حواشي المعجم

alētheia
هذه كلمة من اللغة اليونانية القديمة بمعنى «الحقيقة»، واشتقاق الكلمة يجعلها تعني الكشف، وكان هايديجر يعتقد أن جميع الأنواع الأخرى للحقيقة (مثل الحقيقة المقدمة في مقولات صادقة) أنواع سطحية إن قورنت بهذا الكشف، وتقول حجته: إن الأنواع الأخرى لا يثبت صدقها إلا إذا صدقت المقولات، والمقولات لا تصدق إلا استنادًا إلى الفهم المسبق للوجود والكائنات، ومن ثَمَّ فإن الكشف يقدم الحقيقة الجوهرية لوجودنا، ويوازيها بالعربية معنى أقرب إلى بنائها الصرفي وهو إماطة اللثام (unconcealment).
Angst
الكلمة ألمانية وعادة ما تُشرح باعتبارها مرادفةً للقلق أو التوتر، ولكنها تترجم أيضًا أحيانًا بدرجة من درجات الخوف المبهم. انظر anxiety.
anticipation
المعنى الأول لها عند هايديجر هو «الاستباق» (إلى جانب معناها العام في اللغة الإنجليزية القريب من «التوقع») وهايديجر يستعمل لتقديم معناها الكلمة الألمانية Vorlaufen وهي التي تعني حرفيًّا «الاستباق» أو «السبق» وحسْب، خصوصًا في قوله: إن الموقف الأصيل (authentic) تجاه الموت هو استباقه، أو حرفيًّا «التقدم عليه بخطوة». ويختلف هذا المعنى عن توقع الموت، فمعنى التوقع تخيل وقوعه، وأما استباقه فيعني أنني لا أنظر إليه باعتباره حدثًا فعليًّا، بل باعتباره إمكانية دائمة، وهو يعبر عن هذا المعنى بقوله: إنه الاستباق المستمر لإمكان استحالة الوجود استحالة مطلقة. وعلى ضوء هذا التهديد غير المحدد والدائم، نجد أن جميع العلاقات والارتباطات اليومية عاجزة عن توفير الأمن للحياة، ومن ثَم فهي تفقد أي نفوذ مسيطر لها على حياة المرء. وهو يستخدم كلمة أخرى في تعريف الأصالة وهي الحزم العزم (resoluteness) قائلًا: إن ذلك يتطلب الاستباق الواضح والدائم للموت، وإن «الحزم الاستباقي» يعتبر شكلًا أصيلًا من أشكال الاهتمام، بمعنى مكابدة الهَمِّ، وكلمة (care) التي يستخدمها المترجمون لترجمة هذا المعنى تحمل هذه الدلالة، ففي شيكسبير نقرأ:
Care keeps watch in the eyes of the old.
أي «يسهر الهم في عيون الشيوخ»، ويضيف هايديجر: إن هذا «الحزم الاستباقي» يوضح لنا ما يعنيه بالطابع الزمني للحضور (ص٣٥١ من الوجود والزمن)، بل يؤكد أنه الأساس «الأقصى» لفهم هذا الطابع الزمني، بمعنى أن الإنسان لا يعيش في لحظة ثابتة، بل في لحظة متحركة ما دامت تؤدي إلى لحظات، ولا بد لإدراك هذا الوجود في الزمن أن يستبق المرء ما سوف يحل في المستقبل. وأظن أن في هذا الشرح ردًّا على انتقاد «بولت» لحديث هايديجر عن الحزم والعزم (انظر الفقرة قبل الأخيرة من كلام بولت المترجم في آخر الفصل الأخير في متن الكتاب (ص١٧٦)).
anxiety
يستخدم هايديجر تعبير «القلق» (الوجود والزمن، ٢٣١) دون أن يحدد مصدرًا له سوى الكائنات كلها، بل والقلق على وجود المرء في العالم بصفة عامة (الوجود والزمن، ٢٣٣)، قائلًا: إنه عندما يستولي عليَّ فإنه يؤثر في نظرتي العامة لكل شيء. وهايديجر يعتبر القلق عامل «تنوير» أو حدث تنوير، ويصفه بأنه الطريق الملكي إلى الأصالة التي تلهم «الحضور» بأن يسأل عن معنى الوجود، ومعنى وجوده نفسه، وهذا كلام تجريدي يتطلب الشرح؛ إذ يقول هايديجر: إن المرء عندما يقلق أي عندما يشعر [واعيًا أو شبه واعٍ وحسب] بأن حياته تفتقر إلى الثبات، لأنها تتغير وتتذبذب أثناء سيرها الذي لا يتمهل، فإنه يدرك «العدم» الكامن في الوجود البشري والإمكانية الدائمة للموت وحتميته، وهكذا فإن هذا الشعور يصرفه عن عالمه اليومي ويجرد الوجود من معناه، ويجعل الطموح يبدو عبثًا والإنجازات بلا دلالة أو وزن يعتد به. وهكذا ينبغي للمرء حين يدهمه هذا الإحساس أن يحوله إلى دافع له على الوعي بما يقابله، ألا وهو أنه يتمتع بحرية باطنة تدفعه بدورها إلى التأمل الصادق لوجوده، أي إلى النظر في مواهبه وإمكاناته، وذلك ما يشبهه «واطس» بالألم الذي يدفع الفنان إلى الإبداع. أما دور الحرية الباطنة وصدق تقدير المرء لحاله فيدفعه مرة أخرى إلى بذل الجهد لتحقيق ذاته بعيدًا عما يفرضه الآخرون من حدود وقيود، إذ يتبين أن شتى القيود التي يفرضونها لن تفلح في إكسابه وجودًا له معنًى، أو في إنقاذه من الموت. ويرى هايديجر أن خبرة القلق خبرة أساسية لكل فيلسوف، لأنها تمكنه من الابتعاد عن تيار الحياة الرتيبة البليدة التي يفرضها العيش وسط الناس عليه، وتؤثر في تفكيره وقد تضره.
a priori
تعبير لاتيني يعني «ما سبق»، أو «ما أتى أولًا»، ويستعمله هايديجر في وصف فهمنا المبدئي الأوليِّ لطبيعتنا وطبيعة الكائنات من حولنا، من قبل أن يكتسب ذلك الفهم شكلًا فكريًّا أو نظريًّا [أي تأمليًّا]، وهو يقترب في معناه من الفهم الفطري الذي يمكننا من فهم العالم. ويدين هايديجر بهذا التصور للفيلسوف كانط الذي وضع أسس التمييز بين ما يولد به المرء من معارف أو خبرات وبين ما يكتسبه من المجتمع أثناء النمو، فالأولى معارف قَبْلِيَّةٌ (a priori)، والأخيرة مكتسبة أي بَعْدِيَّة (a posteriori)، والإيمان بوجود هذا التمييز من السمات التي اتسم بها الشعراء الرومانسيون، ومن بينهم الرومانسيون الإنجليز الذين تأثروا بالفكر الألماني في القرن الثامن عشر، ولكن استخدام a priori قد يعني «سلفًا» وحسب.
as-structure
«بناء البيان» أي البنية اللغوية التي تفيد اتفاق شيئين في الوظيفة أو الماهية، ويُتَرْجَمُ هذا البناء بصيغة «باعتباره»، والمفهوم أنها بيانية، وهو بناء لا يفيد المماهاة، أي تطابق الماهية بين شيئين، بل يفيد تطابق الاسم المعروف مع الوظيفة أو «الغرض» الذي يُستخدم فيه الشيء، وذلك يعتمد على فهمنا المباشر الذي يرجع إلى ما نعرفه سلفًا عن الشيء في بيئته أو عن طبعه الخاص. يقول هايديجر: إننا حين نصادف شيئًا ندرك فورًا ونعرف الغرض الذي يستخدم من أجله، فنقول مثلًا: إن «هذه صالحة باعتبارها مائدة» (الوجود والزمن، ص١٩٠) أي باعتبارها مكانًا يوضع الطعام فوقه، ويقول هايديجر: إن تعبير «باعتبارها» يفسر الغرض منها عمليًّا، وهو يصوغ العبارة على هذا النحو «من حيث الإمكانيات التي تتيحها لنا». ويقول هايديجر: إن تفسير هذا البناء الخاص يقوم على تفسيرنا الأزلي لعلاقتنا بالأشياء الحاضرة في محيط حياتنا اليومية، حيث نلاحظ أشياء تدلنا خبرتنا على السياقات الخاصة باستعمالها.
ويميز دارسو الهرمانيوطيقا بين هذا «البناء البياني» الذي يطلقون عليه تعبير thematic as أي «باعتباره البيانية»، وبين «البناء التفسيري» الذي يطلقون (prethematic as) أي «باعتباره التفسيرية»، وقد شرحتُ الفرق بينهما في متن الدراسة، في الفصل السادس (في ص٨٧).
Augenblick
لحظة الرؤية (انظر لحظة الرؤية moment of vision).
authenticity
الأصالة، يقول هايديجر: إن «الحضور» [أي الإنسان المهموم بقضية وجوده] يشعر بالقلق العميق حين يرى أن وجوده يمكن أن ينعدم في أية لحظة، فيتأمل الموت المحتوم ويتبين دلالة حياته، وبذلك تسيطر عليه حالة نفسية تتسم بما يسميه هايديجر «أسلوب الوجود الأصيل» ويعني به أن يتسلح بالعزم والحزم (عنصر الأصالة الأساسي) الذي يحرره من سيطرة الآخرين، بأن يعي طبيعة ذاته وإمكانياته في ضوء استباقه للموت، وبذلك «يختار أن يختار» أسلوب الحياة الخاص به (الوجود والزمن، ٣١٣–٣١٤)؛ إذ إن تحمله المسئولية عن حياته وموته يمكِّنه من أن يظفر بإدراك أصيل لحريته التي تتجلى في مجال الإمكانيات التي تتكشف له عندما ينجح في قهر أساليب الآخرين الذين يريدون أن يخضعوه لنسق حياة غير أصيل. وقد اتجه هايديجر في كتاباته الأخيرة إلى التقليل من دور الحرية الفردية أو الإرادة الشخصية التي يتمتع بها من يتمتع بالأصالة، وفق ما عبر عنه في الوجود والزمن، فأصبح يرى أن الأصالة تعني التسليم بالواقع الموجود والاطمئنان به، وغدا يعبر عنها بمصطلح Gelassenheit، أي السكينة النابعة من الإسلام للوجود، وهو ما يتفق مع عودة إحساسه الديني في آخر أيامه (انظر Gelassenheit).
bauen
فعل باللغة الألمانية يعني «يبني»، ولكن هايديجر يغير المعنى ويستبدل به معناه القديم، أي أن يرعى أو يربي أو يحفظ أو يغذو.
being
كلمة كائن (وجمعها) ومرادفتها كلمة كيان (entity) في المفرد والجمع، وهي تشير إلى أي حدث أو شيء، حي أو جماد، يتمتع بوجود من نوع ما. وهكذا فجميع الأشياء الموجودة — بشرية أو حيوانية، أو كراسي، أو أحجار، أو كواكب، أو ذرات أو جزيئات، أو عمليات كيميائية — يمكن أن يطلق عليها اسم الكائنات أو الكيانات.
Being
«الوجود»، ترجمة للكلمة الألمانية Sein، وهجاؤها في الكتابات الأخيرة لهايديجر هو Seyn. والاسم الألماني الأصلي للوجود das Sein المشتق من مصدر الفعل Sein، أي «أن يوجد» (to be)، ومن ثَم يقول بعض الشراح: إن الترجمة الحرفية للاسم das Sein هي «الذي [أن] يوجد» (المصدر المؤول من الوجود)؛ ولذلك فإن هايديجر يكتب الكلمة التي تعني الكائن بحرف صغير في بدايتها على الرغم من أن جميع الأسماء في اللغة الألمانية تكتب بحرف كبير في البداية، لكن هايديجر يحتفظ بالحرف الكبير للكلمة المجردة التي تعني حالة كون الشيء موجودًا. وذلك متعذر في العربية، ولذلك فلا بد من التمييز في السياق بين المجسد والمجرد، وهذا ما حرصت عليه في الترجمة. ويقول هايديجر بوجود نوعين من الوجود: الأول بشري، وهو الذي يسميه «الحضور»، والثاني غير بشري، ويشار إليه إما باعتباره «حاضرًا للاستعمال» أو «جاهزًا للاستعمال». وعامل الوجود المشترك هو الذي «يسكن» جميع الكيانات، وهو الذي يجعل وجودنا جزءًا لا يتجزأ من كل ما عداه، وبهذا المعنى فإن جميع الكائنات في الحقيقة متشابهة.
Being-in-the-world
«الوجود-في-العالم» خصيصة وجودية فطرية تشير إلى أن «الحضور» (أي الإنسان الواعي بوجوده) لديه قدرة على الفهم تسبق أية أفكار عن العالم وعن وحدته التي لا تتجزأ مع العالم، فهي جزء أصيل من كيان «الحضور»، أي إن «الحضور» يتمتع بقدرة فطرية على فهم نفسه والأشياء القائمة من حوله، والانتماء إليها، والاهتمام بها والقلق بشأنها.
Being-towards-death
الوجود السائر نحو الموت: يصف هايديجر طبيعة الإنسان الفاني بأنه وجود صائر إلى الموت قائلًا: «الحضور الحقائقي يوجد بمولده، وباعتباره مولودًا فإنه يكابد الموت سلفًا، بمعنى أنه كائن يسير نحو الموت» (الوجود والزمن، ص٣٧٣). ويرى هايديجر أن الوعي الأصيل بالفناء وسيلة أساسية تمكن «الحضور» من تحقيق أصالته. فهذا الوعي النابع من القلق على مصيره يدفعه إلى الاهتمام بحياته وأسلوب عيشه اهتمامًا أعمق وأجدى، نابذًا ما يمليه الآخرون عليه من طرائق العيش.
being-with
المُصاحَبَة. هذه خصيصة وجودية تشير إلى البعد الاجتماعي لوجود المرء الواعي بوجوده أي «الحضور» وتشكل عنصرًا أساسيًّا من وجوده في العالم.
the Between
اﻟ «ما بين». يتكلم هايديجر أحيانًا عن الشاعر باعتباره يشبه نصف إله، فهو وسيط بين البشر (الفانين) وبين الأرباب (أو الملائكة) فهو يقيم في أرض حَرَام بين البشر والأرباب، وينقل ما يلمح إليه الأرباب إلى الناس، حيث تتحدد هوية الإنسان، ويتحدد مصيره في هذا الأرض الحرام (هولدرلين وجوهر الشعر، ص٢٩٣ وما بعدها). ويقول: «إن الرعد والبرق هما لغة الأرباب والشاعر هو الشخص الذي عليه أن يعاني ويجمع هذه اللغة ويأتي بها إلى «حضور» الناس» (عن ترنيمة هولدرلين، في واطس، ٢٦٥). و«المابين» لا ترمز فقط إلى نقطة التلاقي والخط الفاصل بين الأرباب والبشر، بل تمثل أيضًا الحدود المطلقة للإمكانيات الإنسانية التي يبلغها الشاعر، فهي موقع مكاني وزمني؛ حيث تثار أهم الأسئلة وأكثرها إلحاحًا في صورة «السؤال المتعالي» الذي يقول: «ما أو من صاحب الوجود الذي يتجاوز الإنسانية؟» (المرجع نفسه). ومن ثم فإنه أيضًا «وسط» الوجود «الذي تخرج منه وتتكشف لنا من جديد تلك المملكة الكاملة من الكائنات والأرباب والبشر والأرض» (المرجع نفسه). وهكذا فإن «المابين» أو وسط الوجود يمكن النظر إليه باعتباره يمثل النقطة الوسطى بين الوجود والعدم، وهي من ثَم معادلة للقدرة أو الإمكانية، أي «الإمكانية التي تنتمي إلى الواقع الفعلي» (عن قصيدة هولدرلين ترنيمة «الذكرى»، واطس، ٢٦٥) بمعنى ما يمكن تحقيقه عمليًّا من خلال حرية الفعل. ويمثل المابين أيضًا نقطة الانتقال من الماضي إلى المستقبل، أي وسط الزمن. كما إنها تمثل المنطقة التي تكشف عن حركة «القدوم-إلى-الوجود» باعتبارها الحركة المضادة للعدم والطبيعة العابرة للوجود البشري. فهي لحظة تُقَيِّدُ الزمن بحيث تسمح لنا بالإحساس بالوجود والتغير المستمر (المرجع نفسه).
care
الهَمُّ، أو الفكر، أو الانشغال أشباه مترادفات تفيد اهتمام المرء بحقيقة وجوده، أي الانشغال بها، وذلك ما يجعل الإنسان «حضورًا»، «فالحضور» وفق تعريف هايديجر هو: الإنسان المهموم بوجوده، وهو يصر على أن ذلك أولى الخصائص التي تميز الإنسان عن سواه من الكائنات. وتعريف «الهم» غامض في كتابات هايديجر، ولكنه يلمح إلى أنه يتضمن الاهتمام بالآخرين أيضًا ورعايتهم، فهو يتجلى باعتباره من عواقب «الوجود-مع-الآخرين» أي في صورة مَدِّ يَدِ العَوْن لمن يحتاج إليه (الوجود والزمن، ص٨٣). وهو يتخذ صورتين، أو كما يقول، ينقسم إلى نمطين؛ النمط الأول: هو الرعاية المسيطرة، التي تهبط بمنزلة الآخرين إلى مستوى «الأتباع»، وهذا هو النمط غير الأصيل، والنمط الثاني: هو الأصيل الذي يتمثل في الرعاية التي تساعدهم على تحمل المسئولية عن وجودهم والاهتمام بأحوالهم (المنطق: بحث عن الحقيقة، ص٢٢٣، والترجمة من معجم هايديجر الذي وضعه إنوود Inwood عام ٢٠٠٠م، وانظر أيضًا الوجود والزمن، ص١٥٩). كما يميز هايديجر بين «الانشغال» الذي يبديه المرء في حياته العملية (Besorgen) وبين الاهتمام بمعنى حمل الهم الذي يورث القلق بسبب إدراك المرء أنه يسير نحو الموت، قائلًا: إن هذا الاهتمام يجعل «الحضور» نفسًا موحدة مستقلة (الوجود والزمن، ص٣٦٦ وما بعدها). ويقول: إن «الحضور» عندما يدخل مرحلة الوجود الأصيلة يصبح شغله الشاغل أنه كائن يسير نحو الموت. ويقول واطس (ص٢٦٦): على الرغم من أن «الهم» في الوجود والزمن يتعلق بصفة خاصة، فيما يبدو، بأسلوب الوجود الذي يتخذه الحضور، فإن هايديجر يؤكد فيما بعد أن الهم موجه «فقط من أجل الوجود، وليس هذا وجود الإنسان بل وجود الكائنات كلها بصفة عامة» (مساهمات في الفلسفة، ص١٦).
categories/ categorical
المقولات/الصفات القاطعة: يطلق هايديجر على الأبنية الأساسية للوجود «في الحضور» (أي عند كل إنسان يشغله وجوده) صفة الخصائص الوجودية (existentials)، وهو يقول: إن هذه مضادة للمقولات (categories) التي تشير إلى الأبنية الأساسية للوجود في الكائنات الأخرى (أي غير البشر). ويستخدم هايديجر تعبير «الوجودي» (existential) في الإشارة إلى أسلوب وجود «الحضور»، ولكنه يستخدم عبارة السمات القاطعة (categorical) في الإشارة إلى أسلوب الوجود الذي يميز الكائنات أو الكيانات التي يصادفها «الحضور» في العالم. ويقول هايديجر: إن «الحضور» بسبب «طبيعة سقوط الإنسان» (fallenness) أصبح ذا وعي مستغرق استغراقًا كاملًا في الكائنات التي يقابلها ويفسرها إلى الحد الذي جعله يفسر نفسه ويرى لها صورة مماثلة، وهكذا وقع «الحضور» في خطأ صور له أن أسلوب وجوده يقوم على المقولات أيضًا. ويقول واطس:
«إن أسلوب الوجود القائم على المقولات كان أساس الأنطولوجيا منذ عهد أرسطو، وقام هايديجر بقلبه رأسًا على عقب في كتابه الوجود والزمن. فمنذ عهد أرسطو والأنطولوجيا تحاولُ مخطئةً أن تصل إلى فهم المعنى الوجودي للكيان — أي فهم المعنى الوجودي لكيان «الحضور» — بطرح أسئلة تتعلق بالمقولات، وهو مدخل لا يناسب إلا التوصل إلى فهم المقولات التي يستند إليها أسلوب الوجود القائم على السمات القاطعة، الأمر الذي يعني أنه يختص بالكيانات الأخرى المختلفة عن «الحضور». وكان من نتائج ذلك أن أدت هذه التقاليد الفلسفية إلى تأكيد سوء الفهم الذاتي «للحضور»، وهو الذي ينشأ من خطأ افتراض تماهيه مع الوجود المبني على المقولات. ومن الأهداف الأساسية لتحليل هايديجر تحريرنا من هذه التقاليد الأنطولوجية، وهي التي تحول بيننا وبين الإدراك الأصيل لحقيقة كينونتنا.»
(واطس، فلسفة هايديجر، ٢٠١١م، ص٢٦٦)
circumspection
المعنى المعجمي للفظ هو اليقظة أو الحذر أو الحيطة، ولكن هايديجر يستعمله بمعنى التيقظ «المشارك» في كل ما حوله (لا الملاحظة الموضوعية أو غير المشاركة فيما يحيط بالمرء). ويقول: إن الدافع إلى ذلك هو الاهتمامات أو الأنشطة العملية. وهكذا فإن اليقظة تساعدنا على إدراك العلاقات بين الأشياء التي نستخدمها في حياتنا اليومية.
clearing
الساحة التي يفصح الوجود فيها عن ذاته تلقائيًّا. المعنى المعجمي (والمشهور) هو المكان المنفتح وسط الغابة، ويترجمها مجدي وهبة (في معجم النفيس) بتعبير «فُرْجَةُ الحَرَجَة»، وللكلمة معانٍ أخرى بطبيعة الحال ولكن المعنى المذكور هو الذي يستخدمه هايديجر في شرح تصوره لطبيعة «الحضور». ولقد سبقت لي مناقشة معنى المصطلح في قسم «المذهب الإنساني» من الفصل الأخير في الدراسة، ولكنني أبين هنا دلالتها الفلسفية عند هايديجر. يقول هايديجر: إن «الحضور» نفسه انفتاح ما دام يتمتع دائمًا بفهم للوجود والكائنات يسبق التأمل (والصوغ اللغوي) [انظر مدخل a priori أعلاه]. وعادة ما لا يكون «الحضور» واعيًا بالانفتاح المذكور، بل بما يكشف الانفتاح عنه وحسب، أما إذا التفت للانفتاح صراحة فسوف يرى ما كُشِفَ عنه من أشياء، ويصبح في الوقت نفسه واعيًا بوجود أشياء، وبأنه يعي وجودها. ويشير هايديجر إلى هذا «الوعي بالوعي» قائلًا: إنه يمثل الوقوف داخل الساحة المنفتحة.
conscience
الضمير الوجودي: عندما يتحدث هايديجر عن الضمير فإنه لا يشير إلى المفهوم التقليدي أو الأخلاقي أو الديني للضمير، بل يقدم تفسيرًا وجوديًّا خاصًّا، إذ يميز الفيلسوف بين الضمير الذي يرتبط في أذهاننا بالوازع الأخلاقي الذي قد يتمتع به ذَوُو الأخلاق الفاضلة وحدهم وبين ضمير وجودي عند الجميع، قائلًا: إن الضمير الأخلاقي لا ينشأ إلا عندما نستجيب للحظات خاصة من البصيرة التي يوفرها لنا هذا الضمير الوجودي، فهذه اللحظات تقدم الفهم الأصيل لوجودنا، وتمهد الطريق لنشأة الضمير الأخلاقي. ويشترك الضمير الوجودي مع الضمير الأخلاقي في أنه يتضمن «داعيةً» و«مدعوًّا»، فأما «دعوة» الضمير الوجودي فتركز على الصراع الدائر داخل «الحضور» بين نمطين من الوجود. الأول (١): هو النفس المرتبطة بالآخرين والتي يستغرق فيها الحضور، إذ تشغله أحوال الدنيا في واقع الحياة اليومية، وحيث نلمح تأثير الآخرين في القرارات التي يتخذها، وأسلوب تفكيره، وشتى مظاهر سلوكه، والثاني (٢) هو النفس «الشريدة» (homeless) التي أُلْقِيَ بها عاريةً في دنيا مقفرةٍ لا معنى لها. وهكذا فإن الجانب «الشريد» من وجود «الحضور» يقوم بمهمة الضمير الوجودي الأنطولوجي الأزلي، الذي يحفز النفس المرتبطة بالآخرين في صمت، أي إنه يدعو هذه النفس «الخاطئة» غير الأصيلة إلى أن تتحرر من تأثير الآخرين وتنبذ إمكانياتهم المقيِّدة، وأن تتأمل إمكانياتها الخاصة، وأن تنتقي من بينها خيارات تلتزم بالعزم والحزم في اتخاذها على ضوء كيانها الفاني.
correspondence theory
نظرية الاتفاق. تمثل هذه النظرية التعريف المعياري للصدق وللحقيقة الذي يستخدمه الباحثون اليوم، إذ يقول: إن الأحكام أو الأقوال لا تعتبر صحيحة أو صادقة إلا إذا اتفقت واقعيًّا مع الشيء أو الحال التي تشير إليه. والقول قد يكون صحيحًا أو صادقًا أو لا يكون كذلك.
da/das Da

هذه ألفاظ ألمانية تعني «هناك» و«هنا»، أو قد يعني التركيب ذلك المكان أو هذا المكان.

Dasein/ Dasein
«الحضور». يقول هايديجر «جوهر «الحضور» يكمن في وجوده … وهكذا فعندما نطلق على هذا الكيان مصطلح «الحضور»، فنحن لا نعبر عن ماهيته (كأنما كان مائدة أو منزلًا أو شجرة) بل نعبر عن وجوده» (الوجود والزمن، ص٦٧). ويقول واطس إن الخصيصة القائمة في وجودنا وهي التي تعتبر أصدق ما يميزنا عن الكائنات الأخرى هي قدرتنا الفريدة على فهم الوجود وعلى اختيار أسلوب وجودنا، إذ إن الوجود قضية تشغلنا، وهو وجودنا ووجود غيرنا من الكائنات، ولا يتكشف الوجود إلا في علاقته «بالحضور» (ص٢٦٧). ويضيف واطس: إن هايديجر يستعمل الكلمة للإشارة إلينا بصفة مطلقة وإلى أسلوب وجودنا بدلًا من الكلمات الألمانية الأخرى للوجود. وأما ترجمتي الحالية، أي «الحضور»، فمبنية على مزيج من الدلالة الاشتقاقية والدلالات الاصطلاحية والسياقية، فالدلالة الاشتقاقية تقول إن الكلمة تعني «الوجود في مكان معين» (دلالة المقطع Da الألماني) ولا يفي بهذا المعنى إلا الحضور، وأما الدلالات الاصطلاحية فأولها أن هايديجر يعتبر الوجود حالة زمنية، بحيث يمتزج فيه الماضي بالمستقبل عبر الحاضر، وهو ما يعني أننا حين نذكر اليوم شخصًا عاش في الماضي، في التاريخ أو حتى في الماضي القريب، فإننا نستحضره بحيث يوجد الآن معنا، وحين نتأمل إمكانيةً ما في المستقبل، فإننا نكاد نراها رأي العين، وبذلك يصبح هذا وذاك حضورًا بشريًّا، وإن كان الأول لغيرنا والثاني لنا. وهذا هو المعنى الأول لزمنية الوجود، وأما المعنى الثاني فهو أن الزمن حركة مستمرة يتجسد فيها وجودنا المستمر (إلى أجل مسمى)، ومن ثم فإننا إذا وعينا وجودنا غدونا حضورًا مستمرًّا أو سائرًا في الزمن (وللقارئ أن يرجع إلى مناقشتي لهذه القضية في الفصل الأول).
datability
الإشارات الزمنية. يطلق هايديجر هذا المصطلح على عدد من الألفاظ أو الأبنية اللفظية المستمدة من الأشكال الوجودية المرتبطة بالانتظار والاستبقاء والاستحضار، مثل «آنئذ» و«ريثما» و«حينذاك»، وهو يتصل ﺑ«الحضور» بأنشطته الدنيوية وكياناته في العالم بأسلوب «الجاهز للاستعمال»، ويرى هايديجر أن الخبرة بالزمن تُرْصَدُ ويُشَارُ إليها من خلال أحداثٍ أو أشياءَ ذواتِ دلالاتٍ خاصة، وأن هذه الدلالات تعتبر «مضمون» الزمن أو «محتواه».
deep ecology
«البيئة العميقة» تعبير يشير إلى حركة الحفاظ على البيئة الطبيعية التي تؤكد رفع مستوى الإنسان بها باعتباره الوسيلة الناجعة لإنقاذ كوكب الأرض.
destiny
المصير. يرى هايديجر أن المصير يختلف عن القدر (fate) في أن المصير أمر مشترك، فهو مصير جماعة كاملة من الناس (مجتمع أو شعب) ومن ثم فإن «الحضور» لا يستقل بمصير منفرد. ويقول هايديجر: إن المصير ينشأ أو «يتحرر» عندما تتوحد أقدار عدد من «الحضور» من خلال التفاعل الاجتماعي في دنيا واحدة لها تاريخ واحد، مضيفًا أن الطابع التاريخي المُضْفَى على كل «حضور» مفرد يصبح طابعًا تاريخيًّا مشتركًا يحدد أو يخلق هذا المصير المشترك. فإذا حدث هذا أصبح لكل فرد مصير يمثل المصير المشترك للجماعة البشرية كلها (الوجود والزمن، ص٤٣٦)، وإذا أردنا نَقْل ما يقصده هايديجر بدقة إلى العربية ترجمنا fate بالأجل لا بالقدر، حسبما جرت عليه العادة، فلكل أجل كتاب، وإلى الله المصير، فذلك أقرب إلى المعنيين اللذين نجدهما في اللغة الإنجليزية على الأقل، لأن destiny تشير إلى المقصد النهائي مثل الكلمة المشتقة من جذرها (صار يصير) وهيdestination أي المآل، فأنت تقول: إن شيئًا ما مصيرُه الازدهار (destined to prosper) أي إن مستقبله مزهر، وإن كانت الثقافة الإنسانية تميل إلى جعل المصير «غير مزهر»، ومع ذلك فنحن نقول: إن الشعب العربي له مصير مشترك، أي ما يصير الجميع إليه، وأما الأجل فهو دائمًا سلبي، وهو دائمًا محدد، فنحن نقول: إذا جاء الأجل، وإلى أجل مسمى، وأي الأجلين قضيت، وطبعًا كلنا يعرف استخدام «الأجل» بمعنى المدة المحددة في الاقتصاد (الأجل الطويل) و«العقود الآجلة» (futures) هي التي تُنَفَّذُ في المستقبل.
destruction
الهدم. يشير هايديجر إلى تفسيره لتاريخ الفلسفة بأنه «هدم لتاريخ الأنطولوجيا» (الوجود والزمن، ص٤٤). ولكنه يستخدم الكلمة دائمًا بمعنى «التفكيك» (deconstruction) أي إزالة الطبقات التي «وضعتها التقاليد، طبقة فوق طبقة، بحيث تحُول بيننا وبين إدراك معنى الوجود» (نصوص السيمينارات، ١٩١٥–١٩٧٣م، ٢٠٠٥م، ص٣٣٧، ومعجم هايديجر، ٢٠٠٠م، ص١٨٣). وهكذا فينبغي ألا يُفهم «الهدم» بالمعنى السلبي الشائع، أي «المعنى السلبي الذي يفيد التخلص من التقاليد الأنطولوجية» (الوجود والزمن، ص٤٤)؛ إذ كان هايديجر يرى أن نسيان التراث أو تجاهله أفضل وسيلة لضمان استمرار سيطرته علينا، ولذلك فإن مقصده هو «أن يُهدم المضمون التقليدي للأنطولوجيا القديمة حتى نصل إلى تلك الخبرات الأزلية التي مكنتنا من شق أول الطرق المؤدية إلى البت في طبيعة الوجود، وهي الطرق التي ظللنا نسترشد بها على مر الزمن» (المرجع نفسه). وهكذا، يقول هايديجر: «فإن هدم تاريخ الأنطولوجيا يرتبط ارتباطًا أساسيًّا بالصيغة التي تصاغ بها مسألة الوجود» (المرجع نفسه)، وعلينا أن نهتدي بها طول الوقت.
ويقول واطس:
يرى هايديجر أن التفكيك ذو أهمية حيوية بصفة خاصة لبحثه في مسألة الوجود؛ لأن «الحضور يمثل ماضيه بأسلوب وجوده نفسه» (الوجود والزمن، ص٤١). ولا يقتصر إدراكنا لهويتنا، ورؤانا للدنيا، وطرائق سلوكنا، على كونها أشياء موروثة وحسب، أي إنها ليست مجرد مُرَكَّبٍ من التفاسير لوجودنا وأساليب عيشنا بالصورة التي نشأت وتطورت بها عبر القرون، بل إنها هي التي تجعلنا حضورًا. أضف إلى ذلك أن «جميع المناقشات الفلسفية … تتغلغل فيها المفاهيم التقليدية … ومداخل من زوايا تقليدية» (المشكلات الأساسية للظاهراتية، ١٩٨٢م، ص٢٢). ويريدنا هايديجر أن ندرك أوجه القصور في هذه التفاسير النظرية الجامدة والموروثة حتى نستطيع أن نرى بوضوح أن رؤانا الراهنة لا تمثل الطريق الوحيد لفهم الوجود (ص٢٦٨).
ويضيف واطس قائلًا:
وتحقيقًا لهذه الغاية يحاول هايديجر أن يستعيد الإمكانيات الخبيئة التي يشملها التفكير الغربي بتفكيك المؤثرات الرئيسية فيها من خلال التحليل الدقيق والنقد العميق. وهو يقصد بذلك تفتيت الأبنية الخارجية الهشة التي أدت التقاليد إلى تجميدها حول مفاهيم الكثير من هؤلاء المفكرين العظام، حتى يكشف عن كل ما عساه أن يكون ذا صلة بالبحث في الوجود، ما دام من الجائز أن يكون أحد المفكرين قد قال ضمنًا أشياء كثيرة يمكنها أن تحقق لفهمنا التقدم والثراء. وهو يبين أيضًا كيف أن نصوص هؤلاء الفلاسفة من ذوي التأثير الواسع أحيانًا ما يخرب بعضها بعضًا ويقوضه، ومن ثم فهي تشير إلى المزيد من الإمكانيات الخفية والطرائق البديلة للتفكير، والتي تمثل أهمية لمسألة الوجود. كان هايديجر يعتقد أن من واجب الفيلسوف أن يستخدم «العنف» في تناول تاريخ الفكر، وما العنف هنا إلا القوة الشديدة اللازمة لجعل كلمات مفكر من الماضي تثبت أهميتها لما يشغل المرء الآن (وهو مسألة الوجود في هذه الحالة) مع الحفاظ على «الأمانة» في نقل أسلوب التفكير وروح المفكر الفرد الذي يدرسه المرء. وهكذا فإن هايديجر لا يغير قط الكلمات التي يقولها الفلاسفة في مناقشاته لهم، ولكنه يرغمهم على أن يقدموا معنى لم يسبق وضوحه في الماضي. وهو يسير في اتجاه زمني عكسي من كانط إلى ديكارت إلى أرسطو، وأخيرًا إلى الفلاسفة السابقين لسقراط حتى يثبت أولًا الأسلوب الخاص الذي يميز عجز هؤلاء المفكرين، كل على حدة، عن إدراك «الاختلاف الأنطولوجي»: أي التمييز الأساسي بين الوجود وبين الأشياء الموجودة («الكائنات»). كان هايديجر يشعر أن عددًا كبيرًا من هؤلاء الفلاسفة كانوا يريدون بحث الوجود، ولكنهم بسبب هذا التشويش الأساسي للفهم التقليدي وجدوا أنهم يبحثون أمر «الكائنات» وحسب. ولا غرو إذن في أن تناوله للفلاسفة يتفاوت تفاوتًا شديدًا؛ إذ يرجع أصداء بعض المفكرين مثل نيتشه وكانط وأفلاطون ويوليهم انتباها نقديًّا كبيرًا يفوق ما يوليه لآخرين، مثل هيجيل. أما المفكرون المذكورون أولًا فهو ينجح في استخلاص نظرات ثاقبة مما قالوه في مسألة الوجود وإن لم تتبينها التقاليد السابقة. ومن أهم ما يشير هايديجر إليه أن القدماء كانوا دائمًا ما «يفهمون الوجود باعتباره واقعًا راهنًا» وأنهم أورثوا هذه الفكرة للخَلَفِ حتى سادت تاريخ الأنطولوجيا برمته، قائلًا: «إن فهم الكائنات كان يعتمد على وجودها في اللحظة الآنية، أي إن فهمها كان يتسم دائمًا بالانتماء إلى الوقت الحاضر» (الوجود والزمن، ص٤٧). ويقول هايديجر: إن هذا الافتراض يولي الأولوية لفهمنا النظري للأشياء، لا لوجودها الفعلي وهو ما لا يمكن فهمه، في نظره، إذا أولَينا الأولية للحظة الآنية. أما «الحضور» فهو يختلف عن سائر الكيانات التي تتقوقع في موقع راهن ولحظة آنية، وذلك لأنه «زمني» (temporal) أي إن له جذورًا عميقة في تراث الماضي، مثلما يشغل الحاضر، ويتطلع إلى إمكانيات المستقبل. ولما كانت الإجابات الخاصة بمعنى الوجود لا يمكن العثور عليها إلا من خلال وجودنا نحن، فإن أنطولوجيا الزمن التقليدية، ومن ثم مداخلنا كلها إلى مسألة الوجود، لا بد أن تتغير تغييرًا جذريًّا. ويدلل هايديجر أيضًا على أن أنطولوجيا كانط (على الرغم من زعم كانط أن فكره يمثل بداية جديدة لتاريخ الفلسفة) تعتبر من عدة جوانب مجرد تكرار لموقف ديكارت، إذ إن الذات عند كانط لا تزال الذات التي تفكر (ذات الكوجيتو) لا ذات الحضور الزمني [أي الحضور في الزمن برمته أو الدهر]. وعلى غرار ذلك يبين هايديجر أن أنطولوجيا ديكارت ليست سوى تكرار للفكر الإسكولائي الذي تقوم الأنطولوجيا فيه على أساس أرسطي. (ص٢٦٨–٢٦٩).
Dichtung
كلمة ألمانية مشتقة من الفعل dichten بمعنى «يكتب أو يخترع أو ينظم الشعر» والكلمة يمكن أن تستعمل في الإشارة إلى الشعر أو النظم، وكذلك إلى مجال الكتابة الإبداعية برمته، بما في ذلك الرواية. وعادة ما يستخدم هايديجر هذه الكلمة «بمعنى أوسع» للدلالة على فعل الابتكار أو الخلق أو الإسقاط، لكنه يستخدم Dichtung وdichten «بالمعنى الضيق» وهو الإشارة إلى الشعر أو النظم.
discourse
يستخدم هايديجر مصطلح «الخطاب» بمعنى الكلام، ويقول في غضون مناقشته للغة في الوجود والزمن إن أسلوب «الحضور» في الفهم، وحالاته النفسية (أي الأسلوب الذي يعبر به أو يجري به «ضبط نغمته مع العالم») يشتبكان دائمًا في تفاعل يؤدي للكشف عن العالم، وجعله مفهومًا. أما التكلم (talking) [الخطاب] الذي يتسم بأزلية معادلة لأزلية الحالات النفسية والفهم، فإنه التعبير الذي يفصح عن إمكانية الفهم المشار إليه للعالم، بمعنى أن الخطاب (الكلام) يقدم الإحساس بالبناء — من حيث أنساق المعنى — الذي يفرق ويوحد بين المعاني المتعددة المنفصلة، على الرغم من ترابطها، وهي التي تنشأ من العالم وتشكله وتفصح عنه. وإذن فإن الخطاب غير مرادف للُّغة، إذ إنه سابق على الخصائص النحوية أو المنطق، ومن ثم فإنه يعتبر الشرط المسبق ذا الطابع الأنطولوجي والأساسي، للغة، فعندما «يتلفظ المرء به» يؤدي إلى اللغة، ومن ثم فإنه يعتبر الخصيصة الأساسية أيضًا لكيان الحضور؛ إذ يقول هايديجر: «لا توجد اللغة إلا بسبب وجود الكلام» (تاريخ مفهوم الزمن: مقدمة، ترجمة كيزيل (Kiesel) ١٩٨٥م، ص٣٦٥)، وكان قد ذكر من قبل أن «الأساس الوجودي الأنطولوجي للغة هو الخطاب أو الكلام» (الوجود والزمن، ص٢٠٣). فاللغة من حيث النحو والألفاظ والجمل وما إلى ذلك هي الكلام (الخطاب) الذي يتجلى في العالم في شكل جاهز للاستعمال فيتيح الإفصاح عن إمكان الفهم ونقله من حضور إلى حضور.
dualism
الثنائية: هذه نظرية أو وجهة نظر فلسفية (يدافع عنها ديكارت دفاعًا متينًا) تقول: إن النفس والمادة شيئان مختلفان، وإن الحقيقة الواقعة تتكون من مبادئ لا يمكن التوفيق بينها أو ملامح متضادة، وإن هذه وتلك تتمتع بوجود مستقل عن بعضها البعض.
dwelling
المسكن أو مكان الإقامة: يقول هايديجر: إن البشرية وقعت في فخ الميتافيزيقا أو تحديدًا في شرك الفهم الميتافيزيقي للوجود، وهو الذي أدى إلى نشأة إطار فكري خاص (Gestell) أو قل: تركيبة ذهنية (mindset) تمثل هذا الإطار، الذي جعل الإنسان يتجاهل الوجود ولا يركز إلا على الأشياء الموجودة. وهكذا أصبح فهمنا لأنفسنا ولجميع الكائنات محصورًا في كونها موارد صالحة للاستغلال «ونتيجة لذلك يظل الوجود غائمًا في كنف النسيان، وأما معناه الأعمق والأكثر ثراءً فيلقى التجاهل من جانبنا والنسيان» (هايديجر «السؤال المتعلق بالتكنولوجيا» في الكتابات الأساسية، ص٣٣٣). ولما كنا سجناء هذه النظرة الميتافيزيقية، فإن عالم الأشياء يبدو كأنما هو الوجود كله، وأما فيما عداه فنجد عدمًا، وخواء مطلقًا (الهوية والاختلاف، ١٩٩٠م، ٢٨، الشعر واللغة والفكر، ١٩٧٥م، ١٥١) وهكذا فإن العدم يجرد دنيانا من كل دعامة ويتركها «معلقة» في «خواء كامل» («التغلب على الميتافيزيقا»، ٢٠٠٣، ص٨٦). ونتيجة لذلك الرعب الناشئ من الإحساس بالفراغ التام يصيبنا القلق الشديد، الذي عادة ما يتحول إلى توتر دائم، وبذلك يصبح العالم مكان تهديد لنا، ولا يشعر المرء قط بالراحة فيه أو بأنه مكان إقامته الذي يطمئن إليه، وهو ما يعنيه هايديجر بتعبير الإحساس بالتشرد، أي بأن المرء شريد طريد. يقول هايديجر في «الرسالة عن المذهب الإنساني»: إن الإنسان لا يمكن أن يشعر بوجود الآلهة أو الإله الواحد إلا بعد استعداد كبير يُضَاءُ فيه وجودُه ويستشعرُ حقيقَتَهُ «وذلك وحده هو الذي يتيح للمرء أن يقهر تشرده مبتدئًا بالإحساس بوجوده، فهو تشرد لا يتخبط فيه الإنسان وحده؛ بل يتخبط جوهره أيضًا في ضَلَالٍ لا يهتدي فيه إلى شيء» (الكتابات الأساسية، ص٢٤٢). ويضيف هايديجر قائلًا: إن الإحساس بالتشرد يعني «أن الإنسان لا يعتبر الوجود قط مكان إقامته أو مسكنه» («البناء الإقامة التفكير» في الكتابات الأساسية، ٣٥٠). وهكذا فإن هايديجر يرى أننا مشردون لأننا فقدنا الإحساس «بإقامتنا» في العالم.
ecstatic
المنتشي أو الباعث على الانتشاء هو المعنى المعجمي للكلمة، وللانتشاء — بمعنى السعادة التي وصلت الذروة في لحظة تُنسي الإنسان نفسه — شبه مترادفات، مثل: bliss أي النعيم الغامر الذي كثيرًا ما يتضمن فرحة سماوية، ومثل: rapture التي تعني الآن جيَشان الطرب الذي يتملك المرء حين يشعر بسمو روحه وارتقائها، ومثل: transport التي تعني أن وجود المرء قد ارتفع نتيجة عاطفة عارمة، ولكن ecstasy عند هايديجر تتميز بوجود المقطع الأول الذي يفيد الخروج، وجذر اللفظة الذي يفيد الوقوف في مكان معين، وهذه الدلالة هي التي يريدها هايديجر إذ يكتب الكلمة هكذا ek-stasy وek-static فالجذر يأتي من اليونانية الذي يعني: يضع في مكان معين، أو يتسبب في وقوف شيء، فالجذر sta اللاتيني يعني يقف أو يوضع في مكان معين من المصدر اللاتيني stare أي يقف، وهي كلمة لاتينية مشتقة من اليونانية histanai المذكورة، أي إن هايديجر يريد تذكيرنا بالأصل اليوناني ekstasis وصورته اللاتينية ecstasis، لأنه يريد للكلمة أن تصف الطابع الزمني للحضور، قائلًا: إن جوهر العامل الزمني، الذي هو أيضًا جوهر الحضور، هو تَوَسُّعُهُ وامتدادُهُ للخارج أي أن يخطو المرء خارج نفسه فيدخل في الأحاسيس (ecstases) الخاصة بالمستقبل والحاضر والماضي، وكل إحساس منها يمتد ليدخل في الإحساسين الآخرين. ويقول هايديجر: إن ترتيب هذه الأحاسيس الثلاثة بالزمن يسبق أية سلسلة زمنية ويتمتع بالاستقلال عنها (الوجود والزمن، ٣٧٥–٣٧٦). فالطابع الزمني لهذه الأحاسيس يمزج الماضي بالحاضر وبالمستقبل. وبتعبير آخر يقول هايديجر: إن اللحظة الحاضرة «تتجاوز» ذاتها أو تتعالى عليها، لأننا دائمًا ما نحرر هذه اللحظة من قبضة الزمن، بحيث نكتشف أننا نوجد في أبعاد الزمن الحاضر والماضي والمستقبل معًا وفي نفس الوقت (الوجود والزمن، ص٣٧٠، وما بعدها)، وانظر ما يقول أحمد شوقي:
لا أَمْس مِنْ عُمْر الزَّمَانِ ولا غَدٌ
جُمِعَ الزَّمَانُ فكانَ يَوْمَ لِقَاكِ
eigentlich
كلمة ألمانية معناها الأصيل (authentic) أو الحقيقي (real). والاسم منها هو Eigentlichkeit.
Eigentlichkeit
كلمة ألمانية تعني الأصالة (authenticity) وهاتان الكلمتان ترتبطان بالصفة eigen التي تعني «الشخصي» أو الخاص بالفرد؛ وكون المرء «أصيلًا» يعني كونه صادقًا مع نفسه، أي مع ذاته، وذلك بأداء ما ينتمي إليه دون سواه من أفعال.
Enframing
التأطير، نسبة إلى الكلمة الألمانية Gestell أي الإطار أو الهيكل الخشبي. ويعني هايديجر بالتأطير «التركيبة الذهنية» (mindset) التكنولوجية، أو الموقف الفكري الذي يتميز بالفهم الضيق والمقيد لأنفسنا وجميع الأشياء في الوجود بصفتها «موارد» يمكن استغلالها. ويقول هايديجر: إن هذا الموقف هو الذي دفع البشر إلى التعامل مع الطبيعة باعتبارها «محطة هائلة لوقود السيارات، أو مصدرًا للطاقة اللازمة للتكنولوجيا والصناعة الحديثتين» (خطاب عن التفكير، ١٩٦٦م، ص٥٠). فالتأطير يعني عند هايديجر «أسلوب الكشف الذي يتميز باليد الطولى في جوهر التكنولوجيا الحديثة على الرغم من أنه ليس تكنولوجيًّا» («السؤال المتعلق بالتكنولوجيا» في الكتابات الأساسية، ص٣٢٥). كما يؤكد هايديجر أن التأطير ذو جذور في الوجود نفسه، إذ إنه يسبق وجود الإنسان، ومن ثم فلا يخضع لسيطرتنا، أي إنه ليس شيئًا نفعله، ما دام يؤثر سلفًا في ماهيتنا ويحدد من نكون وطبيعة العالم الذي نعيش فيه. ومن ثم فإن خطر التكنولوجيا ليس مشكلة تتطلب الحل، بل حال أنطولوجية تتطلب تغييرًا في فهمنا للوجود.
Entity
كيان، أو كائن، انظر (being) أعلاه.
Epistemology
نظرية المعرفة. والكلمة مشتقة من الكلمة اليونانية epistēmē التي تعني المعرفة. وهكذا فإن أي عرض منهجي لأسس المعرفة ووسائلها يشكل نظرية للمعرفة. ومن أسئلتها الأساسية دور الخبرة والعقل في تراكم المعرفة؛ والعلاقة بين المعرفة وبين اليقين؛ وكيف تؤثر الصور الفكرية الجديدة للعالم في التحول الذي يصيب المعرفة، وجميع أمثال هذه القضايا مرتبطة بالشواغل الفلسفية عن طبيعة الحقيقة، والخبرة والمعنى. وقد ساهم كل فيلسوف عظيم في الأبحاث الخاصة بنظرية المعرفة. ويقول فيلهلم ديلثي (Wilhelm Dilthey) (صاحب التأثير الكبير في هايديجر): إن العلوم الإنسانية تختلف عن العلوم الطبيعية التي تُوَلِّدُ المعرفة في أنها تولِّد الفهم، ومن ثم فإننا لا نستطيع تطبيق التقنيات المستخدمة في العلوم الطبيعية حتى نفهم السلوك البشري ذا الدلالة الخاصة، وصور التعبير عنه لغويًّا ورموزه، لأن العلوم الطبيعية تسعى إلى شرح الأحداث الطبيعية بوضع قوانين عامة يمكن تطبيقها عالميًّا وفي جميع الأوقات، وأما السلوك البشري «فيتأثر بالمكان والزمان». والحق: إن هايديجر يؤكد في الوجود والزمن أن أسلوب وجودنا لا يتضح معناه إلا في سياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي، ومن المهم أن نذكر أيضًا أن وجودنا لا يصبح ما هو عليه إلا في هذا السياق. ويمكن اعتبار كتاب الوجود والزمن بحثًا نقديًّا في المداخل الأنطولوجية السابقة التي تتجاهل ذلك.
equipment
المعدات والأدوات. يقول هايديجر: إننا نصادف في حياتنا اليومية معدات وأدوات من شتى الأنواع، وهي التي نستخدمها في الكتابة وفي الحياكة، وفي العمل، والنقل والقياس … وهلم جرًّا. وهو يعرف الأداة بأنها أساسًا شيء «من أجل» شيء آخر. ومن الزاوية البنائية يشير تعبير «من أجل» المذكور إلى ما يسميه هايديجر التعيين أو التخصيص (assignment) وهو عملية استخدام «س» (إحدى المعدات) لتحقيق «ص» (المهمة/العمل). ومصطلح «التعيين» يعني أن الأداة تظهر أو تبرز لنا في أثناء تكوينها الأنطولوجي، بحيث يستطيع المرء أن يزعم زعمًا معقولًا يقول: إنه لا يوجد «شيء» اسمه الأداة ما دامت الأداة لا تكتسب منزلتها باعتبارها أداة إلا أثناء استعمالها، وهكذا فإن المطرقة لا تصبح أداة إلا عندما تستخدم أداة، ويصف هايديجر أسلوب وجود الأدوات والمعدات بأنها الكيانات «الجاهزة للاستعمال» (انظر ready-to-hand).
equipment totality
مجمع الأدوات. عندما يتعامل الحضور (أي المرء) مع أداة جاهزة للاستعمال فإنه يفهم أن كيانها يوجد أساسًا داخل شبكة من الكيانات الأخرى، وهكذا «فإن القول بوجود أداة مفردة قول مستحيل من الزاوية الأنطولوجية» فالأداة دائمًا جزء من شبكة «باطنة» من المعدات التي يحيل بعضها إلى بعض في مكان عمل «الحضور» (أي المرء). وهكذا فإن المطرقة موجودة داخل شبكة من الأدوات المرتبطة بها، والمواد الأولية، والمهمة التي تستخدم فيها، والنتيجة النهائية لاستعمالها أو نواتجه، وهلم جرًّا. ويطلق هايديجر اسم «مجمع الأدوات» (الوجود والزمن، ص٩٨) على هذه الشبكة الكاملة من الآلات والأدوات المرتبطة بكيان جاهز للاستعمال.
equiprimordial
متعادل الأزلية. يقصد هايديجر بهذا الوصف أن بعض الكيانات تتساوى في كونها أصلية أو أساسية، بمعنى أنها لا يمكن اشتقاق بعضها من بعض، أو استناد بعضها على البعض الآخر أو اختزالها في غيرها.
Ereignis
كلمة ألمانية تعني «الحدث» أو «الحدوث». ويستخدم هايديجر كلمة الحدث في كتابه الوجود والزمن للإشارة إلى حدث يقع للحضور (أي للمرء)، ويمكن أن يشير إلى «هبوب عاصفة، أو تجديد منزل المرء أو وصول صديق، ومن ثم لأشياء حاضرة للاستعمال (present-to-hand) أو جاهزة للاستعمال (ready-to-hand) أي توجد معنا» (ص٢٩٤). ولكن هايديجر يغير استعماله للكلمة فيما بعد، إذ يشير على سبيل المثال إلى العدمية nihilism باعتبارها حدثًا طويل الأجل، تتغير فيه حقيقة الكائنات بصفة عامة تدريجيًّا، وتسير إلى خاتمة تحددها العدمية. ويستخدم كلمة (Ereignis) بمعنى آخر يشير به إلى بداية الميتافيزيقا. والواقع، كما يقول واطس (ص٢٧١)، إن هايديجر يرى تاريخ الوجود كله باعتباره خاضعًا لضروب منوعة من «الأحداث» التي تُرجع أساليب الوجود المختلفة التي شكلت تاريخ الغرب إلى حقبه اليونانية والرومانية والقروسطية والحديثة والتكنولوجية. ويستخدم هايديجر الكلمة كثيرًا أيضًا في الإشارة إلى الكشف المبدئي عن الوجود، فهي «الحدث الأعظم» الذي يشكل «البداية» (Anfang) أو تشكيل جوهر الوجود، فهي الكشف المبدئي عن الوجود الذي أتاح للبشر أول الأمر الاتصال المثمر بوجود الكائنات. وهايديجر يشير في هذا الاستعمال لكلمة Ereignis إلى الحدث الذي استولى فيه الوجود لأول مرة على البشر، وكانت النتيجة هي التحول الكامل لجوهر الإنسان من «حيوان عاقل» إلى «حضور»، أي إلى وجود حاضر، أي قائم في موقع معين هو مكان الكشف عن وجوده أو إماطة اللثام عنه. وبتعبير آخر يقول إن هذا الحدث الأعظم للوجود يجعل الإنسان من «ممتلكات» الوجود؛ أي إن الوجود الآن يمتلك الإنسان.
essence
الجوهر أو الماهية (whatness) وهو لفظ يشير إلى الخصائص الوجودية لكيان ما. فعلى سبيل المثال نجد أن جوهر الشجرة يتكون من الخصائص الفيزيقية (physical) أي الطبيعية التي تشكل البناء الفيزيقي للشجرة. وأما في حالة «الحضور» فإن الجوهر لا يشير إلى «الماهية» (أي التركيب الوجودي) بل إلى البناء «الأنطولوجي» أي إلى أسلوب الوجود المميز «للحضور»، وهو الذي يجعله الكائن الفريد الذي نعرفه، إذ يقول هايديجر: «إن «جوهر» «الحضور» يكمن في كينونته» (الوجود والزمن، ص٦٧). ولكن هايديجر أصبح يرى فيما بعد أن الإقامة في العالم تمثل «جوهر» أسلوب وجود «الحضور».
existence
يستخدم هايديجر كلمة الكينونة هذه (Existenz الألمانية) لا بالمعنى التقليدي الذي يشير إلى أن كائنًا ما «كائن»، بل بمعنًى ضيق غير معتاد، ألا وهو الإشارة إلى «الجوهر» الفريد للحضور [أي الشخص الواعي بوجوده]، وهو «جوهر» يختلف اختلافًا أساسيًّا عن «جوهر» كل كيان أو كائن آخر أو «طبيعته»، وهكذا فهو لا يستخدم هذا المصطلح إلا في وصف «الحضور» إذ يقول، كما سبق أن ذكرت: «إن جوهر الحضور يكمن في كينونته (الوجود والزمن، ٦٧). أما ما يعنيه هايديجر بالكينونة فهو أسلوب وجود «الحضور» (ولا يقتصر إطلاقًا على أن الحضور «موجود»). كما إن هايديجر يريدنا أن نفهم أن جوهر «الحضور» ذو جذور تضرب في أسلوب وجوده. إذ إن نفس «الحضور» لا توازي أي شيء أو أي كيان، ولا تعادل المركز الثابت لوجودنا والذي يظل دون تغيير طوال حياتنا. أي إن الكينونة أسلوب للوجود (الوجود والزمن، ص١٥٢–١٥٣).
existentials
«الخصائص الوجودية». المصطلح الإنجليزي ترجمة للمصطلح الألماني الذي يستخدمه هايديجر وهو existentialia ويشير إلى الخصائص الأنطولوجية «للحضور»، وكل خصيصة من هذه «الخصائص الوجودية» تشير إلى عنصر محدد سابق الوجود من مجمل أسلوب وجود «الحضور» وأسلوب فهمه للعالم. ويقدم هايديجر تحليلًا لكل هذه «الخصائص الوجودية» التي تشكل في مجموعها الأسلوب الكامل السابق الوجود للفهم، والوجود في العالم، وهو الذي يشكل قدرة «الحضور» على التساؤل عن معنى الوجود والبحث فيه.
existential
وجودي. والمصطلح يشير إلى أسلوبنا (وأسلوب الحضور) في الوجود. وقولنا: التحليل الوجودي يعني البحث في أسلوب وجودنا. والأسئلة الوجودية هي الأسئلة المتعلقة بأسلوب «الحضور» في الوجود، مثل: «كيف يرتبط الحضور بماضيه؟»
existentialism
الوجودية أو المذهب الوجودي. وهو حركة فلسفية وأدبية مستلهمة من كيركجارد (وقد سُكَّ المصطلح بعد وفاته، واستعمله الفيلسوفان الفرنسيان مارسيل وسارتر) اللذان رفضا العقلانية التجريدية في فلسفة هيجيل، وغيرها من المداخل الفلسفية المذهبية التي حاولت وضع فهم «موضوعي» شامل للوجود، بحيث يستطيع التوفيق بين جميع الاتجاهات الفكرية المتعارضة، وإرضاء اهتمامات كل فرد وتلبية حاجاته. وعلى عكس ذلك تركز الوجودية على التفرد الذي يتسم به المنظور الشخصي لكل فرد موجود تجاه الوجود والاهتمام بحياته الخاصة، وتقول الوجودية: إن الوجود البشري لا يحدده جوهر إنساني «ثابت»؛ بل تتحكم فيه شواغلنا وأهدافنا العملية الشخصية، ما دام وجود كل منا يمثل له القضية الأساسية، ويعتبر الأسلوب الذي نستخدمه في معالجة هذه القضية التي تشكل طبيعة حياتنا.
facticity
الحقائقية، والمصطلح الإنجليزي ترجمة للمصطلح الألماني (factizität) وصيغة الجمع تشير إلى مجموع حالة «الحضور» الراهنة وإمكانياتها في المستقبل، وهذه وتلك معًا من نتائج كون «الحضور» مُلْقًى في العالم، وإذن فالمجموع يشير إلى ما كنت عليه، وما أنا عليه الآن، واستنادًا إلى هذا الأساس ما أستطيع أن أكون عليه من حيث إمكانياتي.
falling/ fallenness
السقوط أو التردي ويعني به المَعْلَمَ الأساسي للعيش غير الأصيل عندما تكون النفس نسخة من النفس الجماعية للآخرين، بمعنى أن نفوس الآخرين تمثل قوة ضغط واحدة قد لا يستطيع المرء مقاومة تأثيرها، وقد يزداد هذا التأثير حتى تفقد نفس الفرد وجودها الصادق، وتصبح تكرارًا للعناصر التي تشكل النفس الجماعية لمن حوله، وهايديجر يرى في هذا سقوطًا، إذ يتميز أسلوب وجوده بالسطحية، وحب الاستطلاع القصير الأجل، والكلام الأجوف أو الثرثرة، والخضوع للقيم والتفسيرات والاهتمامات التي ينشغل بها الدهماء الذين لا يُعرف منهم أحد. فعند السقوط يجد الفرد نفسه منجرفًا وراء الاتجاهات و«الموضات» السائدة لدى الجمهور، ومنشغلًا بالأنشطة اللاعقلانية، مُخَدَّرًا بالإحساس بأنه يفعل كل ما يفعله مَن حوله، ومن ثم يعمى عما يتيحه وجوده الصادق من إمكانيات، وينشد هدوء البال بالانشغال بما لا يزيد عن كونه «واقعًا فعليًّا» وحسب.
fate
القَدَر. «قدر الحضور» تعبير يطلقه هايديجر على الإمكانية التي يختارها «الحضور» (أي الفرد الواعي بوجوده) اختيارًا حازمًا، ويلتزم بها التزامًا صامدًا لا يتزعزع، أي إن هايديجر لا يستخدم هذا المصطلح بالمعنى اليوناني القديم، القائم لدينا في العربية، ألا وهو «ما كُتِبَ على المرء ولا سيطرة له عليه»، لكنه يعني به أن وجود «الحضور» يقضي بأن يمارس حريته وفق ما يقضي به قدره المتمثل في خصوصية تكوينه، ولكن حريتنا في اختيار أقدارنا محدودة بالضرورة؛ لأنها الحرية المستمدة من تراثنا الخاص في مواجهة الإمكانية الدائمة لوقوع الموت، وهو الذي يمكن أن يقع في أي وقت (الوجود والزمن، ٤٣٦)، وهكذا فإنَّ القَدَرَ الذي يختاره «الحضور» بنفسه تضرب جذوره في فعل يتسم بالحزم والعزم الأصيلين «وفي هذا الفعل يُسْلِمُ الحضورُ نَفْسَهُ إلى نَفْسِهِ، متحررًا من الموت، في إطار الإمكانية التي ورثها، ومع ذلك فقد اختارها أيضًا» (الوجود والزمن، ص٤٣٥).
fore-conception
المعرفة السابقة. لا يريد هايديجر أن يدل مصطلح conception هنا على التصور فقط أو الصورة الذهنية وفق معناه الشائع، بل يقصد به المعارف القائمة في الذهن، وتتضمن المعنى المشهور أي الصور الذهنية أو المفاهيم. وهذا ما أوضحته في الفصل الأول من هذه الدراسة عندما قلت: إن الفهم يعتمد على معرفة السامع أو القارئ السابقة بمدلولات الألفاظ، وهايديجر يوسع من نطاق هذه المعارف حتى لا تقتصر على اللغة، وقد ضَربتُ أمثلة لغوية في حديثي عن الفهم في الفصل الأول، وأضيف هنا مثالًا غير لغوي، فابن المدينة قد يرى سمكة من نوع القاروص (sea bass) فيعرف أنها سمكة وحسب، لكنه لن يعرف أنها قاروصة لأن ذهنه لا يتضمن المعرفة بهذا النوع من الأسماك.
for-having
الإحاطة السابقة. هذه هي الترجمة الإنجليزية المعتمدة للمصطلح الألماني vorhabe الذي يشير إلى الفهم العام للكيانات والسياق الكامل الذي توجد فيه. والمقصود بالإحاطة السابقة إذن قدرة المرء على إدراك الكيانات في سياقها، فالنجار على سبيل المثال يحيط إحاطة سابقة بجميع أدوات عمله، والمتخصص في علم النفس يحيط إحاطة سابقة بفهم شامل للطبيعة البشرية.
fore-sight
«تركيز النظر على ما يهم المرء» معنى هذا المصطلح الذي يختلف عن معناه المعجمي وهو بُعد النظر (وعادة نكتبها كلمة واحدة foresight). وأما عند هايديجر فيعني المصطلح أن الإنسان بطبيعته لا يرى إلا ما يهمه، فقد يبصر المرء عدة أشياء معًا، ولكنه لن يرى إلا ما يعني له شيئًا ما، فالفنان الذي يرى كتبًا معروضة في مكتبة تبيعها ربما لن يلاحظ العناوين ودلالاتها؛ بل يركز بصره على تصميم الأغلفة وألوانها، وما هو مرسوم عليها، وربما استوقفه «خطأ» في أحدها فألهاه عن تأمل سائر الأغلفة.
fore-structure
«الإحاطة السابقة بالأبنية»: يشير هذا المصطلح إلى وعينا السابق بشبكة العلاقات المهمة التي تحدد وجود كيان جاهز للاستعمال. والمصطلح الإنجليزي مترجم عن الألمانية Vorstruktur التي تعني الأبنية السابقة وحسب، ووَعْيُنا بها شرط أساسي لكل تفسير وكل فهم. ويقسم هايديجر كل بناء سابق إلى ثلاثة أجزاء منفصلة، على الرغم من أنها تنشط جميعًا وفي الوقت نفسه أثناء القيام بأي تفسير، مؤكدًا أن التفسير دائمًا ما يهتدي بهذه الإحاطة السابقة بالأبنية. يقول هايديجر:
يقوم التفسير على أساس شيء نملكه مقدمًا، أي المعرفة السابقة. والتفسير باعتباره الظفر بالفهم يعمل في الوجود لرسم صورة شاملة من العلاقات التي نفهمها سلفًا … [وهي ثلاثة] … الشيء الذي نملكه سلفًا … والتركيز على ما يهمنا … وشيء ندركه مقدمًا … وهو المعرفة السابقة.
(الوجود والزمن، ص١٩١)

أي إن الإحاطة السابقة بالأبنية عامل دائم التأثير في كل مستوى من مستويات التفسير والفهم. (انظر قسم «الفهم» في الفصل الأول).

founding
التأسيس (بالألمانية Stiftung) وله ثلاثة معانٍ أساسية يقصدها هايديجر، ويفي الفن بها جميعًا. الأول هو الإضفاء (bestowing)، ويعني أن الحقيقة في العمل الفني ليست مشتقة من حقيقة سابقة، ومن ثم فإن الحقيقة تشبه إضفاء عطية، وهي عطية تصاحب التحول الكامل في الإدراك الحسي والخبرة بالواقع. فالإدراك الحسي المعتاد والخبرة المعهودة يُستبدل بهما إدراكٌ حسي فَذُّ الطابع، أي إن الفذ يحل محل العادي. وأما المعنى الثاني للمصطلح فهو الترسيخ (grounding)، بمعنى أن الحقيقة دائمًا ذات مرجعية بشرية، ومن ثم فإن الحقيقة «راسخة» في الناس الذين يعتبرون «حفظة» الحقيقة. وعندما تبرز حقيقة جديدة فإنها دائمًا ما تتأثر «بعطاء» الناس، وتتكيف معه، وتستمد جذورًا راسخة منه. والمقصود بالعطاء البيئة المادية ولغة تواصلهم، وعاداتهم ومعتقداتهم ومسيرتهم نحو المصير المحدد، مثل دخول المسيحية في مجتمع من المجتمعات. وأما المعنى الثالث للمصطلح فهو «الابتداء»، والابتداء (بالألمانية Anfang) «يتضمن سلفًا النهاية الكامنة فيه»، ويعني «البداية الحقيقية» التي دائمًا ما تمثل «وثبة إلى الأمام تتضمن الوثوب على كل ما سوف يأتي حتى ولو كان شيئًا مُقَنَّعًا» (أصل العمل الفني، ص٧٦). ويعني هايديجر بذلك أن هذه البداية تتضمن خطة دفينة أو توحي بخطة خبيئة قد تتخذ صورة شيء آخر (وهو المقصود بأنها مُقنَّعة)، بحيث يمكن فك شفرتها للاطلاع على الصورة السافرة لمصير شعب من الشعوب، وذلك بتحديد إمكانيات المستقبل ومهامه واستباقها، ابتغاء تقديم عرض تاريخي لذلك المجتمع.
the fourfold
التكوين الرباعي للوجود: هذا هو معنى التعبير الذي يُرجعه أحد الشراح إلى المفهوم القروسطي القديم الذي كان يشار إليه باسم الرباعية (quadriform)، أي إن الوجود يتكون من أربعة عناصر وكان القدماء يقولون: إنها النار، والماء، والهواء، والتراب؛ ولكن هايديجر يقول: إنها الأرض، والسماء، والأرباب، والبشر، وهو لا يقول: إنها «عناصر» مفردة تشبه عناصر القدماء؛ بل يقول: إنها قوًى تمارس فعلها في الوقت نفسه، على شكل تفاعل موحد، وهي صورة شعرية صاغها عام ١٩٥١م، مستلهمًا الصور الشعرية التي أبدعها الشاعر هولدرلين للعالم اليوناني القديم في عهد نشأته، وكان هايديجر بذلك يلمح إلى إحساسه بوحدة الطبيعة بأسلوب جديد يختلف عن مبدأ وحدة الوجود عند برتراند رسل وسبينوزا (إلى حد ما)؛ لأن صورته الشعرية تقوم على التفاعل، وهو تصور رباعي للوجود امتاز به تفكيره في أواخر حياته (اعتبارًا من عامِه الستين)، وكان بمثابة الرَّدِّ على تصوير الكائنات وَفْقًا للمذاهب العلمية التكنولوجية الحديثة. كان هدفه أن ينبه قرَّاءه إلى أن الصورة الحديثة للوجود، التي تدعمها التكنولوجيا، إن لم تكن أنشأتها أصلًا، أصبحت خالية من الإحساس بوجود الله، أو أي تأثير رباني وروحي، وكان يرى أن أملنا الوحيد في إنقاذ مستقبل كوكب الأرض يكمن في استعادة عنصر «القداسة» (أو الربوبية) المفقود. وطبقًا لهذه الصورة الشعرية، نجد أن تصوره للواقع يقوم على فكرة الفعل المؤدي إلى وحدة هذه المقومات الأربعة، ففي عمل من آخر أعماله وعنوانه «ما الشيء؟» الذي كتبه عام ١٩٦٢م، ونشرت ترجمته الإنجليزية عام ١٩٦٧م، يقول: إن الشيء هو ما «يجمع» أو «يضم» المقومات الأربعة، وإن هذا الجمع يمثل مصدر حضور الشيء (the source of a thing’s presence) (ص٢٧٣). ولدينا نموذج ممتاز لتأثير هذه الرباعية في فهم هايديجر للواقع، وهو وصفه الظاهراتي لإناء عادي من الفخار، ويبين فيه أن الإناء يقع في شبكة من الكائنات والأحداث المترابطة التي تشمل مجمل الوجود الإنساني وفهم الإنسان جميعًا، فهو مجال وجود يقع داخل رباعية الأرض والسماء والآلهة والبشر.
fundamental ontology
الأنطولوجيا الأساسية. يستخدم هايديجر هذا المصطلح لتأكيد مدخله الفريد إلى الأنطولوجيا، وهو الذي يبحث الوجود بتركيز البحث في المقام الأول، وبصورة مباشرة، على طبيعة الوجود نفسه، لا على عواقب الوجود، أي على الكائنات وما يرتبط بها من خصائص أو معالم وجودية. أي إن الأنطولوجيا الأساسية عند هايديجر تحاول الإجابة عن أهم سؤال أساسي على الإطلاق، وهو: ما معنى الوجود؟
Gelassenheit
التسليم أو الإسلام [لله]. يبرز هذا المصطلح الألماني في كتابات هايديجر الأخيرة بمعنى يختلف قليلًا عن معناه المعجمي، فالكلمة الألمانية تعني الهدوء أو السكينة أو الاطمئنان، ولكن هايديجر يستعملها في كتاباته الأخيرة لتفيد المعنى الروحاني المشار إليه وفق استعمالها عند عالِم اللاهوت والمتصوِّف الألماني مايستر إيكرت (Meister Eckhart) — وسبب تسميته «مايستر» أي المعلم أنه حصل على درجة الماجستير في اللاهوت عام ١٣٠٢م — (ولد في نحو عام ١٢٦٠م، وتوفي في عام ١٣٢٧ أو ١٣٢٨م)، وكان إيكرت يستخدم اللفظة للإشارة إلى حالة السكينة الربانية التي تتنزل على المرء حين ينكر إرادته الذاتية. ويقول واطس: إن جذر كلمة Gelassenheit هو الفعل lassen، أي يترك أو يسمح أو يخلي سبيل شيء ما، ومن ثم يقترح ترجمة الكلمة عند هايديجر بكلمة تفريج أو إطلاق (releasement)، ولكن موريشيو بيشو (Mauricio Beuchot) يقول: إن إيكرت كان يدعو إلى «ممارسة إفناء الذات والتواضع الكامل» إزاء إرادة الله ابتغاء الوصول إليه («الهرمانيوطيقا في الفكر القروسطي» في موسوعة رتلدج للهرمانيوطيقا، ٢٠١٥م، ص٣٢). كما يشير بعض الباحثين إلى هذه الفكرة التي يبسطها بيشو في كتابه (بالإسبانية) بعنوان الهرمانيوطيقا في العصور الوسطى، ٢٠٠٢م، ومن ثم فالأرجح عندي أن المعنى المقصود عند هايديجر هو التسليم بالمشيئة الربانية، وعلى أية حال فإن واطس لا يبتعد كثيرًا عن هذا المعنى حين يُعَرِّف الكلمة قائلًا:
إنها تشير إلى حالة من حالات الوعي، تتميز بموقف مبني على مقولة «فليكن» Let it be، أي الاستسلام (surrendering) للوجود بعيدًا عن أي إرادة واعية (ص٢٧٤).
والملاحظ أن واطس لا يذكر الله؛ بل الوجود، خوفًا من نسبة الإيمان الديني أو ما يشبهه إلى هايديجر، ويرى أن كلمة الوجود أقرب إلى وصف فكر الفيلسوف، ولكن ذلك يعني تجاهل النشأة الدينية للفيلسوف ودراسته للاهوت في صباه، كما يعني تجاهل التحول الواضح في فكر فيلسوفنا في سنواته الأخيرة، على الأقل، حسبما يتبدى لنا في حديثه عن الرباعية المكونة للوجود، ونعيه تجاهل العالم الحديث، عالم التكنولوجيا، للبعد الروحي والقداسة. ففي كتابه الذي أشرت إليه آنفًا الشعر واللغة والفكر الذي كتبه في السنوات ١٩٣٥–١٩٥١م (ونشرت ترجمته عام ١٩٧٥م أي في حياة المؤلف) يقول: إن كلمة «التسليم» (Gelassenheit) تعني نوعًا من الصبر والقبول، وهو يعبر عن هذا المعنى بكلمة الانتظار (waiting)، ولكن هذا الانتظار ليس انتظارًا لشيء، كأنما يتوقع المرء حدوث شيء معين، بل إنه قبولٌ لما يكونُ وصبرٌ عليه بذهنٍ واعٍ متفتحٍ خالٍ من أية توقعات ممكنة، وهو كما يقول وعيٌ بالانغماس في اللحظة الآنية، من دون استبعاد «للحضور الذي يتقبل تمامًا كل ما يحدث» (ص٦٠)، والجملة المترجمة هي:
(not-excluding presence that is utterly receptive to whatever arises.)
ويقول بعض الشراح: إن هايديجر كان متأثرًا بتقاليد العقيدة التاوية (Taoism) التي تحبس الإرادة الذاتية وصولًا إلى «الطريق» (the way) أي الصلة بالخالق، وقد يكون هذا صحيحًا، ويقول هايديجر في الكتاب المشار إليه أخيرًا: إن دعوة «دع الخلق للخالق» يمكن أن تقدم علاجًا دائمًا للضلال الذي يُحدثه التأطير التكنولوجي، ويضيف قائلًا: «إن العمل الصالح خبيء في التسليم المذكور، وهو أعلى مكانًا من جميع الأعمال الدنيوية والأحابيل البشرية» (المرجع نفسه، ص٦١).
Gestell
الكلمة الألمانية تعني الحامل الخشبي أو المعدني، ويستخدمها هايديجر بمعنى الإطار، انظر (enframing) أعلاه.
ground
يعني هايديجر بها الأساس وحسب.
guilt
«الذنب، أو الإحساس بالذنب». يُجمع شراح هايديجر ومترجموه على أنه لا يستخدم هذا المصطلح بمعناه المعروف، وهو المتعلق بالأخلاق بصفة خاصة، مثل الإحساس بالذنب لأداء شيء لم يكن ينبغي أداؤه، أو الامتناع عن أداء شيء كان ينبغي أداؤه، فالفيلسوف يستعمل المصطلح بمعنى خاص يسميه المتخصصون «الذنب الأنطولوجي»، ويقولون: إنه سابق لنشأة الأخلاق أو تأسيسها، وإنه يفترض سلفًا (أو ينشأ من) فهم الذنب لا العكس، إذ يقول هايديجر: إن «الإحساس الأزلي «بكون المرء مذنبًا» لا يمكن أن يوضع له تفسير أخلاقي، ما دامت الأخلاق تفترضه سلفًا ومقدمًا في ذاتها» (الوجود والزمن، ص٣٣٢) كيف يكون ذلك؟ أفضل حل لهذه المشكلة أن نستبدل بكلمة الذنب تعبيرات أقدر على توصيل المعنى الذي يريده هايديجر، مثل: «الإحساس بالقصور»، أو «الإحساس بالعجز». ولقد درست الصفحات التي يحلل فيها هايديجر هذا الإحساس دراسة مركزة فوجدت أنه ربما كان يجمع بين القصور والعجز معًا، ثم قرأت ما كتبه الشراح في كتب كثيرة فاستطعت أن أهتدي (في ظني) إلى مرماه الذي أعرضه فيما يلي:
يقول هايديجر: إن المرء الذي ينعم النظر في «وجوده في العالم»، ويتبين أنه ذو وجود محكوم عليه بالعدم (nothingness) ثم لا يلتفت إلى تفرد وجوده بشيئين لا يتمتع بهما غيره من الكائنات أو الكيانات، وهما الماضي والمستقبل، يدرك بأنه قاصر عن تحقيق أسباب وجوده؛ إما لأنه يهمل الماضي الذي يتضمن أنه أُلْقِيَ به في العالم بلا خِيَرة من أمره، وأن عليه أن يتناغم مع دنياه وفق معرفته الصادقة بذاته، وحقائق وجوده [facticity] التي تجعله مدينًا بحكم وجوده وحده لهذه الحقائق، وإما لأنه يهمل المستقبل الذي يتضمن الفهم، وتحقيق الإمكانيات التي يتيحها وجوده له في المستقبل، وتحمل المسئولية كاملة عن هذا التحقيق. وهذا الإحساس بالقصور إذن ناجم من إدراك كل إنسان لطبيعة وجوده، ومن ثم فهو يحمل الهم [care] ويتخذ من القرارات ما هو حاسم وقائم على صدق العزم حتى يصل إلى مرحلة الوجود الأصيل، ولكن هذا الوجود الواعي بوجوده المكاني والزماني (أي الحضور) عادة ما يتبين عجزه عن تحقيق هذه الشروط، خصوصًا إذا تبين أنه لن يستطيع أن يكون كل ما يستطيع أن يكونه. ويقول هايديجر: إن هذا الإحساس جزء أساسي من وجودنا باعتبارنا «همًّا»، (ص٣٣٢) مضيفًا: إن «دعوة الضمير لي هي التي تنبئني أنني مذنب [قاصر عاجز] في صلب وجودي نفسه» (المرجع نفسه). ثم يدلل على ما ذكرته بالإشارة إلى أن الحضور الأصيل وحده هو الذي يتبين هذا الإحساس فيعمل على تلافيه، فهو لا ينساق لما يراه الآخرون، ولا يتقاعس عن العمل بحزم وعزم لتحقيق الإمكانيات التي يراها قائمة في المستقبل (projected)، وهكذا يقترب من تلبية دعوة ضميره (بالمعنى المبين عاليه. ارجع إلى conscience).
hermeneutics
الهرمانيوطيقا. هذا مبحث فلسفي ينظر في أساليب وضعنا للتفسيرات المختلفة. وكان هايديجر يرى أن عملية التفسير كلها عملية دائرية بطبيعتها. بمعنى أننا قبل أن نشرع في أي بحث في المعنى يكون لدينا سلفًا فهم من نوعٍ ما للأمر الذي نبحث معناه؛ أي إن البحث في معنى نص من النصوص، أو مفهوم من المفاهيم، أو نسق لسلوك ما، وما إلى ذلك بسبيل، يقتضي أن يكون لدينا قبل تفسير أي جزء من النص أو المفهوم أو السلوك فهم سابق بصورةٍ ما للنص كله، أو المفهوم كله، أو السلوك كله، وعلى غرار ذلك يقتضي تفسير العمل الكلي فهمًا سابقًا للأجزاء التي يتكون منها. فعلى سبيل المثال، نجد أن فهم الألفاظ أو الجمل (الأجزاء) في مقال ما يقتضي فهمًا من نوعٍ ما لموضوع المقال والتقاليد الثقافية أو الأدبية التي ينتمي المقال (العمل الكلي) إليها. وهكذا فإن التحليل الهرمانيوطيقي لا يجتهد لاكتشاف شيء جديد كل الجدة، بل يركز انتباهه على ما هو مفهوم سلفًا إلى حد ما، أو ما هو مدرك بصورة ما سلفًا. والتفسير دائري لأنه يبدأ بإدراك عام شامل للعمل الذي يحلله ثم يتقدم للنظر في الأجزاء المحددة في هذا العمل الكلي ثم يعود مرة أخرى إلى الصورة العامة. ومدخل هايديجر إلى مسألة الوجود يقتضي اتباع هذه «الدائرة الهرمانيوطيقية». وهكذا فعندما يطرح السؤال الخاص بالوجود، فإنه يفعل ذلك استنادًا إلى أننا نفهم الوجود سلفًا بصورة عامة، فإن ذلك هو الذي يسمح لنا بطرح أسئلة عنه أصلًا. وهو يعتبر طبيعة «الحضور» الأساسية طبيعة هرمانيوطيقية بصورة رئيسية ما دامت تطلب المعنى دائمًا، ودائمًا تجعل المعنى ممكنًا. (هايديجر، المنطق: بحث عن الحقيقة، ص١٢١، الترجمة من معجم هايديجر الذي وضعه إنوود عام ٢٠٠٠م وسبقت الإشارة إليه) «فالحضور» لديه فهم سابق لوجوده، ولوجود الكيانات الأخرى في العالم. وهكذا فنحن، كما يقول هايديجر، في تعاملاتنا مع العالم «دائمًا ما نمارس أنشطتنا في إطار فهم معين للوجود» (الوجود والزمن، ص٢٥). وبتعبير آخر، يقول: إن لدينا فهمًا أوليًّا سابقًا على التأمل لطبيعتنا وطبيعة الكيانات المحيطة بنا، وهو ما يسمح لنا بأن نفهم عالمنا. وهكذا فإن «الحضور» ذو وعي بإمكانية الموت القائمة دائمًا (ما دام إدراكنا أن حياتنا تبدأ وتنتهي هو الذي يهب عمر كل منا طابعه «الكلي» ومعناه)، وهذا الوعي يمنحه إدراكًا بوجوده في كيان كلي نظري، وهذا أيضًا ما يُمَكِّنُ «الحضور» من البحث فيما يعنيه الوجود. ويقول هايديجر: إن المهمة الحقيقية المنوطة بالفيلسوف هي تفسير هذا الفهم (السابق للتأمل) للوجود في العالم، وأن يُصرِّحَ به في شكل موضوع واضح فكريًّا، وفي إطار نظرية أنطولوجية. ويقول بعض الشراح: إنه على الرغم من وصف البحث بأنه دائري، فمن الأدق أن يوصف منهج هايديجر بأن له بناءً حلزونيًّا يزداد عمقه باطراد، ما دام بحثه لا يعيد نفسه وحسب، بل إن كل حركة دائرية تتغلغل إلى مستوى أعمق من سابقه، فهو يبدأ بتقديم فهم وتحليل عامَّين تمهيديين للوجود، ويؤدي ذلك إلى تقديم نظرات عميقة تؤدي إلى تنقيح التحليل السابق وتعميقه، وهو ما يؤدي بدوره إلى المزيد من النظرات العميقة وهلم جرًّا (الوجود والزمن، ص١٩٣–١٩٥). ويواصل هايديجر بهذا الأسلوب تفسير جوانب وجودنا على مستويات تزداد عمقًا باطراد وتقدم لنا فهمًا أعمق لوجودنا — أي حقيقة ماهيتنا — بحيث نقترب من فهم الوجود بصفته الكلية.
وأظن أن هذا هو المكان المناسب للتمييز بين معنى دائرة الفهم عند هايديجر ومفهوم دائرة الفهم القائمة على منطق الروح أو الفكرة السائدة (أو الروح والفكرة معًا)، وهو المفهوم الذي وجده عند شلايرماخر — وإن لم يذكر هذا المفكر (١٧٦٨–١٨٣٤م) الذي يعتبر مؤسس مبحث الهرمانيوطيقا الحديث، كلمة الدائرة تحديدًا — وعند فريدريش آصت (Ast) (١٧٧٨–١٨٤١م) ويعتبر أصل مفهوم دائرة التفسير الحديثة (عند إدوارد سعيد مثلًا). يقول جونتر شولتس (Gunter Schulz) إن آصت كان يرى أن على كل تفسير أن يجيب عن ثلاثة أسئلة؛ الأول: ما موضوع العمل؟ ويطلق آصت على الإجابة الناتجة من هذا السؤال صفة الفهم «التاريخي»؛ لأنه مبنى على معرفة الحياة والثقافة في وقت كتابة النص (انظر الفصل الأول حيث أناقش معنى الفهم)، والسؤال الثاني «نحوي»، أي يطلب الإجابة عن السؤال الخاص «بالشكل» وكيف يكمن المضمون في اللغة. والسؤال الثالث وهو الأهم هو: ما الفكرة الرئيسية في العمل؟ وهو أهم سؤال لأنه يهدف إلى «الفهم الروحي» ومن ثم فهو يجمع بين السؤالين الأول والثاني. ويضيف شولتس:
ولما كانت الفكرة والروح تقيمان الروابط بين الأجزاء المفردة، كالكلمات والعبارات، لخلق كيان كلي له معنى، فإن آصت يركز على فهمها، ويشرح ما اشتهر باسم الدائرة الهرمانيوطيقية قائلًا: «إن القانون الأساسي لجميع أنواع الفهم والإدراك هو أن نستنبط من الأجزاء المفردة روح العمل الكلي، وأن نفهم الجوانب المفردة من خلال العمل الكلي». ويقول: آصت إن هذه الدائرة لا تمثل فجوة أو خطًّا منطقيًّا، … [و] الكيان الكلي لا يمثل مجموع العناصر المفردة؛ ولكنه موجود أصلًا في كل عنصر مفرد، ومن ثم فإن معرفة عنصر واحد يمكن أن تؤدي إلى حدس الكيان الكلي، ويمكن لهذا الحدث، من خلال الانتقال من عنصر إلى عنصر، أن يصبح فهمًا وإدراكًا للكيان الكلي، ولما كان على المرء أن يدرك الأجزاء المفردة والنص الكامل في الوقت نفسه، فإن الفهم تركيبي أو تجميعي من زاوية معينة، وهو أيضًا تحليلي من الزاوية المقابلة. وهذه العملية المزدوجة لا بد من تطبيقها في تفهم نصوص مفردة، وكذلك في تفهم أدب الزمن الغابر برمته. وإيضاحًا للدائرة الهرمانيوطيقية، يحيلنا آصت إلى الأفكار السابقة في تاريخ الفلسفة. فلقد سبق لأرسطو أن زعم أن الكيان الكلي أوَّليٌّ (proteron) وأسبق في الوجود من الأجزاء (الشجرة الكاملة موجودة في البذرة قبل نمو الجذور والجذع والفروع). ثم وجد كانط علاقة تبادلية بين الأجزاء المفردة والكيان الكلي في الطبيعة العضوية، ففي الكائنات الحية تقوم الأجزاء بوظائف الوسائل والغايات معًا للكيان الكلي، بحيث لا يمكن لأحد أن يتعرف على طرف من دون الطرف الآخر.
(جونتر شولتس، آصت وشلايرماخر في موسوعة رتلدج للهرمانيوطيقا، من تحرير مالباس وجاندر، ٢٠١٥م، ص٦٥–٦٦)
ولم تتوقف مناقشة الدائرة التفسيرية (ودائرة الفهم) عند الصورة التي وضعها هايديجر، بل أضاف إليها تلميذه جادامر بُعدًا جديدًا يتمثل في الافتراضات المسبقة التي من المحال أن يقوم أي تفسير (ناهيك بأي فهم) إلا على أساسها، ويقول هانز-هيلموت جاندر (Gander) إن جادامر استند إلى المعنى الأنطولوجي الإيجابي للطابع الدائري للمعرفة الإنسانية على نحو ما بينها هايديجر، ثم وضع صيغته الأصلية الجديدة للدائرة الهرمانيوطيقية بألفاظ مستمدة من نموذج التفسير النَّصيِّ حتى يُرسي أساسًا جديدًا للهرمانيوطيقا في العلوم الإنسانية. يقول جادامر:

كل من يحاول أن يفهم نصًّا من النصوص يلجأ دائمًا إلى الإسقاط، أي إنه يسقط معنى للنص بصفة عامة بمجرد أن يظهر له معنى مبدئي في النص. ونقول من جديد: إن المعنى المبدئي لا يظهر إلا لأن القارئ يقرأ النص ولديه توقعات بخصوص معنى معين، وهو يتعامل مع الإسقاط الأوَّلي، فيعدله باستمرار وفق ما يبرز له أثناء تغلغله في المعنى، فيصل إلى فهم ما في النص.

(جادامر، الحقيقة والمنهج، الطبعة الثانية المنقحة، ٢٠١٣م، ص٢٧٩)

ويضيف جاندر: إن القضية الجوهرية تتكشف لنا في مدخل جادامر حين نلاحظ أنه حتى حين يكون النص حاضرًا في شكل كيان كلي ذي معنى مقصود، فإن المعنى دائمًا ما يكون كامنًا في افتراضات مسبقة، أي سابقة على النص وخارجة عنه، ولكنها تظل كامنة إلى حد كبير في النص نفسه، وهكذا فإن النص المكتوب دائمًا له تاريخ سابق عليه.

(جاندر، «جادامر»، في موسوعة رتلدج للهرمانيوطيقا، ٢٠١٥م، ص١٤٠.)
historiology
علم التاريخ. الكلمة الإنجليزية هي الكلمة التي ترجم بها ماكاري (Macquarrie) وروبنسون كلمة هايديجر الألمانية Historie في كتابه الوجود والزمن، وهي تشير إلى التاريخ بالمعنى العادي، باعتباره الدراسة العلمية المنهجية والسردية للتاريخ.
historicity and historicism
الطابع التاريخي والمذهب التاريخي. الكلمة الإنجليزية للطابع التاريخي من ترجمة ستامباو للوجود والزمن، ٢٠١٠م، وأما ماكاري وروبنسون فيترجمان كلمة هايديجر Geschicklichkeit (١٩٦٢م) بكلمة historicality ويستخدم هايديجر المصطلح في الإشارة إلى الطبيعة التاريخية «الحية» بصفة أساسية للوجود الإنساني، وهو يستخدم الكلمة في الإشارة فقط إلى الأسلوب الفريد «للحضور» [أي الفرد الواعي بوجوده] في الوجود في العالم باعتباره كائنًا تاريخيًّا. ويقول هايديجر: إن الطابع التاريخي «للحضور» وهو ذو الجذور في طبيعته الزمنية، هو السبب الوحيد الذي يجعلنا نهتم أصلًا بأحداث الماضي ويمنحنا القدرة على دراستها دراسة علمية، بأسلوب يحمل دلالات لنا، ومن ثم فمن المحال أن يوجد شيء اسمه التاريخ بأي معنى من المعاني لو لم يكن «الحضور» تاريخيًّا، إذ إن الطابع التاريخي «للحضور» يقدم فهمًا سابقًا، أو قل: إنه معنى للتاريخ يكشف عن الماضي التاريخي، وبذلك يُرسي الأساس اللازم لعلم التاريخ. وأما المذهب التاريخي (historicism) فهو محاولة تفسير الظواهر الإنسانية ومن بينها اللغة والأدب وشواغل العلوم الإنسانية الأخرى من وجهة نظر سياقها التاريخي، فتفسير فكرة فلسفية مثلًا من زاوية المذهب التاريخي يعني النظر إليها في منشئها وتطورها، وإمكان رد بعض عناصرها إلى أحوال كانت سائدة يومًا ما ثم انحسرت أو تلاشت، فتناول ظاهرة الرِّق مثلًا من مدخل تاريخي لن ينظر في معنى العبد ومعنى السيد بصورة مطلقة؛ بل في إطار صورة العبيد في الإمبراطورية الرومانية من حيث الواقع الفعلي والأفكار التي كانت تبرره آنذاك؛ سواء كتبها مفكرون أو أدباء، ونحن نميز اليوم هذا النهج في التناول بسبب إصرار فلاسفة الهرمانيوطيقا (أو أصحاب الهرمانيوطيقا الفلسفية) على ربط التفسير بالواقع التاريخي. وأما المذهب التاريخي الجديد أي التاريخية الجديدة (New Historicism) حسبما يطبقه نقاد الأدب فيضيف إلى التاريخية «القديمة» عنصر مساهمة النص الأدبي في تشكيل الواقع القائم في زمنه، خصوصًا تغيير الواقع، لا مجرد كونه انعكاسًا لهذا الواقع.
historizing
الالتزام بتاريخ المرء، ويقول هايديجر: إنه يعني الأسلوب الفريد والخاص الذي يتبعه «الحضور» [الشخص الواعي بوجوده] في العالم ما بين مقتضيات حياته الشخصية بين مولده ومماته (الوجود والزمن، ص٤٢٥، و٤٢٧)، وليس ذلك مما يحدث بصورة تلقائية، بل عندما يدرك المرء أنه صائر إلى الموت فيستبقه، أو يسبقه، بالاختيار الحازم لإحدى الإمكانيات التي تتيحها «لحظة الرؤية»، ثم يعود إلى حاضره الأصيل لتنفيذ ما قَرَّ اختياره عليه. والالتزام بمسار التاريخ ترجمة لا تفي بمعنى هايديجر الذي يطبق هذا الالتزام على كل فرد يعي بوجوده، أي على كل «حضور».
inauthenticity
عدم الأصالة. ويشير هذا المصطلح إلى أسلوب عيشنا المعتاد، أي باعتبارنا جزءًا من الناس الذين يحيطون بنا، ويسميه هايديجر «العيش بنفس الآخرين» وهو الذي يتميز بعدم وعي المرء بإمكانياته الذاتية وعدم الوعي بذاته الأصيلة. وتنشأ حالة عدم الأصالة من استغراق المرء في أساليب العيش التي يرسمها الآخرون. وعندما يستخدم هايديجر تعبير «عدم الأصالة» فإنه بالقطع لا يوحي بأن أسلوب العيش المذكور أقل من أسلوب العيش «الأصيل» اتصافًا بحقيقته الواقعية، فهو يؤكد أن الوجود غير الأصيل للحضور — وهو الذي يتميز «بالسقوط» وهيمنة نفس الآخرين عليه — ليس نتيجة لخيارات خاطئة أو ضعف أخلاقي، بل يعتبر جزءًا من بناء الوجود العادي في الحياة اليومية في العالم. ارجع أيضًا إلى نفس الآخرين (the They self) والسقوط/التردي (falling/fallenness).
intentionality
القصد/العمد. يشير هذا المصطلح إلى مفهوم يمثل صلب مذهب الظاهراتية عند هوسرل. فالمصطلح intentio، كما يقول هايديجر: «يعني حرفيًّا توجيه النفس نحو شيء ما. فكل خبرة معاشة، وكل سلوك نفسي، يوجه نفسه باتجاه شيء ما. والتمثيل (representing) تمثيل لشيء، والتذكر تذكر لشيء، والحكم حكم على شيء، وقس على ذلك الافتراض والتوقع والأمل والحب والكراهية، فكلها موجهة إلى شيء ما» (تاريخ مفهوم الزمن: مقدمة ترجمة كيزيل، ١٩٨٥م، ص٢٩). وهكذا فحسبما يقول هايديجر، لا يعتبر الوعي قائمًا بذاته أو تامًّا في ذاته على الإطلاق؛ لأنه دائمًا ما يمتد أو يمد ذاته نحو شيء آخر، في جميع حالات تعبيره عن نفسه، وعلى عكس هوسرل، يرى هايديجر أن هذه الحقيقة ذات أهمية ثانوية وحسب، وأما ما يتسم بأهمية أولوية هنا فهو سلوكنا المتعمد تجاه الشيء الذي ندركه، إذ إن هذا السلوك يتضمن الخبرة المعاشة كلها التي نلاقي فيها أي شيء ندركه. وهكذا فعندما أبصر كيانًا أراه في الوقت نفسه باعتباره شيئًا، وأرتبط به على الفور، إذ إن سلوكي المتعمد نحوه مستمد من فهمي السابق لمجموع أجزاء العالم المحيط بي، وهو الذي يحدد تلقائيًّا كيف تتكشف الأشياء لي، وطبيعة إدراكي. ويقول هايديجر: «لا يمكن أن يكون التفسير إدراكًا يخلو من الافتراضات المسبقة للشيء الذي يقدم إلينا» (الوجود والزمن، ص١٩١–١٩٢). ويضع هايديجر تمييزًا بين نوعين من القصد أو من العمد، الأول هو «العمد المفترض» أو القصد المفترض، والثاني هو «العمد المحقق» أو تحقيق القصد، فأما الأول فهو إيجابي عملي، فإذا قلتُ لأخي: «يوجد كلب خارج باب المنزل الأمامي» فإنه على الرغم من فهم كلامي لن يستطيع التنبؤ بأسلوب ملاقاة الكلب، هل يراه جميلًا أم مشاكسًا أم ودودًا؟ ذلك لأنه لم يمر بعد بهذه الخبرة في الواقع العملي. ولا يقول هايديجر إن العمد أو القصد قد «تحقق» إلا حينما يرى أخي الكلب رأي العين، وهكذا فإن «ما كان في البداية مجرد افتراض قائم وحسب، يثبت الآن حقيقته باعتباره ذا أساس مادي» (تاريخ مفهوم الزمن: مقدمة، ص٤٩). ويثبت هايديجر في هذا الكتاب الأخير مثلما أثبتَ في الوجود والزمن أن تصوير هوسرل للعمد أو للقصد النظري إلى حد بعيد، لا يأخذ في اعتباره أن علاقة «الحضور» بالعالم علاقة انشغال به وحدبٍ عليه، فعلى عكس ما يراه هوسرل، يقول هايديجر: إن القصد أو العمد لا يمثل هيكلًا للوعي بل يمثل هيكلًا «للحضور» (أي للمرء المهتم بوجوده)؛ إذ إن فهم «الحضور» للوجود هو الذي يجعل القصد أو العمد ممكنًا، «فالحضور» يتعامل مع الكيانات، وهو «الحامل» للقصد أو العمد، فإذا كان هوسرل يعتبر أن الأشكال النظرية للعمد أو القصد، وخصوصًا تعمد الإدراك، تحتل مكانة أولية، وأن الأشكال العملية للقصد تقوم على أساسها، فإن هايديجر يرى عكس ذلك. فهو يؤكد أن الهَمَّ (Besorgen) باعتباره الانشغال بالتعامل الجاد مع الحقائق الواقعة اليومية، هو الذي يبني الشكل الأساسي للعمد أو القصد (الذي يتأثر بمزاج «الحضور» أو حالته النفسية). وهكذا فإن هايديجر يرى أن «مجرد إدراك» شيء أسلوب قاصر لا يحقق ذلك القصد أو العمد القائم على الانشغال و«الهم».
interpretation
التفسير. ويقصد هايديجر به فهم ما يسمى «بناء البيان» و«البناء المسبق» للكيانات من حولنا، وهو ما يعني أن خبرتنا بالكيانات تقدمها لنا كاملة لا في صورة خصائص معينة لها. فأما بناء الماهية فهو يعبر عنه بمصطلح بناء البيان أي (as-structure) الذي يعني: إنني أرى شيئًا ما باعتباره (as) شيئًا ذا هوية محددة ومعروفة وقد سبق لهايديجر أن ضرب مثالًا من مشاهدة شيء باعتباره منضدة أو مائدة، فالحرف (as) يشير إلى الكيان الكلي للشيء مهما اختلفت تفاصيله الدقيقة من «مثال» إلى مثال، وأما «البناء المسبق» فيعني أن لديَّ أبنيةً كاملةً سابقة تمثل أشياء أعرفها، وقد يؤثر البناء المطبق في بناء البيان فقد يكون لديَّ بناءٌ مسبقٌ لمنضدة عادة ما أراها باعتبارها منضدة، لكنني إذا رأيت عليها كراسات وأقلامًا وكتبًا فقد أراها باعتبارها مكتبًا، فالبناء المسبق للمكتب قد يحل محل بناء البيان للمنضدة، أو يغيره إلى درجة كبيرة. ويعلق هايديجر أهمية كبيرة على هذا التمييز، إذ يتهم الوجود «غير الأصيل» باتباع «الأبنية المسبقة» التي يتلقاها من الآخرين، بحيث تغير من رؤيته الصادقة لإمكانياته التي يتيحها له وجوده. (انظر as-structure أعلاه).
irresoluteness

المعنى الحرفي للكلمة هو عدم الحزم والعزم، ولكن هايديجر يعني بها انغماس المرء في الدنيا من حوله إلى الحد الذي يمنعه من التطلع إلى المستقبل باعتباره ذا وجود له معنى، وهو يتأثر في هذا، بطبيعة الحال، بما يقوله الآخرون ويفعلونه، وقد يبلغ هذا التأثر حدًّا يجعله يجهل حقيقة ذاته وإمكانياته، فلا يقدر على اتخاذ قراراته المستقلة.

logos

هذه كلمة يونانية تعني عدة أشياء أولها: الكلمة، وتعني القول أيضًا أو المقولة، ويستخدم هايديجر هذا المصطلح للدلالة على اللغة التي لا تنفصل الألفاظ فيها عما تسميه، قائلًا: إننا حين نسمع الكلمة اليونانية المنطوقة نجد أنفسنا مباشرة أمام الشيء نفسه، ولا نجد أنفسنا أولًا أمام مجرد علامة لفظية.

marginal practices

الممارسات الهامشية. هذه أنشطة غير تكنولوجية أصبحت مجرد ممارسات هامشية في ثقافتنا. ويعني هايديجر بها المُتع الطبيعية البسيطة مثل الصداقة الحقيقية، والنزهة الهادئة على الأقدام في الريف، والجلوس والتطلع إلى السماء التي تسطع فيها النجوم، وباختصار أي عمل لا تدفعه الرغبة في «الكفاءة» أو «الإنتاجية» أو «الارتقاء الذاتي». وكان هايديجر يأمل أن تساعد أمثال هذه الأنشطة على وضع أو إقرار توجهات ذات قيمة لوجودنا، بحيث تشغل فيها الممارسات غير التكنولوجية موقع المركز وتزاح التكنولوجيا إلى الهامش.

meaning

المعنى. «المعنى» هو ما يصل إليه المرء عندما يصبح «الفهم» على وعي بالبناء البياني للكيانات. فإن فهم معنى شيء يفيد إدراك وظيفته، إلى جانب رؤية علاقاته الغرضية المهمة بالكيانات الأخرى. ويقول هايديجر: إن «الحضور» [الشخص الواعي بوجوده] يتمتع بفهم سابق لوجوده في العالم، وهو الذي يزوده بمعرفة بالإمكانيات العملية للأشياء الموجودة في بيئته. ولهذا السبب فإن «الحضور» يشعر بأن وجوده جزء من شبكة علاقات مهمة مع الكائنات الأخرى، وهكذا يستطيع أن يفهم وجوده الخاص وإمكانياته الخاصة، في علاقة ذلك كله مع وجوده في العالم باعتباره جزءًا من كيان كلي له معنى. أي إن فهمنا المسبق للوجود هو الذي يعتبر أول ما يكشف لنا عالمنا المحيط بنا والكيانات التي في داخله ويهبه وإياها معنى.

metaphysics

الميتافيزيقا: الدراسة الفلسفية للطبيعة الأساسية للواقع الحقيقي وتكوينه وبنائه، وهي تنصب على وجود ما ليس بمادي، مثل الزمن والمكان، ومثل الله سبحانه وتعالى.

moment of vision
لحظة الرؤيا: يقول هايديجر: إن «الحضور» الأصيل يتخذ قراراته في الزمن الحاضر الأصيل الذي يسميه der Augenblick أي «لحظة (الرؤية)»، والمقصود بها لحظة القرار القائم على العزم والتصميم، وفيها يقتنص الحضور الإمكانيات الأصيلة التي تتيحها له «حالته» (الوجود والزمن، ص١٨٨). و«الحضور» ذو الحزم فقط هو الذي يقتنص خبرات لحظة حاضرة أصيلة تتسم بكونها «لحظة رؤيا» معينة. ومن ثم فإن لحظة الرؤيا تتمتع بدلالة استثنائية عند هايديجر؛ لأنها تعبير عما لدى «الحضور» من حس مرهف وفهم أصيل «للحظة» التي تعتبر نبض القلب الخفاق للزمن. فوفقًا لمفهوم هايديجر، لا تعتبر «اللحظة» مجرد مرور الزمن بلحظة محددة في الوقت الحاضر؛ وليست مجرد حادث، بمعنى كونها شيئًا «يقدم» بصورة تلقائية إلى «الحضور»، بل لا بد من اكتشافها، لأن علاقتنا المعتادة غير الأصيلة مع الزمن تخفي هذه اللحظة. وبعبارة أخرى تعتبر هذه اللحظة إنجازًا مستمدًّا من أصالة «الحضور»، ومن تجليات عودة «الحضور» إلى ذاته بعد التشتت بسبب السقوط، إذ يقول هايديجر في كتابه المفاهيم الأساسية للميتافيزيقا: العالم، الطابع المحدود، العزلة، ترجمة ماكنيل وَوُوكر ١٩٩٥م، ص١٤٩: «ليست لحظة الرؤيا إلا نظرة كشف قائم على الحزم والعزم، حيث تنفتح حالة فعل ما انفتاحًا كاملًا وتحافظ على انفتاحها». ويصف هايديجر القدرة على إدراك هذه اللحظة ومواجهتها بأنها «الإمكانية الأساسية للوجود الحقيقي «للحضور»» (المرجع نفسه).
moods
الحالات النفسية. على الرغم من أن هايديجر يستخدم الكلمة المعتادة للتعبير عن مفهوم «المزاج» (mood) وهي الكلمة الألمانية Befindlichkeit التي تعني بصفة عامة «كيف يجد المرء حاله» أو «كيف حاله» (كما في السؤال: كيف حالك؟) فإن الكلمة الألمانية الأقرب إلى تقديم معنى المزاج هي Stimmung. وتعني هذه الكلمة أيضًا ضبط أنغام أوتار آلة موسيقية، ويستغل هايديجر هذا الارتباط بين النفس والآلة الموسيقية، إذ يرى أن «المزاج المعتدل» (أي الحالة النفسية السوية) يعني «تناغم» المرء مع الدنيا بأسلوب معين، الأمر الذي يؤثر في موقفه العام إزاء مجموع الأشياء وطبيعة الفهم لدينا في أي وقت من الأوقات، إذ إن الحالات النفسية التي كثيرًا ما تتجاهلها الفلسفة تعتبر جزءًا أزليًّا من الطابع الأساسي «للحضور» وأسلوب وجوده، لأن المزاج سمة دائمة من سمات الحضور، وهكذا فنحن دائمًا نرتبط بنغمة ما، وبأسلوب ما، إلى الأشياء بصفة عامة، وإلى حالنا «الشامل»، أي إلى «وجودنا الكلي في العالم» (الوجود والزمن، ص١٧٦). ونحن دائمًا في حالة نفسية من نوع ما، تؤثر بدورها في مشاعرنا وسلوكنا ونظرتنا العامة إلى الدنيا، لأن الحالة النفسية «كانت ولا تزال تكشف عن وجودنا في العالم بصفته الكلية، بحيث تتيح لنا الإمكانية الأولى لتوجيه أنفسنا نحو شيء بصفة خاصة» (المرجع نفسه). ويقول هايديجر: إن الحالات النفسية المتوترة مثل الإحساس بالقلق والخوف، وكذلك السأم أو الملل الوجودي، يمكن أن تكشف عن حقائق أساسية عن الوجود، إذ إنها تستطيع الكشف المكثف عن طبيعة الوجود المجردة على حقيقتها، من دون «الزخرفة» الظاهرة المرتبطة بالعمل أو المنزل أو الحياة الاجتماعية الشخصية. وتستطيع الحالات النفسية إذن أن تكون مصدرًا ذا أهمية حيوية للنظر نظرات ثاقبة في طبيعة وجودنا في الدنيا. ويقول هايديجر أيضًا بوجود مزاج فلسفي أساسي يمثل شرطًا مسبقًا للفهم الحقيقي. فإذا لم يتوافر هذا المزاج للمرء أصبح يشعر أن الأفكار العميقة التي سبق أن واتته تحولت إلى خليط مرهق من «قشور الألفاظ» والمفاهيم «المقتسَرة»، إذ يقول: «كل تفكير أساسي يتطلب استخراج أفكاره ومقولاته مثل الذهب الخام الذي يتجدد كل مرة من تربة مزاج أساسي، فإذا خانه المزاج تحول كل شيء إلى تكدس بلا نظام للمفاهيم وقشور الألفاظ» (من مساهمات في الفلسفة Beitrage der philosophie (Von Ereignis) من تحرير فون هيرمان عام ١٩٨٩م، والترجمة ١٩٩٩م، ص٢١).
nihilism
العدمية. يستخدم المصطلح بصفة عامة للإشارة إلى انهيار جميع أشكال التقاليد والسلطة، وجميع القيم الخلقية والدينية والفلسفية، وجميع تفسيرات الواقع. فعندما يستولي المزاج العدمي على المرء لا يبدو له أن للكون غرضًا أو دلالة، ولا يرى أية وحدة يمكنها أن تهب الحياة معنى، ولا يرى حقائقَ أو قيمًا خالدة. وتعتبر العدمية من المفاهيم الرئيسية في فلسفة نيتشه، وقد ساعدت أفكاره عن هذا الموضوع هايديجر على فهم هذه النظرة، إذ كانت من الدوافع الرئيسية التي دفعت هايديجر إلى التساؤل عن الوجود رغبته في قهر النظرة العدمية، بسبب إيمانه بأن لها عواقبَ فاجعة على مستقبل الإنسانية. ويذكر هايديجر في وقت مبكر من حياته العملية، أي في عام ١٩٣٥م، ما تعنيه العدمية بصفة أساسية له قائلًا: «إنها تعني انشغال المرء بالكائنات ونسيان الوجود» (مقدمة للميتافيزيقا، ترجمة فريد Fried وبولت Polt، ٢٠٠٠م، ص٢٢٦) ويضيف أن «التغلب» على العدمية يتطلب «متابعة البحث في الوجود حتى حدود العدم داخل مسألة الوجود، ثم إدراج العدم في مسألة الوجود. هذه هي الخطوة الأولى والوحيدة على طريق التغلب الحقيقي على العدمية» (المرجع نفسه).
Nothing
يستخدم هايديجر كلمة «العدم» مسبوقة بأداة تعريف، على غير المقبول في اللغات الأوروبية، للدلالة على أنه يقصد بها كيانًا معينًا مثل الوجود، وأنهما متساويان في الطابع الأزلي، بمعنى أن العدم لا يفيد نفي الوجود، أي إن العدم لا يوازي عبارة «لا شيء»، قائلًا: إن الوجود والعدم لا ينفصلان ويعتمد كل منهما على الآخر، كأنهما وجهان لعملة واحدة، مطالبًا إيانا بأن «نرى أن العدم يعادل الوجود في أزليته» (مسألة الوجود، والترجمة في إنوود، ٢٠٠٠م، ص١٠١)، ومضيفًا: «إن العدم … يكشف عن نفسه باعتباره ينتمي إلى وجود الكائنات» («ما الميتافيزيقا؟» في الكتابات الأساسية، ص١٠٨). أي إن «العدم» («Nothing») ليس نفيًا للوجود، وليس «حالة العدم» (Nothingness) القائمة في العدمية حسبما جرى عليه فهمها في حالات كثيرة منذ عهد نيتشه. إذ إن هايديجر يؤكد أن التغلب على العدمية يتطلب البحث في الوجود حتى نصل بصراحة إلى حدود العدم، ثم ندرج العدم في مسألة الوجود» (مقدمة للميتافيزيقا، ص٢٢٦)، قائلًا: إننا عادة ما نكتم وعينا بالعدم، ولكن حالة القلق والخوف تكشف عنه أحيانًا، ومن ثم فهي تعمق فهمنا للكائنات، إذ إن وجود خلفية العدم هي التي تمكن كل كائن من تقديم نفسه باعتباره ليس عدمًا، أي باعتباره شيئًا ما، ويقول هايديجر: «في الليلة الصافية للقلق والخوف يشرق الانفتاح الأصلي للكائنات بمعناها المعروف، أي إنها كائنات، وليست عدمًا … ويكمن جوهر العدم النافي للأشياء أصلًا في هذا، أي في تقديمه «الحضور» لأول مرة أمام الكائنات بمعناها المعروف» («ما الميتافيزيقا؟» في الكتابات الأساسية، ص١٠٣). وهكذا فإن هايديجر يعتقد أن «للوجود» معنى لسبب واحد وهو أنه يعيش دائمًا في ظل العدم «من دون الكشف الأصلي عن العدم، لا تتحقق للنفس هوية، ولا توجِد حرية» (المرجع نفسه). ونحن نعيش الآن، حسبما يرى هايديجر، في عصر يتسم بخصيصة «نسيان الوجود»، ومن نتائج هذا أن الكائنات لا يؤوي بعضها بعضًا، لأنها قد اخْتُزِلَتْ فأصبحت «لا كائنات» (unbeings)، وهو ما ترتب عليه أنْ غَدَونا لا نأبه للفرق بين الكائنات وبين العدم، ومن ثم فالكون يتحول بالنسبة لنا إلى أرض خراب. (مساهمات في الفلسفة، ص٤٧).
nullity
البُطْلَان. البطلان في اللغة اسم من باطل بمعنى منعدم الأثر (أو لاغ في القانون) والشراح يوازون المقصود بكلمتي Nichtigkeit وكلمة Ungültigkeit الألمانيتين، من دون تبيان استعمال هايديجر لأيهما، ولكن إيرادهما على أية حال ينبهنا إلى أن المقصود هو البطلان أو الخواء (أو حتى «العدم» إذا توسعنا قليلًا في الدلالة) لأن التحليل الأنطولوجي الذي يقدمه هايديجر يقول: إن أساس الوجود الإنساني هو العدم. وهكذا فهو يقول: إن وجود الحضور نفسه «وجود أساسه بُطلان» (الوجود والزمن، ٣٢٩). «فالحضور»، وفق ما يقوله هايديجر «ليس في ذاته أساس وجوده» ما دام قد أُلْقِيَ به في العالم إلقاءً ينم على مصادفة محضة، وما دام هذا الإلقاء هو الذي حدد مولده (الوجود والزمن، ٣٣٠). وهو يقول بعبارة أخرى: إنه ما دام «الحضور» لم يتحكم بأية صورة من الصور في أحوال حياته والظروف التي «أُلْقِيَ» به فيها، فإن هذا يعني في نهاية المطاف (إلى جانب أنه وجود يسير نحو الموت) أنه ليس لديه إمكانيات تنتمي إليه انتماءً حقيقيًّا، وذلك لأن ماضيه الذي لا يستطيع التحكم فيه بسبب إلقائه في الدنيا، لا بد أن يصبح أساسًا لوجوده كله، (الوجود والزمن، ٣٢٩–٣٣٠) ما دام ماضي «الحضور» هو الذي يوفر الإمكانيات المتاحة حاليًّا والتي يختار منها ما يحدد مستقبله. وهكذا فإن إدراكه طبيعته الفانية (أي إنه كائن يسير نحو الموت) وهي التي تتكشف له أثناء سيطرة حالة القلق والخوف عليه، هو الذي يكشف «للحضور» بطلانه الجوهري، أي إن وجوده يرتكز على العدم، «وهو العدم الذي يجعلنا الخوف والقلق نواجهه مواجهة مباشرة، ويكشف عن البطلان الذي يحدد أساس الحضور نفسه؛ وهذا الأساس نفسه يعتبر نظيرًا للإلقاء في الموت» (الوجود والزمن، ص٣٥٦). وهكذا ففي هذه الحالة من حالات الوعي، يصبح من المحال الحفاظ على الإحساس المعتاد بالهوية من حيث الصفات الشخصية والإنجازات، ما دام «الحضور» يتبين الآن أن وجوده كله قائم على العدم.
ontic knowledge
المعرفة الوجودية. يقول واطس: «إنها معرفة بالأشياء الموجودة وخصائصها من دون أي اعتبار لوجودها الفعلي: أي الحقيقة الأزلية لوجودها. وبعبارة أخرى، هي المعرفة بما يوجد نتيجة للوجود لا المعرفة بالطبيعة الفعلية «للوجود» نفسه.» (فلسفة هايديجر، ٢٠١١م، ٢٧٩).
ontic truth
معلومات صادقة، أي معلومات مبنية على حقائق، ويشير المصطلح إلى الحقيقة التي «ثبت» صدقها استنادًا إلى «معلومات» تحقق المرء من صدقها.
ontological
أنطولوجي. المعلومات أو البيانات أو الملاحظات الخاصة بالوجود نفسه أو وجود الكائنات.
ontological difference
الاختلاف الأنطولوجي. يختلف الوجود عن الموجودات (الكائنات) في أنه لا يتسم بخصائص تقبل القياس؛ إذ إن «وجود الكائنات ليس في ذاته كيانًا» (الوجود والزمن، ص٢٦). ومصطلح «الاختلاف الأنطولوجي» يشير إلى هذا الاختلاف أو التمييز الجوهري بين الوجود والكائنات.
ontologist
الباحث الأنطولوجي. فيلسوف يبحث في طبيعة الوجود.
ontology
الأنطولوجيا. وتعني التأمل الفلسفي لطبيعة الوجود، وقد بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد، على أيدي الفلاسفة الذين سبقوا سقراط وشعروا بالحيرة إزاء حقيقة الوجود التي لا يبدو أن لها تفسيرًا، وشرعوا في التساؤل عنها. ولكن هايديجر يقول: إن أفلاطون وجميع الفلاسفة الذين أتوا من بعده ارتكبوا الخطأ الفادح المتمثل في اتخاذ «موقف نظري» في تفسيرهم للوجود، وهو ما أدى إلى نشأة «نسيان الوجود»، الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم. وكان من نتائج ذلك أن شُغِلَتْ الأنطولوجيا إلى حد بعيد بالبحث في «الأشياء» الموجودة لا في الوجود نفسه. ويطلق هايديجر على مدخله الخاص الأنطولوجيا الجوهرية؛ لأنه مدخل يطرح أسئلة مباشرة عن الوجود نفسه، أي ما «الوجود» في الواقع و«ما معنى الوجود».
onto-theology
اللاهوت الوجودي: أيُّ مدخل فلسفي يبحث عن أصلٍ للوجود في جوهرٍ ذي وجود فائق أو متعالٍ، مثل الإله. وكان هايديجر يعتبر كل هذه المداخل بمثابة التهرب من المسألة الأساسية وهي قضية الوجود.
phenomenology
«الظاهراتية» أو المذهب الظاهراتي، مبحث أسسه في السنوات الأولى من القرن العشرين إدموند هوسرل (Husserl)، ويحاول هذا المبحث وصف الخبرة بالظواهر مباشرة، بعيدًا عن أي تأثير من جانب التفسيرات والنظريات السابقة عن الوجود. والمصطلح مشتق من الكلمة اليونانية phainumenon والتي يفسرها هايديجر بأنها تعني «ذلك الذي يُظهر نفسه بنفسه، أي الواضح الجلي» (الوجود والزمن، ص٥١)، ومن كلمة logos التي تعني أساسًا «إظهار شيء ما» (المرجع نفسه، ص٥٦) وهكذا فإن هايديجر يقدم التعريف الصوري للظاهراتية باعتبارها تعني: «أن يتسبب المرء في رؤية الشيء الذي يُظهر نفسه من تلقاء نفسه بالأسلوب نفسه الذي يُظهر به الشيء نفسه من تلقاء نفسه» (المرجع نفسه، ص٥٨) ويقول هايديجر: «إن الأنطولوجيا لا يمكن أن توجد إلا باعتبارها ظاهراتية» (المرجع نفسه،٦٠). ولكنَّ مَدْخَلَيْ هوسرل وهايديجر يختلفان في بعض المسائل المهمة والحاسمة، فعلى سبيل المثال، نجد أن هوسرل يطلق صفة «التجلي» (evidence) على الحالة التي تتجلى فيها ظاهرة ما للوعي. فحين يكتمل الكشف عن شيء ما، فإن هذا يوصف بأنه التجلي الكامل أو «الكافي» (adequate). وقد أثر مفهوم هوسرل للحقيقة تأثيرًا شديدًا في هايديجر، ولكنه يختلف عن هوسرل الذي يتجاهل البناء الزمني للظواهر تجاهلًا تامًّا، في أنه (أي هايديجر) يؤكد أن إماطة اللثام لا تحدث إلا لأننا كائنات تاريخية، كما يرى أن الكشف الكامل محال، إذ إن الصدق والكذب ينشآن معًا وفي الوقت نفسه. وكان هوسرل يقول: إن علاقتنا بالأشياء يحكمها العمد أو القصد (انظر عاليه). إذ إنني دائمًا ما أرى الأشياء باعتبارها كيانات معينة، فأرى الشجرة باعتبارها شجرة (وكلمة «باعتبارها» يصفها هايديجر في الوجود والزمن بأنها أداة ظاهراتية تمثل ملمحًا مهمًّا من ملامح أسلوب الحضور في تفسير العالم). ولكن هايديجر يطرح أيضًا سؤالًا ذا صلة بهذه القضية وأكبر أهمية، ألا وهو: «ما الذي يحدد علاقة القصد أو العمد مع العالم أصلًا؟» أي إن هوسرل يفترض سلفًا وحسب مسألة الوجود المذكورة، ومن ثم فإنه بدلًا من بحثه في وجود الوعي، يعتبر أن وجود ذلك الكيان الذي هو الوعي أمر مسلم به وحسب، على الرغم من أنه من دون الوجود لا يستطيع العمل على الإطلاق. وهكذا فإذا كان مذهب هوسرل الظاهراتي يركز على الأبنية المتعمدة أو المقصودة للوعي، وأسلوب تكوين الأشياء في هذا الوعي، فإن ما يهم هايديجر هو التصور الظاهراتي للظاهرة، أساسًا من حيث «ذلك الذي يختفي داخل ما يظهر نفسه، ومن ثم يمكِّنُ ما يظهر نفسه بأن يظهر نفسه». وبعبارة أخرى نقول: إن هايديجر ليس معنيًّا وحسب بإتاحة الرؤية للكيانات ووصفها في غضون إظهار أنفسها لنا من خلال خبرتنا المباشرة بها، بل بإتاحة الرؤية لكيان ما، من حيث «استخراج» و«تفسير» ما يكمن في الخفاء، وهو الذي ينتمي إلى ذلك الكيان «انتماءً جوهريًّا إلى الحد الذي يشكل فيه معناه والأساس الذي يقوم عليه» (الوجود والزمن، ص٥٩). أي إن هايديجر يشير هنا إلى «وجود» الكيانات، وهو الذي على أساسه دائمًا ما تُفهم الكيانات. وإذن، فعلى العكس من مدخل هوسرل، الذي ينحصر في كونه مدخلًا ظاهراتيًّا تأمليًّا للوعي، نجد أن مدخل هايديجر يعتبر أساسًا مدخلًا ظاهراتيًّا تفسيريًّا هرمانيوطيقيًّا، أي إنه يعني تعرية «الحضور» أو عرضه مع أبنية وجوده وأبنية وجود كيانات أخرى، (ما دام فهم الكيانات الأخرى يمثل مَعلمًا فطريًّا من معالم وجود «الحضور».) (ويناقش هايديجر المذهب الظاهراتي في كتابه الوجود والزمن في الصفحات ٤٩–٦٣).
Poesie
النظم أو الشعر. ليست اللغة في نظر هايديجر مجرد وسيلة لتوصيل ما نعرفه سلفًا، فإن جوهر اللغة، ووظيفتها الأزلية والبالغة الأهمية، هي «القول الرائد» (projective saying) («أصل العمل الفني»، ص٧٤) أي تسمية أشياء للمرة الأولى. واللغة باعتبارها «قولًا رائدًا» تحدد سلفًا طبيعة ما يمكن وما لا يمكن الكلام عنه في الاتصالات العادية، وهكذا فهي ترسي أسس العالم الذي نعيش فيه، ما دامت تسمية الكائنات تكشف عن وجودها وترسخه وتحافظ عليه، وبذلك تفتح لنا الباب الأول للوجود. ومصطلح Poesie عند هايديجر لا يشير إلا إلى النظم أو الشعر، وهو الذي يراه أعلى وأنقى تعبير عن اللغة باعتبارها قولًا رائدًا، وجوهر وأساس كل قول رائد. وهكذا فإن هذا الفن في نظر هايديجر، أي الفن الشعري اللغوي، هو أسلوب في الكلام يتيح لجوهر اللغة أن يظهر، ومن ثم فهو أساسي للغة في جميع أشكالها وشتى فروعها. ويقول هايديجر: إن الشعر أهم فن على الإطلاق؛ لأن الكشف عن الحقيقة الذي يجري في «القول الرائد» الشعري، سابق ومن ثم فهو أصدق من الكشف عن الحقيقة الذي يحدث في جميع الفنون الأخرى، مثل العمارة والتصوير الزيتي والنحت، وهي التي تعمل في عالم سبق أن فتحه الجوهر «الشعري» للغة باعتبارها قولًا رائدًا. وهكذا فإن هايديجر كان يعتبر أن الشعر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحقيقة وأعمق كشف عما له وجود.
poiesis
الكلمة اليونانية القديمة تعني الصنع أو الخلق أو الإيجاد أو التقديم.
present-at-hand
«حاضر للاستعمال»: العبارة تصف الكيانات التي لا يجد «الحضور» لها نفعًا، أو التي لا يهتم بها «الحضور» إلا اهتمامًا موضوعيًّا من دون صلة وثيقة. فالعلم يتناول الكيانات باعتبارها حاضرة للاستعمال عندما يقوم بملاحظة خصائصها الفيزيقية ويدرسها، كما إن شيئًا ما يمكن أن يكون حاضرًا للاستعمال أو جاهزًا للاستعمال (ready-to-hand) وفقًا لعلاقتنا به.
primordial
أزلي. والمقصود أنه قائم منذ الأزل، ومن ثم فهو سابق على كل شيء، فما دام موجودًا منذ البداية فلا يمكن أن يكون مشتقًّا من أي شيء آخر.
projection
الإسقاط. يفيد تعبير الإسقاط «التطلع إلى المستقبل» أو «أفق المستقبل» عمومًا ولكنه عند هايديجر يعني جهود «الحضور» لتحقيق إمكانياته، ويقدم الشراح جملة توضح المعنى المقصود وهي: «لقد ألقاني الماضي في الزمن الحاضر، وأعمل داخل الموقع الذي ألقيت فيه من أجل المستقبل».
ready-to-hand
جاهز للاستعمال. يشير التعبير إلى الكيانات التي يرى «الحضور» أن لها وظيفة عملية مفيدة، من حيث أغراض حياة البشر. وعلاقة «الحضور» بالأشياء الجاهزة للاستعمال تمثل الأسلوب الأساسي للانتماء أو الوجود-في-العالم.
repetition
التكرار، يستخدمها هايديجر بمعنى الاسترجاع أو الاستعادة. وهو يشرح ما يعني على النحو التالي، فهو يقول أولًا: إن الأصالة الكاملة تقتضي من «الحضور» أن يستمد الإمكانيات التي يراها لمستقبله من ماضيه، وخصوصًا مما نسميه تراثه (heritage)؛ لأن هذا التراث يعتبر الخزانة التي تتضمن ما هو متاح حاليًّا من الإمكانيات «الموروثة» التي تكفل العيش الأصيل، وهي إمكانيات يمكن أن تُناقش وتُفسر وتُطوَّع حتى تتفق مع الظروف الخاصة والطاقات الكامنة «للحضور» (الوجود والزمن، ص٤٣٥). وهذا التراث الذي يشترك الحضور فيه مع الآخرين يقدم «للحضور» تفسيرات ذاتية متعددة تراكمت على امتداد آلاف السنين. وهكذا، فإن الوجود الأصيل، حسبما يقول هايديجر، دائمًا ما يعيد (بمعنى يستعيد retrieves) بعض الإمكانيات الموروثة، وهي التي تعتبر نموذجًا أو نقطة مرجعية يستطيع «الحضور» الانتفاع بها أو الاسترشاد بها في حياته. ويقول هايديجر «التكرار معناه … العودة إلى إمكانيات «الحضور» الذي كان قائمًا آنذاك … ويعني التكرار الاستعادة الأصيلة لإمكانية وجود كانت قائمة يومًا ما … فمن خلال التكرار يستطيع «الحضور» أولًا إبراز تاريخه الخاص بوضوح وجلاء» (الوجود والزمن، ٤٣٧–٤٣٨).
resoluteness
الحزم والعزم. يرى هايديجر أن صدق العزم يمثل صلب أصالة المرء، ويعني الالتزام الكامل من جانب «الحضور» بالدرب الرئيسي الذي اختاره في الحياة. وصدق العزم يقتضي الوعي الواضح بكل ما يتعلق بوجود المرء وإمكانية الموت في أية لحظة.
the river
النهر. يُعتبر النهرُ صورة شعرية شائعة في شعر هولدرلين، وهو من الثيمات الأساسية التي تظهر في تعليقات هايديجر على شعر هولدرلين. ويصفه الفيلسوف بأنه «وجود بيني» ويعتبره نصف إله، كما يقول في كتابه عن قصيدتَيْ ألمانيا ونهر الراين لهولدرلين المنشور عام ١٩٨٠م، والذي كان عددًا من المحاضرات التي ألقاها أصلًا عام ١٩٣٤–١٩٣٥م (ص١٦٣–١٦٤ من الطبعة الثانية ١٩٨٩م). ولكن هايديجر يؤكد تأكيدًا شديدًا أن الصورة الشعرية للنهر لا تقتصر على كونها صورة الفيض (flux) عند الفيلسوف اليوناني هيراقليطس (نحو عام ٥٠٠ق.م.) فالنهر في ذاته هو المعنى الذي يجسده، ويقول: إنه لا يصور أو يرمز لشيء ما بل يمثل في ذاته فكرة «الصيرورة وسط الفيض» بمعنى أن عناصر الترتيب والتنظيم الطبيعي للنهر، واستقراره واستمراره معًا، تنشأ من حالة التغير الدائمة وتقوم عليها. ونجد في شعر هولدرلين أن «اللحظة الحاضرة» يمثلها النهر (نهر إيستر Ister) الذي يشبه «الآن» الخالدة في أنه يحافظ على هويته، على الرغم من تدفقه المستمر وكونه في حالة فيض دائم، فالنهر إيستر مثلًا هو النهر إيستر دائمًا، وهذه اللحظة الحاضرة هي هذه اللحظة الحاضرة على الدوام.
techné
الصنعة أو التقنية. هذه كلمة من اللغة اليونانية القديمة التي اشتقت منها كلمة «تكنولوجيا». أما المعنى الأصلي للكلمة فيتضمن عدة دلالات، إذ يمكن أن تشير الكلمة إلى الفنون الجميلة، أو «الفنون الذهنية»، أو مهارات وأنشطة ممارس الحرف الفنية، كما تشتمل على معنى يشير إليه هايديجر بلفظة poiesis أي يَخْلُقُ أو يُنْشئ، وهو ما يحدث على وجه الدقة في جميع الفنون والحرف. ويقول هايديجر: إن هذا البحث في أصل الكلمة لغويًّا يبين أن كلمة تقنية، بدلالتها على الخلق والإنشاء، تنتمي إلى مجال الحقيقة نفسه الذي تنتمي إليه كلمة الكشف (alétheia) أو إماطة اللثام، أي مجال الحقيقة الجوهرية الذي نُزِعَ قِنَاعُه. وإذن فإن المعنى اليوناني الأصلي للتقنية يتضمن ظلال معانٍ فقدناها في فهمنا الحديث للتكنولوجيا وتعبيرنا عنها، ما دام معنى الكلمة الأصلي لا يقتصر على المهارة العلمية أو القدرة على صنع شيء ما، بل يتضمن دلالة أهم وهي أسلوب معرفة «الحقيقة» والكشف عنها [أي alétheia] ويعزو هايديجر فقدان المعنى الأصلي للتقنية في التكنولوجيا الحديثة إلى الحط من منزلة الكائنات عند أفلاطون، وإلى النظرة المشتركة بين أرسطو وديكارت عن الاستعمال النفعي للمعرفة من خلال السيطرة على الطبيعة، إذ يقول هايديجر: إن الفهم الميتافيزيقي للوجود الذي ساد في الغرب منذ عهد أفلاطون وأرسطو كان يقوم على نموذج «التأطير» (انظر أعلاه). ومن ثم فعلى الرغم من أن التكنولوجيا الحديثة لا تزال تقوم بمهمة «الكشف»، فإنها تفعل ذلك بأسلوب محدود إلى حد كبير من شأنه محو عنصر «الصنع» أي إنها، كما يقول هايديجر، «لا تكشف عن حضور [presence] أو عن وجود [being] كيانٍ ما [an entity]» (هايديجر، «السؤال المتعلق بالتكنولوجيا» في الكتابات الأساسية، ص٣٣٠). وهكذا فإن نوع الكشف الذي يحدث في التكنولوجيا الحديثة يختلف اختلافًا بَيِّنًا عن الكشف الذي يحدث في العمل الفني. فإذا كان الفن يسمح بالكشف عن الأشياء، فإن التكنولوجيا ترغم الأشياء على تحقيق غرض معين، بحيث لا يتجاوز «الكشف» عن أي شيء نطاق نمط نفعه الخاص. وهذا الشكل من الكشف أو التأطير يمثل جوهر التكنولوجيا الحديثة، إذ يقول هايديجر صراحة: «إن جوهر التكنولوجيا الحديثة يكمن في التأطير» (المرجع نفسه).
temporality
الطابع الزمني أو «الزمنية» مصطلح يستخدمه هايديجر بصفة خاصة وبصورة حصرية في الإشارة إلى أسلوب وجود «الحضور» (Dasein’s mode of existing) أي بأسلوب الخبرات التي يمر بها «الحضور» وأسلوب حياته من خلال الزمن وفي داخل الزمن، أي أسلوبه الأساسي في الوجود من خلال الأبعاد الثلاثة للزمن التي يتكون منها أيضًا. وهكذا يقول هايديجر: إن الفعل «يكون» يرادف دائمًا «أن يكون زمنيًّا»، وما دام الطابع الزمني هو الذي يحدد المعنى الأزلي لوجود «الحضور» وإدراك «الحضور» لمعنى الكينونة، فإن هذا يعني أيضًا أن الأفق أو السياق الصحيح لفهم الوجود هو الزمن. وبعبارة أخرى يقول هايديجر: إن الطابع الزمني «للحضور» هو الذي يجعلنا ندرك الوجود. وهو يؤكد أن للزمنية نمطين، النمط الأول هو الزمنية الأصيلة (الأزلية) وهو الذي يمثلها «الحضور» المتميز بالعزم والحزم، وهذا يعني أن «الحضور» يدرك أن كل لحظة زمنية يمر بها تضم الماضي والحاضر والمستقبل، أي إن كل لحظة تمثل له في مكانه في الدنيا عوامل الماضي التي تدفعه إلى الأمام منطلقًا إلى تحقيق إمكانيات ذاته في المستقبل، وأما النمط الثاني فهو «الزمنية» غير الأصيلة التي تربط «الحضور» بالحياة اليومية، بحيث تلهيه عن امتداده في الزمن، وتعني سقوطه؛ أي امتثاله لمفاهيم الآخرين وأفعالهم. وتبسيطًا لما يريده هايديجر أقول: إن «الحضور» الأصيل عنده يشعر بأنه وجود سائر صائر لا ثابت جامد، فهو مثل الموسيقى التي لا تُسمع إلا في زمن معين، ومثل «النهر» في الوقت نفسه الجاري على الدوام رغم وجوده في مكانه (انظر أعلاه) وأن ديمومة وجوده تعني صيرورته في آن واحد، وذلك بتحقيق إمكانياته بالحزم والعزم، على عكس «الزمنية» غير الأصيلة التي تفتقر إلى الربط بين أبعادها الزمنية بسبب استغراقها في كل ما هو «جاهز للاستعمال» والخضوع لهيمنة الآخرين.
The They
درج المترجمون على ترجمة (das Man) الألمانية عند هايديجر بهذا التعبير الغريب أي بضمير الجمع «هُم» معرفًا بالألف واللام، وهو ما لا تقبله العربية (ولا الإنجليزية في الواقع) (انظر الفصل السابع حيث تفصيل القول في معنى التعبير الألماني وترجمته الإنجليزية) وأقرب صورة له في الإنجليزية الحديثة كلمة Them التي تستخدم هكذا في حالة المفعول به دائمًا، أي إنها «مبنية»، للدلالة على أي جماعة تمارس نفوذها المعارض لجماعة المتحدث، كأن يكونوا رؤساء أو مديرين، خصوصًا في العبارة الثابتة (Them and us) وصورتها في حالة الفاعل They تشير إلى الناس دون تحديد الفئة أو الأفراد كقولك: (They say it is) «يقولون إن هذا صحيح»، ولدينا المثال في العربية «يقولون: إن الشوق نار ولوعة» أي (Desire, they say, is fire) وقد يحل محلها اسم (لا ضمير) «يقول أناس: لو وصفت لنا الهوى» (they ask me to describe love to them) والشراح يُجمعون على أن هذا هو المعنى الذي يقصده هايديجر، ومن ثم يوازونه بكلمة صريحة مثل «الآخرين» قائلين: إنها تفيد شتى الأعراف الثقافية والاجتماعية، إلى جانب التوقعات والتفسيرات للحياة التي تقدمها الدنيا أو العالم الذي يعيش فيه المرء، وهي التي تحدد طرائق حياته منذ ميلاده، ويقول هايديجر: إن هذا كله يمثل نفسًا معينة تؤثر في نفس المرء وقد تستولي عليه فتجعل وجوده زائفًا أي غير أصيل، ولذلك فهو يقول: إن الوجود الأصيل هو الذي لا يستسلم لها ويسعى بالحزم والعزم إلى تحقيق إمكانياته.
the They-self
نفس الآخرين، أو النفس الجماعية. انظر (the They) أعلاه.
thrownness
حدث الإلقاء، أي كون المرء قد أُلقِيَ به رغم أنفه في الدنيا، ويُنسب فعل الإلقاء إلى قوًى عشوائية مثل المصادفة أو الأقدار، ويقول هايديجر: إن ذلك «الإلقاء» يعتبر عاملًا أساسيًّا من عوامل حياة «الحضور» [أي المرء الواعي بوجوده] إذ يؤثر في وجوده ويشكله، فهو يحدد ما كان، وأين يكون دائمًا، وما «الحضور» على الدوام وخياراته للمستقبل. ويقول بتعبير آخر: إن كوني مُلقًى يعني أن لديَّ ماضيًا أحمله معي في كل لحظة، وينبغي أن يكون أساسًا لوجودي الراهن، كما إنه يُحَدِّدُ ويَحُدُّ من إمكانياتي في المستقبل، ما دامت جميع خياراتي، وجميع ما أخلقه، لا بد أن يقوم على أساس حالي في اللحظة الراهنة، وهي التي يؤثر فيها الماضي الذي أحمله، ألا وهي الزخم المستمر لحادث إلقائي في الدنيا. ومن ثم فمن المحال أن أخلق نفسي من جديد، ما دام لا يتاح لي إلا ما كنته وما أكونه حتى أصبح ما أريد أن أكونه في المستقبل. وهكذا فإن حالي الراهن وكل ما أستطيع أن أفعله ناجم عن الحالة «القائمة سلفًا» والتي أُلْقِيَ بي فيها بلا خِيَرة من أمري (انظر الفصل الثاني من الدراسة أعلاه).
transcendence
«التعالي» هي الترجمة المستقرة للمصطلح الأجنبي منذ أواسط القرن العشرين، والمعنى المعجمي يفيد «التجاوز» أو الوجود خارج أي نطاق معين، والاسم transcendentalism يُترجم بمذهب التعالي أو «التعالية»؛ وإن كان مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد أفتى بجواز تعريب الكلمة الأجنبية أي كتابتها بحروف عربية (ترانسندنتال) ولا أظن أن أحدًا قد استساغ هذا التعريب. وأما تفضيل «التعالي» على كل مصطلح عداه فيرجع إلى ارتباط المصطلح أصلًا بالدين، إذ يستخدمه الكُتَّاب باعتباره يفيد عكس معنى الحلول، (pantheism) أو وحدة الوجود (unity of being) أي القول بأن الله يحل في الكون والأشياء، والحلول (immanence) أصبح من مصطلحات النظرية الأدبية الحديثة، ولو اختلف معناه قليلًا فأصبح أقرب إلى ملازمة شيء لشيء آخر أو اندماجه فيه أو استحالة الفصل بينهما، مثل القول بوحدة الشكل والمضمون، وهو من المفاهيم التي دافع عنها النقد الجديد، وإن يكن قد شاع على ألسنة دعاة ما بعد الحداثة الذين يرون أن الواقع كيان مختلط لا تنفصل عنه القيم والأفكار، وأن محاولات الحداثية (modernism) لاستنباط أشكال جديدة للواقع، هربًا من مبدأ المحاكاة الأرسطي، تمثل تزييفًا للواقع ورفضًا مضمرًا له، فالقيم الجمالية التي أتى بها الحداثيون ليست في نظر دعاة ما بعد الحداثة صادقة، بل مضفاة أو مضافة إلى واقع لا يمثلها، ومن ثم فهم ينادون بتصوير الواقع مهما يكن بشعًا بالقيم والعناصر «الجمالية» (مهما يكن تعريفها) التي تلازمه أو تحل فيه. ومن هذه الزاوية تبدو «التعالية» مناهضة لما بعد الحداثة.
يقول هايديجر: إن علينا أن نتجاوز الظواهر، أي نتعالى عليها، حتى يكشف لنا الوجود عن ذاته، وعبارته هي «إن كل كشف عن الوجود … معرفة تعالية» (الوجود والزمن، ص٦٢) واستخدامه للمصطلح مقصود به أن يعبر عن إدراكه لمعنى الوجود، ألا وهو ما يكمن «وراء» جميع الكائنات (الوجود والزمن، ص٢٢، و٦٢). وهذا التمييز الحاسم بين الوجود والكائنات يبرز تأكيده للبحث الذي يقوم به، ويسعى إلى إدراك المعرفة الأنطولوجية بالوجود، كما إنه أحيانًا ما يصف ما يتمتع به «الحضور» من «وجود-في-العالم» بأنه تعالٍ (الوجود والزمن، ص٤١٥)، والتعالي يشير في هذه الحالة إلى حالة «الحضور» أو موقعه الذي يتيح له أن يتأمل جماع الخبرة البشرية، أو الذي ينطلق منه لتأملها؛ ووسيلته في ذلك الحفاظ على مسافة تفصله عن العالم، فإن هذه المسافة تمكنه من فهم الكائنات من حيث حالها الواقعي، وتتيح له أن يفهم ما هو أهم، أي إمكانياتها. فلا ترجع أهمية الماضي «للحضور» مثلًا إلى ما فيه فقط؛ بل ترجع إلى ما هو أهم أي إلى ما يقدمه من إمكانيات لوجوده في الحاضر والمستقبل. وعلى غرار ذلك فإن أية أداة من الأدوات لا تقتصر أهميتها على ما تُستخدم فيه فعلًا؛ بل تتعدى ذلك إلى ما يمكن استخدامها فيه أي إلى استخدامها في غرض «يتجاوز» (transcends) وظيفتها العادية، والتجاوز هنا يعني «التعالي»؛ لأن كل بحث يتجاوز الظاهر القريب ناشدًا «البعيد العميق» بحث متعالٍ بطبيعته، وذلك وفق ما يقوله هايديجر: هو ما يُمَكِّنُ الإنسان من أن يطرح السؤال الوجودي الرئيسي، أي: ما سبب وجود أي شيء بدلًا من العدم؟ ولولا أن «الحضور» يتمتع بالقدرة على تجاوز الظواهر وطرح هذا السؤال الأساسي ما استطاع أن يقدم ما يقدمه من رؤًى، حسبما يفعل هايديجر في الوجود والزمن، إذ إن الطاقة الكامنة على التعالي عند «الحضور» تمثل الأساس الوطيد للفلسفة.
understanding
الفهم الوجودي: المقصود به عند هايديجر القدرة الفطرية السابقة للعمليات الذهنية اللغوية (pre-conceptual) التي تمكن «الحضور» من فهم عالمه اليومي، وما يتضمنه من أشياء، وكيف ينتمي إليه. وهذه القدرة السابقة للتفكير على فهم الوجود تعتبر معلمًا جوهريًّا من معالم «الحضور» من حيث إدراكه لوجوده في عالمه، فهي تلهمه وتوجهه وتمكنه من التساؤل عن الوجود وتكوين تفسيرات لكل ما يحيط به. ويقول هايديجر: إن الفهم كله عملية دائرية، بمعنى أن كل تفسير يسهم في الفهم كان قد حظيَ سلفًا بفهم ما ينبري لتفسيره، وهكذا فجميع ألوان التفسير قائمة على سياق الفهم السابق. ويقول هايديجر: إن أهم وظيفة للفهم الوجودي تتمثل في الإسقاط الذي يعني رؤية الأشياء من حيث إمكانياتها المستقبلية، ومن ثم فإن فهم نفسي يعني إدراك معناها الذي يعني الوعي بإمكاناتي الخاصة، وإدراك أنني لا أملك إمكانياتٍ وحسب، بل إنني مرادف لإمكانياتي، ما دام وجودي يتضمن «ما يمكن أن يكون» (Seinkönnen) (الوجود والزمن، ص١٨٣) أو «إمكانية وجودي. وبتعبير آخر، لا يقتصر وجودي على حالي الراهن بل يتضمن أيضًا ما لم أصبح عليه بعد» (الوجود والزمن، ص١٨٥).
unready-to-hand
غير جاهز للاستعمال. يعني هايديجر بهذا المصطلح كل أداة من الأدوات أو المعدات «الحاضرة» التي انكسرت وأصبحت ليست بذات نفع عملي.
world
العالم أو الدنيا (انظر الفصل الرابع): على نحو ما أوضحت في الفصل الأول، التمهيدي، فإن تصور هايديجر «للحضور» (Dasein) يصف وجوده بأنه وجود في مكان معين، ونعرف من أقوال هايديجر أن تعريفه للإنسان يحدد ذلك المكان بأنه العالم أو الدنيا، وكنت أوضحت أن لكل إنسانٍ مهمومٍ بوجوده — وهو الذي يصفه هايديجر «بالحضور» — إدراكًا لعالمه الذي يعيش فيه، أو ما يقول الفيلسوف: إنه دنيا «الحضور»، أي الدنيا التي يعيها الفرد الواعي بوجوده، وهذه الدنيا، حسبما نفهم من استعمال هايديجر للَّفظ، ليست مجرد مكان فيزيقي (طبيعي أو مادي) بل هي سياق من المعنى أو المعاني، ويعرِّفه الفيلسوف أحيانًا في الوجود والزمن بأنه مملكة من الإمكانيات التي «يسكنها» الفهم الفَعَّال «للحضور»، وهو يتجلى في معرفة «الحضور» ما يفعل والأسباب التي تبرر هذا الفعل، ويدلنا استعمال كلمة إمكانيات في الإشارة إلى تلك الدنيا «الخاصة» على أنها تعني جميع الظروف والسياقات التي تؤثر في الوجود الكلي لأي إنسان واعٍ بوجوده، وعبارة هايديجر هي «المكان الذي يمكن أن يقال إن الحضور «الحقائقي» بمعناه المفهوم «يعيش» فيه» (الوجود والزمن، ص١٩٣) وهذا هو ما كان هوسرل يسميه «عالم الحياة» (lebenswelt) وذلك، كما سبق أن ذكرت، يتضمن كل شيء في حياة «الحضور» من مكان مولده وظروف نشأته، والبلد الذي يقيم فيه والبيئة الاجتماعية، والتعليم، والأسرة والأصدقاء والعمل وأوقات الفراغ وما إلى ذلك بسبيل.
worldhood

مجموع علاقات المرء مع عالمه، ويقول الشراح: إن المقصود هو البنية التحتية الأساسية التي تقوم عليها دنيا «الحضور»، وبعبارة أخرى جماع علاقاتنا العملية والوظيفية مع كل شيء في العالم المحدد الذي نقيم فيه.

worlding
يستخدم هايديجر كلمة world فعلًا، واشتقاق فعل من أي اسم باللغات الأوروبية قد يغير المعنى الأصلي للاسم وقد يحافظ عليه، وقد تتيسر محاكاة ذلك بالعربية وقد تتعذر، وأخطار سوء الفهم دائمًا تهدد هذا التحويل، كما شهدنا في اشتقاق فعل من الإسلام هو التأسلم والأسلمة قياسًا على الاشتقاقين الإنجليزيين (Islamize, Islamization) فإن غموضهما لا يزال قائمًا، لأن القياس على ادعاء العلم بصيغة التَّعَالُم قد يفيد ادعاء الإسلام، وقد يفيد استخدام الإسلام ذريعة لارتكاب ما لا ينص عليه الإسلام، ولكنه قد يفيد معاني أخرى مثل «فرض الإسلام» على آخرين، وهو أحيانًا ما يقصده الغربيون، لذلك فنحن لا نحول العالم إلى فعل مثلما فعل هايديجر، فالفعل يُعَولِم هو الذي نترجم به globalize أي ينشر شيئًا على مستوى العالم أو يطبق قاعدة تطبيقًا عالميًّا، ولذلك فأنا أترجم الكلمة التي سكَّها هايديجر وفقًا لشرح الشراح لها، وهو جعل عالم كل منا بيئة فاعلة تؤثر فينا مثلما نتأثر بها، وهايديجر يريد أن يقول: إن كل شيء في حياة الإنسان (في دنياه الخاصة) تمثل عالمًا كاملًا أو تتحول عنده إلى عالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤