الفصل السادس

الفهم الوجودي والتفسير

يقول هايديجر:

الحضور باعتباره فهمًا يُسْقِطُ وجوده على إمكانيات معينة، وهذا الكيان المُوَجَّهُ للإمكانيات — وهو الذي يتولى الفهم — يعتبر في ذاته إمكانية وجود كامنة، وذلك لأن هذه الإمكانيات التي تتكشف تمارس ضغطًا مضادًا على الحضور. ويتمتع إسقاط الفهم بإمكانيته الخاصة به، وهي إمكانيةُ تنميةِ ذاتهِ، وهذه التنمية للفهم نسمِّيها «التفسير»، ففي التفسير يستولي الفهم واعيًا على ما يفهمه، ولا يصبح الفهم في التفسير شيئًا مختلفًا، بل يصبح ذاته. ومثل هذا التفسير يقوم وجوديًّا على أساس الفهم، ولكن الأخير لا ينشأ من الأول. بل ولا يُعتبر التفسيرُ حصولًا على معلوماتٍ عَمَّا فُهِمَ؛ بل تفصيل القول في الإمكانيات التي أُسْقِطَتْ في الفهم …

وأما من حيث الدلالةُ المهمةُ التي تتكشَّفُ في فَهْم العالم، فهي إدراكُنا لوجودٍ مصاحبٍ للأشياءِ الجاهزة، وإدراكُنا أن هذا الوُجُودَ المُهِمَّ يَنْجَحُ في فهم كُلِّ اشتباكٍ يستطيعه مع ما يقابله، وقولُنا: إن «اليقظة تكتشف شيئًا» يعني أن «العالم» الذي فهمناه سلفًا يصبح مدار التفسير. فالأشياء الجاهزة تدخل في مجال النظر الذي يتولى الفهم. وأما العمليات اللازمة مثل الإعداد والتصويب والإصلاح والتحسين والتشذيب فتجري على النحو التالي: إننا نشارك كل ما يَعْمَلُ بيقظةٍ من الأشياء الجاهزة لتحقيق غايته، ونشغل أنفسنا بها وفق ما يتضح للعيان من خلال هذه العملية. فأما الذي يجري عَزْلُهُ باليقظة المذكورة فيما يتعلق بغايته، ويجري عزله بصفته الخاصة — أي ذلك الذي فُهِمَ فهمًا صَريحًا — فإنه يتميز ببناءِ شيء محددٍ باعتباره شيئًا محددًا. والسؤال المتميز باليقظة عن كيانِ ذلك الشيء الخاص الذي يُعتبر جاهزًا، يتلقى إجابة تفسيرية تتسم باليقظة أيضًا وتقول: إنه يرمي لتحقيق غرض معين نحدده. فإذا أوضحنا الغرض منه، فلن نكون قد حددنا اسم شيء، فالشيء الذي تحدد اسمه يُفْهَمُ باعتباره الشيء المقصود. وهكذا فإن الذي تكَشَّفَ لنا في الفهم — أي الذي فهمناه — يصبح في متناول أذهاننا سَلَفًا باعتبار أنه (أي يمثل) ما يمكن أن يَبْرُزَ بُرُوزًا سافرًا. وحرف التمثيل هنا هو تعبير «باعتباره» وهو العِمادُ الذي يقوم عليه بناءُ «السفور» للشيء الذي فُهم. أي إنه يُشَكِّلُ التفسير. فعندما نتعامل مع الأشياء الجاهزة بيئيًّا من خلال التفسير اليقظ، فنحن «نرى» المنضدة باعتبارها منضدة، أو الباب باعتباره بابًا، وقس على ذلك العربة أو الجسر وما إلى هذه بسبيل. ولكن الذي فسرناه لِتَوِّنا لا يتطلبُ بالضرورةِ أنْ يُعْزَلَ من خلال مقولةٍ تؤكدُ خصائصَهُ بصورةٍ قاطعة. فإنَّ أية نظرة «قبل خبرية» وحسب إلى الشيء الجاهز تُعتبر في ذاتها شيئًا يُفْهَمُ ويُفَسَّرُ … عندما يكونُ علينا أن نتعاملَ مع أي شيء، فإن مجرد النظر إلى الأشياء التي تقترب منا أَشَدَّ اقترابٍ يتسم في ذاته بِبِنَاء التفسير، وهذه ظاهرةٌ ذاتُ أسلوبٍ أَزَليٍّ راسخٍ، إلى الحدِّ الذي يجعل مجرد إدراك شيء ما من دون وجود أداة التفسير، أي «باعتباره» ذلك الشيء، يتطلب تكيُّفًا معينًا. وعندما نُحَدِّقُ وحسبُ في شيء فإن «مجرد رؤيته أمامنا» يجعل وجوده أمامنا دليلًا على أننا لم نعد نفهمه. وهذا الإدراك الذي لا يتضمن أداة التفسير [«باعتباره»] حرمانٌ من الرؤية التي تمثل مجرد الفهم. وليس هذا أعمق في أزليته من ذلك النوع من الرؤية، ولكنه مُشْتَقٌّ منها. وإذا كانت الأداةُ التفسيرية [«باعتباره»] تتخذ شكل التعبير الوجودي، فلا ينبغي أن يُغْوِينَا ذلك بتجاهُلِهَا بِصِفَتِهَا حالة تشكيلٍ للفهم، وباعتبارها وجوديةً وسابقةَ الوجود.
(الوجود والزمن، ص١٨٨–١٩٠)
أبدأ التعليق على هذا الأسلوب الذي لا يختلف اثنان على غموضه، بتبيان الأسباب الأساسية للغموض، وأحدها، كما أقول في الفصل الأول الجهل بما تحيلنا إليه المجردات من دون استعمال أمثلة توفر الألفة والمعرفة المستمدة من معارفنا العامة والأولية التي تكفل الفهم. والطريف أن العبارة الأولى في هذا المقتطف قد استعارها جادامر فيما بعد في كتابه الحقيقة والمنهج، وبألفاظها نفسها باستثناء تغيير الفاعل، فالمبتدأ هنا (وهو الفاعل في الجملة الأصلية) هو الحضور، وأما «الفاعل» عند جادامر فهو الشخص، يقول هايديجر:
As understanding, Dasein projects its being upon possibilities.
ويقول جادامر:
A person who understands, understands himself, projecting himself upon his possibilities (Truth and Method, 2004, p. 25).
وعندما مرت بي العبارة المشتركة ترجمتها بعبارة «يُسْقِطُ نفسه على إمكانياته» وأضفت هامشًا أقول فيه:
معنى هذا التعبير الغامض أن المرء يفهم ذاته إذ يراها فيما يمكن أن يحققه في المستقبل، فإذا كان يرى أن إمكانياته (المادية أو النفسية أو الذهنية) تتيح له أن يصبح طبيبًا، فإنه يرى ذاته المتوقعة [وهذا معنى الإسقاط] في صورة طبيب. فانظر الفرق بين لغة الإيضاح بالأمثلة (illustration) واللغة التجريدية عند جادامر.
(موسوعة رتلدج للهرمانيوطيقا، المجلد الثالث، ص٨٩، تحت الطبع)
وأما استبدال جادامر كلمة «الشخص» بكلمتي «الحضور» و«الوجود» في نص هايديجر فدليل على أنه لم يجد ما يدعو لاستعمال هذه الكلمات «الوجودية» بمعنى أن عدم وجودها لم يؤدِّ إلى أي نقص في الفكرة، وهذه بعض الكلمات التي أضافها هايديجر نفسه في مسودته الثالثة لكتاب الوجود والزمن (انظر ما يقوله كيزيل في آخر الفصل الثاني أعلاه).
ونلاحظ ثانيًا أن هايديجر يلتزم الدقة في التعبير مثل رجال القانون وفقهائه الذين يضحون بجمال الأسلوب أو برصانة اللغة في سبيل الوضوح، فهم يكررون ذكر الاسم بدلًا من استعمال ضمير يعود عليه، ولذلك نجد تكرار كلمة «إمكانية» سبع مرات في الفقرة الأولى، وكذلك بعض الكلمات الأساسية عند هايديجر مثل «الفهم»، والحضور، الوجود، الكيان … وهلم جرًّا، ومع ذلك فما المقصود بالعبارة الأولى عند هايديجر؟ إن بياتا سيروي (Beata Sirowy) تشرح نظرة كل من الفيلسوفين هايديجر وتلميذه جادامر إلى الفهم قائلة إنهما يشتركان في اعتباره أسلوبًا حدسيًّا ينتمي إلى وجود الإنسان في الزمن، فهو في استناده إلى الخبرة والتراث الثقافي ينتمي إلى الماضي وفي لجوئه إلى الإسقاط بمعنى استشفافه للإمكانيات التي يتيحها لنا ينتمي إلى المستقبل، وهو في هذا وذاك ذو حضور، بمعنى وعيه بوجوده في الزمن عند هايديجر، وبمعنى أنه يفهم نفسه عند جادامر (The Routledge Companion to Hermeneutics, 2015, p. 532). وهكذا فإن التمييز بين الموقفين، على الرغم مما يشتركان فيه، يفرض على كل منهما اللجوء إلى ما وصفته بالصياغة القانونية.
ولهذا يجد هايديجر نفسه مضطرًا إلى التمييز بين عملية الفهم (التي يقتصر كلام جادامر عليها) وبين نتيجة الفهم التي تتمثل في تنمية إدراك المرء لذاته أي لوجوده، وهي النتيجة التي يعتبرها هايديجر تفسيرًا. وإذن فإن مفهوم التفسير عند هايديجر يختلف عن مجرد الفهم، بل يدل على ما يحدثه الفهم في الإنسان من تغيير يسميه «التنمية» والمقصود بها تنمية وعيه وإدراكه أي كونه حضورًا.
وفي الفقرة الثانية يطور هايديجر مفهوم التفسير من خلال علاقة وجود المرء بوجود ما حوله من أشياء جاهزة الحضور، أي ذوات معانٍ محددة، فهو يرتبط بها في إطار ارتباطه بالعالم أو بعالمه قبل ذلك. أي إن التفسير يكتسب بُعْدًا تطبيقيًّا أو عمليًّا، وهو يقدم لنا هنا تمييزًا جديدًا بين وسيلة الفهم اللغوية ووسيلته التفسيرية وهي كلمة «باعتباره» لوصف حال الشيء الجاهز الحضور، والدلالة التفسيرية تكمن في استعمال «باعتباره» لإضافة وصفٍ إلى سياق ذلك الشيء لإبراز شيء فيه يزيد عن المعنى المحدود في السياق، ومن ثم يتحقق له ما يسميه هايديجر الإبراز السافر أو السفور، وقد مر بي هذا التمييز بين الدلالتين في الدراسة التي كتبها دوستال (Dostal) وشرحتُه في حاشيةٍ أَوَدُّ إيرادها هنا لإيضاح التمييز بين «باعتباره» الفهمية و«باعتباره» التفسيرية، أي بين استخدامها للبيان (thematically) أو لما يسبق البيان (pre-thematically) حسبما يقول هايديجر.

انظر العبارتين التاليتين:

  • (١)
    ازداد تعلق كلبي بي باعتباره رفيقي منذ أن فقدت البصر (As my companion …).
  • (٢)
    أصبح كلبي الذي يرافقني يرتبط بي ارتباطًا شديدًا باعتباره رمز الوفاء منذ أن فقدت البصر (As a symbol of fidelity).
ففي العبارة الأولى تعادلٌ بين الكلب والرفيق، ومن ثم فهي بيانية (thematic) أو خبرية (predicative)، وأما العبارة الثانية فتضيف تفسيرًا سابقًا لبيان التعلق (pre-thematic) أو قبل خبرية (pre-predicative) فالتفسير مضاف إلى الجملة البيانية، ومن ثم فإن هايديجر يعتبره استعمالًا تفسيريًّا أو هرمانيوطيقيًّا، ويصف «باعتباره» بأنها أداة تفسيرية أو هرمانيوطيقية. (انظر: ويليامز، الحقيقة والصدق، ٢٠٠٢، ص١٠٣-١٠٤).
وأنتقل مما يذكره هايديجر عن الفهم والتفسير من خلال التمييز بين الاستعمالين الشائعين لأداة الوصف البيانية والتفسيرية إلى ما يعنيه بالتداخل الشديد في حياة الإنسان بين الاستعمالين، فهو يلمح إلى ما ذكرته في المقدمة عن الطبيعة الأصلية للفهم باعتباره نشاطًا يصب في خلفية معرفية، ثم أردفت أن التفسير أحيانًا يسبق الفهم عندما تستغلق علينا المصطلحات أو الأشياء الجديدة، إذ إن هايديجر ينكر الجانب المعرفي للفهم بالمعنى الذي أتى به العلم الحديث، فعالم الفيزياء يميل إلى «تشريح» المواد وصولًا إلى عناصرها الطبيعية، ولكن الإنسان يدرك معاني الأشياء من دون ذلك التشريح وفقًا لدلالتها العملية، وهذا الإدراك في نظر هايديجر يقوم على استعمال أداة التفسير «باعتباره» أي الأداة التي تشير إلى وظيفتها في الدنيا وعلاقتها بنا، وهو ما يحقق نظرته الوجودية للبشر والأشياء، وخصوصًا ما يسميه الأشياء الجاهزة الوجود. وإيضاح ذلك يتطلب ضرب مثال من حياتنا اليومية.

يقول هايديجر إننا عندما ننظر إلى الأشياء التي تقترب منا أشد اقتراب نراها بعين المفسر لا بعين الفاهم (أي عالم الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا)، فالمرء حين يرتدي سترة جلدية — سواء كانت من الجلود الطبيعية أو المصنعة بحرفية شديدة — يراها بعين المفسر أي باعتبارها سترة متينة تقيه البرد، وتتحمل ما لا تتحمله الأنسجة القطنية أو الصوفية، وهكذا فهو يراها باعتبارها رداءً ثقيلًا وربما يكون جميلًا، ولكنه لا يراها باعتبارها من جلد البقر أو الجاموس المدبوغ، ولا يكاد يرى فيها ما يراه علماء الطبيعة، أي إنه لن يدور بخلده أنه يكتسي الجلد الذي كان يكسو بقرة يومًا ما، ولذلك يقول هايديجر: إن المرء إذا حاول «إدراك شيء ما من دون أداة التفسير، أي باعتباره حقيقة ذلك الشيء [أي حقيقة الجلد] فهو يتطلب تكيُّفًا معينًا.» أي إن على المرء إذا أراد الانتقال من التفسير إلى الفهم أن يجعل «أداة التفسير» أداة بيان؛ ولذلك فهو يقول: إن أداة التفسير تفرض وجودًا معينًا على الشيء، وعلى المرء أن يرى أنها ما دامت (وجوديًّا) سابقةً على التفسير فلا بد أن نضيفها بما تحمله من دلالات إذا أردنا الفهم فعلًا. وهكذا فما دامت السترة باعتبارها سترة تسبق وجوديًّا اعتبارها من جلد البقر، فإن الموقف الوجودي يقتضي رصد ذلك في كل محاولة للفهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤