أقوى من الحب

– ألا تصدق ما أقول؟

– ولا أصدق أيضًا أنك — وأنت صديق مصطفى — تقول ما قلتَ الآن! إنه بلا شكٍّ وهمُك الكاذب قد تربَّع في خيالك.

– وَهْمٌ كاذب؟! إذنْ إليك ما حدث. أحبُّ فقط أن أنبهك إلى أنَّ هذا هو الحقيقة؛ الحقيقة التي لم أصدقها حين سمعتها، ولكنني صدقتها حين رأيتها.

ومضى يفصِّل نبأ غرام مصطفى؛ ذلك الغرام الجارف الذي شبَّ فجأة بعد خمود، وعاد إلى الحياة بعد موات، بعد عشرة أعوام! وحين أصبح مصطفى زوجًا لحسناء، وأبًا لأربعة أطفال، حين استقرَّ عيشه وبدا كأنما مسحت يد الأيام من حياته سطورَ ذلك الغرام القديم.

ومضى يسرد الحقائق التي رآها بعينيه. لقد رآهما معًا يتنزهان أكثر من مرة، فغالط نفسه وزعم أنها الصدفة قد جمعت بينهما، ثم قابل مصطفى بعد ذلك، وأراد أن يتأكد مما تخيله، ولكنَّ مصطفى راوغ في إجابته، وبدا عليه أنه غير مستعد للإنكار أو الاعتراف، ثم سمع بعد ذلك القصة كاملة من أفواه من يعرفون مصطفى، ومِن أقاربه الذين كانوا يرَوْن في عودة هذا الحب نذيرًا لكارثة قد تُودِي بعُشِّ الزوجية الجميل …

ثم سمعها أخيرًا من مصطفى نفسه، وكان قد بلغ حدًّا من الإعياء لم يقوَ بعده على الكتمان؛ فراح يروي له قصة هواه.

كيف رآها بعد عشرة أعوام، وكيف جمعتهما الظروف ذات يوم وحيدين، فتطرَّق حديثهما من نجوى العيون إلى نجوى الشفاه، وإذا بحبهما القديم يقفز فجأةً فيعفي على الحاضر، ويتطلع إلى المستقبل، يريد أن يبنيَ من جديدٍ حياة عاشقَين …

عاشقَين لكلٍّ منهما ماضٍ طويل وحاضر مثقل.

هو بزوجته وأولاده الأربعة.

وهي بزوجها وخمسة أطفال.

وبدأ حديثهما عن المستقبل، وقد نحَّى كلٌّ منهما الحاضر من تفكيره، وراحا يلتقيان كما يلتقي العشَّاق ويبنيان الآمال … وحين تحدَّث أصدقاء مصطفى إليه في أمر هذا التطور في حياته، بدأ يفكر جديًّا في المأساة، دون أن يخطر بباله أن ينقذ نفسه من شباكها. كان جوابه لكل من صارحه بخطئه أنه يحبها حبًّا قويًّا جارفًا، لا يملك معه البُعد عنها.

وقال سعيد، وهو أقدمنا عهدًا بصداقة مصطفى: وأين كان هذا الحب من عشرة أعوام؟

وأجاب حامد: كان موجودًا، ألا تعرف أنهما كانا حبيبين منذ الطفولة؟

– أعرف، ولهذا أسأل.

– لا أفهم ما تعنيه؟

– هل قصَّ عليك مصطفى كيف بدأ غرامه القديم، وكيف انتهى؟

– لقد انتهى بزواجها طبعًا، إنني لا أعرف ما حدث بالضبط؛ فصلتي بمصطفى لا تعدو خمسة أعوام.

– أما أنا فأعرف مصطفى منذ عرف الحب، منذ عشرين عامًا! حين كان الطفلان يعبثان بالنظرات وهمسات الشفاه، وحين بدأت العيون تجد والشفاه تدفأ، فالطفل فتًى والطفلة فتاة، والشفاه الدافئة تنطق كلمات الهوى في ألفاظ ساذجة، ثم تتشجع وتقوى فتصوغ الهوى آمالًا، في الزواج، وفي المستقبل.

وراح سعيد يقصُّ ما يعرف عن هذا الحب: إنَّ هذا الحب الجارف طالما عبث بمصطفى، ففجَّر قلبه بالسعادة أحيانًا، حين كانت تبسم له وتشاركه الآمال، وأغرق فراشه أحيانًا أخرى بالدموع، حين كانت تثير في قلبه الشكوك والمخاوف، وما أكثر ما أثارت هذه الشكوك، وأوشكت أن تجسِّمها في خياله حقائق.

وذات يوم أقبل مصطفى على صديقه متجهم الوجه، توشك أن تَطفِر من عينيه الدموع، وأخذ يقصُّ عليه كيف رأى حبيبته تساير شابًّا رقيعًا، يعرفه تمام المعرفة، على شاطئ النيل قريبًا من منزلها.

وقصَّ سعيد علينا كيف هدَّأ من خاطره، وكيف علل له ما حدث بأنه لا يعدو مغازلة الشاب، وعجزها عن صد هذا الغزل، وكيف استطاع الحبُّ الجارف — لا دفاع سعيد — أن يقلب الحقيقة وهمًا يضيفها إلى قائمة الشكوك الظالمة، واستراح مصطفى ومضى في حبه هادئ البال، يستعد لامتحان الليسانس.

ومرَّت الأيام وحلَّ الامتحان.

لم يكن امتحان مصطفى، وإنما امتحان الحب القوي الجارف! حلَّ في صورة رجلٍ ثري، تسير أمامه رثبة أنيقة، وتمشي خلفه عدة فدادين، وبضعة ألوف من الجنيهات.

وخرَّ الحبُّ صريعًا على يد مأذون القرية في يوم أغبر!

وخرَّ مصطفى صريع الحُمَّى بضعة أيام، ثم عاودته العافية.

وأخذت ذكراه تنسحب رويدًا رويدًا، حتى ضاعت في أفراح ليلتين هائلتين، شملت مصطفى فيهما السعادة، واحتوته بين أحضانها، الليلة الأولى حين تزوج ثُريَّا، والليلة الثانية حين أنجب أول أبنائه محمود.

وقال حامد متممًا الحديث: ثم مرَّت الأعوام، وها هو الحب يعود أقوى مما كان …

وثار سعيد قائلًا: ألا زلتَ تسميه حبًّا؟! إنَّ الحب الذي تصرعه محنة في عنفوان الشباب لا يعود! إنك واهم إنْ تصوَّرت في قلبه متسعًا للحبِّ بعد أن ملأته زوجته وأولاده.

قال حامد: إنك لا تعرف ماذا يريد أن يفعل! إنه يريد أن يترك زوجته وأولاده ويتزوجها!

– وهي؟!

– المصيبة أنها تشاركه الرأي، وتريد أن تُقدِم على نفس التصرُّف!

•••

ومضى الحديث بيننا، ولم يكن لدينا أهم من هذا الموضوع. لقد كان مصطفى حبيبًا إلى قلوبنا جميعًا، وكان يسوؤنا أن تتعرض حياته العائلية لمثل هذه الصدمة العنيفة. وما زلت أذكر إلى الآن كيف كان إصرار سعيد على أنَّ ذلك التطور في حياة مصطفى لم يكن حبًّا، بل شيئًا آخر، شيئًا أقوى من الحب، حتى كان أمس، حين لقيت سعيد؛ كنت أعبر الشارع حين استوقفني صوته يسألني: أين أنت يا رَجل؟ كنَّا في سيرتك أنا ومصطفى امبارح.

– وكيف حاله؟ وحال زوجته الجديدة؟

وقال سعيد مدهوشًا: لم تعرف ما حدث إذنْ؟! لقد طلقها منذ أيام، بعد شهرين من الزواج!

وقلت متأثرًا: أكنتَ تتوقع هذا المصير؟

فأجاب مسرعًا: بل لم أكن أتوقع غيره! أتذكر ماذا كان رأيي حين سمعنا بما حدث؟ إذا كنت تذكره فلعلك تدرك صدق فراستي؛ إنَّ كلَّ ما حدث أنه كان يريدها؛ يريدها لأنه الشيء الذي لم ينله يوم تمناه، لقد كانت رغبة جامحة، تسللت تحت ستار الحب، رغبة أقوى من الحب!

مسكين مصطفى! تُرى ماذا سيفعل الآن؟

– لا شيء، لا بدَّ أنه ينظف ثوبه ليعود من جديد إلى العُشِّ الذي أوشك أن يتداعى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤