الفصل الخامس

الفترة المُعاصِرة

هناك صعوبات خاصَّة تواجهنا حين نعالِج فلسفة الأعوام السبعين أو الثمانين الأخيرة. ذلك لأنَّنا ما زلنا قريبين من هذه التطوُّرات إلى حدٍّ يصعُب علينا معه أن ننظُر إليها من بُعد، وبالتجرد المطلوب. فالمُفكرون الأقدم عهدًا قد صمَدوا لاختبار التقويم النقدي الذي تقوم به الأجيال التالية لهم، وبمُضيِّ الزمن تحدُث عملية انتقاءٍ تدريجي تساعد على تيسير مهمَّة الاختيار. ولم يحدُث إلا في حالاتٍ نادرة جدًّا أنِ استطاع مفكرٌ ثانوي أنْ يُحرِز في المدى الطويل قدرًا من الشهرة لا تُبرِّره أعماله، وإن كان يحدُث بالفعل أن يلحق الظُّلم بأشخاصٍ لهم أهميَّتُهم، فيغيبون في زوايا النسيان.

أما في حالة المُفكِّرين المُنتمِين إلى الفترة القريبة، فإنَّ مسألة الاختيار تزداد صعوبة، كما تقلُّ فُرَص الوصول إلى نظرةٍ متوازنة. وعلى حين يكون من المُمكن بالنسبة إلى الماضي، تأمُّل مراحل التطور في مُجملها، فإن الحاضر أقرب إلينا من أن يُتيح لنا التمييز بين مختلف عناصر القصة بنفس القدر من الثقة واليقين. والواقع أن الأمر لا يمكن أن يكون على خلاف ذلك. فمِن السهل نسبيًّا أن يكون المرء حكيمًا بأثرٍ رجعي، وأن يصِل إلى فهم تطوُّر التراث الفلسفي. أما لو تخيَّلنا أن من الممكن استنباط دلالة التغيُّرات المعاصرة بكل تفاصيلها النوعية المُميزة، لكان ذلك وهمًا هيجليًّا. وأقصى ما يُمكِننا أن نأمُل فيه هو أن نُدرك بعض الاتجاهات العامَّة التي يمكن ربطُها بأحداثٍ أسبق عهدًا.

لقد تميَّزت الفترة المتأخِّرة من القرن التاسع عشر بعددٍ من التطوُّرات الجديدة التي كان لها تأثيرها في المناخ العقلي لعصرنا الحاضر. فهناك أولًا انهيار الأساليب القديمة في الحياة، التي كانت جذورها ترجع إلى عصر ما قبلَ التصنيع. ذلك لأنَّ النمو الهائل في القدرة التكنولوجية جعل الحياة عمليةً أعقدَ بكثيرٍ جدًّا مما اعتدْنا أن نراها عليه من قبل. وليس من مهمَّتِنا هنا أن نُقرِّر إن كان هذا خيرًا أو شرًّا، بل يكفينا أن نلاحظ أنَّ المطالب المفروضة على عصرِنا أشدُّ تنوعًا بكثير، وأنَّ الشروط المطلوبة منَّا لكي نواصِل حياتنا المُعتادة أشدُّ تعقيدًا بكثيرٍ مما كانت عليه في أي وقتٍ مضى.

هذا كلُّه ينعكس على المجال الثقافي والعقلي بدَوره. فعلى حين أنه كان في وسع شخصٍ واحدٍ من قبل أن يكون مُتمكنًا من عدَّة فروع علمية، أصبح من الصَّعب على نحوٍ مُتزايد في الوقت الراهن، أنْ يكتسب شخصٌ واحد معرفةً متينةً حتى بميدانٍ علمي واحد. والواقع أنَّ تفتيت الميادين العقلية إلى أجزاء يزداد نطاقها ضِيقًا بالتدريج، قد أدَّى في العصر الحاضر إلى ارتباكٍ حقيقي في لغة الحوار، وهذه الحالة غير الصحية إنما هي حصيلة تغيُّراتٍ مُعيَّنة فرضَتْ نفسها مع نمو المجتمع التكنولوجي المعاصر، فحتى عهدٍ ليس بعيدًا في الماضي كانت تسُود في كافة أرجاء أوروبا الغربية، لا في بلدٍ بعينه فحسْب، خلفية مشتركة يتقاسَمُها كل من بلغوا مستوًى مُعيَّنًا من التعليم، وبالطبع لم تكن هذه مظهرًا للشمول أو المساواة في الفُرَص؛ فقد كان التعليم عادة، في تلك الفترة، مرتبطًا بامتيازٍ خاص، وكان من نصيب قلةٍ محظوظة، وهو وضع أُزيل في الوقت الراهن إلى حدٍّ بعيد. فالمعيار الوحيد المقبول الآن هو الكفاءة، التي هي ميزةٌ من نوعٍ مختلف. على أنَّ هذا الأساس المشترَك للتفاهم قد اختفى منذ ذلك الحين، وأصبحت مطالب التخصُّص وضغوطه تُوجِّه الشباب إلى قنواتٍ أضيق، قبل أن تُتاح لهم فرصة تنمية اهتماماتٍ أوسع، وفهمٍ أفضل للعالم. ونتيجةً لهذا كلِّه أخذت تزداد إلى حدٍّ بعيد صعوبة الاتصال والتفاهُم بين أولئك الذين يكرِّسون أنفسهم لفروعٍ مختلفة في البحث.

غير أنَّ القرن التاسع عشر قد تولَّد عنه عامِل آخر أوضح، من العوامل المؤدِّية إلى صعوبة الحوار والتفاهم. فقد شهد ذلك القرن انهيارَ ثُم موتَ وسيلةِ التعبير التي ظلَّت منذ عهودٍ قديمة وسيلةً مشتركة بين المثقفين في كافة الأمم الأوروبية؛ فقد كانت اللاتينية هي لغة الباحثين والمفكرين والعلماء منذ عصر شيشرون حتى عصر النهضة. ولكن حين كتَبَ جاوس Gauss مؤلَّفَه المشهور عن السطوح المقوَّسة باللاتينية، في أوائل القرن التاسع عشر، كان ذلك قد أصبح نوعًا من التمسُّك بتقليدٍ غابر. أما اليوم فإنَّ الباحث في أيِّ فرعٍ ينبغي عليه أن يلمَّ بلُغَتَين حديثتَين أو ثلاثٍ غير لغته الخاصَّة، إذا ما أراد الاطلاع على الأعمال التي تتمُّ في ميدان تخصُّصه، وقد أصبحتْ هذه مشكلةً غير هيِّنة، لم يتم الاهتداء إلى حلٍّ لها حتى الآن، وإن كان يبدو أنَّ لغةً حديثةً ما سيتعيَّن عليها، بمُضيِّ الوقت، أن تؤدي الوظيفة التي كانت اللاتينية تقوم بها من قبل.

ومن السِّمات الجديدة الأخرى للحياة العقلية في القرن التاسع عشر، الانفصال بين النشاط الفني والنشاط العلمي. ويعدُّ هذا الانفصال تراجعًا إذا ما قُورِن بالمزاج العقلي الذي كان سائدًا لدى أصحاب النزعة الإنسانية في عصر النهضة. فعلى حين أنَّ هؤلاء المفكرين الأسبق عهدًا كانوا ينشُدون العِلم والفن في ضوء مبدأ عام واحد من التوافُق والتناسُب، فإنَّ القرن التاسع عشر قد تمخَّض، بتأثير الحركة الرومانتيكية، عن ردِّ فعلٍ عنيف ضدَّ الأضرار التي بدا لهم أن التقدُّم العلمي يُلحِقُها بالإنسان. فقد خُيِّل إليهم أن الأسلوب العلمي في الحياة بمَعامِلِه وتجاربه، يخنق روح الحرية والمغامَرة التي لا يستغني عنها الفنان. ومن الغريب أنَّ الرأي القائل بأن النظرة التجريبية لا تكشف أسرار الطبيعة، قد أعرب عنه جوته من قبل، وكان ذلك قطعًا في إحدى حالاته الرومانتيكية. وعلى أية حالٍ فإن التضادَّ بين المعمل ومَرسَم الفنان يُعبر بوضوحٍ عن الانفصال الذي أشرْنا إليه.

وفي الوقت ذاته حدَث نوعٌ من التباعُد بين العلم والفلسفة، فخلال القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، كان أولئك الذين قاموا بدورٍ هامٍّ في الفلسفة، في معظم الأحيان. أشخاصًا لا يمكن أنْ يوصَفوا بأنهم مجرد هُواةٍ في المسائل العلمية. غير أنَّ هذا الاتِّساع في نطاق النظرة الفلسفية اختفى خلال القرن التاسع عشر، في إنجلترا وألمانيا على الأقل، وكان ذلك راجعًا في المحلِّ الأول، إلى تأثير الفلسفة المثالية الألمانية. أما الفرنسيُّون فكانوا في ذلك الحين، كما ذكرْنا من قبل، مُحصَّنين ضد تأثير تلك المثالية الألمانية، لسببٍ بسيط هو أن لُغتهم لا تتلاءم بسهولةٍ مع هذا النوع من الفكر التأمُّلي، ونتيجة لذلك، لم يكن للانفصال بين العلم والفلسفة نفس القدْر من التأثير في فرنسا، ولكن هذا الانشقاق استمرَّ على وجه العموم منذ ذلك الحين. صحيح أنَّ العلماء والفلاسفة لا يتجاهل كلٌّ منهم الآخرين تجاهلًا تامًّا، ومع ذلك يبدو من المعقول أن نذكُر أنَّ كل فريقٍ كثيرًا ما يُخفِق في فَهم ما يقوم به الفريق الآخر. وهكذا فإنَّ مغامرات بعض العلماء المُعاصِرين في ميدان الفلسفة ليست في أغلب الأحيان، أكثر توفيقًا من محاولات الفلاسفة المثاليِّين في الاتجاه المضاد.

أما على الصعيد السياسي فإنَّ القرن التاسع عشر كان في أوروبا عصر خلافاتٍ قومية مُتزايدة، على خلاف القرْن الأسبق الذي لم يكن ينظُر إلى تلك المسائل بمِثل هذه الحدَّة. ففي القرن الثامن عشر كان في وُسع النبلاء الإنجليز أن يقضوا شهور الشتاء على سواحل البحر المتوسِّط، كما اعتادوا من قبل، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تخُوض حربًا ضدَّ إنجلترا، وهكذا كانت الحرب، مع كلِّ قُبحها، أخفَّ إلى حدٍّ بعيد مما أصبحت عليه بعد ذلك. ولكن الوضع قد اختلف في الحروب القومية الكُبرى التي نشِبت خلال الأعوام المائة الأخيرة، فأصبحت الحرب أكفأ بكثير، شأنها شأن العديد من الأمور في حياتنا المعاصرة. والشيء الوحيد الذي أنقذ العالم من الدَّمار الكامل هو انعدام الكفاءة الأزلي في حُكَّامه. ولو قُدِّر لشخصٍ في مثل عبقرية أرشميدس أن يُمسِك بمقاليد الحُكم في أيَّامنا هذه، بحيث تكون الآلات الموضوعة تحت تصرُّفه قنابل ذرية بدلًا من المنجنيق، لكان مصيرنا الفناء الفوري.

على أنَّ الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر لم تستطع أن تتنبَّأ بكلِّ هذه التطوُّرات، بل كان يسود، على العكس من ذلك، نوع من التفاؤل العلمي جعل الناس يؤمنون بأنَّ مملكة السماء أوشكت أنْ تحِلَّ في الأرض، وأدَّى التقدُّم السريع الذي تحقَّق في العلم والتكنولوجيا إلى الاعتقاد بأنَّنا أوشكْنا على حلِّ جميع مشكلاتنا، وكان المتوقَّع أن تكون فيزياء نيوتن هي الأداة التي تضطلع بهذه المهمة، غير أنَّ كشوف الجيل التالي قد أحدثت صدمةً عنيفة لدى أولئك الذين ظنُّوا أن كل ما تبقَّى أمامنا هو تطبيق المبادئ المعروفة للنظرية الفيزيائية على الحالات الخاصة التي تعرِض لنا. كذلك فإنَّ الكشوف المتعلِّقة بالتركيب الداخلي للذرَّة قد أدَّت في عصرنا الراهن، إلى زعزعة النظرة الهادئة المُستقرَّة التي كانت سائدةً عند نهاية القرن الماضي.

ورغم هذا كله فما زال هناك قدْرٌ من هذه النزعة التفاؤلية العلمية سائدًا؛ إذ يبدو أن إمكانات تشكيل العالَم عن طريق العلم والتكنولوجيا لا حدَّ لها، وفي الوقت ذاته هناك شكٌّ متزايد، حتى بين الخبراء أنفسهم، في أن العالَم الجديد الذي تخلُقه هذه التكنولوجيا قد لا يكون نعمةً خالصة كما يتخيَّل أنصاره المُتحمِّسون؛ ذلك لأنَّ جيلَنا الحالي قد أُتِيحت له فرصٌ عديدة لكي يلاحظ أثناء حياته إحدى النتائج المؤسِفة لهذا العالَم الجديد، وهي أنَّ من الممكن إلغاء قدْرٍ كبير من الاختلافات بين البشر، هذا الإلغاء قد يجعل المجتمع أكثر كفاءةً وأكثر استقرارًا، ولكنه سيكون بالتأكيد بداية النهاية بالنسبة إلى كلِّ جهدٍ عقلي، في العِلم أو في أي ميدانٍ آخر. والواقِع أنَّ هذا النوع من الحلم هو في أساسه وَهْم هيجلي، يفترِض أن هناك حالات نهايةٍ قصوى يُمكن بلوغُها، وأن البحث العقلي عملية يمكن أن تقِف عند حد. غير أن هذا رأيٌ باطل، والصحيح، على العكس من ذلك، هو أنَّ البحث لا حدودَ له، وربما كانت هذه الحقيقة الأخيرة هي التي ستَحمينا آخِر الأمر من ذلك النوع من الأهداف الذي يحلُم به صنَّاع الأوهام الطوباوية من آنٍ لآخَر.

إنَّ الاتساع الهائل في نطاق السيطرة العلمية يُثير مشكلاتٍ اجتماعية جديدة ذات طابع أخلاقي. ولو نظرْنا إلى كشوف العُلماء واختراعاتهم في ذاتها لكانتْ مُحايِدة من الوجهة الأخلاقية، ولكن القوة التي تُكسِبنا إيَّاها هي التي يمكن تحويلها في اتجاه الخير أو الشر. والواقع أن هذه ليست مشكلةً جديدة بالمعنى الصحيح، ولكن ما يجعل نتائج العِلم أشدَّ خطورةً في أيامنا هذه هو الفعالية المُرعِبة لأدوات الدَّمار المتوافرة في الوقت الراهن. وهنالك فارق آخر بين الوضع الراهن والأوضاع السابقة، هو أنَّ المصادر العلمية الحديثة للقوة والسيطرة تتَّخِذ طابعًا لا تمييز فيه حين تُستخدَم من أجل التدمير. وهكذا ابتعدْنا كلَّ الابتعاد عمَّا كانت عليه الأوضاع أيام الإغريق، حين كان من أفظع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها اليوناني في زمن الحرب، قطْع أشجار الزيتون.

ولكننا بعد أن وجَّهنا كل هذه التحذيرات، ينبغي أن نتذكَّر أنَّ من أصعب الأمور رؤية المرء لعصره من منظورٍ صحيح. وفضلًا عن ذلك فلم تحدُث حتى الآن طوال تاريخ حضارتنا، حالةٌ واحدة لم يتمكَّن فيها ذوو البصيرة والعزم في نهاية الأمر، من الوصول إلى طريقةٍ لإصلاح الأوضاع في الوقت الذي كان يبدو فيه أنَّ كل شيءٍ قد ضاع، ورغم ذلك فمن الواجب أن نؤكد أننا نُواجِه موقفًا مختلفًا عن كل ما حدَث في الماضي. ففي الأعوام المائة الأخيرة طرأتْ على الغرْب تغيُّرات مادية لم يسبق لها في التاريخ مَثيل.

لقد كان ردُّ فِعل العلم ضد الفلسفة، في المُحصِّلة النهائية، إحدى نتائج وضعية كونْت، فقد رأيْنا في هذا الصَّدد أنَّ كونت كان حريصًا على استبعاد وضع الفروض، وكان يرى أنَّ ما يجِب عمله إزاء الظواهر الطبيعية هو وصفُها لا تفسيرها، ومثل هذا البرنامج يرتبط على نحوٍ ما بالحالة العامة للتفاؤل العلمي في العصر؛ إذ لا يمكن أنْ يظهر موقفٌ كهذا إزاء التفكير النظري إلَّا حين يسُود الشعور بأنَّ العمل العِلمي قد وصل إلى درجةٍ من الاكتمال وأنَّ النهاية باتتْ على مرمى البصَر.

ومن الجدير بالملاحظة، بالنسبة إلى هذا الموضوع بالذات، أنَّ هناك فقرةً كتبها نيوتن، يقتبِسها الكثيرون بمعزِلٍ عن سياقها، فيؤدي ذلك إلى تشويهها، ففي معرِض حديث نيوتن عن الطريقة التي تسير بها الأشعة الضوئية قال بطريقةٍ حذرة أنه لا يضع فروضًا، فهو لا يحاول أن يقدِّم تفسيرًا، ولكنَّه لا يقصد أنَّ هذا مُستحيل. ومع ذلك يُمكننا أن نعترِف بأنه حين تُطرَح نظرية قوية مثل نظرية نيوتن، تَظلُّ تُستخدَم طوال وقتٍ ما استخدامًا فعَّالًا دون حاجةٍ إلى مثل هذه الفروض. وبقدْرِ ما اعتقد العلماء أن فيزياء نيوتن توشِك على أنْ تحلَّ جميع المشكلات الباقية، كان من الطبيعي أن يؤكدوا أهمية الوصف على حساب التفسير. ومن جهةٍ أخرى فإن الفلاسفة المثاليين كانوا يَميلون، على الطريقة الهيجليَّة، إلى الجمْع بين كافة فروع البحث في نسَقٍ واحدٍ شامل. وفي مقابل ذلك رأى العلماء أنَّ أبحاثهم ينبغي ألَّا تُدرَج ضمن فلسفةٍ واحدية كهذه. أما المطلب الوضعي بضرورة التزام حدود التجربة ووصفها، فقد تمَّ الربط عن وعيٍ بينه وبين العودة إلى «كانْت» وأتباعه. ذلك لأن البحث عن تعليلاتٍ للظواهر والسعي إلى تقديم تفسيرات، يعني الخَوض في ميدان الأشياء في ذاتها، حيث لا تنطبق المقولات المُستخدَمة في التفسير أصلًا. لذلك لا بدَّ أن تكون مهمَّة تقديم التفسيرات مهمَّةً وهميَّة خدَّاعة.

هذا الموقف من النظرية العلمية هو الطابع المُميِّز لمجموعةٍ كاملة من العلماء المُهتمِّين بالنتائج الفلسفية لأعمال البحث العلمي، ولكن ينبغي أن نلاحظ، في صدَدِ استخدامهم لاسم «كانْت» في هذه المسألة، أنَّ وجهة النظر التي يُمثلها هؤلاء المفكرون ليست كانْتيَّة بالمعنى الأصلي للكلمة. ذلك لأنَّ نظرية المعرفة عند «كانْت»، كما رأينا من قبل، تجعل إطار مقولات التفسير شرطًا ضروريًّا للتجربة. وفي هذا السياق الحالي يوصَف التفسير بأنه غير عِلمي؛ إذ يفترِض أنه يتجاوز التجربة. ولذا لا يمكن أن يُقال عن هؤلاء العلماء الوضعيين أنهم فهموا «كانْت» فهمًا سليمًا.

ولقد كان أشهر مُمثلي هذه الجماعة هو إرنست ماخ E. Mach (١٨٣٨–١٩١٦م) الذي يُقدِّم إلينا كتابه «عِلم الميكانيكا» عرضًا وضعيًّا للميكانيكا. وفي سبيل تحقيق هذا الهدَف، حرص كلَّ الحرص على تجنُّب استخدام المصطلح المدرسي الذي تسرَّب بقدرٍ ما إلى فيزياء نيوتن. ومن أوضح أمثلته مصطلح «القوة». فالقوة ليستْ شيئًا يمكن رؤيته. بل إنَّ كل ما يُمكننا قوله هو أنَّ الأجسام تتحرَّك على أنحاءٍ مُعيَّنة. لذلك استغنى ماخ عن القوة وعرَّفها من خلال تصوُّرٍ حركي بحت هو عجلة السرعة acceleration. وبالطبع فإن ماخ لا يعتزِم تقديم ميكانيكا تكون أكثرَ إحكامًا من حيث هي عِلم، بل إنَّ الممارسة الوضعية هي في الواقع تطبيق «لِسكين أوكام» على ما يبدو أنه نموٌّ طُفيلي زائد لتصوُّراتٍ علمية لا جدوى منها. ولن يُمكننا أنْ نبحث هنا بالتفصيل عمَّا إذا كان هناك مُبرِّر لعملية الإزالة هذه. ولكن من المُهمِّ أن نؤكد مسألةً واحدة فيما يتعلَّق بالمنهج العِلمي بوجهٍ عام. فاستبعاد الفروض معناه إساءة فَهم وظيفة التفسير في العِلم؛ ذلك لأنَّ الفرض يُفسِّر بقدْرِ ما يُعلِّل الظواهر ويتنبَّأ بالمستقبل. وإذا لم يكن هو ذاته موضوعًا للبحث، فمن الممكن أن يظلَّ يفسر، وذلك على الأقل بقدْر ما لا يتعارَض مع الوقائع، ولكنَّه لا يفسِّر إلَّا لأنه يظلُّ هو ذاته بلا تفسير. وعندما يُراد إيجاد تعليلٍ له هو ذاته لا يعود يُفسِّر، بل ينبغي تعليلُه بفرضٍ آخَر، يظلُّ بدَوره بلا تفسير، وليس في ذلك أي غموض؛ إذ إنك لا تستطيع أن تفسِّر على الفور كلَّ شيءٍ في آنٍ واحد. ولكن الوضعيِّين يُخطئون حين يذهبون إلى أنك لا تستطيع أن تُفسِّر أيَّ شيءٍ على الإطلاق؛ ذلك لأنَّنا لو افترضْنا أننا قرَّرْنا التخلِّي عن كل الفروض، فكيف إذن سنظلُّ نمارس عِلمنا؟ إنَّ كلَّ ما يتبقَّى عندئذٍ سيكون نوعًا من التصنيف على غرار ما قام به بيكن، وهذا التصنيف، كما رأيْنا، لن يُفيدَنا كثيرًا، وهكذا فإنَّ مجرَّد استمرار العِلم في طريقه هو في ذاته تفنيد لوضعيةِ مُفكرين مثل ماخ. ونستطيع أن نجد أوضح وأصرَح نقدٍ للمذهب الوضعي في أعمال مايرسون E. Meyerson (١٨٥٩–١٩٣٣م) حيث نجِد نظريةً في العِلم تستلهِم روح «كانْت» بطريقةٍ أصيلة في مبدئها العام، وإنْ لم تتقيَّد بتفاصيلها.

والواقع أنَّ الفلاسفة العِلميين، في محاولاتهم إيجاد بدائل علمية لا يُطلقون عليه بازدراء اسم «الميتافزيقا». قد وقَعوا في كثيرٍ من الأحيان في مشكلاتٍ ميتافيزيقية خاصَّة بهم، وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب. فعلى الرغم من أنه قد يكون لهم بعض الحقِّ في رفض التأمُّلات الميتافيزيقية للفلاسفة، فإنهم لم يُدركوا أنَّ البحث العلمي ذاته يمضي في طريقه على أساس فروضٍ مُسبقة مُعيَّنة. وإلى هذا الحد، على الأقل، يبدو أنَّ «كانْت» كان على حق. فالفكرة العامة للسببية مثلًا، شرط مُسبق للعمل العلمي، وهي ليست نتيجة بحث، وإنما هي افتراضٌ مسبق، حتى ولو كان ضمنيًّا فحسْب، يستحيل بدونه السَّير في طريق البحث. ولو نظرْنا، في ضوء هذه الملاحظات، إلى التجديدات الفلسفية التي ظهرَتْ مؤخَّرًا في كتابات العلماء لما وجدناها مُثيرةً للاهتمام إلى الحد الذي تبدو عليه للوهلة الأولى.

أما بالنسبة إلى دلالة القضايا وإجراءات البحث العلمية، فقد كان الاتجاه يسير نحوَ طرْحها جانبًا لصالح شكلٍ من أشكال الطقوس الرياضية، فقد أدَّت كشوف العِلم إلى زعزعة النظرة النيوتونية إلى العالَم، بكل ما كانت تتَّصِف به من صلابةٍ واكتمال. غير أنَّ العلماء بدلًا من أن يحاولوا توسيع مدى النظرة، اكتفَوا — على وجه العموم — بمُعالجة مشكلاتهم عن طريق الاستعانة بنظرياتٍ رياضية يُمكن أن تأتي بنتائج مُرضية إذا ما فُسِّرت بالطريقة المناسبة. وهكذا فإنَّ الخطوات الوسطى، المُتعلِّقة بالحساب والتحويل، تُترَك وحدَها، وتقوم بوظيفة مجموعةٍ من القواعد فحسْب. والواقع أنَّ هذا الموقف، الذي هو واسع الانتشار، وإن لم يكن ساريًا على الجميع، يُذكِّرنا إلى حدٍّ بعيدٍ بالنزعة الصوفية العددية عند الفيثاغوريين وأتباعهم في عصر النهضة المُتأخِّر.

أما في الفلسفة ذاتها فقد أدَّت هذه الاتجاهات العامَّة إلى إيجاد حركةٍ متباعِدة عن العِلم، ولا يتمثَّل ذلك فقط في عودة ظهور الاتجاهات المثالية في القارة الأوروبية، بل إنه يصدُق أيضًا على الفلسفة الإنجليزية التي تسير في اتجاهٍ لُغوي إلى حدٍّ بعيد. فإذا بدأنا بالحديث عن هذه الأخيرة (أي الفلسفة الإنجليزية) لوجَب أن نوافق على الرأي القائل إنه ليس من مهمَّة الفلسفة بالفعل أن تقوم باكتشافات، بل إنَّ مهمَّتها تنحصِر في تقدير مزايا الطرُق المختلفة في الكلام عن الأمور التي تعترِف بها جميع الأطراف. وهذه، على أية حال، إحدى المهام التي كانت الفلسفة تقوم بها على الدوام. ومع ذلك فإنَّ الآراء الفلسفية المختلفة قد تساعد على تقدُّم البحث العلمي أو تعُوقه بدرجاتٍ مختلفة.

فإذا عُدْنا إلى ميدان الفلسفة بمعناها الصحيح، وجدْنا أنَّ المسرح الفلسفي في إنجلترا كانت تُسيطر عليه، في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، المثالية التي انتقلَتْ إليه من داخل القارة: ففي بريطانيا يأتي المطَر من أيرلندة وتأتي المثالية من ألمانيا. غير أنَّ الشخصية الرئيسية في هذا الميدان لم تكن تُساير التراث الهيجلي كلية، تلك الشخصية هي برادلي F. H. Bradley (١٨٤٦–١٩٢٤م) الذي درس وألَّف في أكسفورد، وصاغ رفضًا نقديًّا للمثالية، وكان يهدف إلى بلوغ «مُطلَق» يُذكِّرنا بالله أو الطبيعة عند اسبينوزا أكثر ممَّا يُذكِّرنا بالفكرة المُطلقَة عند هيجل. أما المنهج الجدلي الذي اتَّبَعه في مناقشاته فلم يكن مبدأ للنمو العضوي، كما كان بالفعل عند هيجل، وإنما كان سلاحًا كلاميًّا على طريقة أفلاطون والسابقين عليه من الإيليين. بل إنَّ برادلي يبذل جهدًا خاصًّا من أجل مُعارضة النزعة العقلية الواحدية عند هيجل، التي كانت تنطوي على اتجاهٍ إلى التوحيد بين المعرفة والوجود، وهو رأي يرتدُّ آخِر الأمر إلى سقراط والفيثاغوريين. فبرادلي يحاول الهبوط إلى ما هو أدنى من الفكر العقلي ومقولاته، إلى مستوى الشعور المحض أو التجربة الخالصة، وهذه هي المرحلة التي نستطيع فيها أن نتحدَّث عن الواقع الفعلي reality. أما الفكر فهو دائمًا نوع من التزييف لا يوجَد فعليًّا، فالفكر يبعث مظاهر فحسْب، لأنه يُشوِّه الواقع الفعلي إذ يُضفي عليه إطارًا دخيلًا من التصنيفات والارتباطات. وهكذا يرى برادلي أنه لا مفرَّ لنا، خلال عملية التفكير، من أنَّ نُوقِع أنفسنا في تناقُضات. وقد عرَض برادلي هذه النظرية في كتابٍ أطلق عليه اسم «المظهر والحقيقة».
إنَّ محور هجوم برادلي على الفكر هو أنه بالضرورة «علائقي»، والعلاقات تُوقِعنا في التناقض، كما يحاول أن يُثبت. ولكي يُبرهن برادلي على هذه النتيجة غير العادية يستخدِم شكلًا آخَر من أشكال حجَّة «الرجل الثالث» على النحو الذي استخدمتْها عليه شخصية بارمنيدس، في محاورة أفلاطون، ضدَّ نظرية المشاركة عند سقراط. فلمَّا كانت الصفات والعلاقات مُتميزة من جهةٍ ومتلازِمة من جهةٍ أخرى، فلا بدَّ أن يكون في وُسعِنا أن نُميز، في أية صيغةٍ أو كيفية بعَينها، بين الجزء الذي هو كَيفي بالمعنى الصحيح، والجزء الذي يُحدِّد الروابط العلائقية. غير أنَّنا لا نستطيع أنْ نقوم بتمييزٍ كهذا بين الأجزاء المختلفة لصفةٍ أو كيفية، وحتى لو أمكنَنا ذلك، لواجهتْنا مشكلة الربط بين الجزأين مرةً أخرى، ممَّا يؤدي إلى علاقة جديدة تُثير حجَّة الرجل الثالث، من جديد.١

وهكذا فإنَّ ميدان الفكر، ومعه العلم، يشوبه التناقُض، ومن ثَم فهو ينتمي إلى ميدان المظهر لا الحقيقة. والواقع أنَّ برادلي يصِل هنا، ولكن بطريقةٍ مُلتوية تدعو إلى الدهشة، إلى نفس النتيجة التي وصل إليها هيوم، وإن كانت الأسباب التي أدَّت به إلى ذلك مختلفة. ولكنه مِثل هيوم يرفض فكرة الذات لأنها تنطوي على علاقات. أما ألوهية الأديان التقليدية فتنتمي بدَورها، ولنفس السبب، إلى ميدان المظهر.

وبعد أن تخلَّص برادلي من المظهر على هذا النحو، يجِد الحقيقة في «المُطلَق»، الذي يمكن تَشبيهه «بالواحد» في المدرسة الإيلية، ولكنَّنا نستشعِره من الداخل على مستوًى أقربَ إلى الطابع المباشر من الفكر العقلي. في هذا المُطلَق تتَّحِد جميع الاختلافات وتُحَلُّ جميع الصراعات. ولكن هذا لا يعني إلغاء المظاهر؛ ففي حياتنا اليومية نُفكر في العلم ونُمارسه، ممَّا يجعلنا نندمج في المظهر. وبالمِثل فإنَّ الشر الذي يرتكِبه الناس مُتغلغِل في العالم اليومي العادي، بوصفه مظهرًا. غير أن هذه النقائص تختفي في المطلق.

وفي فلسفة بندتو كروتشه Benedetto Crce (١٨٦٦–١٩٥٢م) نجد ضربًا آخر من المثالية، مُستمدًّا في بعض جوانبه من الهيجلية، وإنْ كان التأثير المباشر لفيكو أهمَّ في هذه الحالة. ولم يكن كروتشه فيلسوفًا أكاديميًّا، بل كان يتمتَّع باستقلالٍ اقتصادي طوال حياته المديدة. ونظرًا إلى مكانته الدولية فقد صمَد للعهد الفاشي دون أن يَلحقَ به أذًى بالِغ، وشغل بعد الحرب عدَّة مناصب في الحكومة الإيطالية.
وقد ألَّف كروتشه بغزارة في التاريخ والأدب، وأسَّس في عام ١٩٠٥م مجلةً أدبية ترأَّس تحريرها، اسمُها «النقد La Critica». ومن السِّمات المُميزة لنظرته الفلسفية، اهتمامه بعِلم الجمال، نظرًا إلى تلك التجربة العَينيَّة التي يمرُّ بها الذهن حين يتأمَّل عملا فنيًّا.
ولقد كان كروتشه يُشارك هيجل رأيه القائل إنَّ الحقيقة روحية، إذ إنَّ الاتجاه الواحد عند هيجل لا يترُك مجالًا للصعوبات المعرفية التي أثارتها التجريبية الإنجليزية، ولا حتى لتلك التي أثارتها نظرية كانْت. ولكن على الرغم من أنَّ إلحاح هيجل على الجدَل جعله يؤكِّد أنَّ العمليات الذهنية تنطوي على قهرٍ إيجابي للعقَبات، فإنَّ كروتشه يبدو وكأنه يعود هنا مباشرةً إلى معادلة فيكو القائلة بأنَّ الحقيقة هي الفعل Venum Factum. وعلى أية حالة فإنَّ كروتشه كان واعيًا ببعض نقاط الضعف الرئيسية في الهيجلية كتطبيق الجدل على الطبيعة، والتقشات الثلاثية التي تنطوي على ممارساتٍ عددية سحرية، ولكن أكبر أخطاء هيجل هو مفهوم المذهب المثالي عنده، وهو المفهوم الذي وجَّهْنا إليه من قبلُ بعض الملاحظات النقدية، ونستطيع أن نُضيف الآن إلى ما قُلناه أنَّ هناك نوعًا من التعارُض بين فكرة التطوُّر الجدلي وفكرة بلوغ أهدافٍ نهائية. أما كروتشه فيحتفِظ بفكرة التطوُّر وإنْ لم يقبل الوصف الذي قدَّمَه هيجل لها. وبدلًا من أنْ يقول بالمسار الجدلي، قال بشكلٍ مُعدَّل من أشكال نظرية المراحل عند فيكو؛ ذلك لأنَّ فيكو كان يعتقد أن هذه التطورات دائرية، بحيث يعود كلُّ شيء في النهاية إلى نقطة البداية الواحدة، وهو رأي يرجِع كما رأَيْنا، إلى أنبادقليس. أما كروتشه فقد نظر إلى هذه التغيُّرات على أنها تسير إلى الأمام، بحيث إنَّ العقل، حين يعود إلى المرحلة الأصلية، يكون قد اكتسب خلال مساره السابق استبصارًا جديدًا.

ولكن ينبغي أن نعترِف بأنَّ كروتشه، على الرغم من كل ما رفضَه من هيجل، يظلُّ يحتفظ في كتاباته بقدرٍ معقول من الجدل، فهو يتحدَّث في كتابه عن عِلم الجمال بطريقةٍ تذكِّرنا بمنطق هيجل إلى حدٍّ بعيد، ولنستمِعْ إليه وهو يقول: «إنَّ الرابطة الوثيقة بين الخطأ والصواب تنشأ من أنَّ الخطأ البحت، الخالص، لا يمكن تصوُّره، ونظرًا إلى أنَّ من المستحيل تصوُّره، فهو غير موجود. إنَّ الخطأ يتكلَّم بصوتَين، أحدهما يؤكد البطلان، ولكن الآخر يُنكره، وهذا تصادُم بين نعم ولا، يُسمَّى بالتناقُض.» هذا النصُّ يفيد أيضًا في إبراز فكرة كروتشه القائلة إنَّ الذهن مُطابق للواقع، فليس في العالَم شيء لا يُمكننا أنْ نكتشِفَه من حيث المبدأ. وأي شيء يستحيل تصوُّره لا يمكن أن يكون موجودًا، ومِن ثَمَّ فإنَّ ما هو موجود هو أيضًا قابل لأن يُتصوَّر، وممَّا تجدُر ملاحظته أنَّ برادلي يؤمن بالشكل العكسي لهذه القضية، إذ رأى أنَّ ما يمكن تصوُّره لا بدَّ من أجل ذلك أنْ يكون موجودًا، وقد صاغ فكرته هذه على النحو الآتي: «ما يمكن وجوده، وينبغي وجوده، موجود.» وأخيرًا فإنَّ التأثير الهيجلي هو الذي جعل كروتشه يعرِض فيكو كما لو كان فيلسوفًا عقلانيًّا ينتمي إلى القرن التاسع عشر، على حين أنه كان في الواقع أفلاطونيًّا ينتمي إلى القرن السابع عشر.

أما في فرنسا فإنَّ أقوى الفلاسفة تأثيرًا عند نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قد اتَّخذ وجهة نظرٍ مختلفة في ردِّ فِعله على العلم، فهنري برجسون H. Bergson (١٨٥٩–١٩٤١م) ينتمي إلى التراث اللاعقلي الذي يرجع إلى روسو والحركة الرومانتيكية، وقد أكد برجسون، كالبرجماتيين، أهمية الفعل فوق كلِّ شيء آخر، وكان في ذلك يُعبِّر عن قدرٍ من نفاد الصبر تجاه الاستخدام الدقيق والنزيه للعقل في الفلسفة والبحث العلمي، فمن أهمِّ سِمات الفكر العقلي بحثُه عن الدقَّة. وتُمثل القواعد التي نصَّ عليها ديكارت في كتاب «المقال في المنهج» وصفًا جيدًا لهذه السِّمة. وأهم ما نلاحظه في هذا الصدد هو أننا، حين نحاول اقتناص الحركة العابرة للتجربة وحصرها داخل إطار اللغة، نُوقِف تدفُّق الواقع وصيرورته، ونضع في مكانها صورة لفظية سكونية هزيلة له. هنا نجد أنفسنا مرةً أخرى في مواجهة مشكلة هرقليطس وبارمنيدلس القديمة، والهدف الذي يسعى إليه برجسون هو الدفاع عن حقيقة الصيرورة في التجربة، في مقابل تشويه الصِّيَغ الجامدة التي تنتمي إلى العقل وصورته عن العالم.

إلى هذا الحدِّ تُذكِّرنا مشكلة برجسون بمشكلة برادلي. غير أنَّ الحلَّ الذي أتى به برجسون للمشكلة مختلفٌ كل الاختلاف. فقد كانت ميتافيزيقا برادلي مرتبطةً في النهاية ارتباطًا وثيقًا بالنظريات المنطقية التي تُبنى عليها، ومرتبطة بوجهٍ خاص بنظريةٍ عن الحقيقة تقوم على فكرة الرابط. أما عند برجسون فإنَّ المنطق ذاته هو العنصر الذي ينبغي تجاوزه. وبهذا المعني يمكن أن يُوصَف برادلي بأنه عقلي، على حين أنَّ برجسون لا عقلي.

إنَّ فلسفة برجسون، على العكس من الفلسفات الواحدية، من مثاليةٍ ومادية، في القرن التاسع عشر، تعود إلى النظرة الثنائية إلى العالم. غير أنَّ القِسمَين اللذَين أرجع الكَون إليهما، يختلفان عمَّا قالت به النظريات الثنائية السابقة، فأحدهما هو المادة، كما كانت الحال عند ديكارت، أما الآخر فهو نوع من المبدأ الحيوي يختلف عن الشطر الذهني في العالَم، الذي قال به الفلاسفة العقليُّون. هاتان القوَّتان الكبيرتان: الحيوية من جهة، والمادية من جهة أخرى، تشتبِكان في صراعٍ دائم يحاول فيه الاندفاع الإيجابي للحياة أن يتغلَّب على العقبات التي تضعها أمامه المادة الجامدة. وفي هذه العملية تتشكل القوة الحيوية إلى حدٍّ ما، بالظروف المادية التي تعمل فيها، ولكنها تحتفِظ مع ذلك بصفةِ الحرية الأساسية فيها، ويرفُض برجسون نظريات التطوُّر التقليدية نظرًا إلى ميولها العقلانية، التي لا تسمح بانبثاق أيِّ شيءٍ جديد بصفةٍ أساسية. فاللاحق يبدو مُتضمَّنًا على نحوٍ ما في السابق، أو محكومًا به، مما يُهدِّد بضياع حرية الفعل التي ينسبها برجسون إلى القوة الحيوية. فالتطوُّر في رأيه يُنتج تجديدًا أصيلًا، وهو خلَّاق بالمعنى الحرفي. هذه النظرية تُعرَض في أشهر كتبه، الذي يحمِل عنوان «التطوُّر الخلَّاق». والواقع أن نوع المسار التطوُّري الذي يفترضه برجسون مأخوذ مباشرةً من تشبيه الخلق أو الإبداع الفني، فكما أن ما يُحرِّك الفنان إلى الفعل هو نوع من الحافز الخلَّاق، كذلك تعمل القوة الحيوية في الطبيعة، أي أنَّ التغيرات التطوُّرية تحدُث عن طريق اندفاعاتٍ خلَّاقة مستمرَّة تهدف إلى إيجاد سماتٍ جديدة مُعيَّنة لم يكن لها وجود من قبل.

أما بالنسبة إلى الإنسان، فإنَّ العملية التطورية قد أوصلتْنا إلى حيوانٍ طغى فيه العقل على الغريزة. ويرى برجسون أنَّ هذا أمر مؤسف، تمامًا كما رأى روسو من قبل. فقد اتَّجَه عقل الإنسان إلى خنق غرائزه، وسلبَه بذلك حُريته. ذلك لأن العقل يفرِض قيوده الذهنية الخاصة على العالم، فيقدِّم بذلك صورةً مشوَّهة له. وهكذا نرى إلى أي حدٍّ تبتعِد هذه الآراء عن موقف العقليين الذي يرى في العقل قوةً تُحقِّق لنا التحرُّر.

وأعلى أشكال الغريزة هو الحدْس، الذي هو نوع من النشاط الروسِّي يتوافق بصورةٍ مباشرة مع العالم. فعلى حين أنَّ العقل يُشوِّه التجربة، نجد الحدْس يندمج فيها على ما هي عليه. والعَيب الذي يشُوب العقل في رأي برجسون هو أنه لا يتطابق إلَّا مع الانفصال السائد في العالَم المادي. وواضح أنَّ هذا الرأي يرتبِط بفكرة اللغة بوصفِها إطارًا يضمُّ مفاهيم يسُودها الانفصال. أما الحياة فهي في جوهرها مُتَّصِلة، ومن ثَمَّ يعجز العقل عن فهمها، ولذا ينبغي علينا أن نعود مرةً أخرى إلى الغريزة.

ويرتبط التمييز بين العقل والحدْس عند برجسون بتمييزٍ آخر موازٍ له بين المكان والزمان. فالعقل، الذي يُفكِّك العالَم أو يُحلِّله، يعمل بطريقةٍ لا زمانية، شبيهة بالحلم. ولو عُدْنا إلى استخدام التقابُل الذي أشرْنا إليه من قبل بين النظري والعملي، بالمعنى الاشتقاقي لهاتَين الكلمتَين، لوجدْنا العقل نظريًّا، فهو يتأمَّل العالم بطريقةٍ هندسية، وبالنسبة إليه يكون هناك مكانٌ دون أن يكون ثمَّة زمان. غير أنَّ الحياة مسألة عملية تنساب في الزمان، وهنا يكون للحدْس دوره. صحيح أنَّ لِعمليات التشريح المكانية التي يقوم بها العقل بعض الأهمية، ولكنها مع ذلك عقبة في وجه الفَهم الصحيح للحياة. أما الزمن الذي تتحدَّث عنه النظريات الفيزيائية فليس زمنًا بالمعنى الحقيقي، وإنما هو نوع من المجاز المكاني، والزمن الحقيقي للحدْس هو ذلك الذي يُطلِق عليه برجسون اسم الديمومة duree وهو شيء يصعُب وصفُه، ويبدو أنَّ برجسون يتصوَّره على أنه نوع من التجربة البحت التي تطغي علينا عندما نتوقَّف عن التفكير العقلي ونترك أنفسنا في انسيابٍ مع موجة الزمان، وربما جاز لنا أن نُشبِّه هذه الفكرة بأحوال المعرفة الوجودية كما تحدَّث عنها كيركجور، وكما أخذ بها الوجوديون اللاحقون بعد تعديلها.

وترتبط نظرية الزمان عند برجسون بالوصف الذي يُقدِّمه للذاكرة. ففي الذاكرة يصطنع العقل الواعي نوعًا من الاتِّصال بين الماضي والحاضر؛ ذلك الماضي الذي لم يعُد يُمارَس فعلًا، والحاضر الذي هو فعَّال الآن. وبالطبع فإنَّ هذه الطريقة في الكلام تفترِض نفس ذلك الزمن الرياضي الذي حرَص برجسون في غير ذلك مِن المواضع على استبعاده لصالح الديمومة، فلا بدَّ أن يكون الماضي والحاضر منفصِلَين حتى يكون هنالك معنى للقضية السابقة المُتعلِّقة بالفعل. وفضلًا عن ذلك، فهناك خلط ينشأ من المعنى المزدوَج الذي يُنسَب إلى كلمة الذاكرة، إذ نعني بالذاكرة أحيانًا النشاط العقلي المتعلِّق بالتذكُّر هنا، وفي الوقت الراهن، ونعني بها أحيانًا أخرى الحدَث الماضي الذي يتمُّ تذكُّره على هذا النحو. وهكذا فإنَّ الخلْط بين النشاط الذهني وموضوعه يؤدي إلى الكلام عن الماضي والحاضر وكأنهما ممتزِجان.

ولقد كان هذا الاتجاه المضاد للعقلانية في تفكير برجسون هو الذي أدَّى به إلى أنْ ينصرِف على وجه العموم، عن تقديم أسبابٍ مقنعة أو غير مقنعة، للآراء التي يدعُونا إلى قَبولها، وبدلًا من ذلك اعتمد على الطابع الشعري في تقديم نماذج لآرائه. وهذا يؤدي إلى أسلوبٍ مُشوِّق جذَّاب، ولكنه لا يُقنِع القارئ بالضرورة. بل إنَّ هذه صعوبة تعترض أية مجموعة من القضايا التي تستهدِف تضييق نطاق العقل. ذلك لأنَّ الكلام عن أسبابٍ لقبول رأي مُعيَّن، هو في ذاته التزام بميدان العقل.

ولعلَّ أفضل فهمٍ لنظرية برجسون هو أن تنظُر إليها على أنها تعرِض علينا بعض السِّمات النفسية، لا المنطقية، للتجربة. وبهذا المعنى تكون متمشِّيةً مع بعض الاتجاهات في النظرية النفسية، وهو حُكم ينطبق بالمِثل على الوجودية. ولقد كان أهم تطوُّر جديد في ميدان علم النفس هو نظرية التحليل النفسي، ولكن قبلَ أن نُقدِّم عرضًا موجزًا لها، ينبغي علينا أن نتحدَّث عن اتجاهٍ آخر في علم النفس كان مضادًّا للتحليل النفسي في نواحٍ متعدِّدة، أعني ذلك الاتجاه الذي يُطلَق عليه، بصورة عامَّة اسم «السلوكية».

لقد انبثقَت المدرسة السلوكية في علم النفس عن الوضعية. فهي تُنكِر تلك الكيانات الخفية التي كان يقول بها علم النفس الاستنباطي القديم، وتُعلِن تمسُّكها بالسلوك الظاهر، فلا أهمية إلَّا للأفعال التي نُلاحِظ أنَّ الناس يقومون بها فعلًا، وأقصى ما يمكن السماح به هو أنْ نتكلَّم عن الاستعدادات للعمل على أنحاء مُعيَّنة في ظروفٍ معيَّنة، وذلك ضِمن إطار التصوُّرات التي نستخدِمها في وصف السلوك، وهذه أمور يمكن ملاحظتها بوضوحٍ واختبارها بطريقةٍ تُشبِه إلى حدٍّ بعيد تجارب عالم الفيزياء، ولهذه الطريقة في النظر إلى الموضوع امتداد بسيط يتمثَّل في البحث عن تفسيراتٍ فيزيائية كيميائية، وفسيولوجية، للظواهر النفسية، وهكذا تَسير هذه النظرية في الاتجاه المادي والوضعي بالمعنى الذي أوضحْناه. ولقد كان من أشهر الإنجازات التي تحقَّقت في هذا الاتجاه، أعمال العالم الفسيولوجي الروسي بافلوف Pavlov كل عن الأفعال المنعكسة المُكيفة Conditioned reflexes.٢ فكلُّنا قد سمِعنا عن بافلوف وكلابه التي تُفرز اللُّعاب. وقوام التجربة باختصارٍ شديد، هو تقديم الطعام للحيوان في نفس الوقت الذي تُعرَض عليه فيه إشارةٌ ما، كشكلٍ مُعيَّن على شاشةٍ مثلًا، وبعد فترةٍ مُعينة يصبح الشكل وحدَه كافيًا لإحداث التأثيرات الفسيولوجية التي كان يُتوقَّع حدوثها مع تقديم الطعام، ويبدأ إفراز اللعاب بمجرد ظهور الإشارة. ويُسمَّى هذا النوع من ردود الفعل باسم الفعل المنعكس المُكيف.

والأمر الذي يُفترَض أنَّ هذه الأبحاث تهدف إلى إثباته هو أنَّ الموقف العيني، القابل للملاحظة يكشف عن أحداثٍ مُعيَّنة متَّصِلة به، لها ارتباطات يمكن تغييرها إلى حدٍّ ما عن طريق غرس عاداتٍ معينة. وفي هذه النقطة نجد أنَّ التفسير يستخدِم علم النفس الترابُطي بطريقةٍ تقليدية إلى حدٍّ كبير، تُشبِه طريقة هيوم، ولكن يبدو أنَّ هناك نتيجةً أخرى تُستخلَص من ذلك، هي أنه لا حاجة بنا إلى افتراض كياناتٍ غامضة كالفكر، فكلُّ ما يمكن أن يُقال تُغطِّيه الحوادث المترابطة، القابلة للملاحظة.

وربما كانت هذه صياغةً متطرِّفة للقضية، ولا يمكن قبولها قطعًا إلا في ضوء تحفُّظات مُعينة، ومع ذلك فيكفينا، بالنسبة إلى هدفِنا الحالي، أن نُشير إلى الاتجاه العام، ونستطيع أن نجد في الفلسفة تطوُّرًا مُماثلًا في بعض أشكال علم اللغة التي تستغني عن المعنى، بمفهومه التقليدي، وتستعيض عنه بالاستخدام الفعلي للغة، أو بالاستعداد لاستخدامها بطرُقٍ مُعيَّنة في الظروف المناسبة، وهكذا تفترِض هذه الاتجاهات أنَّنا، مثل كلاب بافلوف، يسيل لُعابنا بدلًا من أن نفكِّر.

ولكنَّنا نجد موقفًا مُضادًّا لهذا تمامًا في النظرية النفسية التي ترتبط باسم زيجمند فرويد Sigmund Freud (١٨٥٦–١٩٣٩م). فقد بدأ فرويد من وجهة نظرٍ بيولوجية إلى حدٍّ غير قليل، ثم انتقل بمُضيِّ الوقت إلى علم نفس يتقبَّل الكيانات الخفية بلا تردُّد. ذلك لأنَّ مفهوم الذهن اللاشعوري يحتلُّ في نظريته موقعًا عظيم الأهمية، وهذا اللاشعور هو، حسب طبيعته ذاتها، غير قابلٍ للملاحظة المباشرة. فإذا تركْنا جانبًا، بصورةٍ مؤقَّتة، الحكم على مدى صحَّة هذه النظرية لوجَب أن نُكرِّر أنها، على أية حال، فرْض علمي مشروع إلى أبعدِ حد. أما أولئك الذين يُبادرون إلى رفضها بدافع التعصُّب الوضعي، فإنهم لا يفهمون وظيفة الفرْض في المنهج العلمي. ولكن لنَعُد إلى فرويد، فنجد أنَّ نظرية الذهن اللاشعوري وأساليب عمله تُشكِّل أداةً لتطوُّراتٍ هامَّة مُتعدِّدة في ميدان البحث النظري في عِلم النفس. أولها هو نظرية فرويد العامة في الأحلام، التي نشرَها عام ١٩٠٠م بعنوان «تفسير الأحلام»، والثاني الذي يرتبط بالأول هو نظريته في النسيان، التي ظهر عرضٌ مبسَّط لها عام ١٩٠٤م ضِمن كتاب «الأمراض النفسية في الحياة اليومية».

إنَّ ما يُميز الحلم عن حالة الوعي واليقظة هو أنه يسمح بنوعٍ من الحرية والتخييل لا يستطيع أن يصمُد، خلال حياة اليقظة، للوقائع الصُّلبة التي تواجِهنا، ولكن حرية الحالِم هذه، مع ذلك، وهمية وليست حقيقية، وتلك هي النتيجة التي ينبغي أن تُوصِّل إليها أية نظرية عامة في الأحلام. والفرْض العام الذي تتضمَّنه مؤلَّفات فرويد هو أنَّنا في هذه الحرية نصِل إلى إشباع رغباتٍ تظلُّ في حياتنا العادية مكبوتةً لأسبابٍ مختلفة، ولا يتَّسع المقام ها هنا للخَوض في آلية الكبْت والتركيب التفصيلي للجهاز النفسي للفرْد، بل يكفي أنْ نُشير إلى أنَّ الحالم يكون لدَيه قدْر مِن الحرية في إعادة تشكيل وإعادة بناء عناصر متنوِّعة لها أساسٌ في التجربة المباشِرة ويقوم بهذا العمل نفسه، لا بالنسبة إلى الرغبات المكبوتة التي ظهرَتْ في اليوم نفسه فحسْب، بل أيضًا بالنسبة إلى الرغبات التي قد تكون أحيانًا راجعةً إلى الطفولة المبكِّرة ذاتها. ومهمَّة التفسير هي إماطة اللثام عن المعنى الحقيقي للحلم. وهذا يقتضي التعرُّف على رموز معيَّنة تتدخَّل في عملية الكبْت، من أجل إخفاء حقيقةٍ غير مؤكدة، أو تجنُّب ذكر الحقائق باسمِها الصحيح، إذا لم يكن ذلك مقبولًا. وقد وضع فرويد خلال هذه التفسيرات مجموعةً كاملة من الرموز، وإنْ كان الإنصاف يقتضي أن نُقرِّر أنه كان في استخدامه لها أكثر تحوُّطًا بكثيرٍ مما كان أتباعه. أما من الجانب العلاجي، الذي كان يُهمُّ فرويد لأنه كان طبيبًا، فإن الكشف عن هذه العمليات أو تحليلها نفسيًّا كان يُعَدُّ أمرًا ضروريًّا من أجل التخلص من الاضطرابات الناجمة عن الكبْت. صحيح أنَّ التحليل لا يكفي لتحقيق العلاج، ولكن أية محاولةٍ للعلاج تُصبح بدونه مُستحيلة. وبطبيعة الحال فإنَّ النظرة العلاجية إلى المعرفة ليست جديدة؛ إذ قال بها كما رأينا سقراط. كما أنَّ أصحاب مدرسة التحليل اللغوي المعاصرة يقولون برأيٍ يقرُب من هذا كل القُرب عن الألغاز الفلسفية، التي يشبِّهونها بحالات عُصابٍ لغوي يَشفينا منها التحليل.

أما عن النسيان، فإنَّ فرويد يربط بينه وبين آليةٍ مُماثلة للكبْت. فنحن ننسى لأنَّنا، بمعنًى ما، نخاف أن نتذكَّر. ولا بدَّ لكي نُشفى من نسياننا أن نصِل إلى فهمٍ وإدراك للعوامل التي تجعلنا نخشى من التذكر.

لقد كانت الميزة التي اتَّسمَت بها النظرية الفرويدية هي أنها قد بذلَتْ محاولةً جادة لتقديم تعليلٍ علمي عام للأحلام. ولا شكَّ أن بعض تفصيلاتها لا تُقنعنا إقناعًا تامًّا؛ إذ يبدو مثلًا أنَّ قاموس الرموز الفرويدي ليس مقبولًا كله. ولكنَّ الشيء الذي لفَتَ الأنظار إلى التحليل النفسي بقوةٍ تزيد عمَّا كان يمكن أن تكون له في الظروف الأخرى، هو اعترافه الصريح بالسلوك الجنسي وكبْتِه، وفي الوقت نفسه فإنَّ هذه الحقيقة ذاتها جعلت التحليل النفسي هدفًا لكثيرٍ من التشنيع غير المُرتكِز على فهمٍ سليم.

لقد كانت القوة المُسيطرة في الفلسفة الأمريكية، منذ نهاية القرن الماضي، هي صورة مُعدَّلة للبرجماتية. وكان أهمُّ مُمثِّليها هو جون ديوي John Dewey (١٨٥٩–١٩٥٢م)، الذي كان أجداده ينتمون إلى منطقة نيو إنجلاند، ومن ثَمَّ فقد تغلغل فيه التراث الليبرالي الذي اشتُهرتْ به هذه المنطقة. وكانت اهتماماته واسعةَ المدى دائمًا، تتجاوز نطاق الفلسفة الأكاديمية. وربما كان أقوى تأثيرٍ له هو ذلك الذي مارَسَه في ميدان التربية، وهو موضوع كانت له فيه إسهامات كثيرة منذ أن أصبح أستاذًا للفلسفة بجامعة شيكاغو عام ١٨٩٤م. وإذا كنَّا نلاحظ في أيامنا هذه أنَّ الفرق بين التعليم بمعناه التقليدي والتدريب المهني الذي يستلزِمه المجتمع التكنولوجي على نحوٍ متزايد؛ إذا كنا نلاحظ أنَّ هذا الفرْق لم يعُد واضحًا بما فيه الكفاية، فإنَّ من أهمِّ أسباب ذلك تأثير أعمال ديوي.
إنَّ فلسفة ديوي تتضمَّن ثلاثة مفاهيم رئيسية ترتبط بتطوُّرات مُعيَّنة حدثَت من قبل، أولها هو العنصر البرجماتي، الذي تحدَّثْنا عنه من قبل. فديوي يشارك بيرس رأيه القائل إنَّ عملية البحث أساسية، ويأتي بعد ذلك التأكيد على الفعل، على نحوٍ كان أقربَ إلى برجسون منه إلى البرجماتية. صحيح أنَّ البرجماتيِّين كانوا مُقتنِعين، كما ذكَرْنا من قبل، بأهمية الفعل ولكن ينبغي أن نتذكَّر هنا أن جيمس قد أساء فهم بيرس، وأن الفاعلية التي كان يتحدَّث عنها بيرس أقربُ بكثيرٍ إلى ما كان في ذهن فيكو عندما صاغ معادلة: الحقيقة هي الفعل. وثالثًا ففي نظرية ديوي قدْرٌ واضح من الفكر الهيجلي، ويظهر ذلك بوجهٍ خاصٍّ في تأكيده أنَّ الهدف النهائي للبحث هو الوصول إلى الكل العضوي أو الموحَّد. وهكذا ينظر إلى الخطوات المنطقية التي تحدث خلال سَعْيِنا إلى تحقيق هذا الهدف على أنها أدوات تُوصِّل إلى هذا الكل. هذه النظرة «الأداتية Instrumental» إلى المنطق تشترِك في عناصرَ كثيرةٍ مع الجدَل الهيجلي، إذا ما تأمَّلْنا هذا الأخير على أنه أداة تؤدي إلى النسَق الكامل، وقد رفض ديوي، كبقية أتباع المدرسة البرجماتية، أنْ يتقيَّد بالتصوُّرات التقليدية للصواب والخطأ كما توارَثْناها من الفلسفة الرياضية عند فيثاغورس وأفلاطون، وبدلًا من ذلك تحدَّث ديوي عن إمكانية الحُكم بطريقةٍ مبرَّرة warranted assertability، وهي فكرة مُستمدَّة من بيرس، وإنْ كان ينبغي أن نُضيف تحفُّظًا هو أنَّ بيرس قد اعترف في مرحلته المتأخِّرة بوجود إجابةٍ واحدة عن أي سؤال، مهما كانت بعيدة المنال.

وفيما يتعلَّق بهذه المسألة العامة، أعني الاستغناء عن الحقيقة بمعناها المطلق، نستطيع أن نوجِّهَ نفس النقد الذي تحدَّثْنا عنه من قبلُ في صدَد بروتاجوراس. فلنفرِض أنَّ شخصًا أكَّد أنَّني إنسان يبعث على الضجَر؛ عندئذ، لو سألته بروحٍ برجماتية، عمَّا إذا كان لدَيه ما يُبرِّر به هذا الحكم، فماذا عساه يُجيب؟ الواقع أنه ربما كان من المُفيد له أن يعتنِق مثل هذه الآراء عنِّي، وفي هذه الحالة قد يشعُر بالمَيل إلى أن يُجيب عن سؤالي بالإيجاب، ولكنه سواء أجابَ بنعم أو لا، فإنه يتجاوز بذلك، على الفور، نطاق مبادئه البرجماتية؛ ذلك لأنَّ المسألة لا تعود عندئذٍ مسألة تبرير، فهو لا يُفكِّر في ذرائع ثانوية أو مُبرِّراتٍ على الإطلاق، لأنَّ هذا يؤدي به إلى تسلسُلٍ لا نهائي، بل إنه حين يُجيب بنعم أو لا. يفترِض ضمنيًّا معنًى مُطلقًا للحقيقة، ولا يُغير من ذلك احتمال أن يكون مُخطئًا في حُكمه على هذه المسألة، أو أنه قد يُقدِّم بنيةٍ حسنة إجابة يتَّضِح بُطلانها. فمع هذا كله، ينبغي أن يقبل ضمنًا بمعيارٍ مطلَق حتى يستطيع تقديم أية إجابة على الإطلاق. هذا النوع من النقد لا ينطبق فقط على النظريات البرجماتية عن الحقيقة، بل على أية نظرية تسعى إلى تعريف الحقيقة من خلال أيَّةِ معايير أُخرى.

والواقع أنه ليس من الصَّعْب أن نُدرِك من أين تأتي هذه المحاولة من أجل إدراج المنطق ضِمن إطار الفعل، فمصدرها، في الأساس هو النقد البرجسوني القائل إنَّ النظريات الموضوعية التقليدية في المنطق لا تسمح بظهور أيِّ شيءٍ جديد وأصيل في العالم. فالمنبع الذي تستلهِمُه هذه الطريقة في التنظير هو الرغبة في التجديد وفي التوسُّع الاجتماعي. وهنا نستطيع أن نجد، في نهاية المطاف، خلطًا بين تنوُّع النشاط البشري وبين الإطار الثابت الذي نُعبِّر من خلاله عن هذا النشاط في اللغة والمنطق. ولو لم يُدرِك الإنسان هذه المعايير ويعترِف بها لَتَعرَّض بسهولةٍ لتجاوز نطاق المعقول وإغفال الحدود التي لا تتعدَّاها قُدراته.

أما الشخصية الرئيسية الثانية التي ينبغي أن نذكُرها في هذا الصدد فهي الزميل السابق لكاتب هذه السطور، أ. ن. هوايتهد A. N. Whitehead (١٨٦١–١٩٤٧م) وقد تحدَّثنا عنه من قبل بوصفه منطقيًّا رياضيًّا. ولكنَّ اهتماماته أخذت تتغيَّر بالتدريج، بعد كتاب المبادئ الرياضية، في اتجاه المشكلات الفلسفية التي يُثيرها العلم المعاصر، وانتهي به المطاف إلى الميتافيزيقا. وفي عام ١٩٢٤م بدأ طريقًا يكاد يكون جديدًا كل الجدَّة، بعد أن عُيِّن أستاذًا للفلسفة في هارفارد. وفي كثيرٍ من الأحيان نجد كتاباته التي تنتمي إلى السنوات المتأخِّرة من حياته شديدة الغموض عسيرة الفهم. وعلى الرغم من أنَّ وصْف أي كتابٍ بأنه صعْب ليس في ذاته نقدًا بالطبع، فلا بدَّ أن أعترف بأنَّ التأمُّلات الميتافيزيقية لهوايتهد تبدو في نظري غريبةً إلى حدٍّ ما، ومع ذلك فسأحاول أن أتحدَّث عنها بإيجاز.

إنَّ هوايتهد يرى أنَّ علينا، لكي نفهم العالم، ألا نُتابع تراث جاليليو وديكارت، الذي يُقسِّم عالم الواقع إلى صفاتٍ أو كيفيات أوليَّة وثانوية. فمِثل هذا الطريق لا يُوصِّلنا إلا إلى صورةٍ تُشوِّهها المقولات العقلانية، بل إنَّ العالَم يتألَّف من مجموعةٍ لا نهائية من الأحداث العينيَّة التي يبدو أنَّ كلًّا منها يُذكِّرنا بمونادة ليبنتس. ولكن الأحداث، على خلاف المونادات، وقتية وتتلاشى لكي تُفسِح الطريق لأحداثٍ أخرى. هذه الأحداث تحدُث على نحوٍ ما للأشياء، وهكذا نستطيع أن نُشبِّه مجموعات الأحداث بصيرورة هرقليطس، والأشياء بأفلاك بارمنيدس. وبطبيعة الحال فإنَّ هذه، إذا ما أُخذِت منعزلة، كانت تجريدات، ولكنها في عملياتها الفعلية ترتبِط فيما بينها ارتباطًا لا ينفصِم.

أما عن الاتِّصال الفعلي بالواقع، فيبدو أنه يحتاج إلى معرفةٍ من الداخل، وإلى تقارُب بين العارف وموضوع معرفته بحيث يُصبحان كيانًا واحدًا وهنا نجد ما يُذكِّرنا باسبينوزا، وقد ذهب هوايتهد بالفعل إلى أنَّ كل قضيةٍ ينبغي أن يُنظَر إليها، آخِر الأمر، في علاقتها بالنسَق الشامل، ومن الواضح أنَّ هذا شكلٌ من أشكال المثالية المذهبية، وإنْ كان مختلفًا إلى حدٍّ ما عن العناصر المثالية في فلسفة ديوي. فعلى حين أنَّ تصوُّر ديوي للكل والواحد يرتَدُّ إلى هيجل، نجد أن هوايتهد أقرب إلى المفاهيم العضوية في فلسفة شلنج المتأخِّرة.

هذه باختصارٍ شديد، هي الموضوعات الرئيسية في ميتافيزيقا هوايتهد، وأنا لا أزعُم لنفسي القدرة على معرفة المكانة التي سوف تكتسِبها في تاريخ الفلسفة. غير أنَّ ما له أهمية مباشرة هو الطريقة التي ينبثِق بها، في هذه الحالة، مذهبٌ ميتافيزيقي، بصورة مباشرة، من الانشغال بمشاكل عامة في العِلم. ولقد رأينا شيئًا كهذا يحدُث بين الفلاسفة العقليين في القرن السابع عشر، وبين المثاليِّين في القرن التاسع عشر، وهكذا فإنَّ النظرية العلمية، بقدْر ما تحاول أن تضمَّ العالم كلَّه، تستهدِف غايةً مُشابِهةً لغاية الميتافيزيقا، وما يختلف فيه العِلم هو إحساسه الأشدُّ حدَّةً بالمسئولية تجاه الوقائع الصُّلبة العنيدة.

إذا كان من الممكن أن يُقال عن القرن التاسع عشر إنه أحدثَ في العالم تغييرًا يفوق ما أحدثتْه أية فترة أخرى حتى ذلك الحين، فإنَّ هذا الحكم يصدُق أيضًا على السنوات الستِّين الأخيرة، التي كان التحوُّل فيها أشدَّ؛ فقد كانت الحرب العالمية الأولى تُمثِّل نهاية عصرٍ كامل.

كانت الفكرة المحورية التي ظلَّ الناس يَستوحونها قبل ذلك بأجيالٍ عديدة هي فكرة التقدم، فقد بدا أنَّ العالم يسير نحوَ وضعٍ أفضل وأكثر تحضرًا، تكون فيه أوروبا الغربية هي السيِّد المِعطاء، ويكون فيه بقيَّة العالَم معتمدًا عليها سياسيًّا وتكنولوجيًّا. ولقد كان لهذه النظرة إلى العالَم ما يُبرِّرها في نواحٍ مُعيَّنة، فمن المؤكد أنَّ الغرب كان هو المُهيمِن سياسيًّا، كما كانت الصناعة تضمَن له سيطرةً في القوة المادية. كل ذلك كان يُسانده شعور هائل بالثقة بالنفس، وإحساسٌ بأنَّ الله يقِف إلى جانب التقدُّم. ولقد أدَّى نمو المجتمع الصناعي إلى زيادةٍ سريعة في السكان، فتضاعفَتْ أعدادهم خمس مرات خلال قرنٍ واحد في إنجلترا، دون أن تتحقَّق برغم ذلك تنبؤات مالثوس المتشائمة. بل لقد كان الأمر على عكس ذلك؛ إذ إنَّ قدرة المجتمع الصناعي على تذليل مصاعبه الأولى أدَّت إلى مزيدٍ من اليُسر في أسلوب حياة المجتمع بوجهٍ عام.

ونتيجة لهذه التغيُّرات شاع إحساس بالتفاؤل والثقة بالمُستقبل، وهو إحساس لم يعُد له نفس هذا القدْر من الرسوخ، على وجه العموم، منذ ذلك الحين، ولقد كانت كافَّة الاتجاهات العقلية في القرْن الماضي تشارك في هذا التفاؤل العام، لمذهب المنفعة، والبرجماتية، والمادية، كلهم كانوا مُتشبِّعين به، وربما كان أبرز الأمثلة هو النظرية الماركسية، التي نجحَتْ في الاحتفاظ بإيمانها بحتمية التقدُّم حتى في الوقت الحاضر، وبذلك كانت هي النظرية السياسية الوحيدة التي تمكنَّت من المحافظة على اعتقادها على الرغم من الاضطرابات التي تفشَّت في العالم منذ ذلك الحين. وهكذا يمكن القول إنَّ الماركسية، في اتجاهها القطعي الجامد، وفي نظرتِها الطوباوية، هي أثرٌ من آثار القرْن التاسع عشر.

في مناخ التقدُّم هذا، بدا للناس أنَّ العالَم مرتكِز على أُسسٍ راسخة. ولم تكن هذه الفكرة المُسبقة تصبِغ تفكير أولئك الذين كانت حالتهم المادية تسمح لهم باتِّخاذ مثل هذا الموقف التفاؤلي فحسْب، بل إنَّ المُستضعَفين بدورهم شعروا بأن مصيرهم يمكن أن يتحسَّن، وسوف يتحسَّن، وهو على أية حالٍ أمَلٌ لم يخِبْ مع مُضيِّ الوقت، وأدَّى توفير التعليم الشامل إلى إيضاح الطريقة التي يستطيع بها الناس تحسين أوضاعهم؛ إذ كان في استطاعة من لا يملكون مزايا المركز الاجتماعي، في مثل هذا المجتمع الجديد، أنْ يعلوا على مركزهم بالمعرفة والقدرة.

كان هذا العنصر التنافُسي شيئًا جديدًا في الميدان الاجتماعي، وبالطبع فإنَّ المنافسة بين التجار كانت قديمة قَدَم التجارة ذاتها، ولكن الفكرة القائلة إنَّ الناس يستطيعون تحسين أوضاعهم بجهودهم الخاصَّة كانت فكرةً أحدث عهدًا بكثير، ففي العصور الوسطى كان الجميع يُسلِّمون بأن المرء يرتكب خطيئةً لو حاول أن يتدخَّل في نظامٍ قضتْ به المشيئة الإلهية، ولكن مفكري عصر النهضة تشكَّكوا في هذه الآراء القديمة، على حين أن القرن التاسع عشر قضى عليها قضاء مُبرمًا.

وبطبيعة الحال فإنَّ الأوضاع التي نصِفُها ها هنا لا تنتمي إلَّا إلى مناطق العالم التي أصبح للتصنيع فيها موطئ قدَم، وهي تشمل إنجلترا وبعض أجزاء أوروبا الغربية. وينبغي أن نذكُر أنَّ هذه المناطق لا تُمثِّل إلَّا جزءًا صغيرًا من سكان المعمورة، لذلك كان التأثير الذي مارسَتْه هذه البلاد على التاريخ العالمي نتيجةً لتقدُّمها الزائد، أعظم بكثيرٍ مما يتناسَب مع حجمها. ولكن هذا بدَوره ليس شيئًا جديدًا بالنسبة إلى أحوال البشر، فقد كانت الإمبراطورية الفارسية القديمة، من حيث الحجم، أضخمَ بكثيرٍ بالقياس إلى اليونان، ولكنَّ تأثيرها كان ضئيلًا.

لقد بدا أنَّ من المُمكن، بالنسبة إلى من عاشوا في هذه الفترة وتأثَّروا بفكرة التقدُّم، وضع خطط للمستقبل بثقةٍ تامَّة، فقد كانت الأوضاع مستقرةً إلى الحدِّ الذي يُبرِّر للناس أن يتأمَّلوا مُستقبل حياتهم بنظرةٍ شاملة. وفي الوقت ذاته كانت هذه الخطط مسألةً شخصية تمامًا، ففي استطاعة المرء أن يكتسب مكانةً واستقرارًا عن طريق جهوده الشخصية الدائبة. أما الموقف إزاء المُستضعَفين، فكان يتَّخِذ طابع الإحسان والمساعدة الخيرية التي يُقدِّمها مواطنون كُرَماء شاعرون بالمسئولية. ومن الغريب حقًّا أنَّ بسمارك كان هو الذي اتَّخذ أولى الخطوات في سبيل توفير الرعاية الاجتماعية، إذ استحدَث شكلًا من أشكال التأمين الصحي للعمَّال لكي يسحب البساط من تحت أقدام خصومه الاشتراكيين.

ومن السِّمات الأخرى البارزة لهذه الفترة، نظرتها التي كانت في عمومها ليبرالية إلى السياسة، فقد كان من المُسلَّم به أنَّ الحكم نشاط هامشي، مهمَّتُه الفصل بين المصالح المتعارِضة، ولم يكن يخطُر ببال أحدٍ أن تتدخَّل الحكومة في إدارة الصناعة أو التجارة. وإذا كنَّا نرى الحكومات ذاتها، في أيَّامِنا هذه تُدير أنواعًا شتَّى من المؤسَّسات الاقتصادية، فقد جاء ذلك نتيجةً لتأثير الماركسية على نظرتنا العامة إلى المسائل الاجتماعية. أما حرية التنقُّل فكانت طليقة تمامًا في معظم أرجاء أوروبا، وإن كانت روسيا تُمثل عندئذٍ كما هي الآن، استثناءً من هذه القاعدة. فقد كان في وُسعك أن تسافر في أي مكانٍ في أوروبا الغربية دون أيِّ نوعٍ من الأوراق إلا في إمبراطورية القيصر، حيث كان جواز السفر ضروريًّا. ولكن ينبغي أن نُلاحظ أنَّ الناس لم يكونوا يسافرون عندئذٍ بنفس المُعدَّل الحالي، نظرًا إلى ضخامة النفقات، ممَّا قيَّد حركة الأشخاص الأقل ثراءً. أما القيود التي أصبحتْ تُفرَض منذ ذلك الحين فتدلُّ على مدى انهيار الثقة بين الدول.

وفي الميدان السياسي تمتَّعت أوروبا منذ عام ١٨٧٥م بحوالَي خمسين عامًا من السلام، ولكن هذه الحالة السعيدة لم تكُن سائدة في العالم كله؟ إذ كانت هناك حروب استعمارية في إفريقيا، وفي الشرق الأقصى لقِيَت روسيا هزيمةً على يد اليابان، التي خطَتْ خطوات سريعة في محاولتها استيعاب حضارة الغرب التكنولوجية. ومع ذلك فقد بدا العالم في نظر من يعيش في أجزائه الغربية، مكانًا هادئًا آمِنًا إلى حدٍّ معقول.

كان هذا هو الوضْع إلى ما قبل ستِّين عامًا فقط. وحين يعود المرء بنظرِه إلى هذه الفترة، يشعُر بأنَّ الناس كانوا في ذلك العصر يعيشون في عالَم من الأحلام.

ولكن هيكل القِيَم والأفكار المُسبقة قد انهار كله بقيام الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨م). فعلى الرغم من ازدياد الوعي القومي خلال القرن التاسع عشر، فإن الاختلافات بين الدول لم تُخفِ حدَّتها، وأدَّى ذلك خلال فترة الحرب هذه إلى إغراق العالم في بحرٍ من الدماء لم يُعرَف له حتى ذلك الحين مثيلًا. واقترن بهذه الكارثة انهيار للثقة في التقدُّم، ونموٌّ لجوٍّ من الشكِّ والارتياب لم يُفِق منه العالم تمامًا حتى وقتنا هذا.

أما من الناحية التكنولوجية الخالصة فإنَّ الحرب العالمية الأولى أظهرتْ إلى أيِّ حدٍّ تجاوز التقدُّم في الأسلحة كلَّ الأفكار التكتيكية للعسكريين. وكانت النتيجة مذبحةً هائلة غير حاسِمة أضعفَتْ أوروبا الغربية إلى حدٍّ كبير. ولقد كان الوضع الضعيف وغير المُستقرِّ لفرنسا منذ عام ١٩١٨م هو إلى حدٍّ بعيد من نتائج الجرح الغائر الذي أصابها عندئذ، وفي الوقت ذاته بدأت الولايات المتَّحِدة تلعَب دورا متزايد الأهمية في الشئون العالمية. ومن جهة أخرى قامت الثورة البلشفية في روسيا، ومكَّنتْها من بناء مجتمعٍ صناعي جديد أقوى بكثيرٍ مما كانت عليه إمبراطورية القيصر في أي وقت. أما تلك المشاعر القومية التي كانت تفور تحت السطح منذ مؤتمر فيينا، فقد وجدَتِ الآن تعبيرًا عنها في صورة الدول القومية الجديدة، التي كانت كلٌّ منها تنظُر إلى جارتها بعَين الشك. وأصبحت حرية التنقل مقيَّدة بقيودٍ لم تبدأ في الاختفاء مرة أخرى إلا في الأيام الأخيرة.

وعلى الرغم من ذلك كله، فقد أصبح من الواضح أنَّ الاقتتال الداخلي بين الأمم الأوروبية كان كفيلًا بأن يُهدِّد، منذ ذلك الحين، بقاء الحضارة الغربية ذاتها. وكانت هذه هي القوة الدافعة الرئيسية من وراء إنشاء عُصبة الأمم في ١٩١٩م. وكان من أقوى أنصار هذه المحاولة التي بُذِلت من أجل إرساء أُسُس التعاون السِّلمي بين الأمم، الرئيس وِلسون، رئيس الولايات المتحدة، ولكنَّ اقتراحاته لم تلقَ في النهاية تأييدًا من بلده ذاته، ممَّا كان له دَور كبير في إضعاف مركز عُصبة الأُمم منذ بداية نشأتها، ومن ناحيةٍ أخرى فقد أدَّت هزيمة ألمانيا إلى ردِّ فعلٍ تمثَّل في إحياء روح قومية أشدَّ شراسة وتصلبًا من أية حركة ظهرتْ من قبل. وهكذا أدَّت دكتاتورية الاشتراكية الوطنية في ألمانيا إلى نشوب الحرب العالمية الثانية بعد عشرين عامًا من إنشاء عُصبة الأمم، وفاقت هذه الحرب في مداها وتخريبها أية حربٍ أخرى في التاريخ؛ ذلك لأنَّ استخدام تكنولوجيا أكثر تفوقًا في التسليح، ونشوب الصراع بين إيديولوجيات شديدة التعارُض، كل ذلك حوَّل الحرب بين الجيوش إلى حربٍ شاملة، أثَّرت مباشرةً في المدنيين بقدْر ما أثَّرت في العسكريين. وشهِدَت الحرب الذرية أول استخدامٍ صارخ لها في اليابان. والواقع أنَّ هذا الإنجاز الذي لا يفوقه إنجاز آخر في القوة التدميرية. أدَّى في وقتِنا الحالي إلى وضع إمكانية التدمير الذاتي في مُتناوَل يدِ الإنسان. وسوف تُثبت الأيام إنْ كنَّا حكماء إلى حدِّ مقاومة هذا الإغراء. والمأمول أن تنجح هيئة الأُمَم، التي حلَّت محلَّ عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية، في الحيلولة بين البشَر وبين تفجير بعضهم البعض إلى حدِّ الفناء التام.

لقد كانت القوَّتان الرئيسيَّتان اللتان أعطتا قوةً دافعة خاصَّة للتطوُّر التكنولوجي، طوال التاريخ، هما التجارة والحرب، وهذا ما أثبتَتْه الأحداث الأخيرة بصورةٍ صارخة. فقد أدَّى تقدُّم الهندسة الإلكترونية وهندسة الاتصالات إلى ما يُطلَق عليه الآن اسم الثورة الصناعية الثانية، وهذه الثورة تقوم الآن بتحويل العالَم أمام أعيُنِنا بصورةٍ أشدَّ ثورية حتى من الثورة الصناعية الأولى، التي كان قوامها الآلة البخارية.

وبالمِثل طرأت على وسائل المواصلات تغييرات لم يكُن أحدٌ يحلُم بها حتى القرن الماضي، ذلك لأنَّ أساليب السَّفر لم تتغيَّر إلا تغيُّرًا طفيفًا منذ العصر الروماني حتى اختراع السكك الحديدية. ولكن، منذ ذلك الحين، حوَّل الإنسان أسطورة إيكاروس إلى حقيقة. فقبل مائة عام فقط بدا من الأمور المُغرِقة في الخيال أن يكون المرء قادرًا على أن يدور حول العالم في ثمانين يومًا، أما اليوم فقد أصبح ذلك مُمكنًا في نفس العدد من الساعات.

هذه التطوُّرات البعيدة المدى قد تجاوزت أحيانًا، في تلاحُقها، قدرة الإنسان على التكيُّف مع الأوضاع الجديدة المُحيطة به، فمن الملاحَظ أولًا أنَّ الصراعات الدولية الهائلة قد أسهمتْ في القضاء على الإحساس بالأمان، الذي ساد في القرن السابق. إذ لم يعُد من الممكن التطلُّع إلى المستقبل بنظرةٍ بعيدة المدى كما كانت الحال من قبل، وفي الوقت ذاته فإنَّ ممارسات الدول أخذت تتعدَّى بشدَّة على حرية التصرُّف التي كان يتمتَّع بها الأفراد من قبل. ولهذه الظاهرة أسباب مُتعدِّدة أولها أن التعقيد المتزايد للحياة الاقتصادية في البلدان الصناعية جعلها شديدة الحساسية لكافة أنواع القلاقل والاضطرابات، ولو قارنَّا مجتمعنا الحالي بالعصور الوسطى لوجدناه أقلَّ منها استقرارًا بكثير؛ ولذا كان من الضرورة ممارسة قدرٍ من السيطرة على القوى التي تستطيع الإخلال بسياسة الدولة. ومن جهةٍ أخرى فقد أُثيرت مشكلة إحداث نوع من التأثير المُتوازِن لتعويض أثَر التقلُّبات التي تحدُث حتميًّا، مما يستتبِع تدخُّل الدولة في المسائل الاقتصادية، وثالثًا فإنَّ فقدان الأمان الذي تحقَّق على نحوٍ مُستقل، أصبح يعوِّضه الآن إلى حدٍّ ما، تلك الخدمات التي تقدِّمها الدولة. هذه التغيُّرات ليست لها إلا علاقة واهية جدًّا بالنظام السياسي لبلدٍ ما، وإنما هي تتوقَّف أساسًا على تكنولوجية حضارتنا، بل إنَّ من المُلفِت للنظر حقًّا مدى تشابُه البلاد ذات الأنظمة الشديدة الاختلاف في هذه الأمور.

ولقد أدى الضغط الرهيب للتنظيم في حياتنا الحديثة إلى ظهور تياراتٍ جديدة من الفكر اللاعقلي في الفلسفة، ويمكن أن تُعدَّ هذه الانبثاقات بمعنًى معيَّن، ردَّ فعلٍ على فلسفات القوة التي استوحتْها أنظمة الحكم الاستبدادية المُعاصرة، وهي أيضًا تمثِّل تمرُّدًا على الخطر الذي يُعتقَد أن العلم يهدِّد به الحرية الإنسانية.

ويتمثَّل التيار اللاعقلي الرئيسي في الفلسفة، في إعادة إحياء نظرياتٍ وجودية كان لها في الآونة الأخيرة دورٌ أساسي في الفلسفة في فرنسا وألمانيا، وسوف ننتقِل بعد قليلٍ إلى إبداء بعض التعليقات الموجَزة على هذه النظريَّات التي ينبغي أن نلاحظ أنها شديدة التبايُن إلى حدِّ أنها كثيرًا ما يتعارَض بعضها مع البعض.

ولقد اقترن إحياء النظريات الوجودية، في داخل القارة الأوروبية، بعودةٍ إلى المتيافيزيقا التقليدية، أما في بريطانيا فقد أخذت الفلسفة في الفترة الأخيرة تسير في الاتجاه اللغوي، بحيث إنَّ الفجوة بين الفلسفة داخل القارة والفلسفة الإنجليزية لم تُصبح في أيِّ وقتٍ بهذا القدْر من الاتِّساع الذي أصبحتْ عليه الآن. بل إنَّ كل طرفٍ لم يعُد يعترِف بأنَّ ما يقوم به الطرف الآخر يستحقُّ بالفعل اسم الفلسفة.

هذا، بإيجازٍ شديد، هو إطار المسرح الفلسفي المعاصر. وحين يغامِر المرء برسْم تخطيطٍ عام لا يتعرَّض لخطر التشويه فحسْب، بل أيضًا للافتقار إلى المنظور، وهو أمر لا علاج له، ومع ذلك يُمكننا أن نُشير إلى نتيجة واحدة هامة: فالشيء الذي أتاح للحضارة الغربية من قبل أن تُسيطر على العالَم هو تكنولوجيتها، مقترنةً بالتراث العلمي والفلسفي الذي أدَّى إلى ظهورها، ولا تزال هذه القوى تبدو مسيطرة في الوقت الحاضر، وإن لم يكن هناك في طبيعة الأشياء ما يُحتِّم أن يظلَّ الأمر على هذا النحو. فمع امتداد المهارات التكنولوجية التي طُوِّرت في الغرب إلى سائر أرجاء العالم الحالي، يمكن أن تهبط مكانة الغرب من مستواها الرفيع.

إنَّ الفلسفة الوجودية داخل القارة الأوروبية هي في جوانب مُعيَّنة أمر مُحيِّر. بل إنَّ من الصعب أحيانًا أن يرى المرء فيها أيَّ شيءٍ يمكن التعرُّف عليه بوصفه فلسفةً بالمعنى التقليدي. ومع ذلك يبدو أنَّ نقطة البداية العامة التي تشترك فيها الحركة بأسرِها هي النظر إلى المذهب العقلي في الفلسفة على أنه عاجز عن تقديم تفسيرٍ سليم لمعنى الوجود الإنساني. فالعقلاني حين يستخدِم نسقًا من المفاهيم، يقدِّم أوصافًا عامة لا تلتقِط المذاق المُميز للتجربة الإنسانية الفردية. وهكذا عاد الوجوديون، من أجل التغلُّب على هذا الإخفاق الظاهر، إلى ما كان كيركجور قد أسماه بالأحوال الوجودية للتفكير، فالعقلانية، إذ تتناول العالم من الخارج، لا تُعطي التجربة الحيَّة في طابعها المباشِر حقَّها، بل ينبغي أن تُدرَك هذه التجربة من الداخل. مثل هذا المأزق يمكن أن يعالَج على أنحاء متباينة. فقد يشعُر المرء بالمَيل إلى القول بأنَّ الحياة الإنسانية بلا معنى أو دلالة، إذا فُهِمت هذه الكلمات بالطريقة المطلوبة في مثل هذه التأمُّلات النظرية. فهدف الحياة هو أن نحياها بأكثر الطرُق طرافةً وتشويقًا، وكل ما عدا ذلك من الأهداف إنما هو أوهام، وفضلًا عن ذلك فهناك ضَعف أساسي في نفس تصوُّر أحوال الفكر الوجودية: فإذا فكَّرت في وجود أي شيءٍ وجب عليك أن تُفكر في شيءٍ من نوعٍ معيَّن، أما الوجود وحدَه وفي ذاته فهو تجريدٌ لا مهرَب منه، وهذه نتيجة كان هيجل ذاته واعيًا بها.

ولكن هذه حُجَج متكلَّفة. إنها صحيحة بلا شك، ولكنها خليقة بأن تُخفي عنَّا ما يريد هؤلاء المُفكِّرون قولَه. لذلك ينبغي أن ننظُر إلى الوجودية نظرةً أرحب، ونحاول أن نُبيِّن بإيجازٍ ما تريد أن تقوله.

إنَّ فلسفة ياسبرز الوجودية، إذ تعترِف بثلاثة أنواع من الوجود، تظلُّ — على الرغم من رفضها القاطع للميتافيزيقا المثالية — محتفظةً بعنصرٍ من الجدَل بالمعنى الهيجلي. ولقد وصَل كارل ياسبرز Karl Jaspers (١٨٨٣–١٩٦٩م) إلى الفلسفة من خلال اهتمامٍ أسبق بعلم النفس، وبخاصة مشكلات علم النفس المرَضي، وهكذا فإنَّ الإنسان يحتلُّ مركز دراساته الفلسفية. وبهذا المعنى نستطيع أن نصِف وجوديته بأنها إنسانية، وهو الوصف الذي استخدَمَه سارتر للدلالة على اتجاهه الفلسفي الخاص. ولكنَّ أقصى ما تُقدِّمه الوجودية هو نزعة إنسانية ذاتية، في مقابل النزعة الإنسانية الموضوعية لعصر النهضة. لذلك كان استخدام الفلاسفة الوجوديِّين لتعبير سارتر مُضللًا إلى حدٍّ ما.
وفي نظرية الوجود عند ياسبرز نجد ثلاثة مفاهيم مختلفة، فهنالك في أدنى المستويات، العالَم الموضوعي الذي هو هنالك فحسْب. أي أنَّ وجوده وجود هناك، يُدرَك موضوعيًّا من الخارج. وهذا العالم يُغطي ميدان العِلم في كافة جوانبه، ولكنَّ هذا المستوى لا يصلُح لجعل الذات تتعرَّف على وجودها الخاص، بل إنَّ الوجود الموضوعي الذي يسري على الميدان العِلمي هو عقبة في طريق الإحساس بهذا النوع الأعلى من الوجود، الذي يُسمِّيه ياسبرز «وجود الأنا» أو الوجود الشخصي. هذا الضرب من الوجود ليس مصدر المقولات العقلية التي تحكم عالَم الوجود الموضوعي، بل إنَّ وجود الأنا، أو الوجود الشخصي، يوصَف دائمًا بأنه يُشير إلى ما يتجاوز ذاته. ولن يكون المرء قد ظلَم ياسيرز لو وصف هذه الفكرة بعباراتٍ أرسططالية فقال إنَّ الوجود الشخصي ينطوي في ذاته على رصيدٍ لا حدود له من الإمكانات Potentialities. وفي سعي الأنا إلى تجاوز ذاته، يتوافَق مع نوعٍ ثالثٍ من الوجود، يمكن تسميتُه بالمُتعالي، وهو وجود في ذاته يشمل النوعَين السابقين معًا، وعلى الرغم من أن ياسبرز لا يضع لنفسه أهدافًا كتلك التي كان يستوحيها المثاليُّون، فمن الواضح كل الوضوح أنَّ ضروب الوجود الثلاثة عندَه هي نموذج جيد للمسار الجدلي، وبهذا القدْر ينبغي أن تكون داخلةً على نحوٍ ما في نطاق المعقول. وهذه كما رأيْنا من قبل، صعوبة كامنة في أية نظريةٍ تهدف من حيث المبدأ إلى تقييد دور العقل. صحيح أنَّ من حقِّ مثل هذه النظرية أن تستشهد بحقائق مألوفة، كالقول إنَّ الناس تُحرِّكهم الانفعالات مِثلما يحركهم العقل، وربما أكثر منه. ولكن هذا ليس تقييدًا للعقل. أما حين تصِل إلى نظريةٍ عقلية تحاول أن تهدِم العقل ذاته، فعندئذٍ ينشأ تناقُض لا سبيل إلى حلِّه. ذلك لأنَّ من الضروري الاستعانة بالعقل من أجل تفسير أيِّ شيءٍ على الإطلاق. وهكذا فإنَّ إنكار قدرة العقل لا يمكن أن يُعبَّر عنه بأية طريقةٍ نظرية، بل يظلُّ غير قابلٍ للتعبير عنه، ويدفعنا إلى الصمت.

ويمكن القول إنَّ الوجوديين أنفسهم قد اعترفوا بذلك إلى حدٍّ ما، ومن ثَم كانوا أحيانًا يُحبذون الصمت، حتى ولو لم يكونوا قد مارَسُوه بأنفسهم. أما ياسبرز فقد كان واعيًا بهذه الصعوبة، وحاول التخفيف منها بالقول إنَّ العقل له أهميته في نهاية المطاف.

وعلى أساس هذا التقسيم للوجود، يرى ياسبرز أنَّ العلم، الذي هو بالضرورة ذو طابعٍ تفسيري، لا بدَّ أن يُخفِق في التوصُّل إلى إدراكٍ أصيل لحقيقة الواقع … ذلك لأنَّنا حين نسمح بوجود تمييزٍ بين التفسير وموضوعه، نعترِف ضِمنًا بهذا الإخفاق، والفكرة الضمنية هي أنَّ كل القضايا إنما هي تشويه للوقائع، لمجرَّد أنَّ القضية ليست هي الشيء الذي تتحدَّث عنه.

وهكذا فإنَّ القضايا، نظرًا لكونها مُتعلِّقة بشيءٍ آخر، توصَف بأنها غير مطابقة، وينبغي أنْ يلاحظ أنَّ القضية تعدُّ هنا غير مطابقة حسب طبيعتها ذاتها، وليس لأنها — كما تقول المثالية — تنعزِل عن مجموعة القضايا الأخرى التي تكتسِب القضية في داخلها معناها الكامل.

وفي رأي ياسبرز أنَّ الفلسفة تنتمي إلى ميدان الوجود المُتعالي، أو الوجود في ذاته، أو لِنقُل على الأصح إنَّ الفلسفة هي الجهد الذي يبذُله الفرد في محاولته أن يصِل إلى التعالي، أما الحياة الأخلاقية للفرد فتقع ضِمن دائرة الوجود الشخصي، ففي هذا المستوى يتفاهم الناس ويُمارسون الشعور بالحرية. ولمَّا كانت الحرية تقع خارج الإطار العقلي، فإنَّنا لا نستطيع أن نُقدِّم تفسيرًا عقليًّا لها، وعلينا أن نكتفي بالاعتراف بمظاهرها في أحوالٍ مُعيَّنة، وهكذا يقول ياسبرز — مُستعيرًا تعبيرًا من كيركجور — إنَّ شعورنا بأننا أحرار يرتبط بحالةٍ مُعينة من الجزع أو القلق، ونستطيع أن نقول، بوجهٍ عام، إنه إذا كان العقل هو الذي يسود على مستوى الوجود — هناك فإنَّ الأحوال الداخلية هي التي تسوء على مستوى الوجود الشخصي.

وعلى حين أنَّ وجودية ياسبرز، على المستوى المُتعالي، تعمل حسابًا للدين، كما كانت الحال في وجودية كيركجور، فإنَّ أعمال هيدجر (ولد عام ١٨٨٩م)،٣ التي كانت الميتافيزيقا تحتلُّ فيها موقعًا أهم، تسير في اتجاهٍ مختلف كلَّ الاختلاف، والواقع أنَّ فلسفة هيدجر، التي استخدمت مصطلحاتٍ غاية في الغرابة، تتَّسِم بالغموض الشديد، بل إنَّ المرء يضطرُّ إلى القول إنَّ اللغة هنا تسير بلا ضابط. ومن النقاط الطريفة في تأمُّلاته، تأكيده أنَّ العدَم شيء إيجابي، وتلك ملاحظة نفسية حُوِّرت بحيث تبدو قضية منطقية، كما يحدُث في حالاتٍ كثيرة بين الوجوديين.
وفي فرنسا كانت الحركة الوجودية أوثقَ ارتباطًا بالأدب، وكان أشهر مُمثِّليها هو سارتر (ولد عام ١٩٠٥م)،٤ الذي كتَب رواياتٍ إلى جانب دراسةٍ فلسفية كُبرى، وقد عرض في رواياته قدرًا كبيرًا من أفكاره الوجودية من خلال شخصيَّاتٍ تواجه ذلك النوع من الدعوة إلى الفعل، الذي هو جانب عظيم الأهمية من جوانب الوجودية. ويُتيح الشكل الروائي الأدبي أفضل وسيلةٍ لعرض التأمُّلات المتعلقة بمِحنة الإنسان.
ويسير سارتر إلى نهاية الشوط في الفكرة الوجودية المتعلقة بالحرية الإنسانية. فالإنسان يختار مصيره على الدوام. وليس في حياة الفرد أي ارتباط بالتراث الماضي أو الأحداث السابقة. وهكذا يبدو كل قرارٍ جديد وكأنه يقتضي نوعًا من الالتزام الشامل. أما الذين يخافون من هذه الحقيقة الأليمة فإنهم يحاولون الاحتماء بالتبريرات التي يُضفونها على العالم، وهو أمر يشترك فيه رجل العلم مع المؤمِن بالدين: فكلاهما يحاول الهروب من الواقع، ولكنهما معًا يرتكبان، في رأي سارتر، خطأً مؤسِفًا. فالعالم ليس على النحو الذي يُصوِّره به العِلم، أما الربُّ فهو في رأي سارتر قد مات منذ عصر نيتشه.٥ والواقع أنَّ الشخص الذي لديه استعداد لمواجهة العالم على ما هو عليه يذكِّرنا بالبطل عند نيتشه، فمن هذا المصدر استمدَّ سارتر خروجه عن الإيمان الدِّيني.

إنَّ ما تنصبُّ عليه مُعارضة سارتر هو مفهوم الضرورة العقلاني، كما نجِده عند ليبنتس واسبنيوزا، وكما توارَثه الفلاسفة المثاليُّون. وينبغي أنْ نذكُر أنَّ هؤلاء المفكرين كانوا يرَون أنَّ كل ما يوجَد يمكن أن يُنظَر إليه من حيث المبدأ على أنه ضروري، بشرط أن تكون نظرتُنا واسعةً بما فيه الكفاية. عندئذٍ لا يكون هناك مفرٌّ من أن تتَّخِذ فكرة الحرية الصورة التي نجدها عند اسبينوزا أو هيجل، أي أن تكون الحرية هي التمشِّي مع مسار الضرورة. ولكن حين يرفُض المرء هذه النظرة إلى الحرية كما فعل سارتر تتوالى بقية النتائج من تلقاء ذاتها. فالنظرة العقلانية إلى الضرورة تسُود، كما لاحظنا من قبل، في ميدان العلم النظري. لذلك ينبغي رفضها بمجرَّد أن نأخُذ بفكرة الحرية الوجودية. وبالمِثل ينبغي التخلِّي عن اللاهوت العقلاني، وإن كان يبدو أنَّ سارتر قد ذهب إلى أبعدِ ممَّا ينبغي في محاولته أن يربط هذا الموقف بالإلحاد. ذلك لأنَّنا لو كنَّا أحرارًا بالمعنى الذي يؤمن به سارتر، لكان في استطاعتنا أن نختار ما نشاء. والواقع أن المفكرين الوجوديين المختلفين قد اختاروا في هذه المسألة مواقف مُتباينة كما رأيْنا من قبل.

والحق أنَّ الوجودية في نقدِها للنظرة العقلية إلى الضرورة، تلفِت أنظارنا إلى مسألة هامة، ولكن ما تقوم به ليس نقدًا فلسفيًّا بقدْر ما هو احتجاج انفعالي قائم على أُسُس نفسية. فتمرُّد الوجودية على المذهب العقلي مُنبثِق من حالة شعورٍ بالاضطهاد، وهذا يؤدي إلى موقفٍ غريب وشخصي إزاء عالَم الواقع يُشكل عقبةً في وجه الحرية. فبينما يرى العقلاني حريته في معرفة الطريقة التي تعمل بها الطبيعة، يجِدها الوجودي في الاستسلام لحالاته النفسية الباطنة.

أما النقطة المنطقية الأساسية التي تكمُن وراء هذا كله فترجع إلى نقد شلنج لهيجل. فالوجود لا يمكن أن يُستنبَط من مبادئ منطقية عامة. وهذا نقد يمكن أن يُرحِّب به أي تجريبي مُتمسِّكٍ بمذهبه. ولكنَّنا بعد أن نُصدِر هذا الحكم، لا نحتاج إلى أن نُضيف إليه شيئًا. بل إنه ليبدو أنَّ المرء يهدِم هذا النقد السليم إذا ما استنبط على أساسه عِلم نفسٍ وجوديًّا كما تفعل نظرية سارتر، ففي هذه النظرية نجد ملاحظاتٍ طريفة وقَيِّمة في وصف حالاتٍ نفسية متنوِّعة، ولكنَّ سلوك الناس وشعورهم على هذا النحو ليس نتيجةً منطقية للحقيقة القائلة إنَّ الوجود ليس له ضرورة منطقية، ولو سِرْنا في الاتجاه الآخر لكان معنى ذلك قَبول قضية شلنج ورفضها في الآن نفسه، وعلى ذلك فبينما يحقُّ لنا الاعتراف بصحَّة الملاحظات النفسية ودقَّتها، فإنَّ هذه المادة لا يصحُّ تحويلها إلى مبحثٍ في الوجود (أنطولوجيا). ولكن هذا بالضبط هو هدف دراسة سارتر المُسمَّاة: «الوجود والعدَم» وهو كتاب يتمشَّى تمامًا مع الطريقة الألمانية في التأليف، من حيث غموضه الشِّعري وغرائبه اللفظية. أما محاولته أن يُحوِّل موقفًا خاصًّا من الحياة إلى نظرية أنطولوجية فتبدو خارجة عن المألوف في التراث الفلسفي، سواء أكان هذا التراث مُنتميًا إلى المعسكر العقلي أم التجريبي. وهي أشبَهُ بتحويل روايات دستويفسكي إلى كتُبٍ مدرسية في الفلسفة.

ولنلاحِظ أنَّ الوجوديين سيرفضون نقدَنا، على الأرجح، على أساس أنه خارج عن الموضوع، قائلين إننا نستخدِم في هذا النقد معايير عقلانية. فبدلًا من أن نتصدَّى للمشكلات الوجودية، نتحرَّك في ميدان المنطق العقلي. وقد يكون الأمر كذلك بالفعل. ولكن من الممكن استخدام هذا الاعتراض ضدَّ من يُوجِّهونه؛ إذ إنَّ هذا تعبير آخَر عن القول إنَّ أية معايير، مهما كان نوعها، تدور في إطار الميدان العقلي. وهذا ينطبق على اللغة بدورها ومن ثَم كانت هنالك خطورة في استخدامها من أجل دعم النظريات الوجودية. وفي مقابل ذلك ففي وسع المرء بالطبع أن يكتفي بنوعٍ من التدفُّق الشاعري يستخدِمه كلُّ شخصٍ كما يشاء.

أما وجودية جابرييل مارسيل Gabriel Marcel (١٨٨٩–١٩٧٣م) فهي على خلاف وجودية سارتر؛ ذات اتجاهٍ ديني، وهي في ذلك تُشبه نظريات ياسبرز إلى حدٍّ ما. ولقد تركَّز اهتمام مارسيل، شأنه شأن سائر المفكرين الوجوديين، على الفرد، وعلى تجربته العينية في مواقفَ إنسانية محددة. أما في ميدان الفلسفة بوجهٍ عام، فإن ما يؤكده مارسيل هو الحاجة إلى تجاوز النوع العادي من التفكير، الذي يشرح ويُحلل؛ فلِكي نرى حقيقة الواقع بأكمل معنًى، ينبغي أن نُعيد تجميع تلك الشرائح الجزئية التي يُوصِّلنا إليها تشريحنا العقلاني، وتتم عملية إعادة التركيب هذه عن طريق ما يُسميه مارسيل بالتفكير ذي المرتبة الأعلى (الثانية) الذي يقصد به نوعًا أعلى وأشدَّ حدَّة وكثافة من التفكير، فعلى حين أنَّ التفكير ذا المرتبة الأدنى (الأولى) مُوجَّه إلى الخارج، نجد أن هذا التفكير الأعلى، ذا المرتبة الثانية، ينعكس داخليًّا ليتأمَّل ذاته.

ومِن المشكلات التي يهتمُّ بها مارسيل، مشكلة العلاقة بين الجسم والذهن. وقد برزت هذه المشكلة نتيجةً لانشغاله بمحنة الإنسان، كما تُصيب الفرد في موقفٍ واقعي مُعيَّن. ويُذكِّرنا النقد الذي وجهه إلى ثنائية ديكارت بنقد باركلي لأولئك الذين يخلطون بين الإبصار وبين عِلم البصريات الهندسي، ونستطيع أن نقول إنَّ فصل الذهن عن الجسم يفترِض مُقدَّمًا صورةً مجازية تنظُر إلى الذهن على أنه يُحلِّق على نحوٍ ما فوق الشخص، ويرى نفسه والجسم على أنهما شيئان متميزان. هذه على ما يبدو، هي وجهة نظَر مارسيل، وهي صحيحة إلى حدٍّ بعيد، غير أنه يربط حلَّ المشكلة بممارسة التفكير التركيبي، على حين أنَّنا نَميل إلى القول بأنَّ قليلًا من التحليل اللغوي يكفي للكشف عن موضع الخطأ.

لقد كانت الوضعية التي ظهرَتْ حوالي نهاية القرن الماضي مُمثَّلة بمفكرين مثل ماخ، الذي تحدَّثنا من قبل عن أعماله في ميدان الميكانيكا. وخلال الأعوام العشرين التالية، نما بالتدريج اهتمام أوسع بالمنطق الرمزي. وقد أدى تجمُّع هذين العاملين إلى ظهور حركة جديدة كان محورها شليك M. Schlick الذي كان مثل ماخ، أستاذًا في جامعة فيينا، ولذا أُطلِق على المجموعة التي كان يتزعَّمها اسم «حلقة فيينا» وأصبحت فلسفتهم تُعرَف باسم الوضعية المنطقية.

كان هذا المذهب، كما يدلُّ اسمه، وضعيًّا في المقام الأول؛ فهو يرى أنَّ العلم هو الذي يزوِّدنا بمجموع معارفنا، وأنَّ الميتافيزيقا بنمطها التقليدي، هي ثرثرة لفظية فارغة، فليس ثمَّة ما يمكن معرفته وراء التجربة. وفي هذا نجد بعض التشابُه بينهم وبين أفكار كانْت، إذا حذفْنا منها الشيء في ذاته، ويقترِن تأكيدهم للملاحظة التجريبية بالأخذ بمعيارٍ للمعنى يرتبط إلى حدٍّ ما بالبرجماتية التي يُطلقها العالِم في مختبره خلال عمله اليومي. ويتمثَّل هذا المعيار في مبدأٍ مشهور هو مبدأ قابلية التحقيق، الذي يذهب إلى أنَّ معنى القضية هو طريقة تحقيقها، وهذا المعني مُستمَدٌّ من ماخ، الذي طبَّق هذه الطريقة ذاتها في تعريف الألفاظ المستخدَمة في الميكانيكا.

على أنَّ الحركة الوضعية المنطقية التي بدأت في فيينا لم تستمر في المكان الذي ظهرت فيه؛ فقد قُتل شليك في عام ١٩٣٦م على يد واحدٍ من تلاميذه، ووجَدَ بقية أعضاء المدرسة لزامًا عليهم أن يستقرُّوا في مكانٍ آخر بسبب القيود التي فرضَها الاحتلال النازي، ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى رحلوا جميعًا إلى أمريكا أو إنجلترا، وهكذا فإن كارناب R. Carnap قد تُوفِّي في لوس أنجلوس عام ١٩٧٠م وفايسمان Waissmann في أكسفورد عام ١٩٥٩م.
وتمشِّيًا مع الاتجاه العام إلى التوحيد في لغة العلم، بدأت الحركة قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة في نشر أول بحثٍ من السلسلة التي أصبحت تُعرف باسم «موسوعة العلم الموحد»، وهي تُنشَر في مطبعة جامعة شيكاغو. وقد تُوفِّي أول رئيس تحرير لها، وهو أوتو نويرات O. Neurath بأكسفورد عام ١٩٤٥م. وهكذا أُعيد غرس الوضعية المنطقية من تربتها الأصلية إلى البلدان الناطقة بالإنجليزية، حيث ارتبطت مرةً أخرى بالتراث القديم للتجريبية الإنجليزية، التي تدين لها بوجودها إلى حدٍّ ما. وكان أول ما لفَتَ الأنظار إلى الوضعية المنطقية على نطاق واسع في إنجلترا هو كتاب آير A. J. Ayer «اللغة والحقيقة والمنطق» (١٩٣٦م).

لقد ساد الحركة الوضعية كلها احتقارٌ للميتافيزيقا، واحترام للعِلم. أما فيما عدا ذلك فكانت هناك فوارق ملحوظة في مسائل المنطق والمنهج العلمي، وقد أدَّى مبدأ قابلية التحقيق، بوجهٍ خاص، إلى ظهور عددٍ من التفسيرات المُتباينة. والواقع أن تاريخ الحركة يدور بالفعل حول المناقشة التي جرَتْ بشأن أهمية هذا المبدأ ومكانته.

إنَّ من الانتقادات الأولية الموجَّهة ضد النظرية القائلة إنَّ المعنى هو قابلية التحقيق، أنها تواجه نفس الصعوبة التي تواجهها نظرية الحقيقة عند البرجماتيين. فلنفرِض أنَّنا وجدْنا طريقةً ما للتحقُّق من صحة قضية، فإذا ما قدَّمنا عرضًا وصفيًّا لهذا الإجراء، كان من حقِّنا أن نتساءل عن معنى هذا العرْض ذاته، ويؤدي ذلك على الفور إلى تسلسلٍ لا نهاية له، للمعاني التي ينبغي تحقيقها، ما لم نعترِف في مرحلةٍ ما بأن معنى القضية، ببساطة، واضح كالشمس. ولكنَّنا إذا اعترفْنا بذلك، كان معناه القضاء على المبدأ الأصلي، وكان من حقِّنا عندئذٍ أن نُسلِّم بأننا نستطيع إدراك المعاني مباشرةً على الفور.

ويواجِه الموقف الوضعي صعوبةً أخرى هي رفض كلِّ تأمُّلٍ فلسفي بوصفه لغوًا. ومصدر الصعوبة هو أنَّ نظرية قابلية التحقيق هي ذاتها نظرية فلسفية، وقد حاول شليك أن يتجنَّب هذه العقبة بالقول إنَّ مبدأ قابلية التحقيق هو في الحقيقة مُتأصِّل في سلوكنا، وكل ما نفعله حين نعرِضه بهذه العبارات هو أن نُذكِّر أنفسنا بالطريقة التي نسير عليها بالفعل. ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، لكان المبدأ صحيحًا في نهاية الأمر؛ ومن ثَم فهو يُحدِّد موقفًا فلسفيًّا. ذلك لأنَّ من المُتَّفَق عليه بين جميع الأطراف أنه ليس من قضايا العلم التجريبي.

وهنا نجد أنَّ شليك يحاول تجنُّب التسلسُل إلى ما لا نهاية في عمليات التحقيق المتعاقبة. فهو يرى أنَّ المعاني تُستمَدُّ في نهاية المطاف من تجارب تُلقي الضوء على ذاتها، وتُضفي بدورها معنًى على القضايا. ولقد استهدف كارناب غايةً مُماثِلة، عندما حاول أن يضع صيغة نسَقٍ منطقي شكلي يردُّ المشكلة الإبستمولوجية (المعرفية)، إلى أفكارٍ بدائية تربط بينها علاقة أساسية وحيدة هي التعرُّف على التشابُه.

هذه الطريقة في التصدِّي للموضوع ترتكز على تسليمٍ ضمني بشكلٍ من أشكال النظرية القائلة إن معيار الحقيقة هو التطابق.٦ وعَيب هذه النظرية، من حيث تفسيرها لمشكلة المعرفة، هو أنها تقتضي منَّا أن نقف خارج الساحة التي تتمُّ فيها المقارنة بين التجارب والقضايا، وقد أدرك نويرات، هذه الصعوبة، وأكد أنَّ القضية لا يمكن أن تقارَن إلا بقضيةٍ أخرى، فما يُقدِّم دعمًا وتأييدًا لقضيةٍ ما هو، في رأيه «قضية بروتوكولية» Protocol Statement (أي قضية أولية) يضعها على نفس مستوى القضايا التجريبية العادية؛ أي إنَّها لا تتَّسِم بالضرورة. وقد اتَّخذ كارناب موقفًا مماثلًا، ولكنه رأى أن القضايا البروتوكولية هي نقاط لا تقبل الشك، وهو رأي تُشتَمُّ منه رائحة المذهب الديكارتي. وفي كلتا الحالتين نجد أنَّ هذه الطريقة في معالجة المشكلة تؤدي إلى نظريةٍ تقول إنَّ الحقيقة هي الترابط،٧ على طريقة العقليين التقليدية.

ولقد تحوَّل اهتمام كارناب، آخر الأمر، إلى موقفٍ مختلف كلَّ الاختلاف إزاء المشكلة الرئيسية للفلسفة الوضعية المنطقية. فلو استطاع المرء اختراع لغةٍ صورية مركَّبة بحيث لا يمكن أن تُصاغ فيها قضية غير قابلة للتحقيق، عندئذٍ يؤدي الأخذ بمِثل هذه اللغة، إلى تلبية جميع المطالب الوضعية؛ إذ سيكون مبدأ التحقيق جزءًا لا يتجزَّأ من بنية النسَق ذاته، غير أنَّ هذه الطريقة في معالجة المشكلة غير كافية بدَورها. ومن أسباب ذلك أنَّ مسائل المعنى لا يمكن إرجاعها إلى تركيباتٍ في البنية اللغوية، التي تتعلَّق بأساليب الربط بين الكلمات. وفضلًا عن ذلك فإنَّ بناء مثل هذا النسَق يفترض ضمنًا أنَّ جميع الكشوف قد تمَّ إنجازها من قبل. ففكرته من هذه الزاوية مُعادلة في بعض جوانبها لبناء النسَق الهيجلي، الذي كان مَبنيًّا على رأيٍ مُماثل هو أن العالم قد انتقل إلى مرحلته النهائية.

وهناك شخصية لها قدْر من الأهمية بالنسبة إلى الوضعيين المنطقيين، رغم أنَّ صاحبها لم يكن عضوًا في حلقة فيينا، هي شخصية فتجنشتين Wittgenstein. فقد كان لنظرياته المنطقية الأولى تأثير كبير على تفكير الوضعيِّين. ولكن التطوُّرات المتأخِّرة، ذات الطابع اللغوي، التي طرأت على فكر فتجنشتين هي التي حوَّلت الوضعية المنطقية في اتجاهٍ جديد بمجرد أن أصبحت لها ركيزة في إنجلترا.

لقد تفرَّعت الحركة الوضعية عدة فروع مُتباينة، من أهمها مدرسة التحليل اللغوي التي سيطرتْ على الفلسفة الإنجليزية خلال العقود الأخيرة. وهي تشترك مع الوضعية المنطقية الأصلية في القول بأنَّ جميع الإشكالات الفلسفية إنما نتجَتْ عن الاستخدام الفضفاض للغة، وهكذا يرَون أن كل سؤالٍ صِيغَ على نحوٍ سليم له إجابة واضحة دقيقة، ومهمَّة التحليل هي أن يُبين أن المسائل الفلسفية، إنما تنشأ عن إساءة استخدام اللغة نتيجة للإهمال، وما إن يتم الكشف عن عناصر الغموض في هذه الأسئلة ويُلقى عليها ضوء ساطع، حتى يتَّضِح أن المشكلات لا معنى لها، وتتلاشى من تلقاء ذاتها، وهكذا فإنَّ الفلسفة إذا ما استُخدِمت على النحو الصحيح، ينبغي النظر إليها على أنها ضربٌ من العلاج اللغوي.

ولنضربْ لهذا المنهج مثلًا بسيطًا، وإنْ لم أكُن أنا شخصيًّا أقبل الحجَّة المتعلقة بهذه المسألة؛ فكثيرًا ما يحدُث أن يتساءل شخص عن كيفية بدء كل شيء، فما الذي بدأ مسيرة العالم، ومن أية نقطةٍ بدأ مساره؟ ولكن بدلًا من أن نقدِّم إجابة، دعُونا ندقِّق في صياغة السؤال. إنَّ الكلمة المركزية في السؤال هي (البدء)، فكيف تُستخدَم هذه الكلمة في الحديث العادي؟ لكي نجيب عن هذا السؤال الفرعي، ينبغي أن ننظُر إلى نوع الموقف الذي نستخدِم فيه الكلمة عادة، فقد نتحدَّث عن حفلٍ موسيقي قائلين إنه يبدأ في الساعة الثامنة، وقبل البداية ربما كنَّا قد تناولْنا العشاء في المدينة، وبعد الحفل نعود إلى البيت، والشيء الهام الذي ينبغي ملاحظتُه هو أنَّ الكلام عمَّا حدث قبل البداية وبعدَها كلام له معنى، فالبداية هي نقطة في الزمان تُحدِّد مرحلةً لشيء يحدُث في الزمان، فإذا ما عُدنا الآن إلى سؤالنا الفلسفي اتضح لنا على الفور أننا نستخدم فيه كلمة «البداية» بطريقةٍ مختلفة كل الاختلاف؛ إذ ليس المقصود هنا أنْ يكون في وُسعنا الكلام عما حدَث قبل بداية كل شيء، بل إنَّنا حين نصُوغ المسألة على هذا النحو، نستطيع أن نُدرك جانب الخطأ في السؤال، فالسؤال عن بدايةٍ لا يسبقها شيء أشبَهُ بالسؤال عن مربَّع دائري، وحين يتَّضِح لنا ذلك سنكفُّ عن طرح السؤال، لأننا نُدرِك أنه سؤال لا معنى له.

لقد تأثَّرت فلسفة التحليل في إنجلترا تأثرًا كبيرًا بلودفيج فتجنشتين (١٨٨٩–١٩٥١م) الذي كان خلال إحدى المراحل متَّصِلًا بحلقة فيينا، وقد غادر بلاده، كبقية أعضاء الحلقة، قبل أنْ تتجمَّع سُحب العاصفة الهتلرية في ألمانيا، وانتقل إلى الإقامة في كيمبردج، حيث عُيِّن أستاذًا في عام ١٩٣٩م عندما تقاعد ج. أ. مور G. E. Moore وكان الكتاب الوحيد الذي ظهر له خلال حياته هو «دراسة منطقية فلسفية Tractatus logico-philosophicus» الذي نُشِر عام ١٩٢١م، في هذا الكتاب عرَض الرأي القائل إنَّ حقائق المنطق تحصيل حاصل، وتحصيل الحاصل tautology، بالمعنى الفني الذي استخدَمه به، هو قضية يكون نقيضها مناقضًا لذاته. وبهذا المعنى تكون كلمة «تحصيل حاصل» مطابقة بصورةٍ عامَّة لكلمة تحليلي، أكثر شيوعًا. وقد قادته اهتماماته في السنوات اللاحقة بعيدًا عن المنطق، في اتجاه التحليل اللغوي. والمصدر الذي سُجِّلت فيه آراؤه هو مذكرات محاضراته، ومجموعة أبحاثه التي نُشِرت بعد وفاته، والتي ظهر منها حتى الآن مجلدان. وليس من السهل تقديم وصفٍ يلخِّص اتجاهاته بصورةٍ مجملة، نظرًا إلى أسلوبه الغريب الذي كان مُستترًا إلى حدٍّ ما. وربما كان التعبير المعقول عن الفكرة الأساسية في نظريته الفلسفية المتأخِّرة هو أنَّ معنى أية كلمة هو طريقة استخدامها.

ولقد أدخل فتجنشتين، في معرض تقديمه لآرائه، تشبيه «الألعاب اللغوية» الذي يعني به أنَّ الاستخدام الفعلي لجزءٍ معيَّن من اللغة هو أشبه بلعبةٍ كالشطرنج مثلًا، ولهذه اللعبة قواعد مُعيَّنة ينبغي على كلِّ من يُمارسونها أن يراعوها، كما أنَّ هناك قيودًا مُعيَّنة على الحركات المسموح بها، ويرفض فتجنشتين عالَمَه المنطقي السابق كما عرَضَه في الدراسة، رفضًا تامًّا. فقد بدا له عندئذٍ أنَّ من الممكن تحليل جميع القضايا إلى مكوِّنات نهائية بسيطة لا تقبل مزيدًا من التجزيء. ومن ثَم كان يُطلق على هذه النظرية أحيانًا اسم «الذرية المنطقية»، وهي تشترك في الكثير مع نظرياتٍ أسبق منها عن المكوِّنات النهائية البسيطة التي قال بها العقلانيون. وهذه الفكرة هي أساس جميع محاولات وضْع لغةٍ كاملة تُعبِّر عن كل شيء بأقصى قدرٍ من الدقة، أما في المرحلة المتأخِّرة فقد أنكر فتجنشتين إمكان إيجاد مِثل هذه اللغة، فمن المُستحيل أن نقضي على الخلط قضاءً مبرَمًا.

وهكذا فإنَّنا حين نتعلم كيف نلعب عددًا من الألعاب اللغوية المتنوِّعة، نكتسب معنى الكلمات عن طريق استخدامها ومن خلاله. وفي بعض الأحيان نُعبِّر عن ذلك بطريقةٍ أخرى فنقول إننا نتعلَّم «النحو» أو «المنطق» الخاص بكلمةٍ مُعيَّنة، وهو تعبير فنِّي أصبح شائعًا على نطاقٍ واسع في التحليل اللغوي، وهكذا فإن إثارة المشكلات الميتافزيقية ينجم عندئذٍ عن نقصٍ في إدراك «النحو» الخاص بالكلمات. ذلك لأنَّنا بمجرد أن نفهم القواعد فهمًا صحيحًا، لا تظلُّ لدَينا رغبة في طرح مثل هذه الأسئلة، بعد أن يكون العلاج اللغوي قد شفانا من هذه الرغبة.

لقد كان لفتجنشتين تأثيرٌ كبير في الفلسفة اللغوية. ومع ذلك فإنَّ التحليل اللغوي قد سار في طرُقِه ودروبه الخاصة إلى حدٍّ ما، ونخصُّ بالذِّكر ظهور اهتمام جديد بالتمييزات اللغوية بغضِّ النظر عن أيٍّ علاجٍ مفيد يمكن أن يُسفِر عنه ذلك. وهكذا ظهر نوع جديد من النزعة المدرسية وهو يخنق نفسه كما فعل سلفُه القديم في العصر الوسيط في مسارٍ ضيِّق. والشيء الذي تشترك فيه معظم تيَّارات التحليل اللغوي هو الاعتقاد بأنَّ اللغة العادية كافية، وأنَّ الإشكالات الفلسفية إنما تنشأ عن سوء الاستخدام. هذا الرأي يتجاهل حقيقةً واضحة هي أن اللغة العادية تحتشِد ببقايا النظريات الفلسفية الغابرة.

إنَّ المَثَل الذي قدَّمناه من قبلُ يُبين الطريقة التي ينبغي أن يُفهَم بها العلاج المرتكِز على الاستخدام الشائع. فمن المؤكد أن هذا النوع من التحليل سلاح يفيد في التخلص من كثيرٍ من التعقيدات الميتافيزيقية المتشابكة الغامضة، ولكنه من حيث هو نظرية فلسفية، ينطوي على بعض نقاط الضَّعف. بل إنَّني لأعتقد أنَّ الفلاسفة كانوا طوال الوقت يفعلون هذا الشيء على وجه التحديد، ولكن بصمت. وإذا كان الناس لا يعترفون بذلك اليومَ فإنَّ مردَّ هذا إلى نوعٍ من ضيِّقِ الأفق العقلي الذي أصبح شائعًا بيننا في الآونة الأخيرة. والأخطر من ذلك هو تمجيد اللغة العادية باتِّخاذها حَكَمًا في جميع المنازعات؛ إذ إنني لا أستطيع أنْ أُدرك على الإطلاق لماذا لا تكون اللغة العادية ذاتها مليئةً بالخلط. وأقل ما يمكن أن يُقال هو أنَّ النظَر إليها كما لو كانت شكلًا من أشكال مِثال الخير، دون أن نتساءل ما هي اللغة، وكيف تنشأ وتعمل وتنمو، هذا كله أمر محفوف بالخطر. والافتراض الضِّمني هو أنَّ اللغة كما تُستخدَم عادةً تنطوي على نوع من العبقرية الرفيعة أو الذكاء الخفي، وهناك مُسلَّمة أخرى، ترتبط بهذه على نحوٍ غير مباشر، هي الاعتراف بإمكان تجاهُل كل معرفةٍ غير لغوية، وهو نعمة يستمتِع بها أنصار هذا الاتجاه على نطاقٍ واسع.

١  ترُدُّ هذه الحجَّة على الفكرة القائلة إن العلاقة بين المَثَل والأشياء الجزئية هي علاقة مُشارَكة فتقول إنه لكي يشارك الرجل العادي، الملموس، في «مِثال» الرجل، لا بدَّ من افتراض «رجل ثالث» يتوسَّط بينهما، وهذا الرجل الثالث لا بدَّ أن يكون له مثال، وهلمَّ جرًّا. (المترجم)
٢  يشيع في كتُب علم النفس ترجمة هذا المصطلح بالفعل المنعكس، «الشرطي». وفي رأيي أنَّ هذه ترجمة غير صحيحة، تلتزِم بمعني كلمة condition (شرط) إذا استُخدِمت كاسم، ولكن الكلمة إذا استُخدِمت كفعل conditioning وهو الاستخدام المقصود هنا، تعني التكييف، وتعني الخروج عن الشروط والتحكُّم فيها كما تشاء، أي عكس الترجمة الشائعة. وبهذا المعنى الأخير يُستخدَم تعبير «تكييف الهواء Air Conditioning»، ومنه اقتبسْنا هذه الترجمة التي نراها أدقَّ في التعبير عن المقصود من هذا المصطلح. (المترجم)
٣  وتُوفِّي عام ١٩٧٦م. (المترجم)
٤  وتُوفِّي عام ١٩٨٠م. (المترجم)
٥  انظر [الفصل الثالث: عصر التنوير والرومانتيكية – هامش ١٥].
٦  نظرية قديمة تكرَّرت مرارًا في تاريخ الفلسفة، تقول إنَّ الحقيقة هي التطابُق بين الحُكم والواقع، أو بتعبير الفلاسفة العرب، مطابَقة ما في الأذهان لِما في الأعيان. (المترجم)
٧  نظرية سادت بوجهٍ خاص عند المثاليين، تقول إن القضيَة توصف بأنها حقيقة إذا كانت تترابط بصورةٍ محكمة مع نسقٍ كامل من القضايا، بحيث تكون الحقيقة بمعناها الكامل في النسَق كله، لا في أيِّ جزءٍ منه مأخوذًا على حِدة. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤