نبذة عن الكتاب

متى تنشأ الأمة؟ لقد شَغلَت الباحثين مؤخرًا مسألةُ التحقيب الزمني لتاريخ الأمم والقومية منذ أن أثارها ووكر كونور عام ١٩٩٠، وذلك بما تعنيه هذه المسألة من تقسيم هذا التاريخ إلى فتراتٍ واضحة ومحددة. وقد خلُص إلى أن فكرة أنه من غير الوارد أن تكون الأمم الحديثة قد نشأت في وقتٍ سابق على أواخر القرن التاسع عشر؛ تتجاوز الرؤية الحداثية التقليدية التي ترى أن الأمم والقومية ظهرت مع الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية. إن هذا الاستنتاج يأخذ ذلك الافتراض، الذي يؤمن فيه عديدٌ من الباحثين في أن الأمم والقوميات ظواهر سياسية ذات ثقافات جماهيرية موحَّدة، إلى ذروته القصوى؛ ومن ثَمَّ لا يمكننا الحديث عن الأمم والقومية إلا بدايةً من ظهور الحداثة — أيًّا كان تعريفها. وهذه الافتراضات فقط هي ما يعزم هذا الكتاب تفنيدها، وسيُفنِّد معها منظومة الفكر الحداثي بأكملها.

في كتاب «الأصول العرقية للأمم»، أوضحتُ أسباب اعتبار أن الأمم الحديثة تكوَّنت، في الغالب، على أساس روابط عرقية وتوجُّهات موجودة من قبل. وعلى الرغم من أن وجهة النظر تلك تنطبق على عددٍ كبير من الحالات، فإن ثَمَّةَ أمثلة كافية لحالاتٍ لعبت فيها العرقية دورًا ثانويًّا، أو لاحقًا، في نشأة الأمم الحديثة. كانت الروابطُ العرقية ذاتَ أهمية مؤكَّدة في فترات مختلفة، مثل الشرق الأدنى القديم وفجر أوروبا الحديثة، لكن الأشكال السياسية الأخرى للمجتمع الجمعي، والهُوية الجمعية مثل الدول المدن، والاتحاد القَبَلي، وحتى الإمبراطورية؛ أسهمت في تكوين الأمم.

لعلَّ الأهم من ذلك أنها تركت علامة أيضًا على السمات اللاحقة للأمم والقوميات، وهذا يقدم حلًّا للمشكلة الأولى المتمثلة في التحقيب الزمني للتاريخ؛ فبدلًا من تحديد تاريخ واحد أو فترة واحدة للنشأة، تظهر أشكالٌ تاريخية مختلفة للتصنيف التحليلي للأمم في فتراتٍ متعاقبة، تُبيِّن كلٌّ منها أنواعًا مختلفة من الثقافات العامة المميزة، وتلك الثقافات بدورها متأثرةٌ بقوةٍ بأحد التقاليد الحضارية الأساسية الثلاثة في العصور القديمة المتمثلة في الهرمية والعهد والجمهورية المدنية. من خلال نموذج روما والإمبراطوريات والجمهوريات المدنية التي خلفتها، وكذلك من خلال المعتقدات والممارسات اليهودية والمسيحية، ظلت تلك التقاليد الثقافية مُحكِمةً قبضتَها على الطبقات الأوروبية المتعلِّمة من إنجلترا إلى روسيا، ومن السويد إلى إسبانيا.

نتيجةً لذلك، فإن المسائل المتعلقة بالتسلسل الزمني لنشأة الأمم هي أيضًا في حقيقة الأمر موضوعات متعلقة بالأسس الثقافية للأمم، وﺑ «تكوُّن» الأمة و«تحديد تاريخ تكوُّنها». إلا أن هذا أيضًا يثير موضوع التعريف وموضوع التصوُّر النظري؛ من ثَمَّ، يبدأ هذا الكتاب بمناقشاتٍ عن الخلفية النظرية، وتعريفات المفاهيم، والعمليات الاجتماعية والرمزية الأساسية، والموارد الثقافية لتكوين الأمم واستمراريتها. أما في بقية الكتاب، فتتوغل المناقشات في علم الاجتماع التاريخي للأمم والقومية في العالم القديم، والعصور الوسطى في أوروبا، وأوائل العصور الحديثة، والعصور الحديثة، ويختتم بنقاش عن المصائر البديلة التي تواجه الأمم المعاصرة نتيجةً لشخصياتها المتعددة الجوانب في الغالب.

(١) خطة الكتاب

  • المقدمة: توضح المشاكل الأولية المتمثلة في «تأريخ الأمة» في أعقاب مناقشات ووكر كونور، والنماذج النظرية الأساسية — الحداثة، وفلسفة الحكمة الخالدة، والبدائية — التي سيطرت على مجال دراسات القومية ويمكنها أن تُسلِّط الضوء على مسألة التحقيب الزمني لتاريخ الأمم.
  • الفصل الأول: هنا أُحلِّل مشاكل التصوُّر الحداثي للأمة، وأُوضِّح كيف أنه مقتصر على نحوٍ مناسب على التعامل مع جزءٍ واحد فقط من المجال، ألا وهو «الأمة الحديثة». ومن الضروري وجود تصوُّر أشمل للأمة؛ تصوُّر يُميِّز بين الأمة باعتبارها فئةَ تحليلٍ عامةً وبين الإحصاء الوصفي للأنماط التاريخية للأمم. ومن خلال تعريف الأمة بطريقةٍ مثالية نموذجية يصبح من الممكن الربط بين مجموعةٍ من الأنماط التاريخية للأمم في فتراتٍ مختلفة؛ ومن ثَمَّ نتجنب القيود التعسفية للمنظور الحداثي ونُعزِّز فهمنا للأمم بوصفها مواردَ ثقافية ومجتمعاتٍ محسوسة.
  • الفصل الثاني: قبل الاستطراد في بحثٍ لعلم الاجتماع التاريخي للأمم، نحتاج إلى استكشاف العوامل الأساسية لتكوين الأمم واستمراريتها. أفضل طريقةٍ لرؤية الأمم هي رؤيتها من منظور الأنواع السالفة للهُويات الثقافية والسياسية الجمعية مثل الدول المدن، والإمبراطوريات، والاتحادات القَبَلية، وفوق ذلك كله، الجماعات العرقية والعرقية الدينية. إلا أنه مع تطوُّر عمليات اجتماعية ورمزية أساسية مثل تعريف الذات، وغرس الرموز، والأقلمة، ونشر الثقافة العامة، وتوحيد القوانين والأعراف بحيث تتمكن الجماعات من الاقتراب من النموذج المثالي للأمة، وفقط من خلال موارد ثقافية معينة مثل أساطير الشعوب المختارة، وذكريات العصور الذهبية، ومثل الواجب والتضحية؛ يصبح الاحتمال قائمًا في أن تستمر الجماعات على مر الزمان.
  • الفصل الثالث: يجب أن يبدأ بحث علم الاجتماع التاريخي للأمم بالشرق الأدنى القديم. على الرغم من عدم وجود أمثلةٍ للأمم، فإن العالم القديم كان يتميز بوجود الفئات والجماعات العرقية على نطاقٍ واسع. وكانت العرقية متداخلةً مع أشكالٍ أخرى من الهُوية السياسية والثقافية الجمعية، مثل الإمبراطوريات القديمة، والدول المدن، والاتحادات القَبَلية. ورغم ذلك، ففي حالاتٍ قليلةٍ فقط — مصر القديمة، ومملكة يهوذا، وأرمينيا لاحقًا — يمكننا أن نعثر حقًّا على مقومات الأمم. حتى في اليونان القديمة، على الرغم من كل التوجُّهات العرقية القوية على مستوى اليونانيين كافةً وعلى مستوى «الدول المدن»، كانت الأبعاد الإقليمية والقانونية للأمة المستقلة منعدمة.
  • الفصل الرابع: إلا أن العالم القديم ترك أيضًا لخلفائه الأوروبيين أمرًا أكثر أهمية؛ ألا وهو ثلاثة أنواع من التراث والتقاليد الثقافية المهمة، وهي: الهرمية والعهد والجمهورية، والتي تعود بالترتيب إلى بلاد الرافدين ومصر الفرعونية، ويهوذا القديمة، واليونان القديمة. كانت هذه التقاليد الثقافية — التي انتقلت عبر كلٍّ من روما الجمهورية والإمبراطورية، وكذلك عبر الكتاب المقدس والمسيحية — تشهد صحواتٍ مستمرةً في أوروبا مع محاولة ممالك العالم المسيحي إضفاء الشرعية على حُكمهم وتقوية دُوَلهم، لا سيَّما في دوقية موسكو وفرنسا وإنجلترا وإسبانيا. وفي أواخر العصور الوسطى، شهدنا ظهور أمم «هرمية» تَراتُبية أظهر فيها الحُكام وطبقات النخبة في دول الغرب توجُّهًا وهُويةً وطنيَّين قويَّين.
  • الفصل الخامس: بحلول القرن السادس عشر، كانت ثَمَّةَ أدلة كثيرة على انتشار مشاعر القومية لدى النُّخَب في عدة دول أوروبية، بدءًا من روسيا وبولندا وحتى إنجلترا وفرنسا والدنمارك. إلا أن «الطفرة» التي أدت إلى نشوء الأمم الشعبية والقوميات الأولى، حدثت في أعقاب الإصلاح البروتستانتي. وبالعودة إلى العهد القديم وعهد إسرائيل، وسَّع المصلحون المتطرفون، لا سيَّما الكالفينيين، فكرة الاختيار الإلهي لتشمل كنائسَ وجماعاتٍ بأكملها وأممًا. في اسكتلندا وإنجلترا وهولندا، وأيضًا في المدن السويسرية والمستعمرات الأمريكية، أدَّى تزايد ارتباط المجتمع القومي بفكرة الشعب المختار المحتمل بين البيوريتانيين إلى حشد أعدادٍ أكبر من الأشخاص ومنحهم رؤيةً فعالة للخلاص الجماعي من خلال الوحدة السياسية، والحكم الذاتي، وهُوية المصير. وأصبحت القوميات والأمم «العهدية» الناتجة مهودًا ونماذجَ للأشكال العلمانية اللاحقة.
  • الفصل السادس: بدلًا من قطع العلاقة بكل ما حدث من قبل، تكوَّنت الأمة «الجمهورية» العلمانية اعتمادًا على تأثير وإلهام الأمم العهدية. وعلى نحوٍ مشابه، فعلى الرغم من العلمانية الراديكالية للأمة الجمهورية، فإن قوميتها غالبًا ما كانت محاكاةً لطقوس الأديان التقليدية وليتورجياتها وممارساتها. وتمكَّنت القومية بوصفها «دينًا علمانيًّا للشعب» أن تجمع بين ميثاق مواطَنة إنساني وأرضي صِرف وبين عبادة الشعب للأمة. وأثناء «مهرجانات» الاحتفاء بالثورة الفرنسية، تمكَّن هذا الجمع بين الروح العلمانية والروح الدينية، ممثَّلتَين في وطنية الدول المدن القديمة المبعوثة من جديد، وفي العقود المقدسة لأساطير الاختيار الإلهي والعهد؛ من تعبئة جيوشٍ هائلة وبث مشاعر حماسية على نطاقٍ واسع. إن انتصار القومية الجمهورية داخل أوروبا والغرب، وفي الخارج أيضًا، يعود بقدرٍ كبير إلى أبعادها «المقدسة» والشعبية.
  • الفصل السابع: على الرغم من ذلك، بدلًا من التخلص من النماذج السابقة من الأمم، فإن القومية الجمهورية العلمانية تجد نفسها باستمرارٍ في تحدٍّ مع ما تبقى من سماتٍ ثقافية لهذه النماذج السابقة. ويتمثل ذلك في التاريخ الحديث لليونان؛ حيث واجه المشروع اليوناني الجمهوري تحديًا من قِبل النموذج القومي «البيزنطي»، ثم اندمج معه لاحقًا، ذلك النموذج الذي كان يتكوَّن من ذكرياتٍ هرمية (إمبراطورية) ومعتقداتٍ عهدية أرثوذكسية يونانية بالمقدار نفسه. فعلاوةً على أننا نجد آثارًا للسمات الهرمية، في ملكية بريطانيا على سبيل المثال، فإن جمهورياتٍ مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وفرنسا ما زالت تعج بأساطيرَ ومعتقداتٍ نابعة من الأمم والقوميات العهدية السابقة؛ ومن ثَمَّ تُقدِّم لكل جيلٍ من أجيال الجماعة تواريخ عرقية ومصائر قومية بديلة. وعلى الرغم من أن هذه التقاليد الثقافية المختلفة يمكن أن تسفر عن صراعٍ أيديولوجي داخل المجتمعات القومية، فإن تنافسها وتضافرها يمكن أيضًا أن يُقوِّيا الوعي القومي، ويحافظا على نسيج الأمة.
  • الخاتمة: يُختتم الكتاب بملخصٍ لما سردته عن علم الاجتماع التاريخي للأمم، ويوضح باختصارٍ بعض الآثار الأطول أمدًا التي من المحتمل أن تؤثر على الأمم والقومية في العالم المعاصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤