛ لأنَّ الإنسان الجاهل قد يفعل أمورًا سيئة كثيرة بِنِيَّةٍ طيبة وإرادة خَيرة، ولن يكون من الممكن مُحاسبته أخلاقيًّا إذا اتَّبَعْنا المبدأ الذي يُنادي به كانْت. ولهذا يُعبِّر في الجملة التالية عن ضرورة عمَل حساب فكرة العِلم والمعرفة، التي جعلها سقراط مُرادِفةً للفضيلة الأخلاقية، إلى جانب فكرة الإرادة والنِّيَّة التي أكَّدها كانْت. (المترجم)
٥  في الألمانية Schwabich، وتعني من ينتمي إلى إقليم في غرب ألمانيا هو «باده فورتمبرج Bade-Wurttemberg»، ومن أشهر مُدنه «توبنجن Tubingen»، التي عاش فيها هؤلاء الثلاثة فترة هامة من حياتهم. (المترجم)
٦  يبدو لي أنَّ هذا الحُكم لا ينطبق على الوضع الحاضر للفلسفة في فرنسا، حيث تُوجَد نهضة ضخمة للدراسات الهيجلية، كان من أهم روَّادها، «إيبوليت J. Hyppolite»، وكوجيف Kojeve ودونت J. d’Hondt وكثيرون غيرهم. (المترجم)
٧  ويُمكننا أن نُضيف أنها كانت واضحةً كل الوضوح عند اسبينوزا، الذي ألغي التعارُض بين الحرية والحتميَّة، وأكد أنَّ الحرية الحقيقية إنما تكون في فَهم الضرورة السائدة في الكون. ومن المؤكد أنَّ هيجل كان في رأيه هذا مُتأثِّرا باسبينوزا على نحوٍ مباشر. (المترجم)
٨  كان من الواجب أن يُنبِّه المؤلف إلى معني «القانون» كما استخدمها في السطور السابقة؛ فكلمة القانون في الطبيعة تعني شيئًا مختلفًا تمامًا عن القانون في الدولة، ومن الواجب ألا ندع اللفظ الواحد المُستخدَم في الحالتَين يخدَعُنا بحيث نتصوَّر أننا إزاء فكرةٍ واحدة؛ فالقانون الطبيعي تعبير عن المَجرى الفعلي للأحداث، ومن هنا لم يكن فهمه مُتعارضًا مع الحرية، أما قانون الدولة فيُعبِّر عن محاولةٍ لتشكيل سلوك الناس بطريقةٍ مقصودة، وهو في كثيرٍ من الأحيان يتعارَض مع الحرية إذا كان الهدف من هذه المحاولة هو ضَمان سيطرة الحُكم المُستبِدِّ على المحكومين. (المترجم)
٩  من السهل أن نُدرك، من وراء هذه اللهجة الساخرة، قدرًا من التحامُل المُبالَغ فيه على آراء هيجل المتعلقة بالحرب والصراع، فمُجرد إشارة المؤلِّف إلى هرقليطس كانت كفيلة بإقناعه بأنَّ المقصود هنا حرب الأضداد، التي يحتاجها كلُّ تطوُّرٍ ونمو، وليست الحرب المُسلَّحة بين الدول. إنها في المحلِّ الأول حرْب على المستوى الميتافيزيقي، لا على المستوى العسكري، ولكن رسل كان في هذه السطور خاضعًا لتأثير الصورة النمَطية عن الدولة الروسية التي لا تعيش إلَّا بالحرْب، والتي أكَّد من قبل إعجاب هيجل الشديد بها وهي صورة تأثَّرَت بالحروب الضارية التي خاضتْها بريطانيا ضدَّ الألمان في القرن العشرين. (المترجم)
١٠  يستخدِم المؤلِّف هنا تعبيرًا غير مُوفَّق، ينطوي على مُغالَطة ربما كانت مقصودة؛ فعبارة التعاليم الماركسية الرسمية مُناقِضة لذاتها، من حيث إنَّ التعاليم الماركسية شيء، والتطبيقات الرسمية لها في دولةٍ من الدول شيء آخر. وإذا كانت هنالك مُمارسات في دول اشتراكية مُعيَّنة تنطبق عليها انتقاداته الساخرة، وتُقدَّم إلى الناس باسم الماركسية، فمِن واجب الفيلسوف أن يُفرِّق بين التعاليم النظرية وبين التغييرات التي تطرأ عليها عندما تُصبح سياسةً رسمية لإحدى الدول. (المترجم)
١١  من أشهر الشوارع التجارية المزدحِمة في لندن. (المترجم)
١٢  ترمز بُومة منيرفا للحِكمة، والفلسفة، ومن ثَم كان ما يقصده هيجل هو أنَّ المذهب الفلسفي لا يظهر إلا بعدَ أن تكون الأوضاع والتطوُّرات التي يُعبِّر عنها قد حدثتْ بالفعل، وهذا الرأي يُمكن أن يُقابله رأيٌ آخر يرى في المذاهب الفلسفية استباقا، لأوضاعٍ ستأتي فيما بعد، لا مجرَّد تلخيصٍ لاحِق للأحداث أو تعليق تالٍ عليها. (المترجم)
١٣  المقصود هنا تحرير الولايات الألمانية من الاحتلال الفرنسي في عهد نابليون بونابارت. (المترجم)
١٤  يلاحظ أنَّ رَسِل هنا يُدرج اسبينوزا ضِمن التفاؤليِّين على أساس عدَم اعترافه بحقيقة الشر، ولكن الواقع أنَّ كلَّ موقفٍ اتَّخذه اسبينوزا من الشر كان يتَّخِذه أيضًا من الخير، وإنكاره لأحدِهما على مستوى الواقع الفعلي كان ينسحِب تلقائيا على الآخر، ولذلك لم يكن اسبينوزا هو الطرَف المُضاد لتشاؤم شوبنهور بل كان موقفه أقرَبَ إلى الحياد الأخلاقي والنظرة المُترفِّعة عن صبغ العالم بالخير أو الشر. (المترجم)
١٥  آثرْنا أن نُترجم هذه العبارة المشهورة لنيتشه باستخدام لفظ «الرب» بدلًا من الإله، أو «الله» وكما تشيع ترجمتها، وذلك لأنَّ تعبير «الرب» اكثر استعمالًا في الكتابات المسيحية، ومن ثَم فهو أكثر ملاءمةً لِما يقصده نيتشه، لأنَّ هذه العبارة قِيلت في سياق الصراع الحادِّ بين نيتشه والمسيحية على وجه التحديد بينما يرى بعض المُفسِّرين أنه يُعلن بذلك موت الحضارة الغربية بأسرِها، من حيث هي مُرتكِزة على المسيحية ولذلك فإنَّ استخدام أي لفظٍ آخر قد يُخرج العبارة عن سياقها الأصلي المُرتبط بالقُرب المسيحي بالذات. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤