الفصل الثاني

عقيدة الخلود المصرية

إن الدين في كل عصر ومكان، وسيلة من وسائل تثبيت عروش الملوك والحكام.

د. عبد الحميد زايد

رغم كل ما قدمته مدرستا أون ومنف، لتفسير نشأة الوجود المحسوس كونيًّا وكائنيًّا، فقد ظل هذا العالم المحسوسُ — بشكل عام — عالَمًا زائفًا لا يمكن الاطمئنان إليه، بعد أن وجد هؤلاء أنَّ الفناء يدبُّ في أحيائه وجماده، مهما طالت أو قصرت مدة بقائها، مما جعل هذه التفسيراتِ أحدَ وجْهَي الديانة المصرية، فقد رأت الحكمةُ المصرية أن الوجود لا يمكن أن يكون هو هذا الوجودَ الفانيَ المتغير فقط، وإنما الوجودُ وجودان أو عالَمان، عالمنا هذا المادِّي المحسوس، وهو عالمٌ زائل فانٍ لا بقاء له، وعالم آخر تُشكِّل مواصفاتُه والإيمانُ به وبوجوده؛ الوجهَ الآخر والأكثرَ قوةً في الديانة المصرية القديمة.

ولما كان الوجود قد تشكل أصلًا من الأضداد، فمن البديهي أن يكون هناك عالمٌ آخر يضادُّ بوجوده عالمَنا المحسوس، فيتصف بالخلود مضادةً لعالمنا الزائل. وإلى هذا العالم الخالد، لا بد سيرحل الناس بعد موتهم، مما جعل الاعتقادَ في الخلود أساسَ الديانة المصرية، ولُبَّها وجوهرَها، فيؤكد المؤرخ «ول ديورانت» على أن أهم ما كان يميز الدينَ في مصر القديمة «توكيده لفكرة الخلود»،١ بل لم نجد باحثًا واحدًا على الإطلاق ممن طالعنا، لا يعتبر هذا الأمر مُسلَّمةً وبديهية، ويؤكد الباحثون على أنه «لا يوجد شعبٌ — قديم أو حديث — بين شعوب العالم، احتلَّت في نفسه فكرةُ الحياة بعد الموت المكانةَ العظيمة التي احتلَّتْها في نفس الشعب المصري.»٢

وقد رأى المصري القديم في ظاهرة الموت أمرًا مفزعًا ومخيفًا، يجب اجتنابه بأي صورة أو شكل، مما حَدا بهذا العقل إلى وضع تصوُّر شامل لحياةٍ أخرى خالدة من بعد الموت.

وقد رأى المؤرخون: أن المصريَّ لم يَترك لنا تصورًا شاملًا واحدًا أبدًا، وإنما تصوُّرات مختلفة مُتضاربة متناقِضة؛ فقد «تعدَّدت تخيُّلات المتفقِّهين في تعيين عالم المخلَّدين، فتخيله بعضُهم في جوف الأرض حيث يُدفَن الناس فعلًا، وتوهمه بعضٌ آخر في الغرب على وجه الإطلاق، ثم رجاه بعضٌ ثالث في السماء حيث الرفيقُ الأعلى …»٣ أو كان يمكن للميت «أن يصبح رع المتهاديَ في مركبه متجولًا عبر السموات، وفي الوقت ذاتِه يمكن أن يُصبح المرءُ أوزيريس أو واحدًا من رعاياه، وقد يكون ممكنًا كذلك أن يلتحق بمجرَّة ملكية كنجمةٍ في السماء، ولكن كان من الممكن جدًّا بعدَ كل هذا، أن يستمرَّ الإنسان في العيش داخل قبره، متمتعًا بأطايبِ هذه الدنيا التي زُوِّد بها هناك، وأن يَخرج من قبره بشكل أو بآخر من الأشكال، ليستنشق الهواء ويمتع النظر بأرض مصر الجميلة، وكان معظم المصريين يَميلون إلى الأخذ بهذه النظرية الأخيرة؛ نظرية الوجود المستمر داخل الأضرحة.»٤
وحاول بعض المؤرخين تفسيرَ هذا التضارب، أو التخفيفَ من حِدَّته «فقسموا آراء المصريين فيما سيحصل للإنسان في الحياة الأخرى إلى مذهبَين؛ فأهل المذهب الأول اعتقَدوا أن الباقيَ في الإنسان هو الجسم اللطيف المسمى كا، وأنْ لا بد له من الموت مرةً ثانية في جوف الأرض؛ ولذا تطلَّبوا أن يفعل لهم بعد الموت ما يَجلب لهم الفرحَ والغناء، قائِلين: إنه متى ترك الجسم كا وحيدًا، اعتَراه الجوع والظمأ، وتبِعَته حيواناتٌ فظيعة تتهدَّده بموت آخر يؤدي لفنائه، فمتى تُلِيَت عليه الدعوات، وأقيمَت عليه الصلوات بإتقانٍ وانتظام؛ نال بواسطتها الغرف والمأكولات والخدمَ والحرس، فيَحفظونه من تلك الحيوانات الفظيعة المهدِّدة له بالفناء … وأهل المذهب الثاني يَعتقدون انتقالَ الروح إلى الدار الآخرة … هنالك حياة نعيشها تَختلف سعادتها وشقاوتها، بالعمل الذي جَناه الإنسانُ في دار دنياه، أو أن الروح قبل أن تستقرَّ على حال، لا بد وأن تعرض أولًا للحساب»٥

ولكننا نذهب إلى أن اختلاف تصورات المصريين، التي رآها هؤلاء المؤرخون، واعتبَروها خليطًا غيرَ منظَّم ولا مفهوم، يعود في الأساس إلى أن هؤلاء قد تناوَلوا الموضوع في مُجمَله، بادِئين بالنهاية لا بالبداية، فاختلَط أوله بآخره، دون أن تُوضَع في الاعتبار، المراحلُ التطورية التي يحتمل أن يكون هذا الاعتقادُ قد مرَّ بها، والعوامل والظروف التي كانت وراء كل خطوة تطورية.

وسعيًا وراء وضع تصور شامل ومفهومٍ للاعتقاد المصري القديم في الخلود؛ يجب إعادةُ النظر في كل المتراكِمات التي تركها المصريُّ عن عالَمِه الآخر، وتفحُّصُها بمنطق تطوري، يربطها بالأحداث التي أدَّت إلى ذلك التطور، والسيرُ خطوة فخطوة مع خطوات عقل المصري القديم، في سبيل الوصول إلى تصورِ عالم آخر، وهذه هي مهمة الفلسفة أكثر مما هي مهمة التاريخ. متَّبِعين في ذلك منهجًا لا يُرهق القارئ، فلن نتعرَّض لكلِّ هذه التصورات المختلِطة المتنافرة، وإنما سنُفصِّلها بترتيب تصاعدي تطوري من البدء، ليتحمَّل الباحثُ وحده هذا العناء دون قارئه.

وفي البداية يمكن القول بأن المعتقَد الأخرويَّ المصري القديم قد أخذ في نشأته صورةً تدريجية بدأَت «اعتقادًا ساذَجًا بوجود عالم سُفلي للأموات، مآلُ كل الناس إليه حتمًا»،٦ وإن كان «لا يُعرَف متى بدَأت العقيدةُ تنتشر بهذا الشكل بين الشعب المصري، على أنه مهما يَكُن من أمر، فإنها تَرجع إلى زمنٍ بعيد.»٧ كما لا «تسمح الشواهد الأثرية في حد ذاتها، بتكوين فكرة إيجابية عن ديانة المصريين، في الحِقْبة الأنيوليتية (عصر فجر التاريخ) … وأقصى ما في الأمر ما اكتُشِف في البراري من جبَّانات الحيوانات، حيث دُفِنت باحترام بناتُ آوى، وثيرانٌ وكِباشٌ وغِزلان بين الحصر …»٨
ويقول كلٌّ من درايتون وفاندييه: «تدلُّ الترتيبات المعدَّة في المقابر على اعتقادٍ في البعث؛ إذ يمكن الاستنتاجُ من وضعِهم التغذية بالقرب من الجثث، وكذلك من وضع لوازم الزينة والأدوات أحيانًا، أنهم كانوا يَحسبون أن الموتى يَعيشون في قبورهم، يتغذَّون فيها، ويحتاجون إلى العناية الجسمانية، ويُباشرون أعمالهم المختلِفة.»٩
إلا أننا نظن أن فكرة الخلودِ قد اقتصرَت في شكلها البدائيِّ هذا على تصورٍ مؤدَّاه أن الميت يَعيش بشكل ما في قبره، لكن دون أن يأخذوا في اعتبارهم — في هذه المراحل المبكرة — بفكرة البعث كما نَفهمها اليوم، ثم تطورَت الفكرة إلى القول بالعالم المظلم تحت الأرض، حيث يذهب الميت إليه من خلال مدخلٍ ما في الجبال الغربية، حيث رأَوا الشمس تغرب هبوطًا فيه كل يوم، فأصبح الغرب رمزًا على الموت، وإن كانت فكرةُ الخلود في القبر قد ظلت مسيطرةً إلى حد ما، إلى جوار العالم السفلي؛ استنتاجًا من قول إليزابيث رايفشتال: «لقد شَيد ملوكُ مصر المتحدةِ القدماءُ أضرحةً فخمة لإقامتهم الخاصةِ بعد الموت، في حين أنهم لم يُقيموا للآلهة سِوى أماكنَ متواضعة»،١٠ مما يدفعنا إلى الظن بأن المعتقَد الأخروي كان صاحبَ الأولوية على المعتقد الإلهي، وأن المسألة الهامة كانت هي الإنسانَ وتحقيقَ آمالِه ورغباته، قبل أن تكون مسألةً تتعلق بمدى القدسية الدينية أو الاعتبارية للآلهة.
وقد رأى «رودلف أنتس» أنه قد «نتج عن التطور المرموق للقبور والشعائر الجنائزية في مصر — خلال الألفِ الثالث ق.م — نموٌّ واسعُ النطاق لفكرتَيْن أساسيتَيْن: كانت الأولى عقيدةَ أن الأموات يواصِلون بعض أشكال الوجود الطيفي، يمكن أن يكونوا به مصدرَ خطر أو خيرٍ لأخلافهم الأحياء، كما كانوا أنفسُهم فيه عُرضةً لمختلِف الأخطار. وكانت الفكرة الثانية، ما أظنه الدافع البشري الطبيعي لإمداد المتوفَّى بما يخصه وما يحتاج إليه، وما كان يُحبُّه على الأرض، حتى يتمتَّع به ويَستخدِمَه طالما وكيف استطاع. ولقد نشأ تطورُ هاتَين الفكرتَين الأساسيتَين في «المقر الملكي، وليس في أيٍّ منهما أن الروح أو النفس البشرية خالدة»»،١١ مما يَعني أن الفكرة في بدايتها لم تكن قد وصلَت بعدُ إلى معنى الخلود، وإنما كانت المسألةُ فقط «أن الموتى يقيمون في مقابرهم …»١٢ ويَبقون فيها، أو على شكل أطياف في عالم تحت الأرض، والأهم أن ذلك الخلودَ البدائي قد اقتصر على الملوك فقط، بينما لم يكن للشعبِ هذا الحقُّ بعد.
وإن الاعتقاد البدائي بشأن المصير بعد الموت، كان مسألة شائعة بين شعوب العالم القديم بشكل عام، فشعوبُ وادي الرافدَين عامة «كانوا يتصوَّرون أن الموتى يَعيشون في مكان مقبض تحت الأرض، مليءٍ بالظلام والتراب، يَذهب إليه الناسُ جميعًا لا فرق بين صالح ومجرِم.»١٣ وأطلقوا على هذا المكان «البيت الذي لا يعود داخلُه»١٤ ورسَموه في خيالهم «تحيط به أسوارٌ سبعة، لكل سورٍ منها باب واحد.»١٥ ومعروف «أن هذا اللون من التفكير قد ساد العالم القديم؛ فالتوراة لم تُشِر إلى الجنة والنار، أي الحساب والثواب والعقاب، إلا متأخرًا؛ حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، أما قبل ذلك فهناك شيول أرض الظلام.»١٦ كما اعتقدت المسيحية أن الروح «ستذهب حالًا بعد الموت إلى المكان الذي دعاه يسوعُ الهاوية؛ لتنتظر دينونة الله.»١٧
المهم؛ أن ديورانت١٨ يرجع هذه النشأةَ البدائية لفكرة الخلود الفرعونية إلى أسباب؛ أهمها طبيعة الأرض المصرية ذاتها، فيقول معضدًا من برستد وبقية الأثريين: إن الفلاح المصري كثيرًا ما كان يرى «الحبَّة التي بذَرها قد نبتَت واخضرَّت وآتَت ثمارها، ثم زرع مِن تلك الثمار حبة أخرى، فتكررَت معجزةُ الحياة، ففكر في تلك الحياة المتجددة التي لا يمكن أن تموت موتًا نهائيًّا»؛ لأنه «إذا أمكن أن يَحيا أوزير النيل، ويحيا النبات كله بعدَ موتهما، فإنه في مقدور الإنسان أيضًا أن يعود إلى الحياة بعد موته، وكان بقاء أجسام الموتى سليمةً بصورة تَسترعي النظر في أرض مصر الجافة، مما ساعد على تثبيت هذه العقيدة، التي ظلَّت مسيطرة، إلى أن انتقلت منهم إلى الدين المسيحي.»١٩
وكان سبب الموت في رأي المصري القديم، هو أن هناك قوة خاصة — كانت تُلازم الإنسان في حياته — قد فارقَتْه، وكانت هي سِرَّ الحياة، وهي قوة يَمنحها له رع عند ميلاده،٢٠ سماها اﻟ «كا KA»، وهي صورة أو نسخة طبق الأصل من صاحبها، إلا أن الأثريين يؤكدون على أنه «ليس من الواضح لنا، وربما لم يكن واضحًا بالنسبة للمِصريين القدماء أنفُسِهم، كيف كانت حالة الكا أثناء الحياة، ولا الدور الذي كانت تلعبه …»٢١

وهنا يَكمُن السر في مسألة تقديم الطعام والقرابين إلى الموتى في القبور؛ فهذه اﻟ «كا» كان يجب أن تظلَّ حية في نظر المصري القديمِ بعد موت صاحبها؛ لذلك اتخَذ المصريون وسائلَ عدةً لتسهيل هذه المهمة، فقاموا بتحنيط الأجساد، حتى تَحُل الكا في الجسد عندما تريد، مع تمثالٍ للميت يُشبهِه تمامَ الشبه، يُوضَع في مكان أمين؛ حتى يُمكِن للكا أن تجد فيه القسماتِ الشخصيةَ، التي قد تَفقدها الجثةُ بمرور الزمان، بل وبدءوا بوضع الأثاث المنزلي مع جثمان الميت في القبر، حيث سيَعيش عالَمه الآخر، ثم استمروا في إمداد القبر بشكل دوري بالطعام؛ لأجل المحافظة على حياة «كا» الميت.

ويشير «ماسبيرو Maspero» إلى أن كل ما كان يَعلمه المصريون عن الكا، لا يَزيد على «أنه متى ما دخل القبر، استقر وعاش فيه بحياةٍ يَكاد لا يَشعر بها، فلا يفارقه إلا طلبًا للزاد والقوت، فإذا خرج مِن جدثه هام في القرى، وألقى بنفسه على المأكل والقاذورات، وحسَد الأحياء وتعمَّد الانتقام منهم؛ لسبب اعتزالهم عنه، فيأخذ في مهاجمتهم وتعذيبهم وإصابتهم بالأمراض! ومِن هذه الأجسام اللطيفةِ ما يَضرُّ الناسَ بدون داعٍ ولا سبب، فتَحمله ردائيته الغريزية على الفتك بذَوي القُربى.»٢٢ «وإلى جانب هذه الكا التي ظلَّت دائمًا كائنًا غامضًا غيرَ محدد، فكَّر المصريون في الروح، وكانوا يسمونها با،٢٣ وهي إذ كانت تترك الجسد وتنفلت منه عند الموت؛ فقد تخيَّلوها عادة على أنها طائر، وربما تمثَّلوا الميت المبكيَّ عليه بين الطيور التي تستقر على الأشجار، التي غرسها بنفسه من قبل.»٢٤
ولأن مسألة تطوُّر أفكار المصريين حول ما بعد الموت، قد ارتبطَت أساسًا بالملَكية، وأن الملك وحده كان صاحبَ الحق في التحنيط والدفن، وحياة القبر، أو حياة عالم الأموات البدائي؛ فقد ظهرت فكرة «البا BA» أو الروح، لتظل بالذات شيئًا خاصًّا بالملوك فقط في بداية الدولة القديمة، حتى إن «النبلاء لم يكن لهم هذا الحق»،٢٥ مما يَعني أن عامةَ الشعبِ والنبلاءَ ما كانوا يَملكون هذه الروح أو البا، وبحيث نَفهم أن تطور هذه الأفكار البدائية نحو فكرة الخلود، قد بدأ قاصرًا على الملوك، «أما فيما يختص بجماهير الشعب فلَسْنا نملك أيَّ دليل على الاعتقاد الخاص بحياتهم بعد الموت» بتأكيد الأثري ولسن.٢٦ ويعضد ولسن في ذلك؛ الأثريُّ المصري سليم حسن بقوله: «مِن الحقائق الغريبة في بابها، والتي يجب معرفتُها عن معتقَدات الشعب في عهد الدولة القديمة؛ أنه لم يَرِد في المتون الجنازية عامة، إشارة إلى روح الفرد العادي با وقرينته كا مدى حياته، كما أنه لا توجد صورةٌ لأيهما في النقوش والرسوم حتى بعد الموت، وهذا خلافُ ما نعرفه عن الملوك؛ إذ إن روح الفرعون با وقرينته كا، مرسومةٌ على الآثار في حياته وبعد مماته.»٢٧

ويُفهَم من ذلك أن التصوراتِ المصريةَ حول عالم الخلود قد أخذَت خطوة تطورية، فبدأ الشعب يدخل المرحلة الجنازية، لكن دون أن يكون له الحقُّ في الحياة من بعد الموت؛ لأنه بدون «كا»، وبدون «با» بوجه خاص وهي سرُّ الخلود كما سنَرى فيما بعد.

ولا يفوتنا قبل الانتقال إلى هذه المراحل التطورية الجديدة، أن نشير إلى أن المصريَّ في عصر فجر التاريخ، قد اعتقَد في آلهة خاصة لعالم الموتى، والتي كان أهمها «أنوبيس»، «إله مدينة كاسا في مصر الوسطى، وكان يُمثَّل في هيئة رجل له رأسُ ابنِ آوَى، وفي المؤلَّفة الشمسية كان يُعَدُّ ابنًا لرع.»٢٨ ويبدو أنه كان الصورة التطورية للإلهين الجنازيين «وب وات Ophis» إله موتى أسيوط، وكان يُمثَّل على هيئة الذئب كاملة،٢٩ «وخنتي أمنتي Khent Amentiu» إله أبيدوس، وكان على هيئة ابن آوى الكاملة، ومع هؤلاء كان «سكر Sokaris»، إله جبَّانة منف،٣٠ الذي اشتُقَّ من اسمه اسمُ سقارة الحالية.

ويمكننا استنتاجًا القولُ: إن الآلهة الجنزية الأقدمَ كانت وب وات، وخنتي أمنتي، إذا أخَذْنا بالحسبان أشكالهم الطوطمية الحيوانية الكاملة، بالنسبة لكلٍّ من أنوبيس وسكر اللَّذَين أصبَحا ذوَيْ أجسام آدمية، ولم يحتَفِظا من الطوطمية سوى بالرأس الحيواني، كما أن وب وات، وخنتي أمنتي، كانا من آلهة الملَكيات القديمة، وظهَرا في عواصم هذه الملكيات، صاحبةِ المصلحة في الارتباط بآلهة جنزية، بينما يمكن اعتبار أنوبيس وسكر آلهةً أحدثَ عهدًا بعد أن انتقلت العواصم الملكية من الجنوب إلى الشمال، فارتبط أنوبيس بديانة رع الأوني، فأصبح ابنًا له، بينما ارتبط سكر بالإله بتاح المنفي، وانتهى بالاندماج فيه. وفي المراحل التالية بعد الصراع بين رع وفتاح — والذي اختفى فيه فتاح — انتهى بالطبع سكر، بينما بقي أنوبيس مع رع المنتصر، ولكنه هو الآخر بدأ يتخلَّف درجاتٍ عن رع، الذي أصبح في الأسرة الخامسة هو المطلق، وإن ظل أنوبيس مرتبطًا به كراعٍ للمقابر فقط.

ويبدو أن فكرتَيْ: عالَم تحت الأرض المظلم، والبقاء في القبر والخروج منه أحيانًا في هيئة الكا، قد سارَتا جنبًا إلى جنب، حتى عصر التأسيس والأُسَر الأولى من عصر الدولة القديمة، إلا أن الاستمرارَ في الوجود من بعد الموت، قد بدأ يَظهر بمنطق هذا العصر على شكل مقاومة للبِلَى المادِّي، فاتجهَت الأذهان إلى بِناء المنشآت التي لا تَبْلى، كما لو كانت القوةُ والضخامة، هما السبيلَيْن الوحيدَين إليه، فكان أن ترَكوا لنا أهراماتِهم الكبرى، مع فن التحنيط الرائع؛ للمحافظة على الجثة أطولَ مدة ممكنة، وإلى جوار الاستمرار في القبر، بدأَت في هذا العهد تَسود فكرةُ أن الجميع بلا استثناء سوف يذهبون غربًا، أي: إلى المهامِهِ المظلمة تحت الأرض، ولم تَعُد المسألةُ قاصرةً على الملوك فقط.

ونرجح أن التطور الجديد لفكرة الخلود — الذي حوَّلها مِن مجرد تواجد في القبر إلى خلود حقيقي فيما بعد — قد بدأ كالعادة مع مدرسة أون الفلسفية، فما كان لِيُرضيَهم هذا المصيرُ لملوكهم، خاصة وأنهم قد أصبحوا في الأسرة الخامسة، هم هؤلاء الملوك أنفسهم، فبدأوا يبحثون عن مصيرٍ أفضل، مما قادهم إلى وضع نظرية فلسفية ميتافيزيقية في الخلود، قصَرَت هذا الخلودَ على الملوك دون الشعب، ويمكن أن نتصور منطقهم قد سار على الشكل التالي:

إذا كانت الآلهة خالدة
وإذا كان سر خلودها هو: طبيعتها الإلهية،
وحيث إن الملوك هم «أولاد رع»؛٣١
أي أبناء الإله،
فهم لا شك إذَن؛ قد جمعوا إلى جانب
الطبيعة الإنسانيةِ الطبيعةَ الإلهية
«وباعتبار هذه الطبيعةِ الإلهية:

•••

طبيعةً خالدة؛»
إذَن، يكون منطقيًّا استنتاجُ أن:
الملوك أيضًا خالدون.
ويكون منطقيًّا أن يقتصر الخلود بمعناه الحقيقي على «فرعون وحده»؛٣٢ لأنه ابن الشمس الخالدة التي لا تموت، و«كما تذهب الشمس لتستريح كل ليلة، وتُعاد ولادتها كلَّ صباح»،٣٣ كذلك إذا ترك الملكُ هذه الدنيا، فلا شك أنه «تُعاد ولادته لسعادة أبدية»٣٤ أما «عامة الشعب مأواهم الأرض»؛٣٥ لأنهم لا يملكون الطبيعة الإلهية الخالدة، وهنا أعلنت متون الأهرام بيقين لا يهتز:
إن الملك «لا يموت على الأرض بين الناس»؛٣٦
لأن «الناس يفنَوْن وأسماءَهم تُمحى»،٣٧
بعكس الملك الذي «يصعد إلى السماوات.»٣٨

بل وأخذت هذه المتون تُصِر على إيضاح هذا المعنى، بالتفرقة بين الملك الذي يَحوي الطبيعة الإلهية، وبين البشر العاديِّين، فتقول:

إن ماء (أي نسل) الملك تيتي
في السماء،
وشعب تيتي
في الأرض.٣٩

أو تخاطب الملك قائلة:

إن ماءك مأواه السماء،
أما الآلاف
فمأواهم الأرض٤٠

أو:

إنك تدخل أبواب السماء،
التي حُرِّمَت على المواطنين.٤١

أو:

لقد فُتِح لك مِصْراعَا أبوابِ السماء،
وانفرَجَت لك أبوابُ السماء،
وهي التي تصد الناس بعيدًا عنها.٤٢

أو:

تفتح للمَلِك المِزْلاجَ
إلى باب السماء،
المحرَّمة على الناس.٤٣

وهنا يمكنَّا القول بأن هذه الطبيعة الإلهية بالذات، هي ذلك الشيء الغامض الذي أسموه البا أو الروح، ويَدعم ذلك ما سلَف من القول بأن البا شيء يخص الملوك فقط، دون سائر الناس.

وإن الاعتقاد بأن الخلود مسألة خاصةٌ بالآلهة فقط، لم يكن فيما يَلوح قاصرًا على مصر فقط، فنجد نفس التصوُّر في عقائد شعوب الرافدَين، حيث اعتَبروا الخلود مسألة خاصة بالآلهة فقط، أما الموت فقد كان من نصيب البشَر، فتقول أسطورة «جلجامش Gilgamesh»: «عندما خلَقت الآلهةُ الإنسان قدَّرَت عليه الموت، بينما احتفظَت لنفسها بالخلود»،٤٤ وهذا الاعتقاد في الخلود بمعناه المطلق والقاصر على الآلهة، وضَع المصريِّين أمام خيار وحيد، فكي يكون الإنسان خالدًا؛ فلا بد أن يكون إلهًا، وكان هذا أيضًا فيما وجدناه في عقائد الرافدَين من تصورات؛ فقد زعموا أن هناك إنسانًا واحدًا قد نال التأليه؛ لذلك فهو الوحيد الذي نال الخلود من بين البشر، وهو «يوتانا بشتم Utanapishtim» بطل أسطورة الطوفان وصاحب الفُلك المعروف، الذي يحتمل أن تكون قصته قد انتقلَت للكتاب العبري المقدس تحت عنوان «طوفان نوح».٤٥
ويمكن القول: إن هذا المنطق ليس غريبًا، حتى على بعض الديانات الكبرى الحاليَّة؛ فقد كان هذا الأساس الفلسفيُّ الذي تصورناه لظهور فكرة الخلود المطلقة المصرية، هو نفسُه الأساسَ الذي قام عليه جوهرُ الخلود في الديانة المسيحية، بل جوهر المسيحية برُمَّتها؛ فقد تصور هؤلاء أنه قبل مجيء المسيح لم يكن هناك خلود، وإنما كان جميع الناس صالحًا وطالحًا يَذهبون إلى عالم الظلام السفلي الذي أسمَوْه الهاوية أو شيول، ولكن بمجيءِ المسيح، واستشهاده، وعودته للحياة، وذهابه خالدًا لعالم السموات؛ لوجود الطبيعة الإلهية فيه إلى جانب الطبيعة الإنسانية، أو بتعبيرهم أن لاهوته لم يُفارِق ناسوته ولا لحظة واحدة، فإنه قد كتَب الخلود لكل مَن يؤمن به، حيث سيُصبح المؤمنون به بمثابة أبناء له يُخلَّدون مثلَه؛ لذلك يؤكد المسيحيُّون ويُصرُّون على ترديد هذا المعنى عندما يُنادونه: «أبانا الذي في السموات».٤٦
أما كيف سيكون هذا الخلود الملكيُّ المصري، فهذا ما يُجيب عليه المتخصصون، فيرَون أنه كان «خليطًا من الأفكار والخيالات، فكان يعتقد أن الميت في قبره يأكل ويشرب، وأنه بين حاشية الشمس في نفس الوقت»٤٧ «وأنه لم يكن لدى المصريِّ فكرةٌ واضحة عن عالَمِ خلودِه، فظن البعضُ أنه يعيش بين نجوم السماء، واعتقد آخَرون أنه يجلس على الأشجار بين الطيور، على حين اعتقَد البعض أنه يظلُّ فوق الأرض حيث تستقرُّ عِظامه.»٤٨
ويُلخِّص برستد ما يراه هؤلاء في تصور المصريين لعالم الخلود، فيقول: إن المصريين قد «نسج خيالهم نسيجًا معقَّدًا، ضمَّ من الألوان ألفَ لون، بحيث صار غيرَ قابل للاندماج في وَحْدة متماسِكة متجانسة. فنرى الملك مرَّةً معتَلِيًا عرشه، ومرة أخرى نجده يَهيم في حقول البردي طالبًا القوت، ثم يَظهر في بعض الجهات في مقدمة سفينة الشمس، وفي مرة أخرى يظهر كأنه أحد النجوم الثوابت، قائمًا في خدمة إله الشمس»،٤٩ وهذه الصورة الأخيرة كانت مما دَعا برستد إلى القول بآخِرةٍ نَجمية،٥٠ تُشكِّل مذهبًا إلى جوار مذهب الآخِرَة الشمسية الأونية، وتلخيصًا لكل هذه الآراء يمكن القول: إن المصريَّ القديم قد تصورَ الملك بعد الموت.
  • يجلس على مقدمة سفينة الشمس.

  • يحيا بين نجوم السماء كأحد نجومها الثوابت.

  • يجلس على الأشجار بين الطيور.

  • يظل في قبره حيث عظامُه مستقرة.

  • سيعيش في قبره يأكل ويشرب يعتلي عرشه حتى بعد الموت.

  • يَهيم في حقول البردي طالبًا القوت.

ولِفَهم هذا الخليط المتنافر، الذي أصرَّ الباحثون على تنافُرِه؛ تجب العودة مرة أخرى إلى موضوع الكا، والبا.

لقد اعتقد المصري القديم، أن الإنسان ينقسم إلى قوًى ثلاثة مندمجة معًا، تنفصل عن بعضها البعض بالموت، وهي:
  • الجسد الإنساني، أو الشخصية الإنسانية الاجتماعية، أو ما يمكن الاصطلاح على تسميته ﺑ «الأنا».

  • الروح، وظلت بالنسبة للمصري القديم شيئًا غامضًا، غيرَ محدد، أسماه اﻟ «با».٥١
  • قوة ثالثة عجيبة، هي كائن يشبه الأنا تمامًا، بل هي صورة منه، وإن كانت صورة لا مادية، ومهمتها حمايته من المخاطر أثناء حياته، وصحبته إلى القبر بعد مماته، وتتردد عادة ما بين القبرِ وبين ظاهر الأرض، وأُطلِق عليها اسم الكا.٥٢
وقد كان لمصريةِ الباحث، ومَعاشه بين بقايا هذه المعتقدات في ريف مصر الحاليِّ، فضلُها إلى حد كبير، في فَهمِه لبقايا مثل هذه الأمور، وسعيًا نحوَ إيضاح هذا الفَهم، يُمكنَّا القول: إنه حتى اليومِ لا يزال رجل الشارع في الريف المصري، يَعتقد اعتقادًا جازمًا بأن للإنسان قوًى ثلاثةً هي:
  • الجسم المادي، أو الشخصية الاجتماعية؛ أو ما اصطلحنا على تسميته: الأنا.

  • الروح؛ وهي من الموضوعات التي لا يخوض بالحديث فيها، باعتبارها أمرًا غامضًا، وأنها من أمر ربه؛ نتيجة لتأثير العقيدة الإسلامية، وهي بالضبط نفس الكائن المصري القديم الغامض، الذي أسماه الأسلافُ البا.

  • القرينة أو الأخت: وهي قوة تَحمي الإنسان من المخاطر أثناء حياته، فتحميه من الإصابات الخطرة عند التعرض لحادث مفاجئ، وتظل معه حتى تصحبه للقبر بعد موته، وقد تتردد ما بين القبر والأماكن التي كان يغشاها الميت في حياته، خاصة إذا كان قد مات بحادثٍ أو غِيلةً، فإنها تعود في هذه الحالة بغرَض الانتقام وإقلاق راحة أعداء الميت،٥٣ وفي هذه الحالة يُطلِق عليها العامة اسم عفريت الميت، أو روحه — مجازًا — فهو لا يَعني بها الروح أبدًا، فالروح (با المصريين القدامى) تصعد إلى السماء بمجرَّد الموت ولا تعود للجسد إلا بالبعث — في المعتقد الإسلامي — أو «تذهب إلى حضرة المسيح، وتمكث هناك منتظرة القيامة»٥٤ — في المعتقد المسيحي — أما القرينة فهي لا تخرج عن كونها ما أسماه أسلافهم بالكا.٥٥ وإن معنى التسمية الحالي لها، لَيفيد نفس المعنى، فكلِمَتا القرينة أو الأخت، إنما تحملان من المعاني، معنى التشابه مع الأنا، وهذا بالضبط ما كانت تَعنيه «كا» الأسلاف.

وعلى ذلك، يمكن إعادةُ ترتيب النصوص القديمة، في ضوء الفَهم الحاليِّ لأجزاء الشخصية الإنسانية، باعتبار هذا الفَهْم ما هو إلا نفس التصور القديم، لعل الصورة عن عالم الخلود الأوني، تصبح أكثر تسلسُلًا وترابُطًا وانضِباطًا.

فإذا كان المعتقَد الحالي، يرى أن الروح تَترك الجسد بمجرد الموت، حيث تصعد إلى السماء ولا تَعود إلا بالبعث، فإن متون الأهرام كانت تؤكِّد أن «روح الفرعون كان يَسبقه إلى السماء»،٥٦ أي إن باه كانت تسبقه إلى الملكوت السماوي، وهنا بداية التفسير لما وُصِف بالتَّضارب والاضْطِراب؛ فذلك يفسر تصوير النصوص للملك الميت جالسًا فوق مقدمة سفينة الشمس، ويكون الجالس هنا هو با الملك أو روحه، وليس الملك بأناه الجسدية. ويصبح تأكيد النصوص على أن روح الملك تستقر في السماء بين النجوم؛ هو تأكيدًا وإصرارًا على إبراز الاعتقاد بصعودها إلى السماء، بوضعها بين أوضح مظاهرها المحسوسة، وهي النجوم، وعليه فلم تكن النصوصُ تقصد الملك بأناه، وإنما بروحه أو باه.
وإذا كان المعتقد الحاليُّ يرى أن القرينة أو الأختَ تظل على الأرض، تتردَّد بين القبر وبين الأماكن التي كان يَغْشاها الميتُ في حياته، فإن النصوص القديمة صوَّرَت الميت في قبره يأكل ويشرب، أو يَهيم في حقول البردي طالبًا القوتَ أو يعتلي عرشه، وكان هذا ما حدا بالباحثين إلى رؤية التضارب والتنافُر فيها، لكن الأمور تَستقيم بربط القديم بالحالي، فتُصبح هذه الأفعالُ ليست أفعالَه، وإنما هي أفعال قرينته أو أخته، أو ما أسماه القدماء الكا، التي تُشبِهه تمامًا؛ وبذلك لا يكون الملك بأناه هو مَن يفعل هذه الأفعال بعد موته، إنما هي كاه، ويكون طبيعيًّا جدًّا أن تُرسَم على الجدران وهي تقوم بهذه الأعمال في هيئة الملك وصورته وشكله، بل إن هذا ما تراه العقيدة الإسلامية فعلًا، فترى أن «الروح بعد مُفارَقتِها للجسد يكون الموت، وتَبقى هي مدرِكةً تَسمع مَن يزورها وتعرفه، وتردُّ عليها السلام.»٥٧

وبذلك يكون الموضوع قد أصبح أكثرَ معقوليةً وانضباطًا، فيُصبح الميت في قبره، بينما تصعد باه إلى السماء، وتظل كاه تَحوم بين القبر والأرض.

وهنا يُنبِّه ولسن إلى خطأ شاع حينًا، مفاده أن المصريِّين كانوا يؤمنون بتناسُخ الأرواح البشرية بعد الموت، في كائناتٍ أخرى كالحيوانات، وقد كان مصدرُ هذا الخطأ — في رأيه — هو اليونان والرومان، في المراحل المتأخرة من تطور العقيدة، ويقول: إنه «نتيجةً لسوء فَهمِ العقائد الخاصة بالموت، بشأن مجال المتوفَّى وما لديه مِن قُوى، يصبح المصري بعد موته آخ — أي شخصيةً ذاتَ أثرٍ فعال — وكانت مقدرته على اتخاذ أية هيئة يريدها ليصبح حرًّا في الحركة، أو ليزور الأرض، أو مِن أجل سروره لا غير، جزءًا من قدرته بعد الموت، فكان يتخذ شكل زهرة اللوتس، أو شكل الصقر، أو هيئة أي كائن حي؛ فلهذا حَوى كتاب الموتى رُقًى سحرية تُمكِّن الإنسان من اتخاذ تلك الأشكال، ولكن ذلك كان أمرًا موضوعيًّا ومؤقتًا، ويتوقف على مشيئة المتوفَّى، ولم يكن ذلك أبدًا تَناسُخًا للأرواح، ولم تَخرج روحُ الميت مباشرة لتَحُلَّ في حيوان من الحيوانات، وتظل فيه حتى ينتهيَ أجَلُ ذلك الحيوان، فالاعتقاد المصري اختياري، ولأجل غرَض مؤقَّت، وكان غريبًا على الإغريق غرابة تامة، فلا عجب إذا رأيناهم يُسيئون فَهمه.»٥٨

المهم أنه حتى بدايةِ الأسرة الخامسة، كان الخلودُ قاصرًا على الملوك فقط؛ تأسيسًا على منطقِ كونهم كانوا آلهةً يملكون الطبيعة الخالدة، وجمع هذا الخلودُ بين عالَمين، عالم القبر وما حوله، وعالم السماء بصحبة الإله الأعظم للمجمع المقدَّس، رع الأوني؛ بِناءً على تقسيم المكوِّنات الإنسانية اللامادية إلى كا، با. ولكن الغريب في بابه، أن عقيدة الخلود قد أخذَت في هذا العهد خطواتٍ تطوريةً سريعة وخطيرة، ظهَر خلالها الإلهُ أوزير ظهورًا قويًّا، انتهى به إلى خَلع رع الأونيِّ عن عرش الآخِرة نهائيًّا، وليحل محلَّه كحاكمٍ للموتى، في الوقت الذي بدأَت فيه جماهير الشعب بغَزْو عالم الملوك الآخر؛ «لتتوافقَ هذه التطوراتُ المتلاحقة والخطيرة للعقيدة الأخروية زمنيًّا؛ مع توقيتِ بداية الثورة الشعبية الأولى التي أدَّت إلى انهيار الدولة القديمة، مما يدفعُنا إلى افتراضِ وجود رِباط يربط ما بين الثورة الشعبية، وبين دخول الجماهير إلى عالم الخلود، وبين ظهور أوزير كإله للعالم الآخر، وبين تطور مفهومِ هذا العالم تطورًا ارتقائيًّا وسريعًا». وسعيًا وراء الكشف المأمول عن الرِّباط بين هذه العناصر الأربعة؛ نظن أن هذا الرِّباط المتفرع من الجهات الأربع، تتمركَزُ عُقدته الجامعةُ لأطرافه في الإله أوزير ذاتِه؛ ذلك الإله الذي أصبح منذ هذا العهد، وحتى نهاية العصور الفرعونية، صاحبَ العالم الآخر وإلهَه الأعظمَ بلا منازع، الأمر الذي يدفعنا دفعًا إلى الوقوف مع هذا الإله؛ لنبحث ماهيته وتوقيتَ ظهوره، وأثره أو تأثُّرَه بأحداث عصره، ودورَه في تطور عقيدة الخلود في مصر القديمة.

١  قصة الحضارة: المجلد الأول، الجزء الثاني، ص١٦٢.
٢  د. سيد عويس: الخلود في التراث الثقافي المصري، ص٦٠.
٣  د. عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، الجزء الأول، ص٣١٦.
٤  إليزابيث رايفشتال: طيبة في عهد أمنحوتب الثالث، ص٢٣٣.
٥  د. أحمد كمال: بغية الطالبين …، ص٦٦.
٦  د. سيد عويس: الخلود في التراث الثقافي المصري، ص٧٧.
٧  إرمان، ديانة مصر القديمة، ص٢٤٩.
٨  مصر، ص٥١.
٩  نفسه، ص٥٢.
١٠  طيبة في عهد أمنحوتب الثالث، ص٢١٣.
١١  الأساطير في مصر القديمة، ص٤١.
١٢  إرمان، ديانة مصر القديمة، ص٢٣٥.
١٣  برستد، انتصار الحضارة، ص١٢٨. انظر أيضًا: سليمان مظهر، قصة الديانات، مطبعة الوطن العربي، القاهرة، ص٤٢.
١٤  N. K Sandans, The Epic of gilgamesh, p. 92, Penguin books.
١٥  دولابورت: بلاد ما بين النهرَين، حضارة بابل وآشور، دار الروائع الجديدة، بيروت، ص١٩٦ (مترجم).
١٦  د. نجيب ميخائيل، مصر والشرق الأدنى القديم، الجزء السادس، ص١٧٩.
١٧  بلي جراهام: سلام مع الله، مركز المطبوعات المسيحية، بيروت، ص٨٤ (مترجم).
١٨  ول ديورانت: قصة الحضارة، المجلد؟، الجزء الأول، ص٩٢.
١٩  نفسه، ص١٦٢.
٢٠  انظر: إرمان، ديانة مصر القديمة، ص٢٣٥.
٢١  إرمان ورانكه، مصر والحياة المصرية في العصور القديمة، ص٣٢٦، ٣٢٧.
٢٢  أحمد كمال، بُغْية الطالبين في علوم وعوائد وصنائع وأقوال قدماء المصريين، الجزء الأول، مدرسة الفنون والصنائع الخديوية، ١٣٠٩ﻫ، القاهرة، ص٧٢، ٧٣.
٢٣  ترجمها أيضًا بمعنى الروح «سليم حسن» في «مصر القديمة»، الجزء الثالث، ص٥٣٢.
٢٤  إرمان، ديانة مصر القديمة، ص٢٣٧.
٢٥  نفسه، ص٢٣٦.
٢٦  الحضارة المصرية، ص١٦٠.
٢٧  مصر القديمة، الجزء الثالث، ص٥٣٢.
٢٨  دريتون وفاندييه، مصر، ص٦٩.
٢٩  انظر نفس المصدر، ص٧٥.
٣٠  انظر نفس المصدر، ص٧٣.
٣١  د. سيد عويس، الخلود في التراث الثقافي المصري، ص٧٠.
٣٢  برستد، فجر الضمير، ص٩١.
٣٣  Pritc hard, Ancient Near Easterntexts, p. 33.
٣٤  Loc. Cit.
٣٥  د. سيد عويس، الخلود في التراث الثقافي المصري، ص٧٠.
٣٦  برستد، فجر الضمير، ص٩٩.
٣٧  نفس الموضع.
٣٨  د. عبد الحميد زايد، مصر الخالدة، ص٢٧٧.
٣٩  Pyr. 488: اقتبسها سليم حسن في: مصر القديمة، الجزء الثالث، ص٥٢٦.
٤٠  Pyr. 669: الموضع نفسه.
٤١  Pyr. 655.9 الموضع نفسه.
٤٢  Pyr. 876: الموضع نفسه.
٤٣  الموضع نفسه.
٤٤  Sandars, The Epic of gilgamesh. p. 102.
٤٥  انظر ذلك في كتابنا: الأسطورة والتراث Ibid. p. 113.
٤٦  لفهم جوهر الخلود في الديانة المسيحية؛ يمكن الرجوع إلى كتاب «أين هم الموتى» للدكتور القس وديع ميخائيل، ص٢٨ وما بعدها، مطبعة كليوباترا، الطبعة الثانية، القاهرة؛ انظر أيضًا: الخلود في الأديان المختلفة، للدكتور عزت زكي، من ص١٢١ وما بعدها، مطبعة كليوباترا، القاهرة.
٤٧  د. محمد أنور شكري، حضارة مصر والشرق الأدنى القديم، ص٢٠٣.
٤٨  إرمان ورانكه، مصر والحياة المصرية …، ص٣٢٥.
٤٩  فجر الضمير، ص٩٩.
٥٠  المرجع نفسه، ص٩٠.
٥١  رأى كل من مسبيرو ورينوف أن الكا تحمل البا، وأن البا هي الروح، وهي عبارةٌ عن غشاء يُحيط بقبَس من الله، وقد وافقَهما على ذلك:
  • Naville, le Religion des anciens Egyptiens, Paris, 1906, p. 53-54.
  • Viry, la Religion de I’ancienne Egypte, Paris, 1910, p. 102-103 ed 234–237.
  • Wiedemann das alte Agypten, Heideberg, 1920, p. 72.
  • Jequier Histaire de la civilisatone Egyptienne, Paris, 1923, p. 151-152.
وهذا الرأي يؤدي إلى صدق نظريتنا، حول كون البا هي ذلك العنصرَ الإلهيَّ الخالد، الذي يملكه الملوك دون الجماهير، والذي انحدر إليهم عبر نسلهم الإلهي.
٥٢  See: Dieka und die grabstatuen Steirdorff, Ae. z. 48 1910, 1911, p. 152–159.
وملخص نظرية شيرودورف، أن الكا روحُ حارس يُخلَق مع الإنسان، ويتبعه كقرين له أثناء حياته وبعدها بقليل، وقد أخذنا بهذا الرأي لقربه من المفهوم الحاليِّ لمعنى القرين عند المصريين، وإن كانت هناك آراء أخرى كرأي برستد، الذي يذهب إلى أن الكا روحٌ يُخلَق مع الإنسان، لكنه لا يدخل في خدمته إلا في العالم الآخر، أي لا يبدأ في نشاطه إلا بعد الموت، ولمزيد من الإيضاح عن القرين أو الكا؛ يمكن الرجوع إلى: Etudes de mythologie et d’archealoyie Egyptiennes, 1, p. 7,48. Et 77–91. ويوافق نظريتنا لوباج رينوف Le Page Renouf في the true sense of an important Egyptian word, in the tsansachions of Biblical archeolagy, vl, 1978, p. 494–508.
وليلاحظ القارئ أن ما ذهَبنا إليه حول الكا، استنادًا لمثل هذه الآراء، والرؤى الخاصة، هو نفسه مدار بحث — بل وأساس — النظريات الروحية عامة، حتى هذا العصر.
٥٣  يُغالي العامة فيدَّعون أن للقرينة أصواتًا تُسمَع في مكان الاغتيال.
٥٤  بلي جراهام، سلام مع الله، ص٩٥.
٥٥  يرى د. أحمد بدوي أن الكا هي: «ما يسميه أهل مصر اليوم بالقرين أو الأخت»، في موكب الشمس، الجزء الأول، ص١٦١.
٥٦  د. سليم حسن، مصر القديمة، الجزء الثالث، ص٥٣٣.
٥٧  السيد سابق، العقائد الإسلامية، ص٢٣٦.
٥٨  ولسن، الحضارة المصرية، ص٤٨٢، ٤٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤