طائف حلم

عند الملكة «هاتاسو» في الدير البحري موازاة بين ملكتين

كنت جالسة إلى الشباك الكبير في طنف البكور، وأسلمت إلى الخيال خواطري، ناظرة إلى الظل يجري فوق الجبل منهزمًا رهيبًا كما تنهزم الحياة. كان الظل يسير ذاهبًا، وكلما نظرت إليهِ رأيتهُ يأخذ في الهُويِّ منسابًا رجراجًا فوق أقفاف من ذهب، وقد عادت دارة الشمس غير مغمورة بالضياء، والغبش ينحدر على السهول رويدًا رويدًا، ويصطبغ الفضاء زرقة واحمرارًا.

مضى أيضًا يوم في «طيبة»، المدينة الساحرة الرائعة التي تهدأ في أكنافها اللوعات، ودنا الليل.

وهناك عند حاشية البساط الأخضر من مروج القمح وقصب السكر، تتألق دائمًا صفحة النيل طرازًا طوالًا، وتخلص واضحة للناظر من فوق طرف الصحراء الذُّرَى ذوات الثنايا للأعلام الثلاثة المتباعدة.

كل شيء هادئ لطيف لا يبدي حراكًا، وإنه لكذلك منذ أحقاب وأحقاب.

تمثلت عند أدنى المعبد — في جوف الوادي — حراس النواحي من السودان معتمدين على مطاياهم، كأنما يناجي بعضهم بعضًا سرارًا، بينما يهبط حراس المدينة العتيقة خفافًا واحدًا فواحدًا، خلال عُمُد الإيوان الأقدس البيضاء المهشمة.

بين الإنسجام والصمت وهدأة الإشراق، لم يكن إلا صوت قسيس عظيم من نسل بعض كهنة «آمون» العظماء، يصل إلى الآذان حينًا بعد حين.

في الهيكل المعد للضحايا على روح «هاتاسو»، كان القسيس يفسر جاهدًا طائفة من آيات الغيب، حيث يستمع إليه نفر من المريدين، وهو يقول بين يدي صورة الملكة:

فوق كاهلكِ مذ الآن كل نفحة من حياة، وكل نفثة سحر، وكل مدد بقاء، أنت مثل «را» أبدية الحياة.

وكان محيا الملكة العظيمة الهادئ الصافي يتهلل بابتسامة، هي لغز من الألغاز، كأنما هي تتحدى غابر الدهر، كما تحدَّت كل ما في الماضي من اضطهادٍ وعصور إهمال.

أليست من جوهر الآلهة ابنة «آمون» الفاتنة؟! أوليست تسر في أعماق عينيها الدعجاوين لمحات السر المكنون عن أهل هذا العالم الصائرين للزوال؟! لا تزال من الأحياء بنت «توتمس الأول» و«أهمسي»، وستظل على وجه الدهر ذات وجود وحياة، برغم ما حُمِل لها من الداء الدوي من ولي الأمر بعدها، ذلك الذي محى سماتها، وهشَّم نقوشها، ليبِيدَ كل أثر يحيي تذكارها.

سيبقى لسان صدق في العالمين لمليكة الوادي المجيد، التي هي أول امرأة من سلالة الأرباب، أقدمت على تولي مقاليد الحكم مع لقب الملوك.

لا تزال «هاتاسو» تفيض حياة وتتيه بعزة الظفر، على ما أصاب معبدها الفخم من البِلى، وعلى ما ضاع من أوراق البردي القيِّمة، وبرغم انتصار «توتمس الثالث»، الذي لم يستطع عهده الزاهر أنْ يغض من عهدها.

تَجلَّت للمريدين أسرار التاريخ في تلك الليلة؛ ذلك بأن تيارات الحياة المتدافعة كانت تبعث الماضي كله منتعشًا فوق الجدران المزركشة.

مثلت أمام الأنظار الأطوار المختلفة لعهد «هاتاسو»، تمر على هينة متعاقبة، «هاتاسو» إلهة النضار، فاتحة أقطار الأرض، ومحيية القلوب بعد مماتها.

وبعد مصارعة الدهر، ومناهضة الدسائس، ظفرت «هاتاسو» بعقبى النصر والفخر المجيد برعاية الإله «هاتور».

كان الأرباب يتكلمون، وأدوار التاريخ تتوالى، ونحن ننظر سادرةً أعيننا، مبهورةً نفوسنا إلى مشاهد تلك الحياة. وفي روضات «آمون» تتسامى الأشجار الطريفة العطرية، مرسلة عبيرها في الأطناف الثلاثة الواسعة الأرجاء. ثم كأني أرى المجاهدين آيبين من بلاد «الصومال واليمن»، ينوء بهم الفخر والغنيمة، والأسطول الملكي يتهادى في اليمِّ بين شهود ينظرون بأعين شاخصة، منصتين إلى أقاصيص البحَّارة السعداء الظافرين. ذلك مشهد فريد!

ولاح لي المهندس الكبير «سمنوت» — الذي كان صاحب الطابع الملكي، وكان لا يألو جهدًا في الزلفى إلى فؤاد ربة التاج بميعة نشاطه — يسير الهوينى في المهيع الفخم المكتنف من جانبيه بتماثيل أبي الهول؛ ليؤدي التحية «لهاتاسو» عندما صارت صاحبة الجلالة الإلهية، بينما أقاليم القطرين تُكْمِل بهجة الاحتفال، وافدة لوضع الهدايا عند أقدام «فرعون» العزيز.

لا يُضِيرُ «هاتاسو» بعد هذا ما كان من انتقام أعدائها الدنيءِ، وتتبعهم لها بالإساءة تتبعًا لا يني حتى في قبرها.

لا يُضِيرُها أنْ تكون جثتها الهامدة وُجِدَت في بطن بئر مهجورة، مجردة من كل أثر كتابي، وأنْ يكون «توتمس الثالث» لم يجعل لضغنه عليها حدًّا.

لقد عاشت آثارها، وعاشت هي أيضًا حين باد غيرها.

من ذا الذي يستطيع أنْ يسلبها ملك اثنين وعشرين عامًا، أو يسلبها فتوحها ومجدها؟!

من ذا الذي يمحو آثار همتها التي لم تعرف الفتور؟! أو يشك في حكمة سياستها، ويجعل وجودها عدمًا؟!

من ذا الذي يستطيع أنْ يقول مثل مقالتها المنقوشة على بعض جدران بني حسن:

إنني شِدْتُ ما كان انْهَارَ بناؤه أطلالًا، وأكملتُ ما أُهمِل منذ كان الآسيويون في «أواريس» وكانت البربر تعيش معهم في جهالة «آمون-را»؟!

هل يَقْدِرُ شيءٌ أنْ يزيل النقوش العجيبة المحفورة فوق هامة مسلَّتها المنكَّسة إلى جانب البحيرة المقدَّسة:

«آمون» مستوٍ على عرش ملك العالم، و«هاتاسو» مليكة مصر قادمة عليه، وقد تجلَّت ذلك اليوم في مظاهر الملوك من الرجال، ووضعت على رأسها بيضة الفراعنة، ثم يلي ذلك مشهد تتويجها. في ذلك اليوم دخلت الملكة إلى المحراب المصنوع من حجر الجرانيت الوردي اللون، ودعت الإله، فجاء «آمون»، وألقى عليها الروح الإلهي.

«آمون» باسط يده، وهي جاثية مستديرة، بحيث تمس كاهلَها أصابعُ الإله، هنالك يضع «آمون» يده اليسرى فوق الكاهل — في مركز الحياة — وبهذا الوضع ينفذ السر الروحاني، الذي هو مصدر حياة الآلهة في العنصر الجسمي من «هاتاسو»، ويجعلها كالأرباب؟!

لا على «هاتاسو» بعد هذا أنْ تمحوها كتب التاريخ من ثبت الملوك، وألا يوجد اسمها في جداول أبيدوس، كأنما سوَّلت الدناءة لرجال دولتها أنْ يعيبوها بأنها لم تكن إلا امرأة.

أيتها الآلهة! كونوا أنصارنا نكن أنصاركم في العراك المحتدم منذ كان العالَم عالَمًا، بكُم ننتصر وبنا تُنْصَرون، إنكم نور يحارب ظلامًا

قد تتناهى الدول، وتتعاقب المدنيات، وتتبدل الممالك، ولكن لسان الصدق للعظمة والمجد يظلُّ راسخًا في مهاب العواصف الإنسانية، من أجل ذلك كانت «هاتاسو» من الخالدين.

هذا بيان للأجيال الآتية، متى نزعت قلوبها لفهم هذا البناء الذي أقمتهُ لأبي، وبيان لمن يريدون العلم، ويبنون معارفهم على الظنِّ المرجم في العصور المقبلة:

كنت جالسة في قصري أفكر في خالقي، فانقدح في نفسي أنْ أرفع له مسلتين يشق الأفقَ سنانُهما، بين يدي المهيع الشريف الواقع بين حصنَيْ «توتمس الأول».

لا تقل: لا أدري مَن ذا الذي قضى بتصوير هذا الجبل المصوغ كله من ذهب! فإن جلالتي هي التي صنعت المسلَّتَينِ، من أجل أبي «آمون»؛ ليعيش اسمي في هذا المعبد خالدًا.

وبعد عصور وعصور، نزعت أنفسنا إلى البحث، فوجدت ضياء المسلَّتينِ يشرق فوق القطرين مرشدًا للباحثين، ذلك اللألاء الذي وصل إلينا، سيهدي أيضًا كل الأجيال الآتية.

•••

وبينما كان الليل قد شمل البسيطة، وكسا «طيبة» كلها بزرقته المهيبة، سنحت لخيالي صورة أخرى، هي صورة ملكة لمصر في عصرٍ آخر، تُسمَّى «شجرة الدر»، ليست أقل في النفس أثرًا، ولا أقل طموحًا من أختها.

هي أول امرأة في العالم الإسلامي تجاسرت على تولي الملك باسم «الملكة عصمة الدين».

«شجرة الدر» من أصل تركي، وقد كانت فاتنة الجمال، موفورة الذكاء.

وَلِيَتِ الْمُلْكَ أولًا مع زوجها سابع الملوك الأيوبيين، ولما مات «الملك الصالح» في أيام محاصرة «سان لوي» لدمياط، أظهرت مهارة سياسية فائقة، وانتهى أمرها بمساعدة صاحب الجيش إلى الظفر بالْمُلْك بعد صهرها «توران شاه»، الذي قتله مماليكُه تبرمًا بسوء سيرته.

اختيرت بالإجماع ملكة لمصر، وبُويِعَتْ باسم «الملكة عصمة الدين» في قصرها بجزيرة الروضة على شاطئ النيل، ومنذ ذلك العهد أصبحت حياتها تفيض بالعظائم، وصدرت في تدبير الملك عن حزم.

كانت رحيمة، محسنة إلى الفقراء، مسعفة للبائسين، وكانت تعرف كيف تُوفِّق بين جميع الأحزاب، ممتازة بلطف حيلتها، وكفايتها في إدارة الشئون، كانت تدبر الملك وتحيا حياتها.

ولقد كانت لا تزال وافرة الحسن على أنها بِنْتُ أربعين، وأصبح قصر الروضة — وهو أوفق هالة بجمالها — مركزًا تتجاذب إليه الكواكب المتألقة. وبَعْدَ زَمَنٍ، رأت من الحزم أنْ تسكن القلعة دارة آبائها، التي بناها أول الأيوبيين «صلاح الدين» الشهير، وهناك من وراء الحجاب الرقيق الذي يسجي عرشها، كانت تحضر مجلس وزرائها.

و«شجرة الدر» هي التي أبدعت حفلة المحمل المصري الذي يُرسَل إلى مكة كل عام، وهي أول امرأة في الإسلام دُعِيَ لها في خطبة الجمعة، وهي أول ملكة في العهد الإسلامي للبلاد المصرية ضَربت باسمها نقودًا، بل هي في ذلك فذَّة لا ثانية لها.

كان يحبها السادة من رعيتها والفرسان، بل كان يحبها كل شعبها. كانت مصر تُجِلُّ مليكتها، ولكن هل يمكن في الشرق أنْ يدوم إجلال لامرأة وإنْ كانت ربة تاج؟ لا جرم، قد تألَّب على «شجرة الدر» مجاوروها من أمراء المسلمين، يقودهم أمير دمشق، وعندئذٍ وَجَدَتْ نفسها مضطرة إلى الزواج بوزير الحرب الذي كان أكبر أهل مصر نفوذًا؛ لتدفع العوادي عن عرشها، على أنها ظلت تسوس البلاد من طريقٍ خَفِيٍّ.

إنَّ سرد حياة «شجرة الدر» منذ ذلك الوقت ليكون تعرضًا لعهدٍ كله من عهود التاريخ المصري، وما أنا بصدد ذلك، إنْ أريد إلا استحضار صورة امرأة كانت من ذوات العروش.

قَتل «شجرةَ الدر» خصومُها السياسيون، وألقوا جسدها وراء القلعة، فعرفها أولياؤها بجلبابها الفاخر المحلَّى باللآلئ، وكان مشوَّهًا وجهها الجميل. أسرعوا بدفنها في جنح الظلام، في مسجد صغير كانت قد بنته لنفسها، وثوت هنالك في قبر حقير، ملكة مصر ذات العز والإجلال.

ثم قلتُ في نفسي: قد كان لكلٍّ من «هاتاسو» و«عصمة الدين» سجايا رجال الدولة، ودبَّرتا شئون الملك بكفاية باهرة، ولكن عملهما لم يلقَ من الاهتمام ما كان يلقاه لو صدر من ملوكٍ رجالٍ أقل منهما صلاحًا.

لم يُنصف الناس في تقدير قدرهما. ومن عجبٍ أنَّ تاريخ حياتهما — الذي أُهمِل عن عمد تدوينه كاملًا — ينبغي أنْ يُبحَث عن حلِّ رموزه في ثنايا الخطوط الغامضة، ما بين المحفورات المهشمة، والمخطوطات المبعثرة في دور الكتب بالعاصمة.

نالهما الاضطهاد، وتعقبهما الحقد ونكران الجميل؛ لأنهما كانتا امرأتين، ولكن إذا اختفت الكواكب، فهل يُنكَر ما مضى من عهدها الوضاء؟

وبينما أنا أجوس خلال المدافن المقفرة، في «مدينة طيبة» الوديع، جعلت أفكر في الغرور الإنساني، وما في شئون هذا العالم من العجائب.

إنَّ الذين بغوا في الأرض قد صادفوا جزاءَهم من جنس ما عملوا؛ فإني لا أجد بمدينة «طيبة» الخافتة الآن، في هذه الليلة المعتدلة الطقس الصافية الأديم، بين تلك المقابر الملكية البديعة إلا طيور الليل، تمزق بصيحاتها جلال السكون الضارب أطنابه في تلك النواحي.

طيبة في سنة ١٩٢٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤