الجند وتوابعه

تاريخ الجند

(١) أصل الجند ونظامه

كان الناس في أوائل أدوار تمدنهم قبائلَ جندُها رجالُها، إذا احتاجت إلى قتال اجتمع الرجال من كل قبيلة بلا نظام ولا ترتيب، وينال كل واحد من الغنيمة ما يستطيع الحصول عليه بنسبة شجاعته وقوة بطشه، فلما تحضر الناس وتقاسموا الأعمال ونشأت الدول كان من أقدم المهن عندهم الكهانة والجندية.

وأول دولة نظمت الجند الدولة المصرية الفرعونية، فقد جندت جيشًا من الزنوج والأحباش حوالي القرن العشرين قبل الميلاد، أخضعت بهم سكان سواحل البحر الأحمر، ثم انتشر أمر التجنيد في الدول القديمة في آشور وبابل وفينيقية واليونان والرومان والإسلام.

فالفراعنة أسبق الأمم إلى تنظيم الجند، وكان نظامه عندهم الصفوف المتعاقبة المتراصة، وعلى آثارهم كثير من صور هذه الصفوف، والمشهور أن رمسيس الثاني هو منظم الجند المصري على النظام المعروف، لأنه كان يحب الحرب، وبلغ عدد جنده إلى ٦٠٠٠٠٠ راجل و٢٤٠٠٠ فارس و٢٧٠٠٠ مركبة وعمارة بحرية، واقتبس البابليون والفرس هذا النظام مع بعض التعديل على مقتضيات الأحوال، وبه تغلب قورش وقمبيز في حروبهما مع اليونان وغيرهم.

(٢) جند الروم

وأما اليونان فإنهم اقتبسوا نظام الجند المصري ونوعوه، فأنشأوا الكتائب ويعبر عنها في لسانهم بلفظ Phalanx وهو أن تتراص الجنو صفوفًا متعاقبة، وكانت الكتيبة تتألف من ٤٠٠٠ رجل، يصطف رجالها الواحد بجانب الآخر على بضعة أقدام في صفوف متعاقبة، الواحد وراء الآخر … فجعلها فيليب المقدوني ضعفي ذلك، ثم جعلها ابنه الإسكندر أربعة أضعافه، وقارب ما بين الرجال حتى كادت تتماس أكتافهم وتترابط تروسهم، واصطنع لهم رماحًا طول بعضها ٢٣ قدمًا، وتكون رماح الصف الأمامي قصيرة، ورماح ما وراءه أطول فأطول، حتى تبرز رماح الصف الخامس ثلاثة أقدام نحو الأمام، وكان فيليب قد نظم فرقة من الفرسان، فأضاف ابنه إليها آلات الحرب وفي جملتها المنجنيق، وبهذا النظام تغلب الإسكندر على العالم في القرن الرابع قبل الميلاد.
figure
كتيبة الإسكندر في أثناء المعركة وقد فتكت رماحها بالأعداء.

(٣) جند الرومان

فلما نشأت دولة الرومان اقتبست نظام الكتائب عن اليونان وأدخلته في جندها، وكان الجيش الروماني في إبان الدولة مؤلفًا من فرق عدد رجال كل منها ٦٠٠٠ تتألف من ثلاث طبقات من الرجال:
  • (١)

    الشبان ومنهم يتألف الصف الأول من الكتيبة في الحرب.

  • (٢)

    الكهول في الصف الثاني.

  • (٣)

    أهل الدربة والحنكة ويتألف منهم الصف الثالث.

وكان يلحق كل فرقة عندهم كوكبة من الفرسان تتقلد السهام والمقاليع والمزاريق لمشاغلة الأعداء عن حرب المشاة.

figure
قواد الروم وأجنادهم وآلاتهم وأسلحتهم.

ثم قسم الرومان الفرق إلى كراديس بلا تقييد بالصف، فجعلوا الفرقة عشرة كراديس، والكردوس ثلاثة أقسام، وكل قسم فصيلتين عدد رجال كل منهما مائة رجل، وهذا النظام يخالف نظام الكتائب المتقدم ذكره بأن لا يتقيد الجند بصف واحد أو كتيبة واحدة، بل يكون عدة كتائب كل كتيبة منها كردوس، وظل نظام الجند الروماني في حروبه على هذه الصورة إلى الفتح الإسلامي.

ولما ظهر الإسلام كانت جنود الروم ١٢٠٠٠٠ يقود كل عشرة آلاف منها قائد يغلب أن يكون بطريقًا، وتحت البطريق ضابطان يسمى كل منهما طومرخان يتولى قيادة ٥٠٠٠، وتحت الطومرخان خمسة طرنجارية Drungari كل واحد يقود ألف رجل، وتحته خمسة قوامس واحدهم قومس Comes يتولى قيادة ٢٠٠ جندي، وتحت القومس قمطرخ Centuriones، وتحته الدمرداخ، وهذا تحته عشرة رجال، وترى في هذا النظام مشابهة كلية بنظام جند هذه الأيام.

وأما الفرس فقد كان جندهم أربع طبقات: الأولى طبقة القواد العظام ويسمى واحدهم ميرميران، تحته أربعة قواد يسمى كل منهم أصفهبذ، وتحت كل أصفهبذ أربعة مرازبة، وتحت كل مرزبان أربعة سالارية، وتحت كل سالار عشرة أساورة (وهم الفرسان المفردة) وخمسة من الرجال المشاة ويسمونهم البيادة.

(٤) جند العرب

أما العرب قبل الإسلام فقد كانوا أهل بداوة لا نظام للجند عندهم، وإنما كانوا قبائل إذا أرادت إحداها حربًا جردت رجالها، وفيهم الفرسان، والمشاة ومعهم الأسلحة المعروفة في الجاهلية، كالقوس والرمح والسيف … إلا ما كان من نظام الجند في الدول العربية التي تمدنت قبل الإسلام، كالتبابعة ملوك حمير والمناذرة ملوك الحيرة، فقد ذكروا للمناذرة كتيبتين من الجند تسمى إحداهما الدوسر والأخرى الشهباء، وأما عرب الحجاز فقد كانوا قبل الإسلام على الفطرة البدوية كما قدمنا.

فلما ظهر الإسلام انفرد المسلمون عن سائر العرب، واتحدوا بجامعة الدين يدًا واحدة في محاربة أعدائهم، فكانوا كلهم جندًا كبيرهم وصغيرهم، وأول جنود المسلمين المهاجرون، فلما جاءوا المدينة اتحدوا بالأنصار وصاروا جميعًا جندًا واحدًا قائدهم النبي بنفسه، ورابطتهم المعاهدة والمؤاخاة وعددهم يومئذ قليل جدًّا.

(٤-١) جند العرب في دولة الراشدين

ثم جعلوا يزدادون بالفتح والغزو في أيام النبي وأبي بكر، بمن انضم إليهم من قبائل العرب في الحجاز واليمن ونجد واليمامة كبارًا وصغارًا، تجمعهم جامعة الإسلام، حتى تكاثروا فتكاتفوا وحملوا على الشام والعراق ومصر، ففتحوا البلاد ومصروا الأمصار، وانقسموا إلى أجناد يقيم بعضها في مصر وبعضها في الشام وبعضها في العراق، في محطات خاصة بهم، وكان جند كل محطة ينقسم باعتبار القبائل والبطون، فكان جند البصرة مثلًا خمسة أقسام تسمى الأخماس، يقيم في كل خمس منها قبيلة من قبائل المسلمين وهم: الأزد وتميم وبكر وعبد القيس وأهل العالية «قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة» وكانوا يسمون أهل العالية والكوفة أهل المدينة، وكان على كل خمس أمير من أمراء تلك القبائل، وقس على ذلك سائر أجناد المسلمين في الكوفة والفسطاط مما مصره المسلمون، أو في غيرهما من مدن العراق والشام ومصر، فقد كان لهم في كل إقليم جند ينقسم على نحو هذه الكيفية.

كل ذلك والمسلمون كلهم جند محارب لا يعمل أحد منهم عملًا، وقد نهاهم عمر بن الخطاب عن الزرع، كأنه رآهم بعد أن فتحت لهم الأمصار ورأوا خصب الأرض قد مالوا إلى الرخاء والتقاعد عن الحرب، فأمر مناديه أن يخرج إلى أمراء الأجناد يتقدمون إلى الرعية أن عطاءهم قائم وأن رزق عيالهم سائر فلا يزرعون، ولعله أراد بذلك أن لا يتوطنوا في بلد، إذ ربما مست الحاجة إلى تجنيدهم لنجدة إخوانهم في بلاد أخرى أو لحماية بعض الأمصار فلا يثقل عليهم ذلك.

(٤-٢) تنظيم جند العرب في أيام بني أمية

أما تنظيم الجند فئة خاصة دون سائر فئات المسلمين، فقد بدأ في أيام عمر عند تدوين الدواوين كما سيأتي، وتم في أيام بني أمية، ويظهر أن التجنيد الإلزامي بدأ في أواسط هذه الدولة، وكان الناس من قبل يذهبون إلى الحرب جهادًا في سبيل الله فيصيبون الغنائم والفيء، فلما قامت الفتنة بعد مقتل عثمان (سنة ٣٥ﻫ) اشتغلوا بالحرب فيما بينهم مدة، وكل طائفة تندفع إلى ذلك دفاعًا عن رأيها واعتقادًا بأنها تدرأ عن الحق، فلما أفضى الأمر إلى بني أمية، وصار المسلمون دولة واحدة، وضعفت قوة الأحزاب بتغلب العنصر الأموي، لم يعد الناس يرون ما يدفعهم إلى الحرب طوعًا، فجعلوا يتقاعدون فاضطر الخلفاء إلى التجنيد بالإلزام.

ولعل أول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف على عهد عبد الملك بن مروان، وكانت الدولة الأموية قد بلغت ذروة مجدها، وكثر المسلمون ومالوا إلى العمل في الأرض وأطلق لهم السراح، وكانوا قد هموا بالتقاعد عن الحرب في أيام معاوية، فغلبهم بدهائه وعطائه، فلما تولى ابنه يزيد، ثم معاوية الثاني، ثم مروان بن الحكم — ولم يكن فيهم من يملك القلوب أو الأعناق — تجرأ الجند على التقاعد، فتولى عبد الملك الخلافة والجند على ما تقدم لا يرحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى روح بن زنباع صاحب شرطته فقال له «يا أمير المؤمنين، إن في شرطتي رجلًا لو قلده أمير المؤمنين عسكره لأرحلهم برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج بن يوسف» فأطاعه عبد الملك وقلد الحجاج أمر العسكر.

وكان الحجاج شديدًا عاتيًا، فلم يعد أحد يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع، فوقف الحجاج عليهم يومًا وقد رحل الناس وهم على طعام، فقال لهم «ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير المؤمنين؟» فقالوا له «انزل يا ابن اللخناء فكل معنا!» فقال «هيهات! ذهب ما هنالك!».

ثم أمر بهم فجلدوا بالسياط وطوقهم في العسكر وأمر بفساطيط روح نب زنباع فأحرقت بالنار، فدخل روح بن زنباع على عبد الملك بن مروان باكيًا فقال له «ما لك؟» فقال «يا أمير المؤمنين، الحجاج بن يوسف الذي كان في عديد شرطتي ضرب عبيدي وأحرق فساطيطي»، قال «علي به»، فلما دخل عليه قال «ما حملك على ما فعلت؟»، قال «ما أنا فعلته يا أمير المؤمنين»، قال «ومن فعله؟»، قال «أنت والله فعلته! إنما يدي يدك، وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين إلا أن يخلف على روح بن زنباع للفسطاط فسطاطين وللغلام غلامين ولا يكسرني فيما قدمني له» فأخلف الخليفة لروح بن زنباع ما ذهب له، وتقدم الحجاج في منزلته، وكان ذلك أول ما عرف عن كفايته.

فيشبه أن يكون ذلك أول تاريخ التجنيد الإلزامي، ثم صار التجنيد سنة وأصبح الجند الإسلامي فئتين: المرتزقة والمتطوعة، وكلاهما عرب يرجعون في أنسابهم إما إلى قحطان وهم اليمنية، أو إلى عدنان وهم المضرية، وفيهم جماعة من الموالي أو العبيد.

(٥) جند الأعاجم في الإسلام

(٥-١) في الدولة العباسية

فلما تولى بنو العباس واحتاجوا إلى مؤازرة الأعاجم في تأييد سلطانهم، دخل في جند العرب جماعات منهم، وأول من دخل في الجند الإسلامي منهم آل خراسان، لأنهم هم الذين نصروا العباسيين في دعوتهم، وسلموا إليهم أزمة الخلافة بقيادة أبي مسلم الخراساني، فكانت فرق الجند في أيام المنصور ثلاثًا: اليمنية، والمضرية، والخراسانية، ثم أضيف إليها فرقة رابعة هي فرقة الحرس الخاص، اتخذها الخلفاء خوفًا مما كانوا ينصبونه لهم من الحبائل أو يقيمونه عليهم من الثورات، ومن غريب هذه الأعمال أن الأمر الذي أراد الخلفاء أن يحفظوا سلطانهم به كان علة خروج ذلك السلطان من أيديهم …

ولما أفضت الخلافة إلى المعتصم بالله (سنة ٢١٨ﻫ) كانت العناصر الأجنبية قد تمكنت من الدولة، وزاد الخلفاء خوفًا على أنفسهم، فخاف المعتصم من جنده على نفسه، فاصطنع قومًا من الحوف بمصر (الشرقية والدقهلية) استخدمهم في حاشيته، وسماهم المغاربة — لأن مصر غربي بغداد — ولعل فيهم بعض أهل المغرب، وجمع خلقًا من أشروسنة وسمرقند وفرغانة ابتاعهم من أسواق بغداد تدريجًا وجند منهم جندًا سماه جند الفراغنة ثم سموا الأتراك، وقد كانوا أشد خطرًا على الدولة العباسية من سائر فرق الجند، وآل الأمر بهم إلى الاستبداد بأهل الدولة، واحتقار الجند العربي الأصلي وإساءة سائر أهل بغداد، حتى إنهم كثيرًا ما كانوا يركبون الدواب في شوارع بغداد ويركضونها، فيصدمون الرجل والمرأة والصبي، فتأذى الناس وشكوا أمرهم إلى المعتصم، فلم ير سبيلًا إلى تلافي ذلك إلا بإخراج جنده من بغداد، فبنى لهم سامراء (سنة ٢٢١) وأقام معهم فيها.

وكانت خلافة المعتصم بدء نفور العرب من خلفائهم وشكواهم منهم، وكانوا يعبرون بالجند يومئذ عن الأتراك وغيرهم من الأعاجم، «وبالحربية» عن جند العرب وكلهم مشاة، ثم المتطوعة وهم الذين يقدمون على الحرب من تلقاء أنفسهم، ويغلب أن يكون المتطوعة في الحروب خارج حدود المملكة الإسلامية، وكان من فرق الجند عند الخلفاء النشابون الذين يرمون النشاب، والنفاطون الذين يرمون النفط لإحراق حصون الأعداء، والمنجنيقيون رماة المنجنيق وهم مثل مدفعية هذه الأيام، والعيارون وهم رماة الحجارة من المخالي، وكان للجند أطباء وصيادلة يرافقونهم في الحرب والسلم، كما تفعل الدول المتمدنة اليوم.

figure
جند من المسلمين بأعلامهم وأبواقهم في القرن الثامن للهجرة نقلًا عن مخطوط قديم.

ثم نشأت فرق أخرى من جند الأتراك وجعلوا يتنازعون النفوذ في الدولة، وكان في جملة تلك الفرق فرقة الشاكرية … ظهرت في أيام المهتدي واستفحل أمرها في أيام المستعين بالله، ونشأ في أثناء ذلك ضرب من الحرس الخاص في قصور الخلفاء يسمونهم الغلمان الحجرية، وكان في دولة الفواطم بمصر فرقة منهم، وتحول قسم كبير من جند المشاة العرب إلى فرقة عرفت بالرجال المصافية، ثم تشكلت فرقة عرفت بالفرقة الساجية، نسبة إلى ابن الساج أحد عمال المقتدر بالله، وهناك فرق أخرى من الأتراك وغيرهم تقرأ أسماءهم عرضًا في تاريخ الدولة العباسية كالبلالية والسعدية وغيرهما، وكانت كل فرقة تستعمل نفوذها في الدولة على ما يبلغ إليه جهدها، وكثيرًا ما كانت تقوم الفتن فيما بينها أو بينها وبين حرس الخلفاء، حتى آل الأمر إلى خروج الأحكام من العرب على الإجمال، ونسي أمر قريش والعرب — كما سيأتي — وصارت الأحكام إلى الأتراك ونحوهم، فنشأت منهم الدولة المشهورة، وتقلبت نظم الجند بعد قيام دول الأتراك الكبرى على أحوال شتى، نذكر منها نظامهم في زمن السلاطين المماليك بمصر ثم العثمانيين.

(٥-٢) جند السلاطين المماليك بمصر

كان جند المماليك أخلاطًا من الأتراك والجركس والروم والأكراد، وأكثرهم من المماليك المبتاعين، وهم طبقات أعلاها الأمراء ومن يليهم إلى الجندي البسيط، وأما الأمراء فهم كالضباط في هذه الأيام، ومنهم من له إمرة مائة فارس أو أكثر إلى ألف فارس، وهؤلاء من الأمراء يسمون أكابر النواب، وتحتهم أمراء الطبلخانات ولكل منهم إمرة أربعين فارسًا إلى السبعين، ولا تكون الطبلخانة لأقل من ٤٠ فارسًا، يليهم أمراء العشرات من عشرة إلى أربعين، ثم جند الحلقة وهؤلاء لكل أربعين منهم مقدم ليس له حكم عليهم إلا إذا خرج العسكر، وكانت قيادتهم إليه وكانت رواتبهم تعطى بالإقطاع كما سيجيء.

figure
خوذة أحد السلاطين المماليك بمصر.
وكان لهم في الجند مناصب تتفاوت رفعة ونفوذًا، أهمها أمير السلاح وصاحبها يتولى حمل السلاح للسلطان، والدوادار لتبليغ الرسائل عن السلطان وهو من أمراء المئين، والحاجب يقف بين الأمراء والأجناد، وأمير جاندار كالمتسلم للباب ومن أراد السلطان قتله كان على يده، والأستاذ دار يتولى أمر بيوت السلطان ونفقاتها، ونقيب الجيش لإحضار من يطلب السلطان إحضارهم، والوالي وهو صاحب الشرطة،١ وقد تولدت هذه المناصب في دولة المماليك بالتدريج حسب الأحوال، ومن أكثر السلاطين عملًا في ذلك السلطان ركن الدين بيبرس البندقداري، فإنه من كبار المؤسسين لهذه الدولة.

ولهم في تدريب ذلك الجند طرق خاصة بهم، يبدأون به منذ دخول المملوك في ملك السلطان: إذا قدم تاجر عرض مملوكًا على السلطان يشتريه ويجعله في طبقته، ويسلمه إلى الطواشي برسم الكتابة، فأول ما يبدأ تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن، وكانت كل طائفة لها فقيه يأتيها كل يوم، ويأخذ في تعليمها القرآن ومعرفة الخط، والتمرن بآداب الشريعة الإسلامية وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الشائع إذ ذاك أن لا تجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شب الواحد من المماليك علمه الفقيه شيئًا من الفقه وأقرأه فيه مقدمة، فإذا صار إلى سن البلوغ أخذ في تعليمه فنون الحرب من رمي السهام ولعب الرمح ونحو ذلك، فيتسلم كل طائفة معلم حتى يبلغ الغاية في معرفة ما يحتاج إليه، وإذا ركبوا إلى لعب الرمح أو رمي النشاب لا يجسر جندي ولا أمير أن يحدثهم أو يدنو منهم، فينقل عند ذلك إلى الخدمة وينتقل في أطوارها رتبة بعد رتبة، إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه وكثرت آدابه، وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، واشتد ساعده في رماية النشاب، وحسن لعبه بالرمح ومرن على ركوب الخيل.

ولما فتح السلطان سليم مصر سنة ٩٢٣ ضعف أمر المماليك، لكنهم ما زالوا محافظين على جنديتهم يتوارثون تقاليدها أجيالًا، حتى تولى محمد علي ففتك بالمماليك في قلعة القاهرة سنة ١٨١١ وأباح قتلهم حيثما وجدوا، فلم ينجُ من أمرائهم إلا مملوك اسمه أمين بك وثب بجواده من أمام باب القلعة في أثناء المذبحة فقتل جواده ونجا هو، وانقرض المماليك وجندهم من ذلك الحين،٢ وكان جند محمد علي من الألبانيين، ثم اتخذ الجند النظامي من المصريين.

(٥-٣) الجند العثماني الإنكشارية

وللجند العثماني تاريخ طويل، يبدأ منذ تأسيس الدولة العثمانية، وقد بني على نظام جند السلاجقة، ثم نشأ جند الإنكشارية المشهور، أنشأه قره خليل أحد كبار رجال الدولة العثمانية في زمن السلطان أورخان، وقد نظر في تنظيمه إلى خلوه من عصبية تبعثه على التمرد٣ وكان العثمانيون يومئذ يفتحون البلاد وأكثر أهلها مسيحيون، فيدخل في حوزتهم جماعة من غلمان النصارى الذين قتل آباؤهم وأصبحوا لا نصير لهم ولا مرجع لآمالهم، فارتأى أن يربى أولئك الغلمان تربية إسلامية، ويدربهم على الفنون الحربية، ويجعلهم جندًا دائمًا لا يخشى منه التمرد، لأنه لا يعرف عصبية غير الدولة، ولا عملًا غير الجندية، ولا دينًا غير الإسلام، فجندهم وسار بهم إلى الحاج بكطاش شيخ طريقة البكطاشية بأماسية، ليدعو لهم، فدعا لهم وسماهم «يكى جرى» أي الجند الجديد.

ولم يكن قره خليل هذا أول من جند غلمان النصارى، كما يظن أكثر مؤرخي الأتراك، فإن الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر فعل ذلك قبل تأسيس الدولة العثمانية، وهو متوجه إلى دمشق سنة ٥٦٥ﻫ لملاقاة عساكره العائدة من غزوة بلاد سيس، فنزل بلدًا اسمه قارا بين دمشق وحمص، فأمر بنهب أهلها النصارى وقتل كبارهم، لأنهم كانوا يسرقون المسلمين ويبيعونهم سرًّا للصليبيين، وأخذ صبيانهم مماليك رباهم بين الأتراك في الديار المصرية، فنشأوا على الإسلام وتجندوا في الجيش التركي.

على أن قرة خليل جعل شروطًا للإنكشارية لم يسبق لها مثيل، فقسمهم إلى وجاقات، واحدها وجاق، والوجاق يقسم إلى أورط، إحداها أورطة، ولكل أورطة عدد تعرف به، ولبعضها أسماء خاصة، ويختلف عدد الجند في كل أورطة حسب العصور من ١٠٠ إلى ٥٠٠، ويختلف عدد الأورط في الوجاق، وعدد الوجاقات بمقتضى ذلك، وأكبر ضباط الوجاق أو قائدها الأكبر يسمى «آغا»، تحته سكبان باشي، تحته غيره فغيره، على هذه الصورة:
  • الآغا: قائد الوجاق، يقابل اللواء في هذه الأيام.
  • سكبان باشي: ينوب عن الآغا في الآستانة، ويقابل القائمقام اليوم.
  • قول كخيا أو كخيا بك: نائب الآغا أو السكبان باشي.
  • سمسونجي باشي: قائد أورطة رقم ٧١.
  • زغرجي باشي: قائدالأورطة رقم ٦٤.
  • محضر أغا: ينوب عن الإنكشارية عند الصدر الأعظم.
  • خصكي: ينوب عن الأغا في القيادة على الحدود.
  • باشجاويش: قائد الأورطة الخامسة.
  • كخيايري: ينوب عن الوجاق لدى الأغا.
  • الأفندي: الكاتب.
ولكل أورطة ضباط يقتسمون قيادتها وإدارة شئونها على هذه الصورة:
  • (١)
    الجوربجي: رئيس الأورطة، يشبه الكولونيل.
  • (٢)
    أوده باشي: نائب الجوربجي في المناورات العسكرية وغيرها.
  • (٣)
    وكيل الخرج: يولى أمر الطعام والشراب.
  • (٤)
    بيرقدار: يتولى الإعلام والبيارق.
  • (٥)
    باش اسكي: يتولى قيادات القراقولات.
  • (٦)
    اشجي: الطاهي.

قوانين الإنكشارية

قد رأيت أن جند الإنكشارية تشكل في زمن السلطان أورخان، لكن الفضل الأكبر في تنظيمه وترتيبه للسلطان مراد الأول (تولى سنة ٧٦١ﻫ) وهذه خلاصة قوانينهم:
  • (١)

    الطاعة المطلقة لقوادهم وضباطهم أو من ينوب عنهم.

  • (٢)

    الاتحاد بين سائر الفرق كأنها فرقة واحدة وتكون مساكنها متقاربة.

  • (٣)

    التجافي عن كل ما لا يليق بالجندي الباسل من الإسراف أو الانغماس، ويكون معولهم على البساطة في كل شيء.

  • (٤)

    الإخلاص في الانتماء إلى الحاج بكطاش من حيث الطريقة، مع القيام بفروض الإسلام.

  • (٥)

    لا يقبل في سلك الإنكشارية إلا الذين يشبون من غلمان الأسرى على التربية الخاصة بين الغلمان الأعاجم.

    figure
    إبراهيم بن محمد علي في ثوبه العسكري عند أول تشكيل الجند النظامي.
  • (٦)

    أن الحكم عليهم بالإعدام ينفذ بشكل خاص.

  • (٧)

    يكون الترقي في المراتب على حسب الأقدمية.

  • (٨)

    لا يجوز أن يوبخ الإنكشارية ولا يعاقبهم غير ضباطهم.

  • (٩)

    إذا عجز أحدهم عن العمل يحال على المعاش.

  • (١٠)

    لا يجوز لهم إرسال لحاهم.

  • (١١)

    لا يجوز لهم أن يتزوجوا.

  • (١٢)

    لا يجوز لهم الابتعاد عن ثكناتهم.

  • (١٣)

    لا يجوز لهم أن يتعاطوا عملًا غير الجندية.

  • (١٤)

    يقضون أوقاتهم في الرياضة البدنية والتمرين بالحركات العسكرية.

فإذا تدبر هذه القوانين، هان عليك تصور الأعمال العظيمة التي أتاها هذا الجند في مصلحة الدولة العثمانية من الفتوح العظام، وقد يتبادر إلى الذهن، لأول وهلة، ترفع الناس عن الانتظام في هذا الجند، لأنه مجموع لقطاء لا يعرف لأحد منهم أب ولا أم، لكنك تفهم من البند الخامس من قوانينهم أنهم كانوا يحظرون على غير اللقيط أو المملوك الانتظام في جندهم، وكان السلاطين يتوخون تعظيم هذا الأمر في عيونهم.

وما زال جند الإنكشارية معول الدولة العثمانية في حروبها، حتى صار عقبة في سبيل أعمالها لتمكنه من النفوذ، وقاسى السلاطين منه عذابًا شديدًا، إلى أن فتك به السلطان محمود الثاني في أوائل القرن الماضي، وتم تشكيل الجند النظامي.

١  السيوطي ١١٢ ج٢.
٢  تاريخ مصر الحديث ج٢.
٣  راجع تاريخ الإنكشارية في الهلال ٤٥٨ سنة ١٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤