البحيرة

في إيقاع بطيء كانت تدور عقارب انتظاره، ثقيلة باردة مذءوبة بشواء الحارس، عفن جلده المدبوغ، كانوا لا يطعمونه سوى مرق الذئب.

شواء الذئب.

دهن الذئب.

لحافه فراء الذئب.

مذبته ذيل الذئب.

عندما يستيقظ ناظرًا لضوء الفجر عبر باب الكهف الكبير المنغلق بأغصان شوكية، يرى وجه الذئب المحنط المعلق على بوابة الكهف محملقًا بعينين مفرغتين من الداخل نحوه، نحو أهل الكهف الذين استيقظوا في وقت سابق وذابوا في المكان.

كل شيء، الذئب.

بين حين وآخر تزوره الفتاة المترجمة تسأله ما إذا كان يريد شيئًا، ثم تنصحه بأن يأكل كل ما يؤتى إليه به من أشياء ذئبية؛ لأن هذا يعجل بإطلاق سراحه، وأن لحم الذئب مفيد لجسد الإنسان، وأنه يجعل القلب أكثر ثباتًا، الأقدام أكثر قوة، العينين أكثر رؤية. لم تقل له إنه محرم أكله على قبائل الدغل كلها.

لأنه جدهم في الروح.

بدأ يلاحظ أن وزنه أخذ في الزيادة بصورة واضحة، أرجع ذلك لعدم ممارسته الرياضة، وأن الطعام شديد الدسم، وأن الذئب كان شَحِمًا جدًّا، أرجع ذلك للطمأنينة النسبية، حسها بعد قضاء أسبوع كامل بالكهف واعتياده على المكان.

إذ قال لنفسه: سأقوم باستكشاف المكان وإلا أصبحت فيلًا آدميًّا، دعني أمشي هنا وهنالك، لماذا لا أبحث عن العين المائية؟ ربما رفَّهت عن نفسي بدهشة الاكتشاف، ولِمَ لا؟

لبس نعله الواقي الثقيل «الكولمان»، مضى تاركًا الشمس خلف ظهره نحو مغرب الشمس؛ لأنه إذا فشل في الوصول إلى العين غربًا اتجه شرقًا، ثم بقية اتجاهات الدنيا الكثيرة، لديه من الزمن ما يكفي للدوران حول الجبل كله ألف مرة، لديه من الزمن ما يكفي لأكل ذئب كبير عجوز قذر.

كان يحاول أن يضع علامة على طريقه يهتدي بها عند العودة على الأشجار، كأن يكسر فرعًا كبيرًا، أو يربط منديلًا، أو يلاحظ تميز صخرة … إلى آخر ما صنعه من لغة ترشده سبيل العودة، كان يرسم المكان في ذاكرته، ينحت علاماته في ذاكرة المكان.

الحيوانات التي تلتقيه في الطريق هي الأرانب، فئران الجبل كبيرة الحجم، الصبرات، السناجب، الثعالب، هي لا تمثل له مخافات فعلية، بل إنه حاول أن يصطاد أرنبًا كبيرًا أبيض الفراء، فشل في ذلك.

في الحق كان هو المخافة، فزَّاعة الأرانب والفئران المسكينة، هل لأن رائحة الذئب تفوح من جلده؟ هل لأن روح الذئب؟ هل لأنه …؟

تأكد أنه يمشي نحو العين عندما شاهد أمامه على بعد ميل واحة تجمع أشجارًا ذات خضرة متميزة وقامات أعلى مما يجاورها من أشجار، وكلما اقترب من المكان وافته الريح ببرودة الماء ورائحته، عطن أوراق وفريعات متعفنة بفعل ماء المد.

يشق الأعشاب الكثيفة الخضراء قافزًا هنا وهنالك، متخطيًا عشبة شوكية وقنفذًا صغيرًا أو نتوءات صخرية، فإذا به يجد نفسه في مواجهة عين ماء ساحرة، لكنه لم يقترب كثيرًا من موضع الماء؛ لأنه يعرف أن التماسيح التي تعيش في هذه الأنحاء غالبًا ما تكون شرسة وشرهة ذات شهية منقطعة النظير للحوم البشر، جلس تحت شجرة وارفة لا يدري ما فصيلتها أو اسمها، لكنه شاهد منها كثيرًا في هذه الأنحاء، لها ثمار زرقاء صغيرة مرمية تحتها كثيرة، بعضها يابس منكمش على ذاته كحبات النبق، بعضها لا يزال رطبًا، أخذ واحدة، تذوقها، كانت حامضة، حامضة جدًّا، رماها بعيدًا في عشب المحريب. البحيرة هادئة، سطحها منبسط مصقول كالمرآة، عندما تهب عليه نسيمات هادئات يتموج في بطء وانتظام مكونًا أمواجًا طفيفة لا تكاد تلاحظ كموجات خصلة حورية مسدلة على ظهرها، كان يترقب بين لحظة وأخرى أن تطل أنف تمساح مهشِّمة صقل السطح أو يخرج تمساح بكامله من الماء زاحفًا نحو رمال الشاطئ، الرمال البيضاء الشهية التي لها لمعان حلو وهي تعكس ضوء الشمس المنسرق إليها عبر أغصان وأوراق الأشجار العالية الخضراء، كانت تفصله عن البحيرة عدة شجيرات ظليلة كثيفة الأوراق وهي لا تمنعه من مراقبة البحيرة لكنها تحميه من أن يُنتبه لوجوده من جهة البحيرة، إذ بإمكان التماسيح الخروج ما شاءت والرُّقاد واللعب على الشاطئ الرملي أيضًا دون أن يزعجها وجوده. كان يعرف أن التماسيح تفضل الشواطئ الرملية لأنها ستضع بيضها فيها وتظل تراقبه وتحميه إلى أن يفقس ولو أن هذا الفصل ليس بفصل التبييض، إلا أنها تخرج للبحث عن فريسة ما على الشاطئ. يظن أنه لو دقق النظر على سطح الماء سيتمكن من رؤية أنف التمساح، كان يعلم كباحث في الحياة البرية أن الوقت الذي يقضيه التمساح خارج الماء أكثر بكثير من الزمن الذي يقضيه بداخل الماء إذا كان مترقبًا يقظًا لكل بادرة تشير إلى أن هناك فكًّا مفترسًا.

عندما أطل وجهها بين شجيرات الشاطئ الخيمية وأعشاب المحريب العطري، وسط مهرجات الفراشات والعصافير التي أخذت تهرب في كل صوب وجهة، عبر خشخشة أوراق الأشجار المتساقطة على الأرض، عبر خياله المشحون يترقب ظهور تمساح بين حين وآخر، عبر عصارة الذئب تسري في شريانه في صمت وخبث …

أطلَّ وجهها.

وجهها الأبيض المسقي بوردية خفيفة هي سريان دم الشمس عبر شعيراتها الدموية الرقيقة، ثم اندفعت كلها خارجة من بين الأشجار، كأنها جنة حقيقية، مثلما في خياله منذ الطفولة الأولى وقصص كامل كيلاني وأحاجي جدته عن الجنة التي تسكن شاطئ النهر، إذن هي جنة بكل ما يشاء لها من توصيف وتخيل، كان شعرها الأشقر مسدلًا على كتفيها وظهرها هابطًا إلى ما دون عجيزتها قليلًا، فارعة القوام بجسد مهر، جسد نَزِق مشاغب، صدرها عارٍ، نهداها منتصبان مكتنزان منفعلان كأنهما نسران يهمان بالطيران لكن تمسك بهما شباك الصياد، فلا هما يستسلمان ولا هما ينفكان، كانت تلبس رداء من القصب الناعم يبدأ من وسطها وينتهي ما دون الركبة ليفسح المجال لصراخ الفخذين الجنينين الثائرين …

بالتأكيد هو رجل شجاع، لكنه كان في طريقه للانسحاب من تحت الشجرة وحمل خطاه في خفة والهروب بعيدًا لولا أن ظهرت خلفها من بين الأشجار الفتاة المترجمة.

فلوباندو.

كانتا جميلتين ورشيقتين، تحيطان خصريهما بفساتين من القصب، رآها ذات مرة تلبسها فرقة شعبية في مسرح المدينة، الآن لا يحتاج الأمر عنده ولو للقليل من إعمال الفكر والتحرر، ياااا! إنها أخت الأبيض المتوحش، مخلفات مستر ومسز جين، يا لهذا الجمال الضائع في الأحراش، في صدأ الرطوبة النتنة والتخلف وردة العفن!

ولولا أن خذلته مخيلته لضعف تعاني منه لقال شعرًا، أو شيئًا قريبًا من الشعر، خلعتا أقصابهما وقلائدهما، أضحتا عاريتين كتمثالين من البرونز والعاج، الحق أنه لأول مرة في حياته يرى امرأة بالغة عارية تمامًا، لأول مرة تصعقه قشعريرة كهرباء، الجسد الأنثوي، يحس بفوضوية تامة، بألوهية الموسيقى المنبعثة في تفاصيل التفاصيل، حيث يفرض عليها الجسد ربوبيته وشيطانيته أيضًا.

الجسد.

نشيد إنشاد الإنسان.

والجسد.

قرآن الروح.

هكذا كان يعرفه صديقه الصادق الكدراوي، العارف بالمرأة، كان يستحلي التعبير لصوفيته لكنَّه لم يفهمه سوى في هذا الآن بالذات، ذات لحظة الصُّقْع.

ذات لحظة الإنشاد العظيم.

الموسيقى تهب كالعاصفة، مثل درويش ثَمِلٍ يدور به خمر الإيقاع، يصبح دوَّارة.

لا تستريح.

موسيقى.

موسيقى.

لا تستريح.

الجوقة عباقرة، ألحانهم عطر، أوتارهم سبائب الجنيات وعصب عشاقهن …

تتسرب الموسيقى عبر مسامِّ جسده متحولة إلى راحٍ، لا يُسكر لكنه يذهب بالعقل، كانت لغة الجسد معقدة عصية وموسيقاه صقع.

امرأتان عاريتان.

امرأتان عاريتان.

سيحاول أن يؤكد لنفسه حقيقة الرؤية، الفتاة المترجمة أخت الأبيض المتوحش.

تلك هي بطونهن.

تلك هي أفخاذهن.

تلك هي أردافهن.

تلك هي الجزر السوداء.

شعورهن السرية.

امرأتان.

حقيقيتان.

عاريتان على شط البحيرة.

كانتا تضحكان وهما تتحدثان باهتمام بالغ على الرمال الشهية البيضاء. رقدت الفتاة المترجمة على ظهرها موسِّدة رأسها قطعة خشب صغيرة، كان جسدها يشع عظمة وموسيقى. جلست الفتاة البيضاء ذات الخصلة الساحرة، تفحصت عانة صديقتها جيدًا وهي تترنم بلحن ساعدت رطوبة البحيرة في نقله إلى مسمعه بصورة حسنة، كان لحنًا رائعًا. عندما فرغت اضطجعت هي أيضًا على ظهرها، على الرمل الأبيض الشهي، أخذت الفتاة المترجمة تعمل في عانتها …

يراقب الأمر بعينين جاحظتين، أذنين مفتوحتين، وصمت موقوت، صرخ في ذاته: أنت موعود يا سلطان تيه بليالٍ حمراء، موعود بأجساد بكر!

يا حبذا إذا كان معي الصادق الكدراوي!

لكنَّا في هذه اللحظة ملتصقَيْن بهما كقُرادات البقر.

مر ليس ببعيد عنه ثعبان ضخم، انزلق نحو البحيرة، سحليتان تتخاصبان قرب رجله، قرد صغير تسلق الشجرة التي يجلس تحتها الآن، لكنه لا يلاحظ شيئًا. ثم قفزتا في لحظة واحدة بحركة رياضية ومن على ساق مهوقني مرمري على الشاطئ، قفزتا في الماء، تطاير الماء في الهواء كأنه ذعر مفاجئ بهما، هكذا تحول سطح البحيرة من هدوء ساكن إلى أمواج دائرية كبيرة، رَشَاش ماء، ضجيج، ضرب أكفٍّ وأقدام، الفتاتان الجنيتان كانتا أمهر مما رأى من سباحين، مثل دُلْفينين مسحورين تلعبان في الماء بكرة ويبدو أنها ثمرة لشجرة ما، ثم غطستا في الماء معًا.

ثم خرجتا معًا، ثم غطستا، ثم خرجتا.

جلستا على رمل الشاطئ تستجمعان أنفاسهما قبل أن تشرعان في غناء بهيج، قبل أن تلتقطان بعض العصي الناشفة من تحت الأشجار، ترصانها على عودين كبيرين تمكنتا بعد جهد من جرهما إلى الماء، أبقتا نهايتهما على الرمال، ثم أخذت الفتاة المترجمة اثنتين من العصي، أخذت تطرق بهما على بقية العصي المرصوصة، على العودين الكبيرين المنطرحين على الرمل والماء.

في هذا الحين فقط أحس بخطورة المسألة حين سماعه لهذا الإيقاع المجنون، وقبل أن يفيق إذا بالفتاة البيضاء ترقص، في البدء كانت تتحرك في هدوء، تثني وسطها مع الإبقاء على الرجلين ثابتتين على الرمال، الاحتفاظ بالصدر ساكنًا. في الحق بهذه الرقصة البسيطة المعقدة أثارت فيه غرائز أقل ما يمكن أن توصف به أنها غرائز جنسية …

الدليل العملي على ذلك انتعاظ مفعاله بلذة مصحوبة بحَرَقان طفيف. قبل أن يفيق انتقلت الراقصة البيضاء إلى مرحلة أخرى، مرحلة أكثر عمقًا ومأساة، حينما أخذت عنقها ناحية اليسار قليلًا، اندلق شعرها الأشقر على نهدها الأيسر ذي الحلمة الكبيرة الصفراء في ذات اللحظة التي ارتعشت فيها قدمها اليمنى في انفعال، ترتكز على مقدمة أناملها محركة الجانب الأعلى من فخذها مع حركة إيقاعية للصدر كله، استمرت على هذا الحال ثوانيَ معدودات، أو خُيِّل إليه ذلك، ثم عادت، حركت الوسط فقط، فقط، ثم خلطت بين الحركات؛ الوسط، الفخذ، الصدر، وعلى حين غرة غيرت الفتاة المترجمة الإيقاع؛ أسرع، أخف، أرقص، أمتع، أَصْوَف.

يا إلهي!

يا مالك الملك!

كان يمسك بيديه درويشان، يدوران به في مدار حلزوني عكس اتجاه دوران الأرض والقمر والشمس، عكس انطلاق المجرة كلها في فلكها غير المتناهي.

كانت جلابيبهم المتسعة الرقيعة الصفراء الحمراء البيضاء السوداء الخضراء تزأر وهي تعض الريح هنا وهناك، ومن السماء مباشرة حيث يصعد نشيد الدرويشين تسقط أناشيد هي عصارة أنوثة كل بنيات الدنيا، السابقات، الحاضرات، الآتيات بمشيئة الله.

يدور الجسد الشهي المنقوط من السماء.

لماذا؟

لم يكن يدور من قبل، إن هذا الجسد لم يخلق إلا للرقص، كيف طوعت هذه الوحشية البيضاء كل مادة الحياة؟! حركة كل عضلة فيها تؤدي استعراضًا إنسانيًّا راقصًا بعمق متفرد، كل عضلة فيها كانت تنشئ فهمًا بهيميًّا ينفي ذاته، يتعالى على كل شيء …

الروح، البحيرة، الشَّبَق، الديمومة، ينفي نفسه المتعالي عليها. كل عضلة مهرجان وثورة/عشرات النساء يؤدين أوبرا الأبدية.

يدور به الدرويشان، يمزقان نياط مدينته، يسحرانه عينًا وأذنًا.

كيف طوعت هذه الوحشية الروح في تموجات عضلات جسدها عبر إيقاع البنت المترجمة المسحور؟! كيف استنطقت عصارة السر من علياء البنيان؟!

لا، لا.

لماذا لم يعرف أن روح الجامد الساكن المنقاد هي ثورة الجسد؟

لماذا لا يؤمن؟

يدور به الدرويشان.

لماذا لا تؤمن؟

ترقص.

ترقص.

ترقص.

يدور به الدرويشان، تذوب الروح.

ترقص.

ترقص.

ترقص.

تذوب الروح وتصبح الجسد.

ترقص، ترقص، ترقص، ترقص.

ثم غاب عن الوعي، أنامه ملَكان، أيقظه ملَكان، نظر به نحو البحيرة الساكنة شيطان الحاضر الآن.

واأسفاه!

أين ذهبتا؟ كم سنة نمت؟

•••

بالكهف عاوده الإحساس بالضياع، بالوحدة، بالخوف، بالحزن.

مكسيما.

تمليخا.

مرطونس.

نينوس، ساريولس.

فليستطيونس.

قمطير، حمران، أو ريان.

ماذا لو كانوا قربيَ الآن، نائمين هنا؟ ماذا لو أتت الفتاة البيضاء رقصت على إيقاع شخيرهم المنغَّم بشهيق قمطير، هلوسة فليستطيونس وهو يرى في المنام أن ذئبًا يتحرش بأغنامه؟

هل كانوا سينقلبون قليلًا جهة اليسار إذا هي حَنَت رأسها قليلًا جهة الشرق، اندلقت خصلاتها الشقراء على نهديها؟ وهل إذا انتهرت عضلة واحدة بردفها وأرقصتها بإيقاع خفيف مموسق، بزفير ثمليخا ذلك الحاطب التَّعِب المرهق الذي استراح، أو شاء له أن …؟

أكَل لحم الذئب المشوي شواء رديئًا على عجل، وشرب قليلًا من جِعة الأناناس قبل أن يأخذ كاميرته وملحقاتها، يغلق الكهف بغصن من الشوك كبير، يتجه بخطى عجلة نحو البحيرة، سأقوم بتصويرهما هذه المرة، يجب على الصادق أن يرى مثل هذا الرقص الذي لا يشبه الرقص.

في دخيلة نفسه كان يعرف أن الصادق سيهتم أيضًا بساقَي الفتاتين العاريتين، سيهتم بسُوقهن، سيهتم بالرقص، سيهتم بسوقهن. كَمُن في مخبئه قرب البحيرة، نصب كاميرا كوداك صوب موقع أداء الرقصة السابقة، مرن نفسه بتصوير البحيرة، انحناءات الأغصان بتأثير ريح خفيفة ناعمة، تهب من جهة الجنوب الغربي، صور سربًا من أطيار ذات أرياش جميلة، ألوان زاهية كانت تحلق على سطح البحيرة الممتد أميالًا في أفق ينتهي بأشجار عالية بعيدة. ثم قرر أن يحتفظ بطاقة بطاريته الجافة لتسجيل رقص البنتين، لربما سترقص اليوم الفتاة المترجمة، ستحضران حالًا بين لحظة وأخرى، لقد حضرتا بالأمس في نفس هذا الوقت إلى ذات البحيرة.

ستحضران حالًا، سترقصان حالًا بذات النشاط.

تلهَّى بالأشياء حوله، ينتظرهما، لكن الزمن سيمضي ممثلًا في عقارب ساعته، واستدارت الشمس نحو الغرب وهو لا يحس بذلك، أو كان يخدع نفسه ويسقطها في فخاخ استراتيجية عميقة بتكتيك عسكري كان يصدر لهما الأوامر؛ ستحضران حالًا.

حان حضورهما واستسلم لإرهاب العاطفة وتخدير المخ، الموقَّع بالأمل في الحضور الفوري، الرقص الفوري، العُري الفوري، العُري العظيم المقدس.

كمدمن في انتظار جرعة مخدر تأخرت، كحبلى على فراش الولادة في انتظار الطَّلْق، كان كَلا يدري.

في تلك اللحظات تكثفت حاجات العمر كله في أمل واحد لا غير، ضاق الكون بما فيه، انكمش، متمثلًا في عضلة تنتفض على إيقاع بنت، عضلة في ردف جنية، غناء الأطيار، ألحان المغنين كلهم، موسيقى الطبيعة، نغمة من فيه صبية البحيرة.

لحظة هي المدد عند الصوفي.

شاءت ألا تكون.

عندما وعى غروب الشمس نتيجة لاحتجاب الرؤية، أصدر أمرًا ميدانيًّا حازمًا لنفسه: سيطلع القمر وسيحضران حالًا.

نعم، ليعلو القمر قبة السماء بعض الشيء، نعم، لا بأس، ليصعد قليلًا.

يوميًّا كان يشهد شروق الشمس على شط البحيرة، يشهد غروبها على الشط الآخر، ينتظر بتلهف ميئوس مُدْمٍ طلوع القمر، ثم يعود لأهل الكهف يشاركهم الغياب.

الليلة قمرية.

مضاء الدغل كله، مظلم الأمل في غرف ذاته، مشتى الحزن، القمر يضيء كل شيء إلا الحزن، إنه يزفته ويطينه.

يستطيع من أمام كهفه أن يرى بنايات القرية، النار المضرمة بالكهف تستعر معها فراغات الكهف، وحدته.

كان يستمع إلى راديو فرنسا الدولي، في الحق لم يكن منتبهًا لما يذيعه الراديو، أيضًا لم يكن منتبهًا لما يدور خارج الكهف؛ لأنه إذا كان منتبهًا لسمع صوت البنت المترجمة تنادي: You Man. You Man.

حركت الشوك المنسد به باب الكهف، حينها صاح مذعورًا: من هناك؟ من هناك إنس أم جان؟!

هب واقفًا على رجليه، بيد مرتجفة أمسك فأسًا قريبة منه، قالت الفتاة المترجمة تزيح الغصن الشوكي تمامًا عن الباب: أنا فلوباندو، الفتاة المترجمة، ناديتك من الخارج ولم تسمع.

كانت تتحدث بهدوء وطلاقة، بلغة إنجليزية راقية، بأعصاب باردة كأنف كلب.

بادرها: هل أنت وحدك؟

– نعم وحدي.

في الحق لا يدري لمَ سألها هذا السؤال، لكن للسؤال جذورًا متأصلة في عمق مأساته، من تظن كان يجب أن يكون في صحبتها، أم أنك تريدها وحدها؟ جلست على أرض الكهف بأدب، ضامَّة فخذيها، متخذة من ساقها اليسرى مسندًا، قدم لها سريره الجوال كي تجلس عليه، لكنها رفضته قائلة إنها تفضل الأرض لأنها تعودت على ذلك، ثم أضافت: الأرض لا تؤذي أحدًا.

إنها أمنا جميعًا، وهكذا أيضًا كان يؤمن مستر جين ومسز جين.

– نعم، عرفته إنه البدائي. نعم، كنت تقيمين معهما في المنزل، أليس كذلك؟

– نعم، ليس بالصعب أن تتنبه إلى ذلك.

– نعم.

في الحق هي تحب الثرثرة عندما يكون المثرثر فيه آل جين، وهو أيضًا يحب أن يعرف عنها الكثير لكنه يحب أن يبدأ الكلام بالمقلوب؛ ليس بالآباء ولكن بالنسل، الحفيدة.

– هل البنت البيضاء هي ابنتهما؟

– سنيلا؟ أين رأيتها؟ إنها سنيلا.

صمت — حسبما خيل له — لوقت قصير جدًّا، لكنه في الحق صمت لوقت طويل جدًّا، شرد فيه بكليته الواعية إلى حركة مفصل الركبة المتزامن مع اهتزاز طفيف للنهدين وحَنْية الرأس جهة اليسار.

– سنيلا، سنيلا!

– أنت تهذي، هل تعاني من مرض ما؟

– لا شيء على الإطلاق.

– إذن لا تجلسين على السرير.

– بالأرض هوام.

– الأرض لا تؤذي، الأرض لا تؤذي.

كانت تحدثه عن مسز ومستر جين البدائيين بشهية غنائية وبرؤية بسيطة صادقة ببصيرة كلب/طفل.

في البدء كانا ملكين هبطا في غفلة عن العادي إلى الأرض، جاءا من حيث لا يدري أحد، كنا أطفالًا تقتلنا الدهشة ونحن نرى لونهما الأبيض، لبسهما وألوانه الزاهية التي كانت تفعل فينا فعل السحر، عيونهما الخضراء تشبه عشب الخريف، عربتهما، كل شيء، كل شيء. لكن ما كان يثير القرية ويفتح شهية الكواكيرو شخصيًّا هو الأمل المتمثل فيما يمكن أن يحدثه هذان الشخصان من تطور.

لا بد أنهما سينشئان بيتًا للتعليم.

لا بد أنهما سينشئان بيتًا للعلاج.

لا بد أنهما سيعلمان الدغليين طرقًا جديدة لكسب العيش والحياة الأفضل.

لا بد أنهما سيصبحان رسولين للحضارة والتقدم اللذين ينعم بهما بلدهما.

هكذا فعل البيض في الشرق، هؤلاء البرص أصحاب العيون الخضراء يفعلون المستحيل، إنهم سحرة لا يبارون. لكن يعلم أهل القرية أيضًا أن الأبيضين يبدأان ببناء بيت لعبادة الرب المثلث، ثم جند لحماية البيت أو يتاجران بالرقيق.

في ذلك الحين سنحرقهما.

الدغليون لا يعرفون أحدًا يتوجهون إليه بأدعيتهم ويطلبونه ساعة المخافة ويحمونه في سريرتهم غير برم بجيل.

– اسمي سلطان تيه.

فلوباندو، فلوباندو، أين سنيلا الآن؟

– إنها في القرية الآن، اليوم ليلة الاحتفال ﺑ «وز»، كما تعلم هو الحارس لجد القبيلة.

– وهذا ما جئت لأجله، من أجل سنيلا، لا من أجل ليلة «وز».

– آه، نعم، اختلط عليَّ الأمر.

– إذن هل سأذهب معكِ لمشاهدة الاحتفال؟

– للأسف لا، لا يحضر الاحتفال الغرباء إلا أصيبوا بالعمى لأن «وز» سيرى.

إلا أصيبوا بالخرس لأن «وز» سيتحدث.

أما أنت بالذات، ردودا داما، ملعون.

ما لم تذئب.

ما لم تأكل كل لحم الحارس.

ما لم تتخذ فراءه لك فراشًا دائمًا، ما لم يسكن روحك، ما لم تكنه، تكنه، تكنه، تكنه.

– إذن ماذا تودين القول لي؟

– يجب عليك أن تنام هذه الليلة خارج الكهف، طالما كان القمر يمشي في السماء يظل الجد «وز» يرى دغله مكشوفًا، وسوف يراك لأن عينه القمر.

حاول أن يتلقى الخبر بشكل جاد وألا يسخر منه لأن السخرية تغضب فلوباندو، وغضب فلوباندو يعني غضب السلف الحارس «وز»، هذا يعني غضب القبيلة، هذا يقود إلى عدم رضاء الحراب والفئوس عنه.

قبل أن تنهض جامعة جسدها من على الأرض سألته: هل تريد شيئًا؟

قال بصورة جادة وبصدق: نعم، فقط لو ترقصين قليلًا، بعضًا من الرقصة التي أدتها سنيلا على شاطئ البحيرة الأسبوع الماضي ولا شيء أكثر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤