الفصل السادس

الأمم الجمهورية

في عصر الرابع عشر من يوليو عام ١٧٩٠، في ساحة مارس في باريس، أمام حشد مكوَّن من أربعمائة ألف، وخمسين ألفًا من الحرس الوطني، وممثلي كوميونة باريس، ومندوبي الإدارات، وأعضاء الجمعية الوطنية؛ بدأ تاليران مراسم القداس والمباركة على «مذبح الوطن»، وقال للحشد رافعًا ذراعيه على الرايات: «غنوا ولتدمعوا دموع الفرح؛ لأنه في هذا اليوم صُنِعَت فرنسا من جديد.» بعد ذلك، امتطى لافايت جوادًا أبيض، وسار بين صفوف الحرس وطلب إذْن الملك في «إلقاء القَسَم على مسامع الممثلين الفيدراليين المجتمعين». انتقل القَسَم عبر الساحة، وقابله «ترديد المحتشدين لقول «أقسم» بصوتٍ مدوٍّ»، وتبعه وابلٌ من القذائف المدفعية. بعد ذلك، استخدم لويس السادس عشر لقبه الجديد «ملك الفرنسيين» وقال: «أقسم أن أستخدم كل القوى المُوكلة إليَّ بموجب الدستور في دعم قرارات الجمعية الوطنية.»1

(١) حلف اليمين في أوروبا الغربية

يشير شاما إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يُؤَدَّى فيها مثل هذا اليمين؛ ففي ٤ فبراير من ذلك العام، أقسم لويس على أن «يدافع عن الحرية الدستورية ويحافظ عليها؛ تلك الحرية التي وافقت عليها إرادة الأمة التي وافقت إرادتي.» وحتى قبل ذلك، في الخريف السابق، كان لافايت الذي ساعد في تكوين الحرس الوطني قد ترأس مراسم مشابهة لأداء اليمين. بل يمكن القول إن تلك الأيمان كانت الحافز المباشر للثورات. في ٢١ يونيو عام ١٧٨٩، عندما مُنع نواب الطبقة الثالثة من دخول مكان الاجتماع المعتاد لمجلس الطبقات العامة في قصر فرساي نظرًا لأعمال إعادة البناء، الْتجأ النواب إلى ملعب تنس قريب وأدَّوا اليمين متعهدين: «أمام الرب وأمام الوطن ألا نتفرق أبدًا حتى نصوغ دستورًا مُحكَمًا وعادلًا كما طالبنا الناخبون.» في تلك الأثناء، وقف النواب الستمائة كجسدٍ واحد، ومدُّوا أذرعهم اليمنى على نحوٍ مشدود، مقلدين على نحوٍ واعٍ الطريقة التي أقسم بها الإخوة هوراتي الرومانيون على سيف والدهم الذي علَّقه في الهواء متعهدين بالغزو أو الموت في سبيل الوطن، وهذا مشهدٌ لم يكن في القصة الأصلية التي ذكرها المؤرخ تيتوس ليفيوس، لكن اخترعه جاك لوي ديفيد في رسمته الشهيرة، «قَسَم الإخوة هوراتي»، قبل خمس سنوات. وقد طُلب من ديفيد رسم قَسَم ملعب التنس المذكور في وقتٍ لاحق، لكنه لم يتمكَّن إلا من ترك تسجيلٍ لهذا القَسَم في مخططٍ رائع غير مكتمِل بعد ذلك بسنواتٍ قليلة.2

لم يكن النموذج الروماني الذي قدَّمه ديفيد سوى واحدٍ من سلسلةٍ من هذه الأيمان؛ فلقد سبقه تصوير قوي ﻟ «قَسَم روتلي» رُسم في الفترة ما بين ١٧٧٩–١٧٨١ لمجلس مدينة زيورخ. وفي هذه الرسمة، جَسَّدَ هاينريش فوسلي أولَ قَسَم لتحالف الاتحاد السويسري القديم عام ١٢٩١ في صورة ثلاثة رجال ضخام البنية. في هذه الصورة المدهشة، يجعل فوسلي ممثلي كانتونات الغابات الثلاث الأصلية أوري وشفيتس وأونترفاليدين، يؤدون قَسَم الحرية على سيفٍ مرفوع في الهواء على مرج روتلي بجوار بحيرة لوسيرن التي جاءوا عبْرها في قوارب يحركونها بمجاديف، كما هو موضَّح في رسوم فوسلي. وكما نعلم من مصادر أخرى، فإن ممثلي الكانتونات أقسموا على تكوين اتحادٍ دائم لمقاومة طغيان أسرة هابسبورج واستعادة حقوقهم السابقة من خلال تحرير وديانهم من القضاة الظالمين والضرائب الجائرة. في هذه الصورة، يُؤَدَّى قَسَم التحدي بثلاثة رجال حازمين ومفتولي العضلات مادِّين أذرعهم، على غرار أسلوب التكلفية الذي ابتكره مايكل أنجلو الذي كان فوسلي معجبًا به للغاية أثناء إقامته الطويلة في روما.

رغم ذلك، وكما أوضح روبرت روسنبلوم في البداية، فإن هذه واحدة فقط من سلسلةٍ من رسومات «الكلاسيكية الحديثة» التي توضح حلف اليمين وأداء القَسَم، تعود لفترةٍ أسبق من لوحة «قَسَم بروتوس» لأنطوان بوفور التي رسمها عام ١٧٧١؛ إذ تعود إلى لوحة «قَسَم بروتوس» التي رسمها جافين هاميلتون عام ١٧٦٤، والتي تُعَد على الأرجح الأولى من هذه السلسلة. في اللوحة الثانية المرسومة على قماش مسرحي كبير، يظهر بروتوس الذي سيصبح لاحقًا أول قنصل للجمهورية الرومانية، وهو يقسم مع أصدقائه على الانتقام لانتحار لوكريشا من خلال طرد الطاغية تاركوينيوس الذي اغتصبها خارج المدينة. وتظهر لوكريشا نفسها على نحوٍ واضح في الجانب الأيسر من اللوحة وهي تموت بعد أن طعنت نفسها، وفي الجانب الأيمن يؤدي الأصدقاء الثلاثة القَسَم على سيف بروتوس. لقد تناول الفنانون هذا الموضوع منذ عصر النهضة؛ وعلى الرغم من أن اهتمامهم الأساسي حينها، من الناحية الأدبية والفنية، انصبَّ في الماضي على نُبل تضحية لوكريشا، فلقد تحوَّل الآن إلى العواقب السياسية لتصرُّفها. وهذا قدَّم الموضوع الجديد نسبيًّا المتمثل في التحرُّر من الطغيان ومَنَح دورًا محوريًّا لمراسم حلف اليمين، وهذه حقيقة أكدتها ضخامة اللوحة القماشية وضخامة أبطال هاميلتون، بالإضافة إلى قربهم من عين المشاهد.3

علَامَ يدل هذا الشغف الجديد بالأيمان ومراسم حلف اليمين؟ ألا يمكن القول إنه يمثل العلاقة العهدية التي ناقشناها في الفصل السابق؛ أي إنه نسخة علمانية مما كان في الأصل ممارسة دينية؟ إن أداء اليمين والعهود كانا على أي حالٍ من الأعراف العامة على نحوٍ قاطع، وكانا يُستخدمان لتحقيق الالتحام بين عددٍ كبير من الأشخاص من خلال طريقة تقديس مهيبة يشهدها الجميع. في العهد الأصلي في سيناء، عندما تلقَّى شعب إسرائيل الوصايا العشر من الرب عن طريق موسى قالوا: «كُلُّ الْأَقْوَالِ الَّتِي كَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ نَفْعَلُ» (سِفر الخروج ٢٤: ٣). بالمثل، وافق الملك والشعب أثناء الثورة الفرنسية على طاعة القوانين والدفاع عن حرية الأمة والوطن، وأن يُخضِعوا مصالحهم الشخصية للإرادة العامة.

إلا أن هذا ليس إلا جزءًا من القصة. بالتأكيد، كان شكل مراسم حلف اليمين، على الأقل في السنوات الأولى من الثورة، دينيَّ الطابع، وكان يثير التبجيل إنْ لم يكن الهيبة، بَيْدَ أن محتوى المراسم ومضمونها لم يَعُد دينيًّا في الأساس، وأصبح أقل تأثُّرًا بالمسيحية على وجه التحديد، وبدأ يصبح هكذا عندما تقدمت الثورة وبدأت تؤثر على أجزاءٍ أخرى من أوروبا. لم تَعُد إرادة الرب، أو أمة العهد، أو السعي للقداسة؛ هي المُثُل المنشودة، بل أصبح قانون الأمة والمواطنون المستقلون والمتساوون ومُثُل الحرية والإخاء هي مصادر إلهام أيمان الثورة التي تقود الأمة نحو التجدُّد القومي ونحو عصرٍ علماني جديد. ومن هذه المُثُل والوقائع الجديدة نبَع تدميرُ كل أشكال الملكية وكل الأشخاص الملكيين، والعداءُ المرير لرجال الدين الذي ظهر في الثورة لاحقًا، ومظاهرُ الوحدة الشعبية الواضحة في المهرجانات الكبرى، والإسرافُ في العنف ضد كل المقاومين، لا سيَّما في فونديه، والحماسُ التبشيري الذي سعى إلى أن يُقدِّم للشعوب الأخرى فوائد الوطنية والثورة.4

(١-١) سلالة الوطنية

في صميم هذه الأيديولوجية الجديدة يكمن الاعتقاد التنويري الذي يؤمن بقوة المنطق البشري الموجَّهة، وقدرة البشر على تكوين مجتمع متوافق مع مبادئه. يرى إيلي كادوري أن الشخصية الأساسية في التطور الفكري للقومية العلمانية الثورية كان إيمانويل كانط الذي قال إن الأخلاق الإنسانية، وليست إرادة الرب، هي وحدها المصدر المشروع للعمل السياسي، وإن الإرادة الجيدة هي الإرادة الحرة والمستقلة؛ أي المتحررة من قوانين الرب والطبيعة. وعلى الرغم من نموذج النشاط السياسي الذي مثَّلته الثورة الفرنسية، فقد كان المفكرون الألمان أمثال كانط وهيردر، وأتباعُهم الرومانسيون: فيشته، وشلايرماخر، وشليجل، وآرنت، وشليجل، ومولر، ويان؛ هم مَن قدَّموا الأساس المنهجي لنظرية السياسة القومية. في هذه النظرية، تندمج الدولة والأمة في كيانٍ مُرضٍ ولا يجد الفرد الحرية الحقيقية إلا في الذوبان في الدولة القومية التي تُجسِّد إرادة شعب مُطهَّر ثقافيًّا ولغويًّا. إن تلك الإرادة الشخصية هي التي تقلل في نهاية المطاف من نظام التفكير المستنير المنهجي، وتحدد لنفسها حياتها ومصيرها.5
كان من شأن هذه السلالة الفكرية أن تُبيِّن أن ميلاد القومية في الدول الناطقة بالألمانية أعقبَ هزيمة بروسيا في معركة يينا عام ١٨٠٦. أشارت إلى وصول تلك القومية «خطابات إلى الأمة الألمانية» لفيشته التي كتبها في عامَي ١٨٠٧ و١٨٠٨، التي يرى كادوري أنها تمثل أول نصٍّ مفصَّل على نحوٍ كامل لمعتقدٍ قومي أصيل وصافٍ. ورغم ذلك، فقبل حوالي ثلاثين عامًا، قدَّم جون جاك روسو سليل جنيف شغفًا شديدًا بالوطن مشابهًا لخطابات فيشته في نصيحته للبولنديين في أعقاب أول تقسيم لبلدهم، وكان عنوان تلك النصيحة «اعتباراتٌ متعلقة بحكومة بولندا». في هذا العمل، سبق روسو فيشته في معتقدٍ تحمَّس له للغاية، تَمثَّل ذلك المعتقد في الإيمان بقوة التعليم القومي العلماني القادرة على القولبة لتشكيل شخصية الشباب: «إن التعليم هو ما يجب أن يمنح الأرواحَ التكوينَ القومي، ويُوجِّه آراءهم وأذواقهم بحيث يكونون وطنيين ميلًا وشغفًا وضرورةً.» وفي حديث روسو عن حب «الوطن» يجمع بين السمات والمشاعر المميزة للثورة الكلاسيكية الحديثة فيقول:
هذا الحب هو وجوده كله؛ فهو لا يرى شيئًا إلا الوطن، إنه يعيش له وحده، وعندما يكون وحيدًا يكون لا شيء، وعندما لا يكون له وطن يصبح غير موجود، وإن كان غير ميتٍ فحاله أسوأ من الموت. التعليم القومي ملائم فقط للرجال الأحرار؛ فهم فقط مَن يستمتعون بالوجود الجمعي ويخضعون حقًّا للقانون.6
الحرية، والقانون، والمساواة، والتعليم القومي، والمواطنة وحب «الوطن»؛ تلك هي الموضوعات المتكررة أثناء الثورة، وفي الواقع أثناء كل الثورات التي شهدتها تلك الفترة؛ وكلها أدت إلى رؤية الأخوة، والرابطة الذكورية المتمثلة في الإخوة الذين يحركهم الحب نفسُه وتربط بينهم المُثُل نفسُها، فهُم أقارب وأصدقاء في الوقت نفسه، مثل الإخوة هوراتي. لقد كانت تلك الرؤية مستوحاةً من قراءةٍ للعالَم اليوناني الروماني، لا سيَّما أسبرطة والجمهورية الرومانية، تأثرت ببلوتارخ أكثر من ثوسيديديس وبليفيوس أكثر من تاكيتوس. في هذه الصورة المثالية للعالم القديم، قدَّمَت الأعمال البطولية والأخلاق الصارمة المتمثلة في الاقتصاد والعفة والتضحية بالنفس «أمثلة الفضيلة» لمجتمعاتٍ كانت الطبقة الوسطى فيها تشعر ببُغضٍ متزايد تجاه «النظام القديم» الواهن والمستبد المكرَّس لملذات وتفاهات الأقلية المنعزلة في البلاط الملكي وفي القصور. وكان يوجد قدر أكبر من الاشمئزاز تجاه ما شعروا به من تعصُّب وخرافة من جانب الكنيسة التي سمحت منذ بضعة أجيال فحسب بأكثر المذابح وحشيةً ودمويةً في واقع الأمر أثناء الحروب الدينية في أوروبا. مناهضةً للبلاط الملكي والكنيسة، ومناهضةً لكل أشكال الهرمية، وتناسيًا للانشقاقات والصراعات التاريخية الكثيرة في روما وأثينا وغيرها من الدول المدن القديمة الأخرى، أعلنت ثورة «الكلاسيكية الجديدة» للطبقات الوسطى مُثُل الدولة المدينة القديمة، وقلَّدت نموذجها بما يتضمَّنه من قلة عدد المواطنين، والحدود الإقليمية الواضحة، والتمسك بالقانون، والوطنية الشديدة. وكان هذا الصدد ينطوي على نوعٍ من التضامن السياسي الذي يمكن أن يسمح به العقل وتلهمه الأخلاق، وهذا التضامن بدوره عن طريق التعليم المدني والثقافة الشعبية من الممكن أن يخلق رجالًا أحرارًا ومتساوين، ومخلصين ﻟ «الوطن» وقوانينه، ومشاركين في الكومنولث ويتصرفون بتناغمٍ من أجل مصلحة الجميع. ألمْ يكن ذلك هو هدف كل الطقوس والمراسم الوطنية التي صمَّمها ديفيد لليعاقبة في ذروة الثورة، ولموسيقى جوسيك، ولشعر شينيه، تلك الطقوس والمراسم التي بلغت ذروتها في قَسَم المواطنة الذي يُدلَى به على مذبح «الوطن»، وفوق كل ذلك، في مهرجان الكائن الأسمى الذي دعا إليه روبسبيير في يونيو ١٧٩٤؟7
على الرغم من أن المفكرين الأوروبيين في القرن الثامن عشر استرجعوا تراث العالم اليوناني والروماني القديم، حسبما أعلنوا على نحوٍ واضح، فإن هذا الاسترجاع لم يكن غير مسبوق؛ فعلى أي حال، وكما رأينا، بحلول عام ١١٠٠ كان كثيرٌ من الدول المدن الإيطالية قد أحيا أشكال المؤسسات السياسية الرومانية وطبَّقها، وكانت تلك الدول نفسها مؤسَّسة على أساس مستوطناتٍ أو مدن رومانية قديمة. وفي أوائل القرن الخامس عشر كان المفكرون ورجال الدولة الإنسانويون في فلورنسا قد سعَوْا إلى استعادة «فضيلة» الوطنية الرومانية وتطبيقها بالإضافة إلى التصوُّر العلماني والعملي للتاريخ، واستمر النموذج الجمهوري لروما ومُثُلها يجذبان دعمًا قويًّا حتى بعدما رضخت الجمهورية نفسُها لحُكم أسرة ميديتشي المُسمَّى «سنيورية»، مثلما حدث في معظم الدول المدن الإيطالية باستثناء البندقية.8
لم تكن إيطاليا الوحيدة في إحياء الأخلاقيات الجمهورية؛ فيمكننا سماع أصداء الوطنية الرومانية، أو صورتها المثالية، في الكانتونات السويسرية، والمدن الألمانية، والمقاطعات الهولندية. وبالتأكيد، أصبح أداء القَسَم جزءًا لا يتجزأ من تكوين «الاتحاد السويسري القديم». بعد الانتصارات السويسرية على جيوش هابسبورج في زيمباخ عام ١٣٨٦ وفي نيفيلس عام ١٣٨٨، جذب الاتحاد إلى عُصبته دولًا مدنًا قوية مثل لوسيرن وبيرن وزيورخ ومن بعدها جنيف، ومع توسُّع الاتحاد أصبحت توجد أنواعٌ جديدة من القَسَم أكثر شموليةً من سابقتها، مثل قَسَم ميثاق الكهنة الذي يعود لعام ١٣٧٠، وقَسَم ميثاق زيمباخ الذي يعود لعام ١٣٩٣، وكان الهدف من أداء هذه الأنواع من القَسَم هو الدفاع المشترك لصد انتهاكات هابسبورج، وبحلول القرن السادس عشر كان الغرض من أداء القَسَم هو رفاهة هيلفيتيا. وكان لهذا التراث تأثيراته على كلٍّ من المؤرخين السويسريين أمثال إيجيديوس تشودي والإصلاح السويسري؛ إذ نجد أن السياسيين والباحثين الإنسانويين أمثال يوهانيس شتومف وهاينريش بولينر «حاولوا تعريف الاتحاد السويسري بأنه كيان سياسي وثقافي مستقل داخل «الرايخ».» علاوةً على ذلك، ارتبطت الأيمان والمعاهدات ارتباطًا جيدًا بمُثُل العهد الذي كان المصلحون السويسريون، كما رأينا، محايدين تجاهه من الناحية العملية. وتَبنَّت المقاطعات الهولندية أيضًا التقاليد «الرومانية». ورغم قلة الفعالية والقوة مقارنةً بتراث العهد، فإن أسطورة الجمهورية الباتافية القديمة والمقاومة الشعبية ومؤامرة كلاوديوس سيفيليس على روما كانت ذات تأثيرٍ لبعض الوقت بين المفكرين والفنانين الهولنديين، وتوافقت جيدًا مع استخدام مصطلح «أمة» للهولنديين ومع روح حروب الاستقلال الهولندية؛ مما يرمز إلى الوعي الوطني الناشئ والإحساس بالهوية القومية المنفصلة.9
رغم ذلك، عندما نظر المفكرون والمحترفون الفرنسيون إلى الوراء من أجل استرجاع تراث الجمهوريانية المدنية وتعديله وفقًا لأهدافهم، وجدوا أنه من الضروري العودة إلى مصادره في العالم اليوناني الروماني وتشكيل تلك المصادر من جديد. إعادة اكتشاف التراث وتعديله هما على الأرجح أقل طرق ارتباط الماضي بالحاضر قوةً؛ ولهذا السبب بالتحديد تكون عملية الاسترجاع في أغلب الأحيان مرهقة، وواضحة، وقوية. بالإضافة إلى ذلك، ربما نظرًا لأن التراث الجمهوري والمدني للعالم اليوناني والروماني لم «ينتقل» من خلال مؤسسة واحدة قوية ومستمرة مثل الكنيسة، بل استُرجع على فتراتٍ متقطعة على يد المدن والدول المدن والكانتونات الساعية إلى الشرعية والمعنى فيما كان معروفًا ومرويًّا عن العالم اليوناني الروماني في ذلك الوقت، فإن تراث الجمهوريانية المدنية لم يظهر مجددًا على نحوٍ كامل إلا في أواخر القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر. الأهم من ذلك أن إحياءه تأخَّر طويلًا بسبب تضافر العقيدة الدينية والحُكم الهرمي لاستبعاد كل ما اعتُبر تراثًا علمانيًّا ومؤسساتٍ علمانية. ولم يتمكن التراث العلماني المتمثل في الجهورية المدنية من البدء في الظهور إلا بعدما بدأت الدولة الحديثة والمهنية والعلمية تتحرَّر من سيطرة الحُكم الفردي وأشكال التنظيم الهرمي. وحتى عند تحقيق ذلك، كانت الأمثلة الأوَّلية للأنماط السياسية الجمهورية خارج الدول المدن في هولندا وإنجلترا ذات الكومنولث؛ ناشئة عن المؤسسات الدينية والحماس البيوريتاني في أمم العهد. ولم يبدأ أيٌّ من أشكال الجمهوريانية القومية الجديدة في الازدهار إلا بعد أن بدأ تَراجُع جاذبية الأنواع الدينية التقليدية وسيطرتها. في هذا الصدد، تُمثِّل إنجلترا القرنِ الثامن عشر الدولةَ العلمانية الأكثر «تقدمًا»؛ فحتى الخطب العامة لكبار رجال الدين تشهد على تراجع أفكار الكتاب المقدس المتعلقة بالأممية ونموذج إسرائيل القديمة بعد منتصف القرن الثامن عشر، وتشهد كذلك على ظهور التصورات العلمانية والكلاسيكية والوطنية.10
فكرة أن القومية الجمهورية العلمانية لا يمكن أن تظهر إلا بعد تراجُع المشاعر والمُثُل الدينية «العامة»؛ هي واحدة من الموضوعات الأساسية في تحليل ديفيد بيل ﻟ «عبادة الأمة» في فرنسا القرن الثامن عشر. يقول بيل إن مصطلحاتٍ مثل «الأمة» و«الوطن» انتشرت في فرنسا القرن الثامن عشر بسبب التحوُّلات الأساسية في الطرق التي بدأ الفرنسيون يفكرون من خلالها في علاقاتهم بكلٍّ من الرب والعالم المادي. لم يتمثل الأمر في أنهم كَفُّوا عن الإيمان بالرب، حتى لو كان تردُّدهم على الكنيسة قد انخفض إلى حدٍّ ما، بل تزايد ابتعاد الرب، تاركًا العالم وشأنه، أو على الأحرى تاركًا العالم لبشرٍ أصبحوا الآن قادرين وجاهزين لإعادة تشكيله وفقًا لاحتياجاتهم واهتماماتهم الإنسانية؛ ونتيجةً لذلك، ازداد الاتجاه إلى خصخصة الدين التقليدي. وبعبارةٍ أخرى، شغلت المساحةَ الشاغرةَ مفاهيمُ جديدة تتمثل في المجتمع والحضارة والأمة، وطرقٌ جديدة للتفكير في العالم المادي والسياسي وتنظيمه، متحرِّرة من القرارات الدينية على الأقل بين النُّخَب. وكمثالٍ مبكرٍ على المفاهيم والطرق الجديدة، يقدم لنا بيل سَرد روسو عن عمل المشرِّعين القدماء ليكروجوس، ونوما بومبيليوس، وموسى. وفي حالة موسى، لم يقتصر روسو على تدمير التاريخ المقدَّس لليهود وإحلال تاريخ سياسي علماني محله، بل طرح أيضًا أول أمثلة على فكرة البناء الاجتماعي، أي «بناء الأمة» في هذه الحالة، ومدح موسى لأنه كَوَّنَ ونَفَّذَ «المبادرة المذهلة المتمثلة في تكوين كيانٍ قوميٍّ من مجموعةٍ من الهاربين التعساء … لقد كان موسى جريئًا لدرجةٍ كافية مكَّنتْه من تحويل هذه الجماعة المُتجولة والمُستعبَدة إلى كيانٍ سياسيٍّ وأشخاصٍ أحرار.»11
كان يوجد سببٌ آخر أكثر تحديدًا في السياق الفرنسي لزيادة خصخصة الدين بين النُّخَب، وهذا السبب هو الذكرى المؤلمة للمذابح المريعة التي خلَّفتها الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا في أواخر القرن السادس عشر. تلك الذكريات كانت لا تزال حاضرةً في القرن الثامن عشر، لا سيَّما بين المهنيين والمفكرين، وتسبَّبت في كراهيةٍ متزايدة للتعصُّب الديني. وبالفعل في القرن السادس عشر كان التوسل ﺑ «الوطن» المشترك والمصالح المشتركة لكل الفرنسين مسموعًا في الغالب، لكنه لم يُحقِّق إلا قدرًا قليلًا من الجدوى. وبحلول عام ١٦٠٠، حلَّ محل هذه المناشدات تركيزٌ جديد على السلالة الحاكمة والدولة الملكية. إلا أنه نظرًا للدور المشبوه الذي لعبتْه الدولة في الحروب الدينية، وتراجُعها الواضح أثناء القرن الثامن عشر، فقد تزايد اتجاه الرجال والنساء إلى مفاهيمَ حياديةٍ وأكثر أملًا، كما يرى بيل، وهي مفاهيم الأمة والمجتمع والحضارة والشعبية و«الوطن» التي من خلالها فهموا وأعادوا بناء فرنسا.12

رغم ذلك كله، فقد كانت علمانية التنوير أحد العوامل التي جعلت مفهوم الأمة يحظى بالصدارة؛ فعلى الرغم من عداء المفكرين ﻟ «النظام القديم»، فإن آثار قوة ومركزية الدولة المتزايدة على فكرة المجتمع القومي لا يمكن إنكارها. وفي حين احتفظت مناطق عديدة بهوياتها الثقافية المستقلة، فقد كانت السيطرة الثقافية والسياسية لباريس يوميًّا أكثر وضوحًا، وكذلك كان الإحساس بفرنسا كمجتمعٍ إقليميٍّ مستقل. ويمكن رؤية ذلك في خرائط فرنسا في القرن الثامن عشر، ولوحات فنية مثل سلسلة اللوحات التي رسمها كلود جوزيف فيرنيه لمناظر الموانئ في بداية الفترة الرومانسية. عزَّزَت المنافسة مع بريطانيا هذا الإحساس بالهوية الناشئة، لا سيَّما أثناء حرب السنوات السبع، وحروب الاستقلال الأمريكية التي ساعدت فرنسا في تمويلها. وعزَّز هذا الإحساسَ بصفةٍ خاصةٍ حاجةُ النُّخَب القوية إلى استرجاع القيادة السياسية والثقافية التي كانت تمتلكها الدولة في القرن السابع عشر المعروف ﺑ «القرن العظيم»؛ تلك القيادة التي شعروا أنها تتراجع في ظل نظامٍ ضعيفٍ ومستبد.

أخيرًا، يجب ألا نغفل أهمية النماذج الجمهورية والعهدية التي قدَّمتْها الجمهورية الهولندية، والكومنولث الإنجليزي وإنْ كان قصير العهد، والثورة المجيدة في وقتٍ لاحق؛ فهذه ليست مجرد مسألة تأثير مارستْه إنجلترا وحرياتها على المفكرين الفرنسيين المستقلين بصفةٍ خاصة، بل هي مسألة أسلوب سياسة جديد قدَّمتْه قومية العهد: فكرة أن مجموعة من الرجال يمكن أن يدخلوا في عهدٍ مع الرب والملك بإرادتهم الحرة، ويتخلَّوْن عن الهيئات الوسيطة، وأن هذه المجموعة تستطيع من خلال جماعاتها التشريعية سَنَّ قوانين وإبطالها، والتعبير عن الإرادة العامة للمجتمع السياسي داخل إقليمٍ معين. وهنا يكمن حافزٌ جديد قوي لتكوين أمة فرنسية مستقلة وموحَّدة لا تخضع لمُساءلة أحدٍ إلا أفرادها. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نرى أن مفهوم الأمة الجمهورية المدنية لم ينشأ فقط من تقليد الوطنية الكلاسيكية في بلاد الإغريق وروما وإيطاليا العصور الوسطى والكومونات والكانتونات الشمالية الحرة، بل قام أيضًا على معتقدات وسِيَر الكتاب المقدس بدرجةٍ أكبر من اعتماده على المعتقدات والسِّيَر الكلاسيكية، حتى مع العلم بأن تلك المعتقدات نفسها قد تعرَّضت للإنكار في مراحلَ لاحقةٍ مع الإطاحة بها في بعض الحالات.

(٢) القومية الجمهورية

بطبيعة الحال، فإن هذه التطورات، المتمثلة في مركزية الدولة، وخصخصة الدين، وتأثير النموذج العهدي من الأمم؛ لم تزدهر أو تجتمع معًا على الفور؛ ونتيجةً لذلك، فلا يمكننا إدراك بدايات أيديولوجية الأمة الجمهورية المدنية «في حد ذاتها» إلا في أواخر القرن الثامن عشر. ونظرًا لمحورية الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية في تاريخ الغرب، فإن هذا النوع من الأيديولوجية القومية بمنزلة المعيار لكل أشكال الأيديولوجيات القومية اللاحقة، حتى تلك التي تجعل نفسها مناهضة على نحوٍ واعٍ لكلٍّ من الغرب ومختلِف أنواع قومياته.

إنَّ هذه الأيديولوجية المعنية هي أيديولوجيةٌ جمهوريةٌ شكلًا ومدنيةٌ موضوعًا. لقد نشأت من البيئة الاجتماعية والثقافية المحددة في إنجلترا وفرنسا القرن الثامن عشر بصفتهما القوتين الرائدتين والنموذجين الثقافيين لتلك الفترة. في جوهر الأمر، كما رأينا في الفصل الأول، تطرح الأيديولوجية نموذجًا إقليميًّا مدنيًّا، تعتبر فيه الأمة مجتمعًا متماسكًا ومحددًا من الناحية الإقليمية، يتبع مجموعةً واحدة من القوانين وله مؤسساتٌ قانونية موحَّدة، ويتسم بالمشاركة الجماعية في الحياة السياسية، ويتمتع بثقافةٍ عامة شعبية، وحُكم ذاتي جمعي، ودولة، ويشارك في المجاملات الدولية بين الأمم، وتمثل أيديولوجية القومية مصدرَ شرعيته إنْ لم تكن مصدر إلهامه الإبداعي. إنه تصوُّر لا يعكس فقط رؤية التنوير للمثالية العقلانية، بل يعكس أيضًا صورتها المثالية عن الوطنية والفضيلة مضرب المثل في العصر الكلاسيكي. إنه أيضًا مثالٌ يسعى لتكوين المجتمع السياسي والتضامن من خلال المشاركة الفعالة للمواطنين، وامتثالهم للقوانين، وترسيخ الفضيلة المدنية، وهذا يتطلب نشر ثقافة عامة مميزة، وأفضل طريقة لتحقيق ذلك هو التعليم العام الموحَّد الجماهيري ومحاكاة «النماذج» البطولية التي كانت في الماضي. وهكذا أصبحت المواطنة والقانون والتعليم العلماني السمات المميزة للأمة التي تُعتبر مجتمعًا سياسيًّا مكوَّنًا من وطنيين.13
في بعض الأحيان، يُعتقد أن الوطنية المدنية مختلفة عن القومية، بل مناقضة لها. ومن تقاليد ومنطلقات مختلفة جدًّا، يوضح ماوريتسيو فيرولي ووكر كونر أن مصطلح الوطنية يجب أن يُستخدَم فقط لوصف المشاعر والولاء الموجَّهَيْن نحو الدولة أو «الجمهورية» وإقليمها، في حين أن القومية تُوَجِّه مشاعرها صوب الأمة كمجتمعٍ ثقافيٍّ عرقي. وعلى النقيض من ذلك، فإن الوطنية جزءٌ من تراث الدول المدن منذ العصر القديم وحتى جنيف في عصر روسو، ويجب عدم الخلط بينها وبين القومية العرقية التي روَّجها الرومانسيون وأتباعهم. على سبيل المثال، شهد القرن الثامن عشر انتشار كل أنواع «الجمعيات الوطنية» من أجل تحسين الأخلاق والصحة والزراعة وما شابه ذلك. وفي بعض الأحيان، كان يُقال عن هذه الجمعيات الأخوية المنتمية إلى الطبقة الوسطى، التي لها أهداف جمعية، إنها مختلفة كثيرًا في الشكل والمضمون عن الجمعيات القومية اللاحقة، التي كانت أهدافها فيلولوجية وتاريخية وفلكلورية، رغم وجود بعض التداخل في حالاتٍ عديدة؛ لذلك، فإن كثيرًا من الجمعيات الوطنية التي ظهرت في الدنمارك أثناء القرن الثامن عشر كانت مُخَصَّص ﻟ «الإصلاح» القومي في مجالاتٍ عملية مثل الزراعة والصحة والتجارة، مقارنةً بالحركة القومية في القرن التاسع عشر التي هدفت إلى تجديد النسيج الثقافي والاجتماعي للأمة، ورغم ذلك يمكننا بالقدر نفسه أن نقول إن هذا لم يمثل إلا مرحلةً أولى من مراحل تطوُّر الإحساس بالهُوية القومية، حتى وإن تطلب الأمر حركة تاريخانية لاحقة متمثلة في «القومية» كي تكتمل تلك العملية بنجاح.14
ينبغي بلا شكٍّ توضيح فرق مهم ومفيد بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة؛ فكما رأينا في البداية، فإن مفهوم الدولة يشير إلى مجموعةٍ من المؤسسات المستقلة في إقليمٍ معين، في حين أن الأمة تشير إلى أحد أنواع المجتمعات الثقافية والتاريخية. وصحيحٌ أيضًا أنه على مدار قرون كان مصطلح «الوطنية» يشير إلى التعلق إما بمكان ميلاد المرء — سواء أكان حيًّا أم منطقة أم أرضًا — أو بالدولة المدينة، كما في إيطاليا العصور الوسطى، ومؤخرًا أصبح يشير إلى الولاء للدولة الإقليمية في حد ذاتها. من ناحيةٍ أخرى، في الحالتين الأخريين قد تتطابق الدولة ومجتمعها السياسي مع المجتمع الثقافي للأمة، ومن الصعب عمليًّا التمييز بين هذين النوعين من الولاء؛ فكثيرٌ من الأعضاء، لا سيَّما «العرقية» المسيطرة، لا يهتمون إلا قليلًا بالفرق التحليلي بين الدولة ومجتمعها السياسي وبين الأمة كمجتمع ثقافي عرقي. وهذا هو الوضع إلى حدٍّ بعيد في حالة فرنسا، فمع مرور الوقت اندمجت الدولة والأمة، بالإضافة إلى المجتمع السياسي والمجتمع الثقافي العرقي، لتصبح كلها وجهين لعملة واحدة، على الرغم من أن هذا كان على نحوٍ متزايد على حساب المجتمعات العرقية والأمم الأصغر حجمًا مثل البريتانيين والألزاسيين في «أمة فرنسا الكبرى»، أو الكتالانيين والباسكيين (البشكنج) في إسبانيا.15
إلا أن عدم الاكتفاء بالتمييز بين التصوُّر «العرقي» والتصوُّر «المدني» للأمة والميل إلى معارضة أحدهما بالآخر يجعل هذا الفرق مربكًا؛ فالتصوُّر العرقي يرى أن الأمة مجموعة ممتدة من ذوي القرابة، تربطهم روابط النسب، ويشتركون في ثقافةٍ سلفية مشتركة. في حين يرى التصوُّر المدني أن الأمة مجتمعٌ سياسي يضم مواطنين يعيشون في ظل الحكومة والقوانين نفسها في إقليمٍ معين، ويشتركون في القيم والمُثُل المشتركة، وهذا هو نوع التعريف الموجود في «الموسوعة». في أغلب الأحيان، تُعتبر فرنسا نموذجًا أوليًّا للأمة المدنية كمجتمع سياسي. إلا أنه في حقيقة الأمر، امتزج في فرنسا كلا النوعين من الارتباطات الجمعية، السياسية والثقافية التاريخية، وبحلول القرن الثامن عشر استهدفت الدولة الأرستقراطية والملكية، وساعدت أساطيرُ السلف المشترك المتمثل في بلاد الغال في إرساء «الوطن» على أساس أمة عرقية واحدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحاجة المتزايدة إلى التجانس الثقافي والتركيز الجديد على توحيد اللغة على أساس الفرنسية الباريسية أثناء الثورة، في محاولةٍ لإضعاف اللهجات والعادات المحلية، أرسيَا قواعد «الوطن» المدني وكوَّنا الأمة الفرنسية على أساس «العرقية» الواحدة الموحَّدة سياسيًّا. إن وجود قدرٍ من الهندسة الثقافية والاجتماعية لا يقلل من الامتزاج الفريد بين الهويات والمجتمعات الجمهورية المدنية والعرقية القومية.16
حتى الفرق بين وطنية الدول المدن والقومية العرقية الثقافية الذي وضَّحه فيرولي ليس واضحًا كما يقول؛ فكما رأينا في الفصل الرابع، كانت البندقية وفلورنسا تُعتبران في الغالب أمتين، داخل إيطاليا وخارجها، وحتى أثينا القديمة — كما أوضح إدوين كوهين — كان يرى أرسطو أنها تمثل أمةً بِناءً على حجمها ومساحتها بالإضافة إلى أساطير أصلها ونشأتها. والسبب في ذلك يرجع جزئيًّا إلى عاملٍ يظهر في سرد فيرولي، ألا وهو التركيز الشديد على التاريخ والأسلاف الأبطال وتضحيتهم في الصور الذاتية لمواطني الدول المدن. وهذا أيضًا سمة شائعة في معظم القوميات، وصفة بارزة في تعريف إرنست رينو الكلاسيكي للأمة.17

ومن ثَمَّ، في ظل القومية الجمهورية تندمج الأمة السياسية والثقافية لخدمة مجتمعٍ إقليمي يضم مواطنين ينصاعون للقوانين نفسها ويشتركون في القيم والمُثُل نفسها المتمثلة في الفضيلة وحب «الوطن». من وجهة نظر القوميين الجمهوريين، فإن الأرض مقسَّمة إلى أمم، لكلٍّ منها شخصيتها، وتاريخها، ومصيرها، وتسكن كلٌّ منها في وطنها التاريخي وتسعى إلى الوحدة والاستقلال الكامل كمجتمع سياسي يضم مواطنين متساوين. تُكوِّن الأمة وقوانينها المصدر الوحيد للسلطة السياسية، ولا يوجد وجود خارج الأمة. ولا يمكن تحقيق الحرية الحقيقية إلا من خلال الانتماء للأمة والمشاركة في حياتها ومن خلال التعليم العلماني الذي سوف يغرس في النفوس الحب الشديد للوطن، وتاريخه، ورموزه، وقِيَمه ومُثُله. إرادة الأمة هي أعلى محكمة استئنافٍ، وهي مصدر كل الخيرات؛ وهذا يعني أن نوع الحُكم يجب أن يكون جمهوريًّا وديمقراطيًّا في نهاية المطاف كي يُجسِّد ويُعبِّر عن سيادة الشعب ومجتمع المواطنين بأكمله.

(٣) دين علماني؟

إذًا لقد قدَّمت القومية الجمهورية سردًا علمانيًّا صِرفًا للمواطنة والتضامن السياسي. إن إصرارها على تأسيس مجتمع الأمة على أساس المصالح والاحتياجات البشرية وحدها، على النقيض من القانون الإلهي أو قوانين الطبيعة، دَعَّمَ مُثُلها المدنية والجمهورية. ولعل الأهم من ذلك أنها أكَّدت على الحاجة إلى الثورة من خلال التحرُّر الذاتي الجمعي وقدرة البشر في كل مكان على تنظيم نوعٍ من المجتمع عقلاني وأكثر مثالية. ومن هذا المنطلق، فإن كل الأفراد في كل مجتمع يستطيعون إعادة تشكيل المجتمع، وينبغي أن يُشكلوه على أساس المبادئ العلمانية الجديدة المتمثلة في الحرية والسيادة الشعبية والوطنية. ومن الناحية العملية، كان معنى ذلك أن كل الشعوب تستطيع — ومنوطٌ بها — الإطاحة بالحُكام الطغاة و«الأنظمة القديمة»، والقضاء على الجهل وخرافات رجال الدين، وتعليم شبابها فضائل الإخاء والوطنية، وتحفيز مواطنيها على المشاركة السياسية الفعَّالة، وغرس الرغبة في تجديد المجتمع والدفاع عنه ضد أعدائه الخارجيين وأعدائه في الداخل.

من ثَمَّ، ظهرت أيديولوجية الأمة الفاعلة — إنْ لم تكن المقاتلة — وهي تلك الأمة التي تأَسَّسَت كما قلت على مبادئ علمانية بحتة تتمثل في عقلانية البشر وإرادتهم وتضامنهم. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن المعتقد قد يكون علمانيًّا، فإن تطبيق هذه الأيديولوجية يتشابه للغاية مع الأديان التي من المفترض أن تحل محلها. ولم يكن الأمر مجرد استحضار هذه المبادئ العلمانية للورع والخشية المرتبطَين ﺑ «الدين»، أو أن الأيديولوجية العلمانية في بداية عهدها، كما رأينا، كانت ترتدي عباءةً دينية مُقترَضة. لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير؛ فالقوميون الجمهوريون في إطار سعيهم لاستبدال المسيحية التقليدية التي تمثل أساس المجتمع، تبنَّوْا إلهًا إقصائيًّا ومتطلبًا مثل الرب الذي سعَوْا إلى الإطاحة به. وأثناء تحويل الأمة نفسها إلى المعبود والمبجل الوحيد، خلقت القومية الجمهورية دينًا علمانيًّا جديدًا يقوم على التجمع المقدس للشعب ويعج برموزه الخاصة المتعلقة بالشرف والتعبُّد، مثل: الشعارات، والأعلام، والعملات المعدنية، والتقاويم، والأناشيد، والمواكب، والأقسام، والقوانين، ومراسم إحياء الذكرى والاحتفال، والأكاديميات القومية، والمتاحف والمكتبات القومية، وكل لوازم المؤسسات والتصنيفات التي توحِّد المواطنين وتميِّزهم عن الغرباء. وكما تقول عريضة مثيري الاضطرابات الصادرة عام ١٧٩٢ فإن: «الأمة هي الإله الوحيد المسموح بعبادته.»18
هذا الدين القائم على العمل الجمعي العلماني كانت تدعمه افتراضاتٌ أساسية معينة متعلقة بنوع المجتمع الذي يمكن أن يكون مَقصِدًا لأفراده العاملين. في البداية، بناءً على قول روسو المأثور الذي ينص على أن كل شعب لا بد أن تكون له شخصيته المميزة، فقد أصبح من الأمور المُسلَّم بصحتها أن سيادة الشعب لا يمكن ترقُّبها إلا من شعبٍ يتسم بأنه مجتمع بشري خاص ومميز، وهذا أحد التقسيمات الأساسية للبشر. بطبيعة الحال، كل شعبٍ لا بد أن يملك سيادته وأن يصبح المصدر الوحيد للقانون والمواطنة، لكن الشعب يصبح فرعًا إنسانيًّا تاريخيًّا ومستقلًّا من خلال ترسيخ التقاليد والأعراف والعادات الخاصة به، ومن خلال بطولة الأجيال المتعاقبة من أفراده وتضحيتهم بأنفسهم. وعبَّر هذان الأمران معًا عن «عبقرية» الشعب، وهذه فكرة تعود على الأقل إلى اللورد شافتسبيري وبولينجبروك، وطوَّرها مونتسكيو لتصبح (روح) الأمة. وفي حين أن الروح التبشيرية ﻟ «الوطنيين» الفرنسيين عقب عام ١٧٩٢ أصرَّت على استنساخ نموذج ثورتها بمفاهيمها عن السيادة الشعبية والمواطنة في الأراضي والشعوب التي احتلتها الجيوش الثورية، فإنها رغم ذلك قبلت الاختلافات بين الشعوب والأمم، وشخصياتهم وأعرافهم وعاداتهم وتواريخهم المميزة. وكل ما رغب فيه هؤلاء الوطنيون هو منح «الشعوب الخاضعة لهم» الحرية والسيادة التي حرمهم إياها الملوك والكهنة والنبلاء.19
عزَّزَت الاختلافاتُ في اللغة والثقافة الشخصيةَ المميزة للشعوب والأمم. ولم يكن الاهتمام باللغة ناتجًا عن الرومانسية الألمانية فحسب على الرغم من تأثير هيردر في أوروبا الشرقية وجزر البلقان؛ فمنذ الترجمات الأولى للكتاب المقدس التي زادت في القرن السادس عشر من خلال انتشار الطباعة بين العوام، أصبحت اللغة شأنًا سياسيًّا، وإن كان ذلك على نحوٍ غير مباشرٍ في البداية. بالتأكيد، بحلول القرن السابع عشر، أسهمت نُسَخ الكتاب المقدس المكتوبة وكتب الصلاة المكتوبة باللغات العامية في إبراز وتحديد الشخصيات المميزة للأمم، لا سيَّما في الدول البروتستانتية. أُكملَ التحوُّلُ إلى العامية في النصوص الدينية بنشأة قانونٍ أدبي أكثر علمانيةً على يد الشعراء والمسرحيين والمؤرخين والفلاسفة المحليين. وكان انتشار الأدب المحلي والجمهور القادر على قراءته جزءًا من تقديرٍ أوسع نطاقًا للتراث والأعمال الفنية والذكريات والقيم والمؤسسات القومية المميزة، باختصارٍ كان تقديرًا للثقافة الخاصة بكل أمة. وكانت اللغة قد برزت بالفعل كعاملٍ في المقاطعات الشمالية المقسَّمة في هولندا، بتمييزها بين الهولنديين الشرقيين والغربيين، لكنها مَثَّلَت مشكلةً خاصة بالنسبة إلى اليعاقبة الذين سعَوْا إلى تكوين فرنسا مُوحَّدة مُكوَّنة من مقاطعاتها المختلطة؛ الجمهورية الموحَّدة غير القابلة للتقسيم داخل «حدودها الطبيعية»؛ ومن ثَمَّ، كان تقرير أبي جريجوار عن اللهجات الفرنسية، حيث قال بضرورة التخلص من اللهجات لأنها تدعم التقاليد والأعراف والمؤسسات المحلية لمقاطعات فرنسا المختلفة؛ ومن ثَمَّ تُعِيق الوحدة اللغوية والثقافية للجمهورية. وهذا يعني أنه نظرًا للافتراض القائل إن العالم مُكوَّن من أمم ودول قومية مستقلة، فسرعان ما أصبح واضحًا أن الوحدة القومية في الجمهورية تعتمد على الوحدة الثقافية والتجانس اللغوي.20
إنَّ سعي القومية الجمهورية الحثيث للتخلص من وجود «الأمم داخل الأمم» كان موضحًا على نحوٍ بَيِّن في معاملة الثورة الفرنسية ونابليون لليهود في فرنسا؛ إذ كانوا يرَوْن أن اليهود مجتمع عرقي أجنبي ومنحط؛ ولذلك فقد كان واضحًا أنهم إذا مُنحوا مزايا وفوائد «الحضارة» الفرنسية فإنهم سوف يُحرَّرون من معوقاتهم التقليدية وكذلك من هُويَّتهم العرقية المقيِّدة و«الضيقة». ولكي يصبح اليهود مواطنين في الجمهورية كان لزامًا أن يُخَلِّصوا «دينهم» من «الهُوية العرقية» التي طالما كان مرتبطًا بها، بصفته دينَ بني إسرائيل (أو يعقوب)، ويمارسوه فقط كأفراد في حياتهم الخاصة منذ تلك اللحظة، وكان لزامًا عليهم أيضًا أن يتخلَّوا عن وجودهم المستقل إلى حدٍّ بعيد، إن لم يكن غير المتكافئ والبائس، كمجتمعٍ يهودي مستقل، ليحصلوا على المساواة العامة «كأفراد» ومواطنين داخل الدولة القومية الفرنسية، ومن ثمَّ يصبحوا مواطنين فرنسيين من النوع «الإسرائيلي». علاوةً على ذلك، فإن التاريخ الذي سوف يتعلمونه ويعتنقونه، ومن بعدهم كثيرٌ من الشعوب الخاضعة للاستعمار الفرنسي، لن يكون التاريخ المقدس لشعبهم بدايةً من إبراهيم وحتى راشي وموسى بن ميمون، بل التاريخ الفرنسي بدايةً من فيرسانجيتوريكس — أو ربما كلوفيس — وحتى نابليون. ومع الوقت، كان مأمولًا أن يرى أحفادهم أنهم منحدرون من نسل الغاليين، وتحل محل هُويَّتهم العرقية التقليدية هُويةٌ قومية علمانية جديدة. والصراعات الحديثة المتعلقة بالمهاجرين المسلمين تؤكِّد الالتزام الفرنسي الواضح بالعلمانية، وكذلك الأساسَ العرقي الثقافي المضمر للقومية الجمهورية المدنية.21
وهذا يوضح أن القومية الجمهورية، في بدايتها على الأقل، لم تعتمد فقط على الوحدة الثقافية للأمة التي تسعى إلى تحريرها من الطغيان والخرافة، بل اعتمدت أيضًا على الأساس العرقي لتلك الأمة. وكان هذا الأمر ينطبق على الأمريكيين مثلما كان ينطبق على الفرنسيين؛ فالسود، سواءٌ أكانوا عبيدًا أم أحرارًا، اعتبروا أنهم يُكوِّنون فئة عرقية — عنصرية في هذه الحالة — منفصلة، واستغرق الأمرُ قرونًا من الصراع والتظاهر لقَبولهم كأمريكيين كاملين. علاوةً على ذلك، فحتى في صفوف البيض كان الأساس العرقي الأنجلوسكسوني والسيطرة الأنجلوسكسونية على الأمة الأمريكية الناشئة مقبولًا إلى حدٍّ بعيد. تعكس هذه الأمثلة أهمية العنصر العرقي في القومية الجمهورية، ومن ثَمَّ تقلل من التناقض الشائع بين القومية «المدنية» والقومية «العرقية» (لكن ليس الفرق بينهما).22
توجد صفتان إضافيتان للقومية الجمهورية توضحان طابعها كدين «يهتم بالعالم المادي» أو ﮐ «دين علماني»؛ الصفة الأولى: هي عبادة أتباعها للأرض كإقليم تاريخي، وكأرض «الأسلاف» وأرض الميلاد. كما رأينا، فإن المشاعر المرتبطة بأرض الوطن لها تاريخ طويل يعود إلى «قصة سنوحي» في مصر القديمة، والمزامير، لا سيَّما المزمور ١٣٧، وفي الأغاني التي تتحدث عن جمال جوقات اليونان القديمة المعروفة باسم «هيلاس» في مآسي سوفوكليس ويوريبيديس. والاعتراف بالسمات المميزة للمناظر الطبيعية الحضرية والريفية يظهر مجددًا في النهضة الإيطالية، لا سيَّما في الرسومات الفلمنكية والهولندية؛ حيث بدأت تتخذ طابعًا قوميًّا. وفي الرسم والشعر البريطاني والفرنسي والسويسري في القرن الثامن عشر، بدأ الطابع القومي للمناظر الطبيعية لتلك الدول يبرز على سبيل المثال من خلال شعر هالر عن جبال الألب، ومن خلال الشعراء الإنجليز أمثال جراي وطومسون وأوائل الرسَّامين البريطانيين الذين استخدموا الألوان المائية؛ كوزنز وجيرتن وساندبي. ولا شك أن الرومانسية جعلت هذه التوجهات والمشاعر رائجة ومنتشرة في مطلع القرن، وعزَّزَت الاهتمام القومي ومجَّدت الفلاحين وأسلوب حياتهم الريفي.23
على الرغم من ذلك، فإن الحاجة المصاحبة إلى الوحدة القومية أسهمت أيضًا في عبادة الوطن. من ناحية، فقد مالت إلى أنْ تجمع داخل نطاق الجمهورية مناطقَ مختلفة غالبًا، من خلال كلٍّ من إدارة المسئولين ومشاركة الأفراد من كل المقاطعات في الجيش والمدارس والمهرجانات العامة وسياسة المركز. ومن ناحيةٍ أخرى، فقد أسست رمزية «فرنسا» على سبيل المثال، ومفاهيمها المتعلقة ﺑ «الحدود الطبيعية» للأمة، ومن ثَمَّ إدراك الأهمية السياسية للجبال والأنهار والسواحل وما شابه ذلك في تحديد الحدود وطبيعة الأمة نفسها. ونظرًا لميوعة مثل هذه التصوُّرات، بالإضافة إلى الظروف السياسية المتغيرة باستمرار، فمن غير المفاجئ أن تلك الحاجة إلى الوحدة القومية قدَّمت ذرائع ومحفزات أخرى للصراعات والحروب على الحدود، كما في حالة الألزاس واللورين وفي حالة مدينتَي تريستى وفيومى. إلا أن القَبول السريع الذي حازته تلك الصراعات لدى كثيرٍ من الناس يشهد على الطابع شبه المقدس للتصوُّر القومي للوطن وحدوده، وهذا موضوعٌ قدَّمه قوميون جمهوريون مؤمنون بأفكار حسية وعقلانية متعلقة بالمجتمع القومي ومكانته في عالم من الأمم المتجانسة.24
كانت صفة التقديس للوطن واضحةً بصفةٍ خاصة في ارتباطها ببطولة قتلى الحرب: الأرض والأموات. وعلى الرغم من أن موضوعات التضحية الجماعية ليست بجديدةٍ بالمرة، فحتى عصر الإصلاح كانت التضحية البطولية تُرى إلى حدٍّ بعيد في الملوك والفرسان المجاهدين الفرادى أو في القديسين الشهداء، باستثناء حالات التضحية الجماعية في اسكتلندا وسويسرا وإسبانيا. وبدأت أفكار حب «الوطن» والتضحية من أجله تتسلل إلى الشعر والنثر الفرنسي في القرن الخامس عشر، وتَبَنَّت إنجلترا وهولندا تلك الأفكار، لا سيَّما في تبجيل ويليام الصامت في القرن السابع عشر في هولندا. وبحلول القرن الثامن عشر، بدأت عبادة تقليد الأبطال تربط المجتمع القومي بقائمة أسماء الرجال العظماء، لا سيَّما محاربي العصور الوسطى ورجالها الوطنيين أمثال دو جيكلان، وبايارد، وتيل، وألفريد، وأُكمِلَتْ تلك القائمة بالأبطال المعاصرين مثل الجنرال وولف. إلا أن القومية الجمهورية هي من طَوَّرَت هذا التفسير ووسَّعت أهميته الشعبية إلى حدٍّ بعيد. ومنذ منتصف القرن، طالبَ الفلاسفة والمروِّجون والنقاد الفرنسيون كلًّا من القادة والشعب على حدٍّ سواء أن يُحاكوا شجاعة ووطنية الأبطال القدماء أمثال ليونيداس وسقراط وسكيفولا وسكيبيو، واقتبسوا علاوةً على ذلك أعمال الفضائل المدنية والتضحية بالذات التي قام بها هؤلاء الأبطال. وأضافت الثورة أعدادًا من شهدائها المعاصرين — رجالًا أمثال لو بيلتييه ومارا — وابتكرت تكريمًا لهم مراسمَ ورموزًا وعباداتٍ شبه دينية، استخدمها «الوطنيون» ليبثوا في نفوس الشعب الأخلاق الصارمة المطلوبة من المواطنين في المجتمع القومي الذي وُلد من جديد. وأصبح تبجيل تجربة الحرب والتضحية القومية لكلٍّ من الأفراد والجماعات شريان الحياة للأمة الجمهورية الذي من خلاله يمكن لمجتمعاتٍ معينة ولأديانها المدنية أن تتجدد باستمرار؛ مما يُحَوِّل الهزيمة والنكسة إلى فوزٍ وانتصار.25
بطبيعة الحال، لم يكن تبجيل الأموات المَجِيدين مقتصرًا على الجمهوريات أو القوميات المدنية؛ ففي أعقاب مذبحة الحرب الكبرى، شعر كثيرٌ من أبناء الشعب البريتوني أنهم في حاجةٍ إلى نُصب تذكاري دائم لقتلى الحرب، وحَرَصوا على أن يظل النصب التذكاري الذي صمَّمه لاتيونز وشُيد لموكب ١٩١٩ تكريمًا دائمًا لذكرى قتلى الحرب. على هذا النحو، يمكن أن تتضح الدلالة الرمزية للشخصية الشعبية لأمم بريطانيا ويُعبَّر عنها على نحوٍ مبجل من خلال المراسم السنوية ليوم إحياء الذكرى. ورغم ذلك، فقد سارت بريطانيا في هذا الصدد على خُطى فرنسا وغيرها من الدول التي حملت راية القيادة، بعد أن أقرَّت الديمقراطية لاحقًا في أمتها التي كانت هرمية وعهدية في السابق. إن النموذج الجمهوري المدني من القومية هو ما ساعد في خلق رموز ومراسم لإحياء ذكرى الوطنيين الذين قُتِلوا في الحروب من أجل الأمة الجمهورية، وكان أول من عبَّر عن شخصيتها الشعبية والعلمانية، ومن ثَمَّ خلقَ نوعًا جديدًا من الدين «العلماني» المناسب لمجتمع المواطنين المقدس، نوعًا كان من الممكن تصديره إلى الأمم الجمهورية الأخرى المُحتمَلة.26

(٤) الاختيار الشعبي: المهمة العلمانية

تُمثل القومية الجمهورية نوعًا من التناقض؛ فمن ناحية، نجد أن محتوى عقيدتها علماني على نحوٍ جذري، ويُرَكِّز على احتياجات المواطنين، والتزامهم بالقانون، وترسيخ الفضيلة والوطنية. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن ممارسة أيديولوجيتها دينية على نحوٍ حماسي. إن نمط ثقافتها العامة، وتبجيلها للوطن، وتبجيلها لقتلى الحرب؛ تُقدِّم جميعًا صورة شركة مقدسة يقوم بها المواطنون في طقوس ومراسم عامة، وكذلك من خلال قوانين وتقاليد ورموز ومؤسسات. وبالمثل، فيما يخص القومية الجمهورية، فإن «الأمة» (مقارنةً ﺑ «دولتها») تعتبر شركة علمانية ذات أعراف وتقاليد، ولغة وثقافة محليتين، ووطن متوارث عن الأسلاف، وتاريخ وطقس عام يتمثل في بطولة التضحية بالذات؛ بَيْدَ أن هذه الصفات نفسها تساعد أيضًا في تحويلها إلى فئة دينية، وشركة مقدسة للشعب؛ ومن ثَمَّ تصبح شيئًا محل تبجيل ديني وعبادة شعبية.

كان هذا التحوُّل متأثرًا بقوةٍ بتقليد الاختيار العرقي الطويل والمؤثر. لقد رأينا ذلك بالفعل في القرن السابع عشر، حيث نقلت البروتستانتية الراديكالية صفة الاختيار من الملك ومملكته إلى مجتمع الأمة المؤمنة والمختارة. والآن، أصبح مثالُ السيادة الشعبية ممتزجًا بمثال الاختيار العرقي للأمة الجمهورية المكوَّنة من كل أفرادها بصرف النظر عن المكانة أو الثروة؛ ونتيجةً لذلك سعت القومية الجمهورية إلى رفع منزلة كلٍّ من الأشخاص العاديين أو «عامة الشعب» وشعب بعينه، أي مجتمع مقدس محدد، وهذه شخصية مزدوجة وضَّحها جيدًا تصوُّر جروندفيج عن الشخصية الشعبية للشعب الدنماركي في القرن التاسع عشر، أو عن مثال أنصار السلافية المتمثل في الشركة المقدسة للشعب الروسي. وهذا يساعد أيضًا في تفسير الشخصية الانعكاسية الذات للقومية الجمهورية، وإصرارها على العبادة الجمعية لذاتها كمجتمع حصري، ومتفوق غالبًا على غيره، واثق من شخصيته وصفاته الفريدة.27
كشفَ هذه الشخصيةَ المثالية للأمة الجمهورية وعزَّزَها دورُها الفريد ومهمتها الفريدة اللذان يُكمِلان عادةً ذكرياتها الأسطورية عن العصور الذهبية. ومن المُحتمَل أن تتمثل مهمتها في أن تسطع كمنارةٍ للحضارة أو كمَجمعٍ للثقافة، أو أن تُجسِّد مثالًا للتفوق العسكري، أو أن تُقدِّم مثالًا للتكامل الاجتماعي أو التقدُّم الصناعي. وأيًّا كان مجال تميُّز الأمة، فإن كل أمة يمكنها أن تبرر — ولو في نظرها على أقل تقدير — مكانتها الخاصة في الإطار الأخلاقي للعالم بأسره من خلال أسطورة عن شخصيتها الفريدة ودورها الفريد في التاريخ، كما هي الحال مع أسطورة الثورة الفرنسية التي تُقدِّم فرنسا على أنها أمة الحرية والإخاء التي تجلب لغيرها بركات النظام الجديد. والأهم من ذلك أن أفراد الأمة من الممكن أن يجدوا الراحة والفخر في مهمتها الخاصة، ومن المُحتمَل أن يكونوا واثقين من مصيرها الجمعي؛ مما يحقق قدرًا من الخلود من خلال معرفة أن الأجيال القادمة ستستمر في إكمال الدور المميز للأمة مع «تقدمها» عبر الزمن إلى المستقبل غير المعلوم. وفي كل الأوقات، سواء الجيدة أو السيئة، ستنكشف القيمة الأساسية للأمة من خلال مهمتها الممنوحة من الرب أو المُوكَلة من التاريخ.28
انطلاقًا من هذا، ليس من الصعب معرفة السبب في ضرورة أن تصبح الأمة محل عبادة، أو في ضرورة أن تتخذ المراسم العامة طابعًا مقدسًا ومبجلًا بصفتها «أفعال عبادة»، كتلك الواضحة للغاية في مهرجانات الثورة الفرنسية الكبيرة أو في الاحتفالات القديمة بيوم الطالب الألماني. إلا أنه مع تكوُّن أمم جديدة في القرنين التاسع عشر والعشرين، شعر قادة تلك الأمم ومناصرو أيديولوجياتها بأنهم يحتاجون إلى تكوين طقوس عامة مشابهة، وأن يبثوا في نفوس أفراد الأمة مشاعر العبادة والتبجيل الدينية المشابهة لمشاعر الأديان التقليدية. ومن خلال الرموز السياسية والمراسم الجماعية المصمَّمة، وتماثيل الأبطال، ومواقع الاحتفال وإحياء الذكرى، سعَوْا إلى خلق نوعٍ من التاريخ الجمعي والمصير الجَمعي لأمةٍ خالدة، وفي الوقت نفسه متطورة، عبر الزمن من أجل تحقيق مهمتها التاريخية. وهذه هي الحال إلى حدٍّ بعيد في ألمانيا القرن التاسع عشر التي وثَّقَ جورج موسيه مهرجاناتها وآثارها، لكننا نجد طقوسًا واحتفالاتٍ مشابهةً في فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها في أواخر القرن التاسع عشر. وتحقيقًا لتلك الغاية، لَقِيَ المعماريون والفنانون والموسيقيون والشعراء تشجيعًا على خلق صور وآثار حيَّة للأمة تستحضر جلالها وحقيقتها الخَيِّرة والموجودة في كل مكان، بحيث يجعلون ما هو عام ومجرد بالضرورة محددًا وملموسًا. وفي هذا الصدد أيضًا، قلَّدت القومية الأديان التقليدية؛ فمثلما كشفت الأديان عن الرب من خلال القوانين الإلهية والأيقونات، كذلك رأى القوميون أن الأمة يمكن إدراكها من خلال قوانين الأشخاص أصحاب السيادة، ومن خلال الصور التي يقدمها الفنانون والكُتَّاب في هذه الأمة. ومثلما دمجت الأديان التقليدية الأفراد في مجتمع المؤمنين، سعى أيضًا دين القومية العلماني إلى استيعاب الفرد في مجتمع المواطنين المقدس وثقافته التاريخية المدنية.29

(٥) سلف القومية الجمهورية

لا يظهر هذا الارتباط الوثيق بين إعلاء مكانة الشعب صاحب السيادة والمهمة العلمانية للأمة على نحوٍ أكثر وضوحًا إلا في فرنسا الحديثة. بطبيعة الحال، كانت فكرة أن الفرنسيين «شعب مختار» شائعةً في العصور الوسطى وما بعدها. أما ما كان جديدًا فهو انتقال هذا المعتقد من مملكة فرنسا إلى الشعب الفرنسي المتمثل في مواطني الجمهورية المتآخين؛ فبينما مثَّل الشعبُ الفرنسي في العصور السابقة أمةً مختارة، من حيث إنهم يشكِّلون الجزء الرئيسي من المملكة الفرنسية ورعايا «الملك الأكثر مسيحيةً» وليس أكثر من ذلك، فأثناء الثورة الفرنسية لم يصبح الشعب والأمة كفكرةٍ منفصلين عن الملك والمملكة فحسب، بل أعلى منهما مكانةً، وبعد عام ١٧٩٢ أصبحوا وحدهم مَن يحملون صفة «الاختيار» في النموذج العلماني الحديث من الإرادة والحرية والفضيلة القومية. ولم يكن هذا التحوُّل مفاجئًا. بالفعل في عهد لويس الرابع عشر، كانت فكرة فرنسا كأمةِ حضارةٍ ومجدٍ مرتبطةً بعبادة ملك الشمس؛ مما وضع معايير الذوق والثقافة لغيرها من دول الملكية المطلقة في أوروبا. وخلال القرن الثامن عشر، كانت فكرة الأمة ﮐ «شعب» و«مجتمع» قد اكتسبت شعبية، وتحرَّرت من ارتباطاتها بالإله والملك على حدٍّ سواء. إلا أنه على الرغم من هذا الإعداد المفاهيمي، فإن الأيديولوجية القومية الجمهورية المتعلقة بالإرادة القومية والحرية الشعبية كانت جديدةً في محتواها ونطاقها؛ إذ إنها رأت أن الأمة هي المصدر الوحيد والأصلي لكل القوانين والسيادة، أو كما قال القس سييس في أوائل ١٧٨٩:
توجد الأمة قبل كل الأشياء وهي أصل كل شيء. إرادتها قانونية دائمًا، وهي القانون نفسه … الأمم على الأرض يجب أن تُعتبر أفرادًا خارج الرباط الاجتماعي، أو كما يُقال، أفرادًا في وضع الطبيعة. إن ممارستها لإرادتها حرة ومستقلة عن كل الأنواع المدنية. ونظرًا لوجود إرادتها في النظام الطبيعي فقط، فإنها تحتاج فحسب إلى امتلاك الخصائص «الطبيعية» للإرادة كي تؤثر تأثيرها الكامل. وأيًّا كانت طريقة تعبير الأمة عن إرادتها، فإنه يكفي أنها تريد؛ فكل الأشكال مشروعة وإرادتها هي دائمًا القانون الأعلى.30
كان اليعاقبة، بصفةٍ خاصة، يَعتبرون مُثُل الحرية والفضيلة و«الوطن» مُثُلًا مقدسة. لكنهم لم يكونوا هم الوحيدين؛ فمن وجهة نظر كثيرٍ من الأشخاص، كانت الأمة جزءًا من النظام الطبيعي وأساس الحياة الاجتماعية والسياسية، والنظير العلماني للإله، وكانت الثورة تُمكِّن الرجال من التكريم والعبادة على مذبح ذلك الإله المُقلَّد. لاحَظ ماركيز دو كوندورسيه في ذلك الوقت الصفة الدينية للثورة فقال:
ثورتنا دين، وروبسبيير قائد طائفة دينية في هذا الصدد. إنه كاهن مسئول عن عباده.31
ومن هنا كانت الحاجة إلى التخلص من الأديان المنافسة، وسحق أي علامات لإحياء الكاثوليكية، لا سيَّما في ثورة فونديه الممتدة. إلا أن روبسبيير في بداية عام ١٧٩٤ كان قد بدأ، للسبب نفسه، في تحجيم حملته المسعورة الهادفة إلى اجتثاث المسيحية التي شنَّها أتباعه الأكثر تطرفًا، وحاول ترسيخ الثورة من خلال تأسيس دين علماني للكائن الأسمى الذي يرى كلَّ شيء، على أن يحتفل به في مهرجان شعبي مصمَّم بعناية في يونيو ١٧٩٤.32
على مدار القرن التالي، شهد الدينُ العلماني للقومية الجمهورية الفرنسية دعمًا على نحوٍ متكرر، على الرغم من تحدِّي النزعة المحافظة الكاثوليكية له في أغلب الأحيان، وفي البداية كان هذا الدعم منبثقًا عن سياسات نابليون ومؤسساته، ولاحقًا كان نابعًا من الحملة العلمانية الصارمة للجمهورية الثالثة، وتحديدًا في مجال التعليم الجماعي والتماثيل الأثرية والطقوس العامة. وكما وَثَّقَ إريك هوبزبوم على نحوٍ واضح، ففي هذه الفترة كان مثال الأمة الفرنسية العلمانية التي تضم كل مواطنيها يُرَوَّج له من خلال العَلَم، ومن خلال تبنِّي النشيد الوطني الفرنسي «لامارسييز»، وتأسيس مقبرة العظماء «البانثيون»، واختيار يوم الباستيل كإجازة قومية. وعلى الرغم من الصراعات الشديدة بين المحافظين الملكيين والكاثوليك والجمهوريين العلمانيين الراديكاليين، فقد ظل نموذج القومية الغالب في فرنسا أثناء الفترة الحديثة علمانيًّا وجمهوريًّا بالأساس، لا سيَّما أثناء قضية دريفيوس وفي منتصف القرن العشرين. وحتى وقتنا الحاضر، يمكننا رؤية سعي النُّخبة السياسية وراء هذه المُثُل من خلال التوجُّه العدائي تجاه العرض العام للممارسات الإسلامية وغيرها من الممارسات الدينية، لا سيَّما في المدارس. وما زالت مُثُل اليعاقبة المتمثلة في العلمانية والحرية و«الوطن» تجد أصداءً قوية في الصعيد السياسي والاجتماعي والرمزي، كما تُذكرنا المراسم العلمانية الصِّرفة ليوم الباستيل.33

في كل أنحاء أوروبا خلال القرن التاسع عشر، ساعدَ مثالُ أوروبا ودينها العلماني المتمثل في القومية الجمهورية في تحويل مزيجٍ من دول الملكية المطلقة وإمارات صغيرة الشأن إلى جمهوريات قومية سيادية متشابهة ظاهريًّا تقوم على مبادئ القانون والمواطنة والتعليم العلماني. كان نجاح نابليون يعود جزئيًّا إلى جاذبية تلك المبادئ الجمهورية الثورية، وما تبع ذلك من إصدار لدساتير علمانية تقوم على المواطنة والحرية المدنية وحُكم القانون، لا سيَّما في الولايات الألمانية والبلدان المنخفضة وسويسرا. وفي سويسرا، تأسست الجمعية الهيلفيتية عام ١٧٦٢، وبتأثير من يوهان ياكوب بودمر وتلميذيه ألبرشت فون هالر ويوهان ياكوب برايتينجر، ازداد ربطُ أعضاء هذه الجمعية مُثُلَ التنوير والتقدم بشخصية «الاتحاد السويسري القديم» ومصيره.

لذلك، فإن فرض فرنسا الثورية للجمهورية الهيلفيتية عام ١٧٩٨ — على الرغم من أنه مثَّل تحوُّلًا اجتماعيًّا بارزًا عند حلول الوطنيين الراديكاليين المنتمين للطبقة الوسطى محل حكومات الأقلية في بيرن وزيورخ وغيرهما من المدن — يمكن النظر إليه على أنه النهاية المنطقية لتاريخٍ طويل من مقاومة سويسرا للطغيان وإيمانها بالحرية. وكنتيجةٍ جزئية للمناخ الدولي بعد سقوط نابليون، وأيضًا بسبب افتقار الجمهورية الهيلفيتية للدعم الشعبي الكافي، فسرعان ما حلَّ محلها أنظمة محافظة، لكن «امتزاج الدستورية الديمقراطية والقومية الشعبية» منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر أدَّى في نهاية المطاف، بعد الحرب الأهلية القصيرة بين الكانتونات البروتستانتية والكانتونات الكاثوليكية عام ١٨٤٧، إلى انتصار الجمهوريين الراديكاليين وتبنِّي الدستور الفيدرالي السويسري لعام ١٨٤٨.34
وعلى النحو نفسه اتبعت غالبية النُّخبة المثقفة اليونانية، وكذلك كثيرٌ من التجار والمهنيين اليونانيين، إيوسيبوس مويسيوداكس وأدامانتيوس كورائيس رغبةً في جمهورية قومية علمانية لليونان المُجدَّدة التي تستحق أسلافها القدامى، والتي شُبِّهت كثيرًا بأثينا القديمة وديمقراطيتها؛ ومن ثَمَّ، كانت الرغبة في لغةٍ يونانية نقية مجردة من الإضافات الأجنبية، والعودة إلى التعليم العلماني المعتمِد على الكلاسيكيات القديمة، من أجل تأهيل اليونانيين المعاصرين للمشاركة السياسية في جمهوريةٍ ديمقراطية واستعادة اليونان لموقعها الثقافي الريادي. لقد كان أملًا بدا من الممكن تحقيقه من خلال مواطنة الدولة الهيلينية الصغيرة التي كوَّنتها القوى العظمى عام ١٨٣٢، على الرغم من مكانتها السابقة كمملكة دستورية؛ لأن نُخبتها كانت ملتزمة بمُثُل التنوير المتمثلة في العقل والحرية وحُكم القانون، وببرنامج تعليم يوناني علماني.35
لم يكن التأثير الجمهوري مقتصرًا على أوروبا؛ فبعد قرنٍ في تركيا المجاورة ظهرت مجددًا وبشدةٍ الروح الجمهورية في الدستور العلماني والسياسات العلمانية اللذين اقترحهما مصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن العشرين. وبالإضافة إلى إلغاء كلٍّ من السلطنة والخلافة، فرضت حكومة أتاتورك برنامجًا للتحديث متوافقًا كثيرًا مع الحضارة الغربية التي كانت فرنسا الجمهورية تُعتبر المثال الريادي فيها. وكان ضياء جوكالب المُنظِّر الرئيسي للنظام متأثرًا كثيرًا بالفلسفة الوضعية لأوجست كونت والعلمانية الراديكالية المرتبطة بها. وكان التعليم يُعتبر مفتاحًا لكلٍّ من المواطنة والمجتمع القومي المتماسك القادر على أن ينافس على قدم المساواة القوى الغربية الرائدة. وكانت المبادئ الجمهورية قويةً بصفةٍ خاصة بين العسكريين المهنيين الذين ظلوا حُراسًا للقومية العلمانية الراديكالية وللدولة حتى اليوم الحاضر، وظلوا يشتبهون في أي تعاليم إسلامية بين الأحزاب السياسية. واتبعوا بدقةٍ المثالَ الفرنسي، على الرغم من الوضع الاجتماعي والثقافي المختلف، واضعين الدولة فوق المجتمع واختلافاته الدينية والعرقية، وأثبتوا في ذلك نجاحًا كبيرًا حتى وقتنا الحاضر، ربما بسبب غياب التقليد الثوري، وأيضًا بسبب القيود الدولية المساهمة.36
أخيرًا، كان التأثير الفرنسي، لا سيَّما نموذجه الجمهوري العلماني، متغلغلًا في كثيرٍ من الدول الناطقة بالفرنسية الموجودة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ولا شك أن هذا حفَّزه إلى حدٍّ بعيدٍ الاستعمارُ الفرنسي والتقاليد الثقافية لنُخبته. إلا أنه أثناء عصر الحركات القومية النُّخبوية الساعية إلى الاستقلال، كانت خطابات الرجال أمثال سيكو توري وليوبولد سنجور، وشعارات وأهداف الحركات السياسية في المستعمرات الفرنسية، تَعِجُّ بمُثُل روسو واليعاقبة المتمثلة في العقد الاجتماعي والحرية والديمقراطية والمساواة والمواطنة. مرةً أخرى، ارتبطت تلك المُثُل ببرنامجٍ تعليمي (رغم أنه كان للنُّخبة فقط عادةً)، وكان تعليمًا علمانيًّا وإنسانيًّا على الرغم من التأثير القوي للبعثات المسيحية في هذا المجال. علاوةً على ذلك، فإن الحاجة إلى تأسيس «الأمة المزمعة» على الأرض التي كانت مستعمرةً في السابق، والتغلب على الانقسامات العرقية العميقة في الدول الجديدة؛ جعلت القوميةَ الجمهورية العلمانية الأساسَ الأيديولوجي الوحيد الممكن والواقعي للدول الأفريقية الجديدة، وجعلت الأمةَ الجمهورية المدنية النموذجَ الوحيد الشمولي والمشروع للمجتمع السياسي الحديث. وعلى الرغم من أن الوعي العرقي والوحدة الأفريقية (وأيديولوجية الزنوجة في بعض الأراضي الفرنسية) مَثَّلا عوامل جذب، فإن أشكال التضامن القومي والمُثُل السياسية السائدة في دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الجديدة اقتُبست في الأساس من تقاليد روسو والثورة الفرنسية التي رَوَّجتْها الجمهورية الثالثة (أو اقتُبست من لوك وميل في المستعمرات البريطانية)، وخضعت للتعديل مع مرور الوقت بتأثيرٍ من الرموز والطقوس والمعتقدات الأفريقية.37

خاتمة

اخترقت الأمةُ الجمهوريةُ المدنية — بوصفها نموذجًا للمجتمع السياسي الحديث — معظمَ أنحاء الكوكب، وأصبح نموذج القومية العلمانية مرجعًا تقريبًا — لكلٍّ من المجتمعات القومية ودولها ولكثيرٍ من مُنظِّري الأمم والقومية. ومن وجهة نظر المشاركين، فإن السبب في ذلك لا يقتصر على قوة الأمة الجمهورية المدنية وأفكارها وممارساتها وارتباطها بالمجتمعات الحديثة، لكنه يعود أيضًا إلى قوة صفتها الدينية وجاذبيتها العاطفية. وكما أوضحتُ في الفصل الرابع، فإن التراث الجمهوري المدني للعالم اليوناني الروماني جمعَ بين البُعد العلماني والبُعد الديني في «الدولة المدينة» القديمة، وهما البُعدان المتمثلان في العقد المُبرَم من قِبل البشر ولأجلهم، والمحروس والمقدس من قِبل الآلهة، والمُحتفى به في الأساطير المدنية والطقوس والمهرجانات؛ تلك الثنائية الواضحة أيضًا في نظائرها الإيطالية والشمالية في العصور الوسطى. حدث إحياءُ التراث القديم على نحوٍ متعمَّد إلى حدٍّ ما، على يد «الفلاسفة» أثناء بحثهم عن نماذج لمجتمعٍ غير هَرمي وللتضامن العلماني. وتبنَّوْا هم وأتباعُهم في فرنسا وغيرها من الدول دينًا علمانيًّا يقوم على التقدُّم البشري والحرية والفضيلة وإعمال العقل، ذلك الدين الذي تمثَّل مظهره السياسي الطبيعي في الجمهورية الحرة التي تضم مواطنين متساوين تربطهم المُثُل المشتركة وتقاليد الولاء بالأمة صاحبة السيادة؛ وهذا بدوره تطلَّب من أعضاء الأمة خلق ثقافة قومية مشتركة ومميزة، وتأسيس «دين مدني» للوطنية يتكوَّن من المعتقدات والممارسات المشتركة، مع التعبير عن الرموز السياسية والذكريات والأساطير والقيم من خلال التماثيل التذكارية، والأدب، والموسيقى الوطنية، وفوق ذلك كله من خلال المهرجانات والمراسم العامة. في هذه المظاهر السياسية والثقافية والمؤسسية القوية، يكمن السبب وراء القدْر الكبير من الجاذبية والاستمرارية اللتين تتمتع بهما الأمة الجمهورية وقوميتها العلمانية والإقليمية.38
السببُ الثاني لنجاحها العالمي هو سهولة نشرها لكل أنواع المجتمعات من خلال النُّخبة المثقفة العلمانية. كثيرٌ من المُنظِّرين لاحظوا الدور الريادي للمفكرين والمهنيين في نشر القومية العلمانية وفكرة الأمة الجمهورية المرتبطة بها، ولعلَّ السبب في ذلك يرجع إلى أنها تُقدِّم بيئة مواتية لطموحاتهم ومواهبهم التي لم تُظهِر المجتمعاتُ التقليدية أيَّ اهتمامٍ أو استخدامٍ لها. إلا أن العملية الفعلية المتمثلة في «وضع الأيديولوجية» للأمة الجمهورية العلمانية من خلال التحديد المميِّز لمُثُلها المميَّزة المتمثلة في الاستقلال والوحدة والهُوية وتكوين نموذج جاهز يمكن نقله؛ كانت هي أساسَ الدور التحويلي الذي لعبه كلٌّ من القومية العالمية وناقليها الرئيسيين المتمثلين في النُّخبة المثقفة في تحديث المجتمعات. وفي تلك الأثناء، أصبحت أيديولوجية «القومية» منفصلةً عن أشكالٍ تاريخية معينة من المجتمع القومي، بما في ذلك الأمة الجمهورية نفسها في نهاية المطاف.39

رغم ذلك كله، يجب أن نتذكر أن هذه الأيديولوجية الجمهورية كانت مجرد نوعٍ من أنواع القوميات الحديثة، وأنها قدَّمت نوعًا واحدًا فحسب من النماذج القومية، وعلى الرغم من نجاحها، فإنها لم تكن خاليةً من المشاكل والنواقص. وفي هذا الصدد، كان من الممكن أن تقدم قوميات العهد القديمة بديلًا لها. وحتى الأيديولوجية غير المُفصَّلة المتمثلة في الأمة الهرمية، كان من الممكن تبَنِّيها في مجتمعاتٍ سياسية في العالم الحديث. وهنا تكمن أسبابُ الاختلاف والصراع، وهذه البدائل الحديثة هي ما ألتفتُ إليه في الفصل الأخير من الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤