تصدير

نشأت فكرة وضع هذا المعجم أثناء قراءتي لبعض كتب الفلسفة والعلوم الاجتماعية الحديثة؛ تمهيدًا لترجمة بعضها، أو أثناء ترجمة بعضها، إذ كنت أصادف مصطلحات فلسفية كثيرة لا تتضمنها المعاجم الفلسفية الكلاسيكية، ولكن الكُتَّاب المحدثين يستعملونها بكثرة، أحيانًا ببعض حرج ينم عليه وضعُها بين علامات تنصيص مفردة أو مزدوجة؛ للدلالة إما على أنها قلقة ولم يستقر معناها بعد، وإما على أنها ليست مناسبة أو متفقة مع الدلالة المنشودة، وهو ما يسمى scare quotes، وأحيانًا من دون حرج كأنما أصبحت ذوات معان ثابتة معروفة، وإن لم تُدرج في أي معجم عام حديث، ويزيد الطين بلةً أن تكون بعض هذه المصطلحات مستعارة من لغة أجنبية، أي غير لغة النص، وهو الذي أفسره؛ إما بأن الكاتب لا يأمن ترجمته لها، وإما بأنه يريد الظهور بمظهر العليم بلغات كثيرة ويستخدم مفرداتها باطمئنان في تفكيره وكتابته. ولا أقصد بهذه الفئة التعابير الاصطلاحية التي دخلت الإنجليزية من لغات أخرى، أوروبية وغير أوروبية، فأصبح المثقفون يستخدمونها باعتبارها تَنَجْلَزَتْ، على نحو ما يستعمل بعضنا كلمات أجنبية في حديثه بالعربية الدارجة؛ إما لشيوعها، وإما رغبة منه في إظهار معرفته بلغات كثيرة، ولا أظن أننا أصبحنا نعترض على ذلك بعد أن تَعَرَّبَ الكثير من هذه التعابير الاصطلاحية أو الكلمات، ولكننا لا شك نضيق بمن يتعمد الدَّسَّ بألفاظ أجنبية لا لزوم لها بسبب وجود مرادفات عربية أدق وأجمل.

وقصارى القول: إننا اعتدنا أن يذكر من يكتب شيئًا عن الفلسفة الألمانية (بوجه خاص) كلمات ألمانية لا يثق في مقابلات لها بلغته (الإنجليزية مثلًا)؛ بل وكثيرًا ما نصادف كلمات وعبارات من اللاتينية واليونانية القديمة (من دون ترجمة)، ناهيك بالكلمات المستعارة من اللغات الأوروبية الحديثة. والحق أن مترجمي كتب الفلسفة الألمانية إلى الإنجليزية خصوصًا لا يألون جهدًا في توفير المعاجم المصغرة الملحقة بكتبهم المترجمة، أو إضافة هوامش وحواش كثيرة تشرح أمثال تلك العبارات، خصوصًا إذا كانت تستخدم في غير معناها المعجمي، وسوف يجد القارئ في متن هذا الكتاب مناقشات مستفيضة لبعض مصطلحات هايديجر الخلافية، وعروضًا للاختلافات الشديدة بين المترجمين الإنجليز في فهمها، ومن ثم في ترجمتها. وأعتقد أن هذه المناقشات والعروض سوف تلقى هوًى في نفوس عشاق اللغة — كل لغة وأي لغة — إلى جانب فائدتها في إيضاح معنى ما يقرءونه بلغة أجنبية أو في ترجمتها العربية.

ولما كان هايديجر قد اشتهر بأنه فيلسوف يصعب فهمه (إن لم يتعذر) فقد شاقني التحدي وقررت أن أحاول أن أفهمه، وبعد أن قضيت عامًا أو بعض عام في الدرس أحببت أن أثبت على الورق ما فهمته منه، على الرغم من إدراكي أنني أقرأ ترجمات قد لا تكون دقيقة في كل الأحوال، ولكنني سألت نفسي: هل تَعَلَّمَ الألمانية قراءُ هايديجر في بلدان العالم المختلفة حتى يفهموه؟ وأردفتُه بسؤالٍ أهم: هل اتفق الألمان الذين قرءوه بلغته الأصلية على فَهْمٍ مُوَحَّدٍ له؟ ولما كانت إجابة السؤالين بالنفي قررت ألا يُقعدني عدم إتقان الألمانية عن قراءته ومحاولة فهمه، مستعينًا في ذلك بِشُرَّاحِهِ الكثيرين، وبأكثر من ترجمة واحدة للنص الهايديجري، إذا توافرت، في تحليل مقاصده ومراميه، على نحو ما يجد القارئ في تحليلي لبعض مصطلحاته الأساسية في متن هذا الكتاب.

هذا الكتاب إذن يمثل جهدًا عربيًّا لفهم هايديجر وتقديمه إلى القارئ العربي، وهو يعتمد على نصوص منتقاة من هايديجر؛ من كتاباته المترجمة إلى الإنجليزية، وهي بالغة الكثرة، ونصوص كَتَبها شُرَّاحُهُ المعاصرون من أساتذة الفلسفة، وإيضاحات من جانبي اهتداءً بهذه النصوص وتلك، ومعنى ذلك كله أنني أرفض القول بأن هايديجر «لا يُفهم»، ولذلك كتبت عدة صفحات عن معنى الفهم، الذي يعتبر فرعًا من فروع الهرمانيوطيقا الحديثة، وأود أن أقول في هذا الصدد: إن الكاتب إذا كان يتعمد ألا يُفْهَمَ فلا حاجةَ لَنَا بما يقوله ولو كان يقدم دُرَرَ الحكمة، أما إذا كان يكتب كتابة تبدو عسيرة الفهم بسبب غرابة صوغها أو غرابة مادتها، فللقارئ أن يقرر إن كان مرادُه جديرًا ببذل الجهد لفهمه أم لا؟ وذلك متوقعٌ من المترجم أيضًا، فله أن يتخذ قرارًا مماثلًا، كما أذكر في المقدمة بصفة عامة، وأضرب الأمثلة اللازمة لإيضاح هذه الفكرة في الفصل الأول.

وبعدُ، فهذه مجموعة من مصطلحات الفلسفة الوجودية عند مارتن هايديجر، أردت بها أن أعين الدارس والمترجم في المستقبل على قراءة هذا الفيلسوف الذي وصفتُه بالشاعر، حسبما وصفه أحد أساتذة الفلسفة المعاصرين، وأن أُعين المترجم أيضًا على خوض كلامه بلغته أو بلغة مترجمة عنه.

ولا بد لي أن أُقِرَّ بالفضل للأستاذة الدكتورة ناهد الديب أستاذة اللغة الألمانية بآداب القاهرة على النظر في ترجماتي الألمانية وتدقيق معاني كثير من الألفاظ والمصطلحات الخاصة بهذا الفيلسوف، فلها مني جزيل الشكر والامتنان.

ولا يفوتني في هذا التصدير أن أعبر عن امتناني للعلامة ماهر شفيق فريد، الذي أدرك النص قبل أن يذهب إلى المطبعة في آخر عام ٢٠١٦م فقرأه واقترح بعض التعديلات التي أخذت بها، أثناء زيارته القصيرة إلى مصر في شتاء عام ٢٠١٧م.

وليسمح لي القارئ أن أضيف كلمة حزن شخصية على فراق زوجتي الدكتورة نهاد صليحة التي وافاها الأجل والكتاب في المطبعة، يوم ٦ يناير ٢٠١٧م، فتركت فراغًا في الحركة المسرحية العربية، وهوة عميقة لا يملؤها شيء في حياتي وحياة كل من أحبها وعرفته وعرفها، وعزائي أنها في جنة الخلد، وندعو الله أن نلحق بها في نعيمه.

محمد عناني
القاهرة، ٢٠١٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤