مقدمة

كان القصد من هذا الكتاب — كما ذكرت في التصدير — أن يكون ثَبَتًا بمصطلحات مارتن هايديجر (Martin Heidegger) الفيلسوف الألماني الذي شغل الناس بأفكاره، والدارسين بأسلوبه، والمترجمين بمصطلحاته الجديدة، إذ سَكَّهَا سكًّا للتعبير عن رؤى يراها ولا يشاركه فيها إلا القليل من تلاميذه، ولكنني رأيت أن أرفق بالمصطلحات دراسة تساعد على إيضاح ما غمض منها أو ما يصعب على المترجم إيجاد مرادف دقيق يعادله معادلة كاملة، وهو ما يفسر حفول كتابات النقاد الغربيين عنه بكلمات ألمانية، الأمر الذي اضْطُرِرْتُ معه إلى إدراج هذه الكلمات الألمانية في المعجم، وشرحها وفق استخدام هايديجر لها، إلى جانب الإشارة إلى معانيها المعجمية إذا كانت تختلف عن المعاني التي يريدها هايديجر.
وأتولَّى في الفصل الأول إلقاء الضوء على معنى الفهم، وشرح ما شاع عن هايديجر من شذوذ أسلوبي وغرابة لغوية بصفة عامة، ضاربًا المثل بمصطلح من مصطلحاته الخاصة، مقدمًا له ترجمة ارتضيتها بعد عناءٍ في الدرس، ومكابدةٍ في التحليل، قبل أن أعرض في فصول الكتاب التالية لمحات عن حياته وعمله وفكره، خصوصًا بسبب الخلاف حول موقعه في الفلسفة الحديثة، وحول إمكان فهمه حتى لدى المتخصصين في الفلسفة، وما يترتب على ذلك كله من جدوى معرفة ما أسهم به في الفكر الحديث، وخصوصًا «الوجودية» التي يعتبر عَلمًا من أعلامها مع كيركجارد (Kierkegaard) الدنماركي وجان بول سارتر (Sartre) الفرنسي.
ويقول الفيلسوف المعاصر مارك راذول (Wrathall) في كتابه عن هايديجر (٢٠٠٦م): إن الغموض الذي يتسم به أسلوب هايديجر يرجع في جانب كبير منه إلى أن هايديجر «يحاول أن يفعل شيئًا ليس في طوق لغتنا العادية أن تفعله، ألا وهو الحديث عن أهم المعالم الأساسية لوجودنا» ويضيف راذول قائلًا:

«تتسم اللغة العادية بالقدرة اللازمة للحديث عن كل ما هو عادي من الأشياء والأحداث والخبرات، وكثيرًا ما يحتاج الشعراء إلى إرهاق اللغة العادية إرهاقًا شديدًا للتعبير عن خبرات غير عادية، ومع ذلك فنحن، على الرغم من ذلك، نشعر بوجود أشياء لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ. وكان هايديجر يرى أن مهمته — باعتباره فيلسوفًا — تشبه إلى حد بعيد مهمة الشاعر، وكان على استعداد «لتعذيب» اللغة الألمانية حتى يساعدنا على فهم الخبرات والأشياء التي يتعذر نقلها بألفاظ ومفاهيم … وكان هايديجر يقول: إن الفهم يدور في دائرة، فنحن نهتدي بوصف المؤلف للإحاطة بالموضوع المطروح، ثم نستخدم إحاطتنا بذلك الموضوع مفتاحًا لفك شفرة وصف المؤلف. وفي انتقالنا المتكرر ما بين الوصف والشيء الموصوف، يزداد فهمنا ثراء لهما معًا، وعلينا أن نتبع هذا النهج على وجه الدقة في قراءة هايديجر.»

(راذول، ٢٠٠٦م، ص٨–٩)

قضية الغموض

ولكن القارئ من حقه أن يسأل سؤالين لا تقل أهمية أحدهما عن الآخر؛ الأول يقول: ألا ينبغي للكاتب أن يكفل الوضوح لكتابته حتى يضمن الوصول إلى القارئ بفكره ما دام يرى أن هذا الفكر جدير بالوصول إلى الناس؟ والسؤال الثاني يقول: ألا ينبغي للمترجم أن يزن فكر المفكر أولًا في ميزان القيم الإنسانية، فإن وجده ذا قيمة عليا تُبَرِّرُ بذل الجهد في سبيل نقله قام بالترجمة وتحمل مشاقها، وإلا انصرف عنه إلى ما هو جدير حقًّا بالنقل؟ فالسؤال الأول موجه لكل كاتب؛ بل ولكل شاعر مهما يبلغ عمق رؤيته لمادته الشعرية، فالكاتب يخاطب الناس، وما دام زادُهُ فكريًّا فلا بد من وضوح الفكر حتى يصل إلى الناس، وأما الشاعر فلديه من فنون القول ما قد يُبَرِّرُ بعض غموضه؛ كالصور الحسية وجرس الألفاظ وإيقاع النظم، فالشعر بطبيعته فن لغوي ذو جماليات لا يُطالَبُ بها المفكر، وأما السؤال الثاني فهو موجه لكل مترجم، وتعريف المترجم وفق النظريات الحديثة يضعه في موقع الكاتب؛ بل والمبدع إذا كان يترجم الشعر، فليس مجرد ناقل «آلي»؛ بل صائغٌ لفكر غيره بلغة أخرى، وهو أيضًا ناقدٌ ينظر في فكر المفكر وفي شعر الشاعر، وينتقي — وفق أحكامه — ما يجدر بالترجمة، وهو يقوم بعمل مزدوج وشاق، إذ إن عليه أن يصدر ضمنًا «حكم قيمة»، ثم يقرر كيف يعيد صوغ ما فهمه بلغة أخرى تضمن فهم القارئ له، والقرار هنا إذن ذو شقين؛ الشق الأول: هو حكم القيمة، والثاني: خاص بأسلوب الصوغ، وهو شق يتضمن تحديد القارئ المتوقع (المثالي أو المحتمل) ومن ثم تحديد المستوى اللغوي الذي يخاطبه به.

فإذا طبقنا هذا الكلام على هايديجر، وجدنا أن معظم المترجمين العرب لم يجدوا فيه القيمة العليا التي تُلْزِمُهُمْ ببذل الجهد، اعتمادًا على الترجمات الإنجليزية والفرنسية لكتاباته، وخصوصًا آراء الكثير من النقاد الذين لا يكترثون للفكر المجرد ويعتبرون الفلسفة عملًا فكريًّا لا طائل من ورائه، خصوصًا فروع الفلسفة غير العملية أو غير التطبيقية.

ولذلك لم أدهش لقلة ما كُتب عن هايديجر باللغة العربية بعد أربعين عامًا من رحيله، ناهيك عن نُدرة ما تُرجم من أعماله إلى هذه اللغة، ولكنني في الأعوام الأخيرة شُغلت بترجمة كتابات نقدية وفلسفية كثيرة، معظمها نظري وتجريدي، ولاحظت مدى تأثير فكر هايديجر في العديد من الفلاسفة المحدثين الذين أثْرَوْا ساحة العلوم الإنسانية بنظرات عميقة دفعتنا دفعًا إلى تغيير بعض مفاهيمنا للنقد والأدب واللغة، ومن ثم قررت أن أحاول أن أفهم باعتباري مترجمًا — وفق التعريف الذي أوردته آنفًا للمترجم — ما يقوله هايديجر، معتمدًا على ترجمات كثيرة لما كتبه، ما دمت لا أحيط من الألمانية إلا بالقليل، ووجدتني أواجه مفكرًا بالغ العمق، استوعب الفلسفة الغربية برمتها، ووضع ما وضعه من نظرات على أسس تربط تراث الإنسانية الفلسفي بعضه بالبعض، وتدفعنا دفعًا إلى تأمل جوانب كثيرة من حياتنا، عادة ما نمر بها مرور الكرام، ووجدت أن هايديجر يحقق إلى حد كبير مهمة الفيلسوف التي وصفها كبار الفلاسفة؛ أي الإسهام في وعي الإنسان بذاته باعتباره إنسانًا له وجود في عالمه الخاص والعالم العام.

وأما صعوبة أسلوب هايديجر فترجع إلى تفرد رؤاه، وقد استعضت عن النص الألماني في حالات كثيرة بأكثر من ترجمة لنص واحد، مثل ترجمة الوجود والزمن (١٩٦٢م) والتي درجنا على اعتبارها النص المعتمد (على تعقيده الشديد) وترجمة الكتاب نفسه بعد ذلك في عام (٢٠١٠م)، وهما ترجمتان تختلفان في الصياغة وتتفقان في الدلالات الأساسية، وكنت أقارن الصياغات وصولًا إلى لب المعاني المشتركة، والواقع أن القرن الحادي والعشرين قد أتى لنا في مستهله بزادٍ وفير من شروح هايديجر، وهي شروح لا تكتفي بمجردات الفيلسوف؛ بل تأتي بالأمثلة التي قد تكون ملائمة وقد لا تكون ملائمة، ولكنها على أية حال تفتح أكثر من باب لفهم تأملاته الفريدة. وهكذا آليت على نفسي أن أسهم بما فهمته من شُرَّاحِهِ وممن تأثروا به، وعلى رأسهم جادامر (Gadamer) تلميذه المباشر، وكذلك من أثروا فيه وعلى رأسهم أستاذه هوسرل (Husserl). وأرجو أن أوفق في تقديم خلاصة ما فهمته عسى أن يفتح الطريق لغيري ممن يجيدون الألمانية؛ حتى يضيفوا إلى المكتبة العربية ما يمكن لغير المتخصص في الفلسفة أن يفهمه، فأنا مؤمن بالمثل الأعلى للكاتب الواضح، أستاذنا زكي نجيب محمود، ومن سار على دربه محاولًا تقديم الفكر الفلسفي للقارئ غير المتخصص، مثل الدكتور أنور مغيث، الذي يدرك أهمية الفلسفة لحياتنا، باعتبارها علم التفكير، مثلما أثبته ويثبته الشاعر والقاص والمترجم الدكتور عبد الرشيد المحمودي، ابن جيلي الذي عاصر مولد لغة الفلسفة العربية الحديثة، وهي التي درجنا عليها وأحببناها، فكتاباته شاهدة على حياة الفصحى المعاصرة، وذلك ما يثبته امتياز دارسي الفلسفة في الكتابة وفي الفكر وفي الأدب، ويكفي أن أذكر الكاتب الذي أصبح أيضًا مترجمًا عظيمًا لأنه مفكر عظيم، وهو فؤاد زكريا، والكاتب الملهم عبد الغفار مكاوي، ومصطفى لبيب، ومحمود رجب — رحمهم الله — وغيرهم ممن «ينتظر، وما بدلوا تبديلًا».
علمني زكي نجيب محمود فن التروِّي والتمهل في الكتابة، حتى أدرب ذهني على الانتقال السلس من فكرة إلى فكرة، حتى ولو كنت أترجم كاتبًا لم يبذل الجهد الكافي لتوضيح فكره، فالمترجم هنا، كما كان يقول، يشارك الكاتب في فكره ويختلف عنه في مخاطبة قراء قد لا يعرف الكثيرُ منهم مصطلحات الفلسفة التجريدية، وعلى المترجم ألا يخاطب نفسه، بل أن يتصور دائمًا أنه في حالة حوار أو محادثة مع القارئ، وهو المذهب الذي نادى به جادامر، تلميذ هايديجر، في كتابه الأعظم الحقيقة والمنهج، مثلما نادى بضرورة «الاستنارة» بالتراث، مثلما فعل زكي نجيب محمود، فأنار الحاضر بالماضي، وأنار الماضي بالحاضر، مثبتًا رؤيةً هايديجريةً أصيلة لوحدة الزمن.

وبعدُ، فأرجو ألا يقسو أساتذة الفلسفة في الحكم على هذا الجهد المتواضع من جانب غير متخصص اجتذبته كتابات الشاعر الفيلسوف أو الفيلسوف الشاعر، وأظنني أضفت إلى مداخله المعتمدة فرعًا أو فرعين من واقع تخصصي في الأدب الإنجليزي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤