خيانة النص مرة أخرى

قالت بهدوء: هذا هو الواقع، إنك لست أكثر من رجل طيب القلب.

قال منفعلًا: لا، ليس هو الواقع، لقد قلت لك من قبل إنني أحبها، ولكن للأسف أنت لا تفهمين، وأنا لا أعرف لغتكم الرديئة العاجزة عن التعبير عن المشاعر الإنسانية، عن الحب، ألا تعرفون الحُب؟! أغرب قوم أواجههم في حياتي، البوم يعرف الحب، التماسيح، كل مخلوقات الله! كان غاضبًا منفعلًا، استطاعت سنيلا أن تعرف ذلك من نبرة صوته، تعبير وجهه، حركة يديه، نظراته المسلطة على وجه فلوباندو الهادئ الجميل المتوحش، المرسومة عليه ابتسامة خبيثة. قالت سنيلا: ماذا يقول؟

هتف في بؤس: ماذا تقول؟ عن ماذا سألتك؟

إنها تقول شيئًا.

قالت فلوباندو بهدوء وحشي بارد: إنها تقول يجب أن نعود إلى البيت.

سألت سنيلا في وداعة: ماذا يقول الرجل؟

قالت لسنيلا عبر رطانة شائكة: يقول إنه تعب ويريد أن يأخذ قسطًا من الراحة!

قالت سنيلا وفي فمها ابتسامة غريبة: دعيه يرتاح، سنأتي إليه عند المساء، أُحسُّ أنه رجل مختلف بعض الشيء، ولو أنني ما كنت أظنه سيصرفنا هكذا، فلنذهب الآن.

وذهبتا.

أحس سلطان تيه بينه وبين نفسه أن هنالك خيانة ما، حدثٌ ما حدثَ وهم وقوف عند باب الكهف في سرعة البرق، وهما تمضيان بعيدًا تذوبان في الغابة كأنهما الحلم يهرب، كأنهما كابوس لذيذ يذوب في الأعشاب تدريجيًّا تمتصه الغابة، صباح غريب حقًّا.

وعندما عاد إلى أهل الكهف فكر في أن ينحت ولو عضلة واحدة من فخذ سنيلا، ليخلدها كما خُلِّد حمران، لكن فجأة هاجمه سؤال: لماذا لم يكن هنالك خطأ في الترجمة متعمد؟ هل تحبني فلوباندو وتريدني لنفسها؟ هل تغير فلوباندو من سنيلا؟ وتذكر أن فلوباندو قالت له ذات مرة في معرض حديثها عن آل جين وغرائبهم أن مستر جين استحلم لها الشيطان، أكد لها أنها لن تتزوج إلا شخصًا غريبًا، هل أنا هو الشخص الغريب؟ لا، أنا سأتزوج سنيلا، شاءت فلوباندو أم أبت، هذه المتوحشة الجميلة سنيلا خلقها الله من أجلي، وما القدر الذي أتى بي إلى هنا إلا تدبير من الله.

•••

جاءه الحارسون بلحم مجفف مذءوب وماء، أتوه بمشروب له رائحة ذكية ورغوة ناصعة البياض، دُنبا، شراب الأناناس. عندما حل المساء هتفت أطيار السُّقد معلنة مضي الربع الأول من الليل، سمع وقع أقدام.

كانت النار دافئة وشهية وهي تمتص رطوبة المكان، هتف: سنيلا …

وعلى ضوء الأحطاب الحلو رأى طيفها، أحس بخيبة أمل، لكنه تذكر قول الصادق الكدراوي صديقه: الفحل ما عواف. سأمتع بها نفسي، إنها تحبك يا سلطان، ألقت التحية ثم جلست على الأرض وأخذت في الحديث مباشرة: لا تظن أنني جئت لأعتذر، ولا لكي أعترف، لا أتأسف على ما ترجمته خطأ لكليكما، جئت لأقول لك: لا تظن أنني أريدك لنفسي، أرغبك، فأنت لا تصلح لأية سيدة من قبيلة «لالا»؛ لأن أهم سمة تميز الرجل عن المرأة لا تُوجد فيك، وهي الشجاعة، وعُرفت بالجُبن منذ الليلة الأولى التي وجدناك فيها، فأنت لم تقاوم الأسر أبدًا ولا حتى بالهرب، إذن أنت أجبن من الفأر قبل أن تؤخذ آخر أنفاسه يبدي مقاومة ولو بالرفس، لكنك استسلمت مثل جثة، لذا سخر منك القوم وأطعموك لحم الذئب كُله، أي حُكم عليك بعقوبة القتل الخطأ زائد الجبن، فهل بعد ذلك ترغب فتاة من «لالا» الزواج من جثة؟! لأن الجثة وحدها تستسلم بهدوء!

يا لكبرياء الجهلاء المتخلفين! كبرياء عمارات الطين!

وجئت لأقول لك إنني ترجمت خطأ لأنني أريد أن أحفظها بعيدًا عنك؛ لأنها هي الأخرى لا أحد سيتزوجها، هي برصا وهو السبب ذاته الذي أعادني إليك الآن، فقبل غروب الشمس بقليل حيث تعود الأفكار للرءوس اقتنعت بأنك خير لها، فبدلًا من أن تظل عذراء بقية حياتها بغير زوج لِمَ لا تكون لك؟

رغم الإهانة التي ألحقتها به فلوباندو فإنه سُرَّ في ذاته لكون سنيلا عذراء، كاد أن يستحلف فلوباندو لتؤكد له ذلك لولا أنه خاف أن تتهمه بالعَتَه والجنون، بالإضافة إلى الجبن وعدم الرجولة الموصوف بهما أصلًا.

وجئت لأقول لك أيضًا: لماذا لا تهرب الآن؟ ليس هنالك حرس يقف عند باب الكهف، لا أحد يراقبك من بين الأعشاب، فهل تهرب؟

عندما صمتت قليلًا قال في هدوء: أنت غضبانة مني غضبًا لا مبرر له.

قالت وهي تستعدل جلستها: أنت لا تعرف المبرر لكني أعرف، وسأقول لك بصريح العبارة: أنت جاسوس.

– جاسوس …!

هتف مندهشًا.

نعم، لقد شاهدك كثيرٌ من المحاربين وأنت تحمل شيئًا تنظر به نحو القرية، ورآك بعضهم تنصب شيئًا على شاطئ البحيرة مرات كثيرة، واليوم أيضًا، ولقد أخذني المحاربون إلى حيث كنت تفعل فعلتك وشاهدتك بأم عيني، وعندما استفسرني الكواكيرو عما تفعل قلت له كذبًا إنك تترقب حركة الأطيار، وربما كنت تنظر تمساحًا لا وجود له، فلا تماسيح أو أسماك بالبحيرة، لكني أعرف أنك تتجسس أو تتصل بالشرقيين.

قال مستهترًا: ماذا أقول للشرقيين؟ هل أقول لهم إن أطياركم كثيرة وغريبة، وإن القرود تكثر على أشجار المانجو؟

قالت بخطورة: أنت تعرف ما تقول لهم.

لقد حدثني أحدهم، وهو نبو ولد مندو، مندو المحارب القدير، وكان أحد الشبان الذين أرسلهم الكواكيرو إلى الشرق للتعلم، التقيته بالمدينة العام الماضي، حدثني بأنكم تستعدون للمرحلة الأخيرة لتصفيتنا عرقيًّا، إذا صح ذلك ألا يبدو أن هنالك ما يساوي شعر الرأس عددًا مما يمكن إرساله إلى الشرق؛ عددنا، عدد أطفالنا، أطيارنا، حيواناتنا، عاداتنا وتقاليدنا، لغتنا، محاربينا، كيف نحارب، ماذا نأكل ونشرب، كيف نسكن، أين ننام، ماذا نغني، كيف نرقص، كيف نغني، أليس كل هذا يسهل إبادتنا من على وجه الأرض؟

الآن، أحس سلطان تيه أن الأمر حقيقة خطير، وأنه يُودي بحياته، نهض مرتبكًا وأخرج كاميرا الفيديو، أخرج ما لديه من أفلام طالبًا منها أن تأخذها للمدينة لفحصها، وأن تحتفظ بها الآن في نزل الكواكيرو نفسه، ثم أخرج لها الراديو والأطعمة المحلية، علب الأطعمة الفارغة وكل شيء من شأنه أن يلهب مخيلة القروي المهووس بالتفسير التآمري للظواهر.

– هذه كل أشيائي، تفحصيها جيدًا، وإذا أردت شيئًا منها لفحصه في أي مكان خذيه، وحتى كتب التماسيح، خذي ملابسي، خذي كل ما تشائين.

قالت وأحست بشيء من تأنيب الضمير: أعرف أن هذه كاميرا فيديو، فلقد كانت لجين مثلها والآن مع الكواكيرو، وهذا راديو، وهذه علب أطعمة فارغة، وهذا … لكن ماذا تفعل بكاميرا الفيديو؟

– سأصور بها التماسيح مسجلًا حياتها اليومية العادية، إن ذلك جزء مهم في الدراسة.

– ولكن ليس بالبحيرة تماسيح، وأنت تنصب كاميرتك هنالك.

قال وقد أحس بأنه حوصر: ما كنت أعلم هذه الحقيقة، لقد عرفتها مؤخرًا.

سألته بصورة مفاجئة: هل يعدون العدة لإبادتنا؟

قال وهو يرمي ببعض الأشواك على النار وقد أحس بطمأنينة نسبية: أنا لا أفهم في السياسة، شخص أكاديمي، باحث، مثلي مثل الكمبيوتر، صدقيني أنا لست أكثر من آلة.

قالت وكأنها لم تسمع كلمة مما قال: إنهم يمتلكون أسلحة فتاكة كتلك التي تخصص فيها مستر ومسز جين، أسلحة بإمكانها إبادة الدغل بأكمله فيما بين ثانية إلى عشر دقائق، إنهم يقولون ذلك.

قال مندهشًا: هل تخصص مستر ومسز جين في الأسلحة؟

– لقد كانا عالمين في السلاح.

– عالمين! من قال ذلك؟

– لقد استمعت للمحادثة التي جرت بينه وبين الرجال الذين جاءوا بالطائرة، حدثنا عنهم أنا وطفليه كثيرًا من قبل، سوف يأتي إلى هنا أناس لهم بشرتنا يركبون طائرة أو عربة أو على أرجلهم، حينها عليكم الهروب والاختباء الفوري بين الأعشاب، إنهم أشرار.

قال: أنا لا أفهم شيئًا، أرجوك أن تشرحي لي ذلك.

قالت وكأنها لم تسمع ما قال، وكأنها في حُلم: ماذا فعلنا لكي نُقتل؟! هل لأننا رفضنا الذهاب إلى قُرى الحكومة النموذجية بضواحي مدينة تول؟ هل لأن لنا دينًا غير دينهم؟ هل لأن لنا ربًّا غير ربهم؟

قال مندهشًا: قلت لك أنا لا أفهم في السياسة شيئًا، ولكن الشيء المتأكد منه تمامًا أن ربكم هو ربنا ذاته، فالله واحدٌ مهما تغير اسمه وتعددت صفاته ودياناته ورسله.

– إذن لماذا سيبيدوننا؟ قال وهو يحاول أن يخرج من حلقة النار: أقول لك لا أعرف شيئًا في السياسة.

خبريني عن سنيلا؟

قالت وهي تقف على رجليها: لن أقول لك شيئًا.

يكفي ما عرفته عن مستر ومسز جين، هل دراسة جين تدخل ضمن خطة الإبادة؟

أنا ذاهبة الآن، هل تحتاج لمزيد من لحم الذئب؟

قال وبكل جدية وهو يمسك بيدها الدافئة الخشنة بعض الشيء: أريدك أنت.

– أنا؟ وماذا تفعل بي؟

قال بشجاعة فائقة لا يدري من أين واتته: أريدك أن تقضي الليلة معي، هنا بالكهف …

قالت وهي تسحب يدها: هل تخاف من شيء؟ أتُرعبك الغابة؟

قال وقد أحس بجفاف فمه فجأة: أريدك لأمر آخر …

قالت ببرودة: ما هو؟

حاول أن يمسك بكفها مرة أخرى إلا أنها تجنبت يده المعروقة، قالت وفي فمها ابتسامة ماكرة: اقنع رأسي أولًا، كل شيء يبدأ من الرأس.

وخرجت، كان يسمع وقع قدميها الحافيتين وهي ترتطم بالأعشاب والحجارة، ثم أخذت تختفي تدريجيًّا إلى أن تلاشت، احتقر نفسه في صمت، احتقر نفسه. فجأة سمع ضحكة تخرج من عمق الكهف، ضحكة عميقة عريقة، التفت خلفه لم يرَ شيئًا، وقبل أن يفيق من دهشته سمع صوت مرطونس يخاطبه: أنت لا تفهم في النساء، وهذا خيرٌ لك، أنت لا تفهم في الحرب، وهذا خير لك، أنت تحتاج لامرأة، وهذا خيرٌ لك.

ثم ضحك مرطونس، ثم تلاشت ضحكته، ثم صمت الكهف. النار كانت في حاجة لمزيد من الحطب الجاف.

•••

الآن فقط فكر في الهرب، ولا يبدو هل لأن فلوباندو وصفته بالجُبن؟ لا يدري! هل لأن الهرب أيضًا يُعتبر شجاعة؟ لكنه عندما تذكر سنيلا عرف أنه لن يهرب الآن على الأقل إلى أن يقنع سنيلا بالذهاب معه إلى الشرق المتحضر، نعم، كل شيء يبدأ بالرأس، سيقنعها، هنالك يعرف الناس كم هي جميلة ورائعة! وكم هي ساحرة! ويعاد لإنسانيتها الاعتبار اللائق، أجمل سيدة شقراء متوحشة في العالم، وحينها ستصبح يا سلطان تيه موضوع حسد جيلك. نعم، ستحجبك أمك، ولو، ماذا يقول عنك الصادق الكدراوي؛ أنت قليل الحيلة أمام النساء؟

انظر بماذا جئت من الدغل.

ابنة الجن ذاته، حُورية …

الآن لا يهمه أن يعرف عن صراع القبيلة مع آل جين، ولا يهمه لماذا أراد الجني العودة إلى مئات السنين ما قبل التاريخ، قرونًا إلى الوراء، لا يهمه حلم القبيلة بعصر مشرق متحضر كما هو خارج الدغل مع شرط واحد: الاحتفاظ بلغتهم وعاداتهم، دياناتهم وأسمائهم أيضًا، ماذا يفعلون بلغتهم، أسمائهم، وعاداتهم، ماذا تفيدهم؟

لا يهمه هل عاد الأبناء الذين أرسلهم الكواكيرو لنيل المعرفة في الشرق والعالم المتحضر.

بم عادوا.

لِمَ لَم يعودوا.

أين هم الآن.

ماذا يفعلون.

ولمَ يعودون.

ولأن سلطان تيه ليست له اهتمامات حقيقية بكل ذلك، ما يؤرقه شيء واحد: بعد أن خاصم فلوباندو كيف يستطيع أن يقول لسنيلا أحبك؟

كيف يقول لها: اهربي معي إلى الشرق، هنالك لا أحد يقول لك برصا، هنالك سينصِّبونك آلهة جمال متوحشة، سينشرون صورك بالصفحات الأولى في جرائد الصباح، صورتك ستحتل أغلفة المجلات الأكثر مبيعًا، ستتحدثين في الراديو والتلفاز، ستصبحين نجمة سينمائية، سيغنون من أجل عينيك الخضراوين، أجمل من ذلك كله سأغيظ بك الصادق الكدراوي.

هل سيشاهد العالم كلُّه رقصتك؟

لم ينم نومًا مريحًا في تلك الليلة، ولو أنه عندما استيقظ فجأة على نداء مكسيما: النار، النار يا سُلطان.

النار، النار، يا سُلطان.

عندها نهض فَزِعًا.

كانت النار تزحف في لب جوز الهند في بطء وهدوء، لا أحد بالكهف، هو يعرف أصوات أهل الكهف كلهم ويميزها، قرأ آية الكرسي بصمت غير مرقدٍ رأسه، وبمجرد أن غفا قليلًا حتى سمع صراخ ثمليخا تبعه نباح الكلب: المجوس، المجوس، المجوس …

بلسان ثمليخا تأتأة، الليل هادئ كوجه طفل نائم، والقمر قوس ضئيل في نهاية السماء عند الغرب، تمشَّى قليلًا بين الأعشاب، نظر بعيدًا نحو القرية حيث يرقد الناس وينامون.

نظر في الاتجاه الآخر، كان يعرف أن هنالك يقع وادي الأناناس والكهوف التي رحل إليها آل جين في أيامهم الأخيرة بالدغل، ولقد وعدته فلوباندو في السابق بزيارته، هو الآن خائف مخافة لا يدري كنهها لكنه يعرف مكانها، إنه الكهف، كهف الذئب، كهف أهل الكهف، ما معنى صراخهم: النار، المجوس؟!

قرر أن يذهب نحو منازل آل جين جنوب الوادي لأنه لا يستطيع أن ينام، ولا يستطيع البقاء بالكهف؛ إنه مسكون، وهذا أمر لا شك فيه. أخذ من حقيبته شمعة وعلبة كبريت، حمل مصباحه الذي يعمل بالبطاريات الجافة، كانت بطاريات ضعيفة بعض الشيء لكنه سيستخدمها عند الضرورة فقط، ولن ينسى أن يحمل فأسه، كلما أحس بمخافة قرأ آية الكرسي أو تبسمل بصوت خفيض، فالبسملة لا يضير معها شيء.

وقْع حذائه الكولمان القوي على الصخر والأعشاب يُفزع نُعاس الليلة القمرية، فتُهْرَع الفئران والأرانب مبتعدة أو تهِسُّ الثعابين مستطلعة بمد أعناقها … تساءل: هل يخاف الثعابين؛ فهي سامة وقد تؤدي لدغتها إلى الوفاة في الحال؟ الوادي تحته يمتص الظلمة فيكونها، ضوء القمر يفترس ما تيسر من ظلام. سُلطان يمشي في الطريق الصحيح نحو الكهف، هنالك طريق قديمة كان يتخذها آل جين، لم تقل له ماذا كانوا يفعلون بالكهف، لربما هي نفسها لا تدري. الطريق كما هي واضحة بالنهار لم تكن مهجورة، فهناك طارق لها دائم أبناء جين، فلوباندو، الصيادون الذين يعبرون نحو الجزء الجنوبي من وادي الأناناس حين يكثر الخنزير البري، الأَصَلَة والنمر الأزرق، يكثر بها جوز الهند، يستخدمه الدغليون في إشعال النار بعد شرب عصيره المقوي جنسيًّا، الفاتح للشهية.

من مخافة لمخافة!

من، أم، أم، نن، ل، م، أ، من …

من متاهة لوضوح …

وجد نفسه وسط غابة الموز، العلامة المميزة لسكن آل جين، حين لم يكن بهذا الموقع موز من قبل، لكن آل جين هم الذين نقلوه من وسط الدغل إلى هنا. لكنه لم يَدْر أن موقع الكهف هنا، نعم هو لا يريد أن يدخل الكهف، فالكهف المظلم المهجور مخافات كثيرة؛ الجن يسكن البيوت الخالية المهجورة، الحيوانات المفترسة تتخذ البيوت والكهوف المهجورة مسكنًا لها. لأن الصدفة لا تتأتى إلا لمن يبحث عنها، وجد نفسه أمام بناية صغيرة دار حولها في حذر، كان يظن أن آل جين يسكنون في كهف الحجر لكن هذا المبنى مصنوع من أوراق الموز وبعض أعواد الحطب الطويلة القوية، وهو يدور لاحظ أن هنالك مبنى آخر لا يبعد كثيرًا عن المبنى الأول، مشى نحوه، كان القمر في لحظاته الأخيرة قبل أن يختفي في متاهات الغرب، كان نحيلًا هزيلًا محمرًّا، وقف ليمتع نفسه بلحظات الأفول الأخيرة للقمر، توصل من قبل إلى حقيقة أن القمر هنا والشمس يأْفُلَان قبل الشمس والقمر هنالك في المدينة بزمن يساوي كثافة الأشجار وطولها بالدغل. بينما هو في مقارنات سمع صوتًا يقول: إذن أنت تتبعني؟

قال فزعًا: فلوباندو، ماذا تفعلين هنا؟!

– أتريد أن تقول إنك لم تكن تتبعني، أنا أعرف كل شيء، أعرف حقيقة إحساسك بالوحدة، أعرف حقيقة احتياجك لشخص آخر تحادثه، تعالَ اجلس هنا قُربي، أيضًا أُحِسُّ بالوحدة.

دائمًا ما أجيء إلى هنا أزور مستر ومسز جين، إنهما أقرب الناس إلى قلبي، وأعرف أنهما حتمًا سيعودان، اجلس هنا، قربي هنا، إنه مقعد خشبي متين وقديم.

– ألا تخافين من شيء؟

– كلا، فأنا محجوبة من الجنون والهوام، تحرسني روح برم بجيل، فلماذا أخاف؟

عندما جلس قربها، أمسكت كفه في كفها الخشنة الدافئة، وقالت بصوت رقيق: هل كنت جادًّا في طلبك بأن أقضي معك الليلة؟

قال بصوت مخنوق: نعم.

قالت بصوت حلو به نبرة غربية: أنا أعرف شغف الغرباء بالنساء، عرفت ذلك من مستر جين، كانت زوجته كثيرًا ما تمرض كان يصطحبني في رحلات الصيد بعربته التي يجرها حمار الوحش، ذات مرة توقف في وسط الدغل حضنني بقوة ثم قبلني ثم قال: كم زوجة لأبيك؟

قلت: امرأتان.

قال: كم زوجة للكواكيرو؟

قلت: عشر.

قال: أريدك زوجة لي.

قلت له: أهلي لا يقبلون، الكواكيرو لا يقبل أيضًا.

قال ببؤس: لكنني أريدك.

هي التجربة الأولى لي، مدهشة لذيذة، نفعل في اليوم مرارًا، في رحلات الصيد، في غابة الموز، عند البئر، على شاطئ البحيرة، في عربة الصيد، كان شرهًا لا يكتفي أبدًا.

قال سلطان سائلًا في دهشة: ولكن ﻟ …

قالت مقاطعة: لا تسأل عن شيء، لا تسأل.

لقد عاش الجينس هنا العشرين عامًا، كانوا سُعداء رغم العداء المعلن من قبل القرية كلها تجاههم، لقد منعوا الماء، فحفروا بئرًا تخصهم، تقع على بعد ربع ميل من هنا، جنوبًا، لقد كانا في وجهة نظر القرية: رُسُل تخلُّف.

كان الجينس يلبسون جلود الغزلان والقرود، بعد أن تخلوا عن ملابسهم للقرويين، استيقظت القرية ذات صباح على نداء جين: أعطني جلدًا، أو حربة، أو تميمة.

أعطني قربة ماء وخذ ما شئت من أشيائنا …

كان القرويون لا يعرفون أسماء لممتلكات مستر ومسز جين، لكنهم لا يترددون ثانية واحدة في أن يتخلوا عما يمتلكون من جلود، عاج، أقنعة، في صالح أن يمتلكوا شيئًا صغيرًا له بريق، أو له ألوان زاهية خلابة، أو شكله غير معتاد، لا فرق بين قلم جاف باركر، خلاط فاكهة، لا فرق.

خُذْ ما شئت …

ضع مكانه ما شئت …

أما أنا ما زلت أحتفظ بطقم من الصيني، ملاعق فاخرة من النيكل، أردية الجينز. ثم استيقظت القرية ذات صباح آخر لتشاهد مستر ومسز جين وهما لا يلبسان شيئًا، كما ولدتهما أُمَّاهما! أو كأنهما هبطا من السماء للتو!

يا خالق الدغل!

هذا فأل سوء.

برصٌ عراة!

كانوا يَطْعَمون الثمار وجذور الأشجار، يأكلون اللحمة نيئة، يشربون دم الحيوانات، يَرْضعون الماعز البرِّيَّ، يلعبون مع القرود، لا يتحدثون إلا أقدم لغات الدغل الأوسط لغة بلاوم المهجورة التي لا يفهمها سوى كبار السن من الدغليين. أما طفلاهما بانارودنا وسنيلا، لا يعرفان شيئًا من الإنجليزية، ولا حرفًا واحدًا، فقط بلاوم شيشمباس.

حدث ذات مرة أن طُلب من مستر جين أن يفتح بسنتا، هي مدرسة صغيرة لتعليم الأطفال ما يفيدهم في المستقبل من المعارف، مثل قراءة وكتابة لغة اللالا وبعضٍ من التخاطب بالبونا وهي اللغة الإنجليزية، لكن مستر جين أخذ يدرسهم فائدة عودة الإنسان للحياة البدائية البسيطة:

امشوا عراة.

كلوا ما يصادفكم من طعام.

اشربوا رحيق الأزهار.

ناموا أينما هاجمكم النعاس.

ما لكم واللغة والكلام والطائرات والموت؟ وما لكم والكارثة؟

المدينة جثة الحضارة.

كان الأطفال مشغولين بالذباب الدقيق الأسود الملتصق بين فخذيه يمتص العرق، مشغولين بضحك مكتوم وهمسات تعلق على آلته شديدة البياض المحاطة بالشعر الأشقر المدهشة.

ذات يوم اندس الكواكيرو خلف سياج البسنتا، سمع جين يقول للأطفال:

اتركوا أسركم اهربوا …

عيشوا هنالك بعيدًا في الدغل مع القرود والأطيار الجميلة، حيث عسل النحل والكراواوا والأناناس.

هل تجلبون الحطب لأمهاتكم؟

هل تجلبون الماء من الآبار البعيدة؟

هل تحفرون الأرض الصلبة لاستخراج جير الزينة؟

هل تسرحون بالخنازير المستأنَسة؟

هل لا تنامون إلا بعد أن تجلبوا الخمر لآبائكم من النخيل؟

هل يرسلكم الكواكيرو بعيدًا لتلقي العلم، بعيدًا؟

لماذا لا تنطلقوا أحرارًا كالغزلان، كالنمور، كالأطيار، لا مسئوليات، لا شقاء، لا جير، لا عذاب؟ لماذا؟

هنا صاح الكواكيرو هاتفًا: أيها الأبرص العريان، أنت عدو الدغل الأول، عدو المستقبل، لولا أنك تتحدث بلغة جدنا برم بجيل وأصبح دمك حرامًا علينا، لقتلناك.

سُلطان تيهَ يسمع الحكاوي، لكنها تدور في تجويف أذنه وتخرج، فليذهب جين إلى الجحيم؛ لأنه الآن يريد شيئًا واحدًا هو فلوباندو …

– لكنكَ وقبل أن تغرب الشمس كنتَ تريد سنيلا.

– الآن لا أريد سنيلا، أريدك أنت، فلوباندو …

– لأنني معك الآن، أليس كذلك؟ أناناسة في اليد خيرٌ من وادٍ من الأناناس يحرسه جاموس …

أعرف أنك لا ترغب امرأة بعينها، إنْ سنيلا، جيمبا، تدروت، فكاو، لا يهم، لا يهم، تريد امرأة ليس أكثر، لكنك فوق ذلك تفضل سنيلا، تلك البرصاء، وأنا أقدِّر مشاعرك، لكن الآن ليست لديَّ أية رغبة، لكني أعدك بشيء أن أسهل لك الطريق إلى سنيلا …

– كيف؟

– إنك تحتاج لمعرفة مفتاح شخصيتها.

– ماذا يفيدني مفتاح شخصيتها؟

– لأنك لا تستطيع أن تصل لسيدة دون أن تعرف مفتاح شخصيتها.

قال في استفزاز: لديك رغبة عارمة للحَكْي، وتحبين أن تحكي لي عن تاريخ الدغل وجين، أنا لا أرغب في ذلك، أنا أؤمن بالطَّريق المباشر، أريد سنيلا، ماذا ستقدمين لي بغير حكايات؟

قالت ضاحكة: أنا دائمًا أجد من أحكي له، لشجرة جاكرندا، لسيالة، فيكس، لكهف فارغ، لموزات، آل جين … إلخ، وكل ما أحكي له يستمع.

قال، حاول أن يكون ذكيًّا: متى وكيف ولدت سنيلا؟ إذن أعطني المفاتيح.

قالت بصوت عالٍ فجَّر الظلام حولها أُلفة: هذا ما يميز الإنسان عن المكان والأشجار، الإنسان بإمكانه أن يسأل، أما الأشجار والأماكن ليس بإمكانها غير السمع في صمت أيضًا.

قالت تحملق بعيدًا في الظلام متجاهلة كفه التي وضعها على فخذها الكبير العاري محاولًا استمالتها متقمصًا شخصية الصادق الكدراوي الذي يؤمن بنظرية: «مع المرأة اعمل ثم فكِّر وفقًا لردود أفعالها؛ لأن المرأة وعاء مغلق لا تفتحه الكلمات.

لا تقل للمرأة أحبك، لكنك إذا عمدت إلى تقبيلها فهي تفهم.»

حَمَّل كفَّه كل إرث الصادق الكدراوي؛ تجربته مع النساء، شيطنته اليومية، كانت فلوباندو تحاول ألا تهتم وهي تحكي له بجدِّية عن ميلاد سنيلا، كلما أحسَّ بدفء جسدها انتهرته جملتها «كل شيء يبدأ بالرأس، أقنعني أولًا.»

كانت مسز جين شديدة الهزال في شحوب دائم، نتيجة لإصابتها بمرض ما، إصابتها في مجال العمل، لا تتحمل أية مشقة أو تعكر جو خاصة الدخان، ما كان جين يرغب أن تغامر وتحبل وتتعرض لمشاق الإنجاب، لكن مسز جين هي التي تصر على أن تَلِد أطفالًا، كانت تؤكد مقدرتها على إنجاب خمسين طفلًا أصحاء، وبإمكانها إرضاعهم جميعًا، كنتُ لا أشك في إمكانية أن تنجب أطفالًا، لكن أن تُرضع ولو طفلًا واحدًا هذا ما لا أصدقه ولا يصدقه أحدٌ رأى صدرها؛ ثدياها ليسا سوى نقطتين محمرَّتين على قفصها الصدري لا شيء آخر، لذا كنتُ أضحك من أعماق قلبي كلما سمعت أنها سترضع خمسين طفلًا، في الأيام التي سبَقت الحمل كانت مسز جين تأكل بنَهَم طعام الكراواوا وهو مفيد لنمو الجسد بسرعة، وعادة ما تُطعم به الصبيات المقبلات على الزواج، لأن تحضيره يحتاج لجهدٍ شاق استأجر جين رجلين من محاربي القبيلة لكي يجلباه من الغابة، هو عبارة عن عصارة تصنعها حشرة صغيرة يسمونها الكراواوا تشبه الديدان لكنها من الشراسة بحيث لا تترك غذاء يرقاتها للأغراب إلا بعد معركة حامية قد تودي بحياتها وإنزال خسائر بالعدو جسيمة لأن قرصتها تؤلم كلدغة العقرب. فعلًا ازداد حجم مسز جين بصورة ملحوظة إلى أن بلغت حدًّا بدأت بعده في الاستعداد الفعلي للحبل، لقد حدثتك فيما مضى بأنهما كانا منفصلين عن بعضهما في الفراش، أما في هذه المرحلة فقد أخذ صراخها في الليل يمنعني النوم، كانت تصيح بشكل متواصل قبل وأثناء وبعد الممارسة الجنسية، لم أعرف السر وراء ذلك أبدًا، بالتأكيد الأمر لم يكن متعلقًا بفحولة مستر جين، فلقد كنت أتحمَّله دون أن تصدر مني ولو آهٍ واهنةٍ، ليس لأن ذلك عيبًا، لا، لكن لا أظن أن الأمر يتطلب ذلك.

بعد ثلاثة أشهر من الضجيج الليلي حبلت مسز جين، كان هذا حدثًا غيَّر كل شيء في حياتنا، كل شيء، تصدرت مسز جين جدول اهتماماتنا، بل أكثر من ذلك أصبحنا أنا ومستر جين خادمين وفيَّين لماريانا.

في الصباح الباكر وقبل الشروق بقليل تنخفض درجة الحرارة بصورة مرعبة في المنطقة، فنخرج على العربة التي يجرها حمار الوحش، عربة الجنة، كما يسميها مستر جين، دائمًا يقول: ليست في الجنة قطارات، طائرات، أو مواصلات، الجنة حُمر الوحش. تأخذنا عربة الجنة إلى بُحيرة الماء غير العذب حيث نغطس في الماء إلى أن تشرق الشمس، يدفأ الدغل، تصبح ماريانا في حاجةٍ لحمامٍ شمسي، هذا لا يتأتى إلا عند المرتفع حيث الكهف الذي تسكنه، السماء هنالك قريبة، المكان ليس ببعيد عن البُحيرة، أنت تعرف بحيرة الماء غير العذب حيث وجَدَك المحاربون تصور الفضاء عدة مرات أو تتجسس.

– هل عدنا لمسألة التجسس مرة أخرى؟

قالت ضاحكة: تتجسس على سنيلا وهي ترقص.

قرصها على فخذها الكبير وهو يحاول أن يضحك بانفعال مصطنع.

قالت وفي فمها ابتسامة لم يرها: قصِّر يدك.

ثم أضافت من دون انفعال: إن سنيلا هي أكثر فتاة تجيد الرقص في الدغل كله، وفي تاريخ قبائل «لالا» و«فترا» و«شاري» لم ترقص مثلها إلا إجيلا، وقد مضت عشرات السنين منذ أن توفيت إجيلا، لكن إلى اليوم هي حَيَّة باقية في الناس، يسمون بناتهم باسمها، ولو أن سنيلا ليست برصاء لنالت مكانة سامية بين قبائل الدغل مثل إجيلا ولتزوجها أشجع الشجعان …

قال وهو يتحسس فأسه برجله: أنتِ دائمًا ما تقولين ما لا أود سماعه أو لا يهمني أنا بالذات، لكن لا بأس قولي لي متى وُلدت سنيلا؟

– تاريخًا ولدت سنيلا في العام الذي أرسل فيه الكواكيرو ثمانية من أبناء القبيلة دَفعة واحدة إلى دولة أندلا المجاورة لدراسة الزراعة، واحتفلت القبيلة به أسبوعًا كاملًا، في اليوم الأول من الاحتفال ولدت سنيلا …

أشعل سُلطان تيه دون تفكير سابق عود ثقاب، ولأن القمر غاب قبل نصف الساعة تقريبًا، فإن الظلام كان دامسًا، أضاءت الشعلة المكان بصورة فجائية مدهشة …

قالت فلوباندو: أتمتلك كثيرًا من الكبريت؟ هل تستطيع أن تعطيني عودًا أو عودين؟ إنها نادرة هنا؛ لأننا نشتريها من المدن الشرقية أو الدول المجاورة.

– سأعطيك علبة كبريت كاملة، أيسعدك ذلك؟

قالت مبتسمة بينما تنطفئ الشعلة تدريجيًّا: يسعدني جدًّا.

قال في احتيال مدعيًا المسكنة: وما هو الشيء الذي يسعدني أنا؟

– أنت لا تُفكر إلا في نفسك فقط.

قال من دون مبالاة: وفيك أنت أيضًا.

قالت بسرعة: وماذا عن سنيلا؟

قال وهو يضع علبة الكبريت في يدها: وفي سنيلا أيضًا.

فانفجرت فلوباندو بالضحك بأعلى صوتها وتبعها هو بقهقهات صاخبة وكأنهما زوج من قرود العوا، كانت وحدة السكون تتفتت تحت طرقات صوتيهِما، لم يسكتا إلا عندما سمعا وبصورة واضحة وجلية نباح السمع …

– إنه كلب السمع؟

– إنه كذلك.

– وماذا نفعل؟

– لديك فأس.

– أنت تعرفين أن الفأس لا تفيد شيئًا، فكلاب السمع تمشي في جماعات وتهاجم في جماعات.

– إذن الجري.

– إنها تشم الرائحة.

– اجرِ عكس الهواء.

– لكن الصوت يأتي من نفس الاتجاه الذي يأتي منه الهواء.

قالت ساخرة: إذن لا نفعل شيئًا لأنها مسالمة، وكل ما تفعله ستمزقنا إرْبًا إرْبًا ثم تأكلنا.

– أنت تظنين أنني رجل جبان؟

– على الأقل رجل خاف من أن يأكله كلب السمع.

كان صوت الكلاب يبدو مرعبًا وهو يقترب قليلًا، قليلًا، قالت: دعني أحكِ لك كيف كان مستر جين يواجه الحيوانات المفترسة.

صرخ مقاطعًا: أرجوك، إنها تقترب، إنها تصيح من كل الجهات، يبدو أنها عدة قطعان من الكلاب.

قالت ببرودة: اصعد على هذا الكوخ.

– وماذا عنك أنت؟

– أنا سأتحدث معها قليلًا.

سأقنعها ألا تأكلني، فكل شيء يبدأ بالرأس.

قال بغضب وهو يتشعبط على سياج البامبو والموز صاعدًا إلى أعلى، واقعًا عدة مرات على الأرض على أثر انكسار بامبو قديم أو عود أكلته الأَرَضَة.

– أنت شيطان غزر.

– سأنتقم منك أيتها المتخلفة الجاهلة، لولا أنني أرى مستقبلي العلمي أمامي لما صعدت.

– دعك من الفصاحة، إنها تقترب.

في قفزة واحدة كان في قمة الكوخ، يجلس في صمت، عواء الكلاب يحتل الظلام تمامًا من كل جهات الدنيا.

قالت وهي تحاول أن تراه: هل تعلم أن كلب السمع بإمكانه تسلق هذا الكوخ أسرع منك بمائة مرة؟

ثم انفجرت بالضحك بأعلى ما تيسر من صوت فاختلطت قهقهتها بعواء كلاب السمع المتوحشة، بنداء البوم وطيور الليل الأخرى، ما عمَّق من رعب سلطان تيه الذي تخيل إليه أنه في كابوس لئيم، في حلم غامض لا فكاك منه، أخذ يردد أسماء أهل الكهف في سره عندما سمع فلوباندو ترطن، ثم رأى أشباح المحاربين تنسل من بين أشجار الموز من جهات الدنيا كلها، وبعد أن تجمَّع كل المحاربين رطنوا قليلًا، قالت فلوباندو لسلطان تيه: انزل يا سلطان.

ليأخذك المحاربون إلى كهفك، أنا سأبقى هنا قليلًا، إنهم يبحثون عنك لأنه عندما جاءك المحارب بالعشاء ولم يجدك ظنَّك هربت. اذهب معهم الآن لأنك لا تستطيع أن تعود وحدك، قد تأكلك كلاب السمع، هل تخاف كلاب السمع؟

وانفجرت ضاحكة مرة أخرى.

قال لها وهو يقفز من أعلى الكوخ على شجرة موز عملاقة وقد أحس بأنه انخدع: سأقتلك أيتها القردة الداعرة …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤