الفصل الثالث

الحضور مسئولية وانتماء

يقول هايديجر:

الحضورُ كيانٌ، وبفَضْلِ وُجُودِه نفسهِ، يتَّسِمُ بسلوكٍ قائمٍ على الفَهْمِ تُجَاهَ ذلك الوُجود. وفي قولنا هذا نلفت النظر إلى المفهوم الصوري للوجود؛ فالحضور موجود. أضف إلى ذلك أن الحضور كيانٌ أجد نفسي فيه في كل حالة. وكينونتي تنتمي إلى أي حضور موجود، وهي تنتمي إليه باعتبارها شرطَ تحقيق الأصالة أو عدم الأصالة …

ولكنَّ هذين طريقان يتخذ وجود الحضور بهما طابعًا محددًا، ويجب أن تتحقق رؤيتُهما وفهمُهما أوَّلًا باعتبارهما يرتكزان على حالة الوجود التي أسميناها «الوجود-في- العالم». ونحن نحتاج إلى تفسير لهذه الحالة المُكَوِّنَةِ لنا حتى نُقِيمَ تحليلَنَا للحضور بالصورة الصحيحة. ويشير التعبير المُرَكَّبُ المذكور، أي «الوجود-في-العالم»، بالشكل الذي وَضَعْنَاهُ به نَفْسِهِ، إلى أَنَّهُ يَرْمِزُ لحالةٍ وَحْدَوِيَّة. إذ ينبغي أن يُرَى المُعْطَى الأَوَّليُّ باعتباره كيانًا كليًّا؛ ولكنْ إذا كان «الوجودُ-في العالم» لا يمكن تقسيمُه إلى العناصر التي يشملها والتي يمكن جمعُها معًا، فإن هذا لا يمنعُ من اشتماله على عدة مُكوِّنات له في بنائه.
(الوجود والزمن، ص٧٨)
أقول أولًا: إن النص المترجم عن الألمانية، والذي ترجمتُه هنا من الإنجليزية إلى العربية، مشتركٌ بين الترجمتين المتاحتين؛ فالترجمة الأولى صدرت عام ١٩٦٢م، والثانية صدرت عام ٢٠١٠م، وكلاهما موثوق بدقته البالغة (انظر الببليوغرافيا)، ومن ثم فقد اطمأن قلبي إلى صدقه أو «دقته» وفق المصطلح المستخدم في مبحث دراسات الترجمة. ولما كانت ترجمتي تحافظ بدقة على معاني الألفاظ مهما تبلغ غرابتها، فلا بد أن يجد القارئ غرابة في النص منذ الجملة الأولى، فهي لا تقول: إن للإنسان حضورًا؛ بل إنه هو نفسه «حضور»، ويقول «راذول»: إن هايدجر ابتدع هذا المصطلح (انظر تحليل الترجمة العربية له في الفصل الأول) للدلالة على شيء يميز الإنسان تمييزًا أصدق من قولنا: إنه «ذات» أو «حيوان عاقل»؛ لأنه يشير إلى «حضوره» وسط أشياء وأشخاص وأنشطة وأهداف، فالحضور يعني الوجود في صحبة بشر أو داخل جماعة أو شهود حدث، وفي التنزيل: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ (النساء: ٨). أي إن المعنى يفترض دائمًا وجود أشياء أخرى أو بشر آخرين، ولكن هايديجر يحدد طبيعة هذا الحضور باستخدام كلمة «سلوك» (to comport, comportment) وهي كلمة غريبة في السياق، ولكنها لازمة للإفصاح عن العلاقة بين المرء وما حوله ومن حوله، وهي العلاقة التي تجعله حضورًا؛ فكيف يكون ذلك؟ إن كلمة السلوك تعني أسلوب عمل شيء ما (أو شخص ما) تجاه شيء ما (أو شخص ما) تجاه شيء آخر أو شخص آخر أو أشخاص أُخر، وأسلوب العمل تفرضه طبيعة الشيء أو الشخص، ومن ثم تنشأ العلاقة بينه وبين غيره، فلقد درجنا على تصور أن كيان الشيء مادي، بل وتصور أن الإنسان ذو وجود ماديٌّ أولًا وقبل كل شيء، ولكن هايديجر يقول: إن الطابع المادي للأشياء والبشر نوع واحد فقط من الوجود. (الوجود والزمن ص١٢٢–١٢٥)، فالعبرة بما تعنيه الكيانات لبعضها البعض، فاللهب كيان، ولكن له معان متعددة للأشياء والأشخاص، وكيان النار يعتمد على «سلوك» النار؛ إما للتدفئة، وإما للطهي، وإما للتطهير، وإما للإحراق، وهي ما يعتبرها هايديجر «طرائق وجود» (modes of being) وهو التعبير الذي كان وردزورث أول من ابتدعه، عندما أحس (بعد أن سرق القارب في قصيدته المقدمة) بوجود كائنات ذوات «أشكال وجود مجهولة» تتبعه أو تطارده، ويقول: إنها (unknown modes of being). وهايديجر يؤكد تعدد معاني الوجود الذي يسميه الحضور لهذا السبب. وذلك وفقًا لما يعنيه بالتركيب اللغوي الخاص، وهو «الوجود-في-العالم»، أي العلاقات القائمة بين الإنسان وما حوله ومن حوله، وهو ما لا يدركه إلا الإنسان، فالإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يتصور حضوره وسط الأشياء والناس بسبب الروابط التي ذكرت أنها العلاقات النابعة من «سلوك» كل شيء وكل إنسان وفق طبيعته. ويقول هايديجر إن الشيء لا يوجد إلا حين تكون طريقة وجوده إحدى الصور المتعددة التي نتوقع أن يتخذها وجوده، أو قل: يجب أن يتخذها وجوده. ويقول راذول:

كان لهذه الفكرة الخاصة عن الوجود تأثير عميق في الحركة الوجودية الفرنسية، كما كانت مصدر إلهام مباشر للشعار الذي رفعه سارتر، وهو: «إن الوجود يسبق الجوهر». وكان هذا الشعار يمثل أسلوب سارتر في التعبير عن الفكرة التي تقول بعدم وجود طريقة مثالية ثابتة مطلقة لكون الإنسان إنسانًا.

(راذول، كيف تقرأ هايديجر، ٢٠١١م، ص١٣)

أنا وما ينتمي إليَّ أنا

ونأتي بعد هذا إلى الكلمة الجديدة عند هايديجر وهي (mineness) وتعني انتماء وجودي إليَّ، أي إن «من أنا» ينتمي إليَّ، وقد ترجمتها بكلمة كينونتي المشتقة من «كان، يكون»، ويفسرها بعض الشراح بأنها تفيد ما يعنيه هايديجر من أن «الوجود يمثل إمكانية يحققها الحضور» قائلًا: «إنه يمكن أن يكون ذاته أو لا يكون ذاته» (الوجود والزمن ص٣٣) ويشرح العبارة راذول قائلًا:
ما دمت لست ملزمًا بأن أعيش بالأسلوب الذي أعيش به، فإنني في آخر المطاف مسئول عما أكونه أو عن أسلوب عيشي. والسؤال هو هل سأكون ذاتي حقًّا، أي هل أعترف بالمسئولية عن كوني هذه الذات؟ وهكذا يقول هايديجر: … إن إحدى الخصائص الأساسية للحضور هي «كينونتي»، أي إن وجودي ينتمي إليَّ، وإن «من أنا» خصيصتي وليست خصيصة أحد غيري … والاسم الذي يطلقه هايديجر على نوع الوجود الذي نتحمل فيه المسئولية عن كياننا هو الأصالة (authenticity) أو (Eigentlichkeit) من الصفة eigen التي تعني ما ينتمي إلى المرء أو يملكه.
(راذول، كيف تقرأ هايديجر، ٢٠١١م، ص١٤)
والمعروف أن سارتر والوجوديين الفرنسيين قد تأثروا بهايديجر، وسارتر يعبر عن قول هايديجر: إن الإنسان لا مهرب له من المسئولية. تعبيرًا يتخذ صورة شعار مشهور وهو: «لقد حُكم علينا بأن نكون أحرارًا» ولكن هايديجر — حسبما يقول الشراح، وخصوصًا مارك راذول (ص١٥ وما بعدها) — لا يقبل تعبير سارتر عن هذه الفكرة؛ لأنها لا تقدر تقديرًا كاملًا حدود مسئوليتنا، ما دام سارتر يبدو مرتبطًا من زاوية ما بالتقاليد الذاتية (subjectivist) التي بدأها ديكارت (Descartes). إذ إن ديكارت لم يكن يرى أن الإنسان يرتبط ارتباطًا لا تنفصم عراه بالدنيا (وهو ما يعنيه هايديجر بتعبير «الوجود-في-العالم») بل يرى أن للإنسان ذاتًا مستقلة، أي إنه يتمتع بكيان له حالاته النفسية وخبراته التي يمكن أن تتخذ الصورة التي تتخذها، بغض النظر عن حالة الدنيا المحيطة بها. والواقع أن ديكارت يقول في الحديث عن المنهج (ص١٨): «إنني كيانٌ جوهرهُ الكلي أو طبيعته الكُلِّية تنحصر في التفكير وحسب، ووجود هذا الكيان لا يحتاج إلى مكان معين، ولا يعتمد على أي شيء مادي». وطبقًا لهذه النظرية، يتمتع وجود الإنسان بالاستقلال عن العلاقات الفعلية العملية التي يشتبك فيها مع ما حوله ومن حوله، ومعنى ذلك أن المرء يستطيع تغيير «ذاته» بتغيير تفكيره عن الدنيا، وهو ما يجعل حديث سارتر عن الحرية مقبولًا.
ولكن هايديجر لا يعتقد بأن أسلوب وجودنا يعتمد على أسلوب تفكيرنا؛ بل على وجودنا في مكان يتميز بأشياء معينة وطرائق عيش معينة. وإذا كان وجودنا يعني أننا نتحمل مسئولية ما نفعل، فذلك لا يعني أننا نتمتع بحرية تجاهل الحدود التي تفرضها الدنيا على الوجود، فالدنيا تقدم للإنسان الواعي بموقعه في الدنيا، أي المدرك لحضوره في هذا الموقع المعين، إمكانيات عديدة لتحقيق ذاته، وبالحرية المتاحة له، وفي الحدود التي تفرضها الدنيا عليه في هذا الموقع المعين. فالحضور يعني أيضًا إدراك حدود الحرية التي يستطيع أن يتمتع بها وجوده. وهايديجر يعبر عن الحضور الواعي والزمني بالعبارة المركبة المذكورة آنفًا، وهي: «الوجود-في-العالم»، وآخر جملة في الفقرة المقتطفة تعني أن الحضور يعني التكامل أو الوحدة بين الإنسان وعالمه، وهو ما يصفه بأنه حالة «وحدوية»، وأما ما يقصده بالمعنى الأَوَّلي — أو الحقيقة الأُولى المُسَلَّم بها، أي أول المعطيات — فهي أن الحضور كيان كلي، أي إن وجود المرء لا ينفصل عن دنياه، أو عالمه، أو ما يسميه هايديجر «العالم»، وهذا ما سوف نعرض له الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤