المغفَّل الثالث

كلُّ شيء عنها كان يعرفه …

يعرف أنها قادت واحدًا من الأثرياء إلى هاوية الإفلاس في عامٍ واحد، ثم ودعته على عتبة الفاقة. وآبت بواحد من أصدقائه كان في مثل ثرائه، فأسلمته بعد شهر إلى المأذون ليعقد له عليها في ورقة، ويطلِّق زوجته وأم أولاده الثلاثة في ورقة أخرى.

وكان يسمع بأذنيه ما يقوله الناس حين يرَوْنها مع صيدٍ جديد، ومع ذلك فقد تعرَّف إليها وواعدها على اللقاء، وذهب إلى أصدقائه يزفُّ إليهم النبأ في زهو وفخار قائلًا: أتعرفون مع مَن سأتعشَّى اليوم؟ سأتعشى أنا و… وضاعت حروف اسمها في صيحات الدهشة التي بدرت من الجميع.

وقال واحد من أصدقائه: انت اتجننت؟!

وأجاب في ثقة: لم أكن في حياتي أعقلَ منِّي اليوم.

ولم تُثِرْ غيظَه الضحكاتُ العالية التي انطلقت من أفواههم، وظلَّ صامتًا يسمع تعليقاتهم الساخرة: رحمة الله على رصيدك في البنك!

– بالتأكيد ربنا عاوز يخرب بيتك …

وانبرى أحدهم فهزَّ كتفيه في عنفٍ قائلًا: هل أنت أصم؟! ألا تسمع؟!

– سامع.

– أتعرف ماذا جرى لفلان، ولفلان؟

– أعرف، لا وجه للمقارنة.

– لقد كانا مغفلَين، خدعتْهما.

– ضحكتْ عليهما … أنا شيء آخر، لقد أعددت خلف رأسي سلة أُلقي فيها أحاديث هواها، كل المسألة في نظري أنها دمية جميلة ألهو بها، لن تأخذ مني أكثر مما تأخذ الريح من سطح مرآة؛ ذرات الغبار التي خلَّفتها ريح سبقتها.

– إنك لفيلسوف جبار!

– بل منتقم جبار، سينتقم للسابقين واللاحقين!

وضاق بسخريتهم، فغادرهم وهو يرثي لحماقتهم، وتعمَّد أن يذهب متأخرًا عن موعدها.

وجلسا يتناولان العشاء ويتحادثان، وقال وهو يرقبها في حذر: ثوبٌ جميلٌ هذا الثوب!

– من باريس، إنه هدية زوجي، أتعرف أني كنت متزوجة؟!

وأجاب في خبث: أعرف طبعًا، من فلان؛ صديق زوجك الأول.

وقالت ضاحكة: زوجي الأول؟ إني لم أتزوج غير مرة واحدة. الأول كان صديقًا … مجرد صداقة فقط. لقد تزوجت مكرهة؛ كان لا بدَّ لي من رجل أحمل اسمه؛ إن اسم أبي ليس مشرفًا. أتعرف أبي؟

– طبعًا لا … هل كان من ذوي الأملاك؟

– كنت أستطيع أن أقول لك ذلك … أو أقول لك إنه كان مستشارًا أو ضابطًا كبيرًا. إني أقول ذلك أحيانًا … لكن لا أدري لماذا أحب أن أكون صريحة معك؟!

وأخفى خلف شفتيه ابتسامة، وقال بتأثر: أنا أيضًا أشعر نفس الشعور، أحبُّ أن أكون صريحًا معك!

– كم أتحرَّق إلى رجل يخلع ثوب الرياء عن كتفيَّ وكتفيه، إني أضيق بالعواطف المدهونة التي ألقاها في كل الوجوه …

وقال وهو يضحك: لن تجدي شيئًا من هذا لديَّ، سترين عواطفي بغير دهان، قد لا تكون جميلة، ولكنها حقيقة، ثم لا تنسَيْ شيئًا، إنَّ الدهان مرتفع الثمن، وأنا — واغفري لي صراحتي — لست غنيًّا.

وقالت، وهي تومئ إلى مائدة بعيدة: أترى هذا السيد هناك؟

لقد كنتُ أستطيع أن أكون معه، فيمتلئ ساعداي بالجواهر، وتُفرش الأرض تحت قدميَّ بالبنكنوت، إنه يبذل جهد الجبابرة ليتعرف إليَّ … مع ذلك ها أنت تراني معك، أنت الذي فضَّلتك لصراحتك، لقد شبعت دهانًا … ولديَّ ما يكفيني.

وتجاهل تحيتها الأخيرة، وقال في سخرية: مغفلون هؤلاء الذين يُضيعون ما تعبوا في تحصيله تحت قدمَيِ امرأة!

– أنا أيضًا أراهم كذلك … إنهم يخطئون السبيل إلى قلب المرأة. إنَّ المرأة لا ترفع إلى قلبها ما تجده تحت قدميها.

وملأه الزهو وهما يغادران المطعم وقد استندت على ذراعه في دلال … بدت له بثوبها الرائع، وفرائها الثمين، وقامتها البديعة، كصيدٍ فاخر … صيد لم يبذل في سبيله قذيفة واحدة، وذكر حماقة أصدقائه فضحك في سرِّه، وقالت وهو يودعها: غدًا؟

– لا أظن، إني مرتبط بمواعيد غدًا وبعد غدٍ، ليكن يوم الأربعاء إذا شئتِ.

لم يكن مرتبطًا بأي موعد، ولكنَّها السياسة التي رسمها لنفسه، لِيذلَّ قاهرة الرجال. كان يريد أن يُريَها لونًا جديدًا منهم غير الذي ألفته، لونًا يلقاها عندما يريد لا عندما تريد …

والتقيا يوم الأربعاء، وسارا في الطريق على غير هدًى، ووقفت عند متجر للمجوهرات، وأخذت تتأمل الحلى الأنيقة، وأخذ قلبه يعصف بشدة، وأحسَّ أنه مُقبل على امتحانٍ عسير.

– تعالَ، أريد أن أرى هذا الخاتم.

– أليس الأوفق أن تَرَيْه غدًا صباحًا؟ وفي وضح النهار؟

وانفجرت ضاحكة وقالت: أظننتها مؤامرة؟ اطمئن.

وتملَّكه الذهول، وهي تُخرج من حقيبتها عشرين جنيهًا، تدفعها للبائع ثمنًا لخاتم، وأفاق على صوتها يهيب به: بطاقتك!

– مَن؟ أنا؟

– أجل، ليس لديَّ ورقة أكتب له فيها عنواني ليرسل إليَّ الخاتم بعد إعداده، اكتب له عنواني أرجوك!

وأخرج بطاقته وكتب، وعندما غادرا المتجر قال لها: إنكِ تُلقين النقود في الأرض! خاتم من الزجاج بعشرين جنيهًا؟ هذا جنون!

– وماذا أفعل بنقود الحمقى غير إضاعتها في التوافه؟

وكانا قد وصلا قريبًا من المطعم؛ نفس المطعم الذي تعشَّيا فيه من قبل. قادتهما أقدامهما إليه، ولم ينتبها إلَّا على الأضواء المنبعثة من واجهته، فقال: عجيبة! ألن نغير المكان؟

وقالت في غير اكتراث: كما تريد، أنا شخصيًّا لا يضايقني أن نتعشى هنا.

وجلست بجانبه، ولم تكد تتأمل ما حولها، حتى تصنَّعت الدهشة والغضب، وقالت وهي تومئ بعينها: هذا المعتوه وراءنا في كل مكان، دعنا ننهض!

وقال في كبرياء: ولماذا؟ هل تخافين منه؟

– أبدًا، إنه لا يعنيني، إنه أحد الذين أثروا من الحرب، اسمه — على ما أذكر — سيد، تعرَّفت إليه مرة في بيت إحدى صديقاتي، ومِن يومها وهو لم يكفَّ عن مطاردتي، ولعله يئس بعد أن رآني معك.

وأخذا يتناولان العشاء، ويقرعان الكئوس، وشربا كثيرًا، وبدا عليها أنها قد ثملت؛ فألقت برأسها على كتفه، وقالت وهي تحدِّق في عينيه: أتحبني نصف حبي لك؟ لكنك لن تصدق!

وقال وهو يمسك بين جنبيه بقيةً من حذر: ماذا تريدين؟ أتريدين برهانًا لحبي؟

وأجابت: أريد الحنان، عواطفك غير المدهونة.

وقال متضاحكًا: لحسن الحظِّ أنا لا أملك غير ما تطلبين.

وبدأ يسوق البراهين … جعل يضم يدها بين يديه في حنان، وأغرق وجهها بنظرات الحب الوالهة … واختفت من أمامه الغانية العابثة، وبقيت الحسناء الجميلة، ذات الوجه الفاتن، والعيون الناعسة، والشفاه الدافئة … تمنت نفسُه أن يرى وحده هذا الجمال، فقال متثائبًا: هل ننهض؟

– هيا، إني لا أقل عنك رغبةً في الراحة، وأمسك بيدها وهما في السيارة، وحاول أن يُقبِّلها، ولكنها نأت بفمها بعيدًا، وقالت وهي تتخلص من ساعدَيْه: دعني أحتفظ بالأمل فيها؟

– ما هي؟

– القبلة التي تريد أن تمنحني إياها، أريد أن تُحسَّ معي أنها شيء عزيز المنال؛ فلنؤجلها، ولنَعِشْ أيامًا في لذة الشوق إليها …

وعندما آب إلى داره — بعد أن أوصلها — بدأ يستعيد ما حدث بينهما.

إنَّ هذه الفتاة جديرة بشيء آخر غير الخداع، جديرة بعواطف صادقة، إنها تستحق منه أن يفكر تفكيرًا آخر أسمى من هذا التفكير. لقد تأكد أنها لا تريد به شرًّا، ولا تفكر في خداعه. لو أنها كانت تخدعه لخدعته أول لقاء، أو في الثاني، لكنها لم تفعل، كانت تستطيع أن تتركه إلى هذا السيد الثري بعد أن صارحها بأنه لا يملك شيئًا. إنه لن يشك لحظة في أن هذا العملاق غني الحرب — الذي كان يجلس قبالتهما — يشتعل غرامًا بها، ومع ذلك فهي لا تعيره أيَّ اهتمام، وانتهت به تأملاته إلى قرار؛ إنه لن يقسوَ عليها بعد اليوم، وسوف يكشف لها قلبه.

ومضى يحدثها في الصباح بالتليفون، في رقَّة لم تألفها، وكم أثلج صدره أن تختم حديثها الشهي قائلة: بالعكس، إنَّ حديثك يُدخل على قلبي السرور!

ومرت أيام … كان يلقاها في الصباح وفي المساء … كانت تصحبه كلما قصدت متجرًا، فتشتري ما تشاء، ولا تسمح له أن يدفع ثمن شيء!

وحاول مرةً أن يدفع عنها ثمن ثوب من الحرير فرفضت، ولمَّا أحسَّت غضبه قالت بحنوٍّ: ما دمتَ تريد أن تشتريَ لي شيئًا، فاشترِ لي هذه الزجاجة، إنه عطر جميل، يُذكِّرني دائمًا بجمال اللحظات التي أقضيها معك!

وانثنت في دلال، وهي تشم العطر القوي، فأحسَّ ذلك التناسق البديع في جسدها، وقال مذهولًا: قاتل الله الناس! لقد شوَّهوا الحب!

وتساءلت: كيف؟!

– خلطوا بينه وبين أخسِّ العواطف، أليست مصيبة أن تكون القبلة سبيل المحب الصادق والمشتهي السافل سواءً بسواء؟!

أنا الآن مثلًا أريد أن أقبِّلك، أقبلك فقط، ولكنني لا أجرؤ، حتى لا أثير في نفسك الشكَّ بأن جسدك البديع أغراني!

وأغرقت في الضحك ثم قالت: من الخير أن لا تفعل؛ لأنني سأظن ذلك فعلًا!

واستطردت بعد برهة: قل لي، هل سأراك قريبًا؟

وأجاب مدهوشًا: قريبًا جدًّا، غدًا إذا شئتِ.

وفكَّرتْ لحظة، ثم قالت: لا أظن غدًا، ولا بعد غدٍ! إني ذاهبة لزيارة خالتي المريضة، وقد أبقى بجانبها يومين، وسوف أكلمك بعد عودتي.

وافترقا في هذا المساء، بعد أن ضغط على يدها بحرارة.

وحاول أن يقبِّلها، فقالت وهي تميل برأسها لتتجنب قبلته: تذكَّر ما قلتُه لك … كم ستكون القبلة شهية بعد أيام!

ووجد نفسه في اليوم التالي وحيدًا، لا يدري ماذا يفعل، فسار في الطريق لا يعرف أين تقوده قدماه.

أكانت مصادفةً أن يجد نفسه أمام المطعم الذي شهد ميلاد الحب بين جنبيه؟ إنه لا يدري … كل الذي يعلمه أنه أطاع قدميه، وولج باب المطعم، وقصد إلى نفس المائدة، وجلس إلى نفس المقعد … ودار بعينيه يتأمل ما حوله، ويتفقد بهجة عشِّ الغرام الجميل، وأحسه ساكنًا مكتئبًا، ومدَّ بصره إلى الأمام إلى أقصى القاعة، حيث يجلس الثري العاشق وحيدًا مهزومًا!

غالط عينيه، وعاد ببصره ثانيًا يحملق … فآب بنفس النتيجة؛ إنَّ الثري العاشق لم يكن وحيدًا، إن معه امرأة لا يكاد يرى وجهها!

وهبَّ مذعورًا كمن لسعته أفعى! لقد كانت هي! هي بعينها! بفرائها الثمين، وقد تراخى على حافة المقعد، وساعدِها البض، وقد ارتمى في دلال على كتف سيد بك!

وأحسَّ بموقفه، فعاد إلى مقعده متخاذلًا، وحانت منها التفاتة فالتقت أعينهما! وراعه ذلك البرود الذي تلقَّت به نظراته!

إنها لم ترتعد، ولم ترتبك، وإنما تلقَّت نظراته بابتسامة، ابتسامة ساخرة، لا تعرف الحياء!

كيف قضى الليلة، وكيف طلع عليه النهار؟!

لقد مرت عليه كل دقيقة بألفِ خاطر وألفِ تأويل، وعبثًا حاول أن يخطِّئ عينيه، لقد كان يئوب من كل محاولة بالحقيقة المرة! إنَّ العين لا تخطئ ساعةً كاملة … إنها هي!

وأمسك بالتليفون أكثر من مرة، ولكنه لم يجرؤ أن يتكلم!

وغادر مكتبه، وقد أعماه الغيظ، وسار في خطوات محمومة، وأحسَّ بنفسه وهو يقرع في عنفٍ الجرس الصغير على باب شقتها؟!

وقالت وهي تتأمل وجهه في خمول وعدم اكتراث: ماذا؟ هل جُننت؟ إنَّ الجرس لا يُدق بهذا العنف.

قل لي، ماذا تريد الآن؟!

انسابت لهجتها الباردة الجافة في أعصابه كالمخدر، ووجد نفسه يقتطع الكلمات من جسده اقتطاعًا: أريد … أريد تفسيرًا … تفسيرًا لما رأيته أمس؟!

وانفجرت ضاحكة، وأطار ضحكُها ثمالةَ الصبر من رأسه، فتحرَّكت يداه في عنف، وأدركت ما يرمي إليه، فقالت وهي تربت على كتفه: لا تكن عصبيًّا فتُفسد الجميل — الجميل الذي صنعتَه — أتعرف أنه لولاك لَمَا تحوَّل إعجابه إلى غرامٍ عنيف؟! لقد أدَّيت لي خدمة لن أنساها، إن شبحك في خياله كفيلٌ بتنفيذ ما أريد! والآن، لا تكن أحمق! إنه قد يصحو في أية دقيقة.

لا يدري، هل هي التي أغلقت الباب في عنف، أم هو الذي جذبه بشدة لكي يحجب عن عينيه وجهها. لقد وجد نفسه يهبط الدَّرَجَ في وهن وإعياء، حائر اللب، كمن دَفن حبيبًا؟!

•••

جلس في مساء ذلك اليوم إلى أصدقائه، ودار الحديث عنها، كان وحده الذي ظلَّ صامتًا، لا يسأل ولا يجيب؟!

وقال أحدهم يداعبه: ألن تتعشى معها اليوم أيضًا … أم فشلت المفاوضات من أول جلسة؟

وقال آخر: بل فشلت بالتأكيد … إنها تتمسك دائمًا بطلباتها.

وقال ثالث: بل إنني أراهن أن المفاوضات قد قُطعت معه، إنها الآن تملك كنزًا.

– مَنْ؟!

– سيد بك زهران؛ ثري الحرب المعروف. إنه وقع في حبائلها، وأغلب الظن أنه سيقوم بدور المغفل الثالث الذي تعبث به.

•••

ووجد نفسه ينطق أخيرًا؛ ينطق في هدوءٍ كمن يُصدر حكمًا صائبًا بعد طول التفكير: لا أظن ذلك؛ إنه المغفل … الرابع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤