بيت المال

البحث في بيت المال يشمل النظر في كل ما يتعلق بأموال الدولة من خراج وصدقة وأعشار وأخماس وجزية وغير ذلك، ويسمى الديوان السامي، وهو أصل الدواوين ومرجعها عندهم، ووظيفته أن يثبت في جرائده جميع أصول الأموال السلطانية على أصنافها، من عين وغلال وفيء وغنائم وأعشار وأخماس، ويثبت ما تحصل من ذلك ويتخذ بيوتًا لأصناف الأموال ويجعل عليها دواوين وحرسًا، فالأموال والقماش لها ديوان الخزانة، ويجب أن يكون مباشروه قضاة المسلمين بأنفسهم بلا نواب عنهم، ومعهم خزندارية أمناء أكفاء من أقوى الناس ديانة، والغلال لها ديوان الأهراء، يجب أن يكون مباشروه من أكبر العدول الدينيين الأعفاء، والأسلحة والذخائر لها ديوان خزائن السلاح، يجب أن يكون مباشر هذه الجهة محتسب البلد، لأنه يعرف أمور الاستعمالات وأجور الصناع وأسعار الآلات، وكل ما استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال، وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين ثلاثة أقسام: الصدقة، والغنيمة، والفيء، ولكل منها أحكام سيأتي بيانها، والأموال المستحقة على بيت المال أرزاق الجند وأثمان الكراع والسلاح، وغير ذلك مما ينفق في سبيل المصلحة العامة.

(١) الصدقة

الصدقة والزكاة لفظان مترادفان، وهي تؤخذ من أغنياء المسلمين وتفرق على فقرائهم، وقد ذكرنا أصلها فيما تقدم، وللصدقة ديوان في مركز الخلافة له فروع في سائر الولايات والبلدان، ويستقل والي الصدقة في كل بلد بالاستيلاء على أموال الصدقة من أغنياء ذلك البلد وتفريقها على فقرائه، ومصادر الزكاة أربعة: زكاة الماشية وزكاة الذهب والفضة وزكاة الأثمار وزكاة الزروع.

(١-١) زكاة الماشية

فزكاة الماشية تؤخذ على الإبل والبقر والغنم، ولها أحكام وضعها رسول الله نفسه: يستدل على ذلك من كتاب كتبه أبو بكر إلى أنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين، وهاك نصه «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطِ: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة، إذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستًّا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستًّا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمسة وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستًّا وسبعين إلى تسعين ففيها بنت لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على مائة إلى مائتين شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث، فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرحل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها» وللفقهاء تفاصيل في ذلك لا محل لها هنا، وأما الخيل والبغال والحمير فلا زكاة عليها.

(١-٢) زكاة الذهب والفضة

وزكاة الفضة ليس فيما دون ٢٠٠ درهم صدقة، وأما المائتان فعليها خمسة دراهم كل سنة، وذلك على تعديل ٢٫٥ في المائة أي ١ من ٤٠، وعلى هذا التعديل تؤخذ زكاة الذهب عن كل عشرين مثقالًا منه نصف مثقال، وليس على ما دون العشرين مثقال زكاة، وإذا زادت على العشرين تضاعفت زكاتها على هذا المقياس، ويعد من قبيل الفضة والذهب أموال التجارة ونحوها.

(١-٣) زكاة الأثمار

وأما الأثمار فزكاتها تختلف باختلاف نوع سقايتها، فإذا كانت مما يسقى سيحًا، أي أن الماء يأتيه من المطر أو الأنهر بلا تعب أو حمل، فزكاتها العشر، وإذا كانت مما يسقى بالتعب والرجال فنصف العشر، وفي كل حال لا تستحق الزكاة على الأثمار إلا إذا بلغت خمسة أوسق فما فوق، والوسق ستون صاعًا، والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي، ويدخل في حكم الأثمار النخل والكرم ونحوها.

(١-٤) زكاة الزروع

وأما الزروع، ويريدون بها الحبوب بأنواعها كالحنطة والأرز واللوبيا والحمص وغيرها، فلا تؤخذ عليها زكاة إلا بعد أن تبلغ خمسة أوسق، وحكمها في الزكاة مثل حكم الأثمار.

(٢) الجهات التي تصرف فيها الزكاة

وأما الجهات التي تصرف فيها أموال الزكاة فقد جاء ذكرها صريحًا في القرآن، وهو: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وبناء عليه كانوا يقسمون أموال الزكاة إلى ثمانية أسهم، يدفعون سهمًا إلى الفقراء وهم الذين لا شيء لهم، والثاني للمساكين، وهم الذين لهم ما لا يكفيهم وهم أرفق حالًا من الفقراء، وكانوا يجعلون نصيب كل واحد من هؤلاء بالنظر إلى حاله أو ما يكفيه، على ما يتراءى لولي الصدقات، بشرط أن لا يزيد ما يأخذه الواحد على ٢٠٠ درهم، لأنه إذا أخذ أكثر من ذلك وجبت عليه الزكاة.

وقد جاء في تفسير البيضاوي أن الفقير من لا مال له يقع موقعًا من حاجته، والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون، كأن العجز أسكنه.

والسهم الثالث يعطى للعاملين عليها، وهم القائمون بجبايتها وتفريقها، وفيهم الأمين والمباشر والمتبوع والتابع فيأخذون أجورهم، فإذا زاد سهمهم على ما يستحق لهم رد الباقي على السهام الباقية. والسهم الرابع يفرق للمؤلفة قلوبهم، وهم الذين كان النبي وخلفاؤه يتألفونهم لكف أذاهم عن المسلمين، أو لرغبتهم في الإسلام أو لترغيب قومهم وعشائرهم فيه كما تقدم، وإذا كان أحد المؤلفة قلوبهم غير مسلم لا يدفع له من الزكاة بل يدفع له من الغنائم أو الفيء. والسهم الخامس ينفق في شراء العبيد وعتقهم. والسادس للغارمين، وهم المدينون، فيعطى لهم ما يقضون به ديونهم. والسهم السابع في سبيل الله، يعطى الغزاة وأهل الجهاد نفقة ما يحتاجون إليه في حروبهم. والثامن لأبناء السبيل، وهم المسافرون الذين لا يجدون نفقة سفرهم.

ويمتاز عمال الصدقات عن سائر عمال المال الآخرين أن عامل الصدقة يجوز له أن يقسم ما جباه بغير إذن، إلا إذا نهي عن ذلك عمدًا، بخلاف أموال الفيء أو الغنيمة فإن عمالها ليس لهم أن يتصرفوا بالمال إلا بأمر الخليفة أو من يقوم مقامه من الولاة أو الوزراء.

(٣) الغنيمة

الغنيمة ما يكسبه المسلمون بالقتال، وتشتمل على أربعة أقسام: أسرى وسبي وأرضين وأموال، فالأسرى هم الرجال المقاتلون الذين يقعون في الأسر، ولهم في الشريعة الإسلامية شروط وأحكام اختلف الأئمة في تحديدها مما لا محل له هنا، وفي جملتها قبول الفدية وهي مال يفتدى به الأسير، فالمال المأخذوذ على هذه الصورة يضاف إلى باقي الغنيمة، وأما السبي فهم النساء والأطفال الذين يقعون في أيدي المسلمين، فلا يجوز قتلهم وإنما هم يفرقون في جملة الغنائم ويجوز قبول الفدية عنهم.

والأرض التي تؤخذ في الحرب إما أن تكون قد فتحت عنوة فأصبحت ملكًا للمسلمين على أنها فيء، أو أن تدخل في حكم المسلمين صلحًا على شروط فهي من قبيل الفيء، وباختلاف هذه الأحوال وما يشترك بينها اختلفت أنواع الضرائب عليها كالخراج والعشور ونحوهما.

(٤) الأموال

أما الأموال المنقولة فهي ما يمكن نقله كالماشية والمال، وهي تفرق في المقاتلة، وكانت تفرق في أول الإسلام بلا قاعدة، فكان النبي يقسمها على ما يراه، وأول غنائمهم غنائم بدر في السنة الثانية للهجرة، فتنازل المهاجرون والأنصار في اقتسامها، ففرقها النبي فيهم على السواء وهو كواحد منهم، ثم جاء الأمر بالتخميس في الآية: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وأول غنيمة خمست على هذه الصورة غنيمة غزوة بني قينقاع بتلك السنة، فقسمت أموالها إلى خمسة أقسام تفرقت أربعة منها في المقاتلة، والخمس الخامس — وهو خمس النبي — قسم إلى خمسة أسهم: السهم الأول ينفقه على نفسه وأزواجه وفي مصالح المسلمين، والثاني يفرق على ذوي القربى، وهم بنو هاشم رهط النبي، وبنو عبد المطلب بن عبد مناف خاصة، ولا حق لأحد سواهم من قريش، والثالث لليتامى من ذوي الحاجات، ويستوي فيه حكم الغلام والجارية، والرابع يفرق في المسلمين الذين لا يجدون ما يكفيهم، والسهم الخامس لأبناء السبيل، وهم المسافرون الذين لا يجدون ما ينفقون.

ويعد من قبيل الأموال أيضًا الأسلاب، وهي ثياب القتلى وأسلحتهم، فهذه كانوا يفرقونها في المقاتلين، فيأخذ كل رجل أسلاب الذي قتله.

(٥) الأراضي

وأما الأراضي التي كانت تقع في أيديهم عنوة أو صلحًا، فقد أراد بعضهم في صدر الإسلام أن يجعلها غنيمة تقسم بين الفاتحين مثل قسمة أموال الغنيمة، فأبى عمر بن الخطاب عليهم ذلك كما يتبين من كتاب كتبه إلى سعد بن أبي وقاص بعد فتح العراق ونصه: «أما بعد … فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم الأرض بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به من العسكر من كراع ومال فاقسمه بين من حضر، واترك الأرضين والأنهار بعمالها لا يكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء».

فاعترض عليه بعضهم بأن الأرض حق لهم، لأنهم فتحوها بأسيافهم، فجادلهم وأقنعهم بأن يضع الخراج عليها والجزية على أهلها، ويكون كلاهما فيئًا للمسلمين على ممر الأجيال، وبناء عليه وضع عمر الجزية والخراج على أرض العراق وغيرها من البلاد المفتوحة، ودون ذلك في السجلات على مثال ما كان الفرس والروم يدونون، وهو ما يعبرون عنه بتدوين الدواوين كما تقدم.

(٦) الفيء

هو سائر ما بقي من أموال بيت المال، وفي الشرع: «الفيء كل مال وصل من المشركين عفوًا من غير قتال ولا بإيجاف خيل ولا ركاب»، ويدخل فيه الجزية والخراج والأعشار وغيرها، وكان للنبي خمس الفيء يقسم كما يقسم خمسه من الغنائم، فأصبحت حصته بعد موته من الفيء أيضًا من حق بيت المال، وكانت الأربعة الأخماس الباقية من الفيء تقسم في صدر الإسلام على الجيش، وهم المهاجرون والأنصار، يفرق فيهم على السواء، حتى وضع عمر الديوان وقدر أرزاق الجند على ما ذكرناه، فأصبح الفيء يوضح في بيت المال، وينفق منه على الجند وغيرهم حقوقهم المعينة.

وقد رأيت فيما تقدم أن أهل الصدقات هم غير أهل الفيء والغنيمة، فلا تصرف الصدقات في أهل الفيء، ولا يصرف الفيء في أهل الصدقات، فإن الفيء والغنيمة لأهل الحرب والمجاهدين في سبيل الإسلام، وأهل الصدقات ليسوا من المقاتلة ولا هجرة لهم، وكان اسم الهجرة يطلق في الصدر الأول على من هاجر من وطنه إلى المدينة لطلب الإسلام، وكانت كل قبيلة أسلمت وهاجرت بأسرها تدعى «البررة»، وكل قبيلة هاجر بعضها تدعى «الخيرة»، فكان المهاجرون بررة وخيرة، ثم سقط حكم الهجرة بعد الفتح، وصار المسلمون مهاجرين وأعرابًا، لأن أهل الصدقة كانوا يسمون على عهد النبي أعرابًا، ويسمى أهل الفيء المهاجرين، ومن ذلك قول الشاعر:

قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الذربي
مهاجر ليس بأعرابي

وكان الخلفاء في صدر الإسلام يدققون في التمييز بينهما، فإذا أراد الخليفة أن يعطي طالبًا لا يعطيه من مال الفيء إلا إذا كان العطاء عائدًا إلى مصلحة المسلمين العامة، وإلا فإنه يعطيه من مال الصدقة، ويروون عن عمر بن الخطاب غير حكاية تدل على شدة تمسكه بهذه القاعدة، منها أن أعرابيًّا أتاه فقال:

يا عمر الخير جزيت الجنه
اكسُ بُنَيَّاتي وأمهنه
وكن لنا من الزمان جنه
أقسم بالله لتفعلنه

فقال عمر: «إن لم أفعل يكون ماذا؟»، قال:

إذن أبا حفص لأذهبنه

قال «وإذا ذهبت يكون ماذا؟»، فقال:

يكون عن حالي لتسألنه
يوم يكون لا عطايا هنه
وموقف المسؤول بينهنه
إما إلى نار وإما جنه

فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، وقال «يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، أنا والله لا أملك غيره!»، فجعل ما وصل به الأعرابي من ماله لا من مال المسلمين، لأن صلته لم تعد تقع على غيره فخرجت من المصالح العامة.

وكان مما نقمه الناس على عثمان أنه جعل الصلات من مال الفيء ولم يرَ الفرق بين الأمرين، ولما مضى زمن الهجرة وصار الإسلام دولة جوزوا صرف كل واحد من المالين في كل واحد من الفريقين، على حسب الاقتضاء، وازدادت موارد الفيء باتساع المملكة الإسلامية وتعددت أبوابها، وصاروا يعبرون عن الفيء بجباية الأعمال، وهو ما يجبى من أصناف الأموال، كالجزية والخراج والصدقات وأعشار السفن وأخماس المعادن والمراعي وغلة دار الضرب والمراصد والضياع والمستغلات إلخ … وقد تقدم الكلام في الصدقات، وسنذكر أهم ما بقي من مصادر الفيء.

(٧) الجزية

الجزية والخراج متشابهان بأنهما يؤخذان من غير المسلمين، وهما من جملة أموال الفيء ويجبيان بأوقات معينة كل سنة، ولكنهما يختلفان بأن الجزية موضوعة على الرؤوس وتسقط بالإسلام، وأما الخراج فيوضع على الأرض ولا يسقط.

(٧-١) تاريخ الجزية

والجزية ليست من محدثات الإسلام، بل هي قديمة من أول عهد التمدن القديم، وقد وضعها يونان أثينا على سكان سواحل آسيا الصغرى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين، وفينيقية يومئذ من أعمال الفرس، فهان على سكان تلك السواحل دفع المال في مقابل حماية الرءوس، والرومان وضعوا الجزية على الأمم التي أخضعوها، وكانت أكثر كثيرًا مما وضعه المسلمون بعدئذ، فإن الرومان لما فتحوا غاليا (فرنسا) وضعوا على كل واحد من أهلها جزية يختلف مقدارها ما بين ٩ جنيهات و١٥ جنيهًا في السنة، أو نحو سبعة أضعاف جزية المسلمين، ولم تكن الجزية كبيرة بهذا المقدار في كل البلاد التي افتتحها الرومان، ولكنهم يعللون كبرها في غاليا ونحوها أنها كانت تؤخذ من الأشراف، عنهم وعن عبيدهم وخدمهم، وكان الفرس أيضًا يجبون الجزية من رعاياهم، ويؤيد ذلك ما أورده ابن الأثير في كلامه عما فعله كسرى أنوشروان في الخراج والجند، قال «وألزموا الناس الجزية ما خلا العظماء وأهل البيوتات والجند والمرازبة والكتاب ومن في خدمة الملك، كل إنسان على قدره اثني عشر درهمًا وثمانية دراهم وستة دراهم وأربعة دراهم»، فالظاهر أن العرب أخذوهها عن الفرس لفظًا ومعنًى، فعربوا لفظها حتى صار «جزية» وعدلوا في كيفية جمعها كما رأيت، وقد رفعوها عن المسلمين كما فعل كسرى أيضًا، لأن المسلمين عندهم هم الجند والعظماء وأهل البيوتات الذين استثناهم كسرى من الجزية، وأهل اللغة يعدون لفظ الجزية مشتقًّا من جزاه به وعليه، كافأه.

(٧-٢) مقدار الجزية

أما الجزية في الإسلام فقد كان النبي يقدرها بحسب الأحوال، وعلى مقتضى التراضي الذي كان يقع بين المسلمين وأعدائهم، فلما صالح أهل نجران تراضوا على جزية مقدارها ٢٠٠٠ حلة في صفر و١٠٠٠ في رجب، ثمن كل حلة أوقية والأوقية أربعون درهمًا وصالح أهل أذرح على مائة دينار كل رجب، وصالح أهل مقنا على ربع أخشابهم وغزوهم وكراعهم ودروعهم وثمارهم، وصالح غيرهم من يهود جزيرة العرب على نحو ذلك.

وما زالت الجزية بلا تعيين إلى آخر أيام أبي بكر، فلما تولى عمر وكثرت الفتوح عين مقدارها، فكتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يضربوا الجزية على كل من جرت عليه الموسى، وأن يجعلوها على أهل الفضة كل رجل أربعين درهمًا، وعلى أهل الذهب أربعة دنانير، وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مدان حنطة، وثلاثة أقساط زيتًا كل شهر لكل إنسان في الشام والجزيرة.

ثم تعدلت فتعينت باعتبار درجات الناس ومقدرتهم، فوضعوا على الظاهر الغنى ٤٨ درهمًا تدفع أقساطًا ٤ دراهم في كل شهر، وعلى أوسط الحال ٢٤ درهمًا كل شهر درهمان، وعلى الفقير ١٢ درهمًا كل شهر درهم، ولا يؤخذ شيء من النساء والصبيان ولا من أهل العاهات ولا من الرهبان الذين لا يخالطون الناس، إلا البلاد التي عقدت شروط الجزية عليها باتفاق خاص، كما عقد صلح مصر مع عمرو بن العاص، على أن يدفع القبط دينارين عن كل نفس شريفهم ووضيعهم ممن بلغ منهم الحلم، ليس على الشيخ الفاني ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ولا على النساء شيء، وعليهم إضافة من ينزل عليهم من المسلمين ثلاثة أيام، وغير ذلك.

وكثيرًا ما كانوا يقدرون الجزية باعتبار ما يبقى في أيدي الناس من دخلهم بعد نفقاتهم، كما وقع لأهل الجزيرة بالعراق، فقد كان الذي فتحها عين جزيتها دينارًا على كل رأس، فلما تولى عبد الملك بن مروان استقل ذلك فبعث إلى عامله هناك فأحصى الجماجم وجعل الناس كلهم عمالًا بأيديهم، وحسب ما يكسب العامل سنته كلها، وطرح من ذلك نفقته في طعامه وأدمه وكسوته، وطرح أيام الأعياد في السنة كلها، فوجد الذي يحصل بعد ذلك أربعة دنانير لكل واحد، فألزمهم دفعها وجعل الناس طبقة واحدة.

والجزية تضرب كما قلنا على غير المسلمين، فمن أسلم سقطت عنه، إلا في أيام عبد الملك بن مروان فإن الحجاج وضعها على من أسلم من أهل الذمة، وخاطب عبد الملك أخاه عبد العزيز عامله على مصر يومئذ أن يضعها على من أسلم، فشاور عبدُ العزيز ابنَ حجيرة أحد خاصته فأعظم الأمر وقال «أعيذك بالله أن تكون أول من سن ذلك بمصر، فوالله إن أهل الذمة ليتحملون جزية من ترهب منهم، فكيف تضعها على من أسلم منهم؟» فتركهم، فلما تولى عمر بن عبد العزيز التقي الشهير أبطل ذلك من العراق، ولم توضع الجزية على مسلم بعد ذلك.

وتقبل الجزية من غير المسلمين أيًّا كانوا، إلا إذا كانوا من العرب عبدة الأوثان أو من المرتدين، فهؤلاء لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، أما النصارى واليهود والمجوس وعبدة الأوثان من العجم فيقبل منهم الإسلام أو الجزية أو السيف.

والقصد من ذلك توحيد أمة العرب، فأباد النبي الوثنية من جزيرة العرب في حياته، ولما تولى عمر أخرج من كان باقيًا فيها من النصارى اليهود، وقد قلنا: إن الجزية لا توضع إلا على من بلغ الحلم من الأصحاء، ومعنى ذلك أنها بدل من القتال، أي أن دافعها لا يدعى إلى القتال، ويشبهها من هذا القبيل ما كان يدفعه نصارى المملكة العثمانية من الضريبة المعروفة بالعسكرية قبل إعلان الدستور، وكانت تدفع في مقابل إعفاء النصارى من الجندية.

(٨) الخراج

(٨-١) تاريخه

الخراج ما يوضع من الضرائب على الأرض أو محصولاتها، وهو أقدم أنواع الضرائب، والأصل في وضعه أن الناس كانوا يعتبرون الأرض ملكًا للسلطان أو الملك، وهذا الاعتقاد قديم جدًّا، وفي التوراة أقوال صريحة في كيفية دخول الأرض في ملك الفراعنة، وردت في حكاية المجاعة الشهيرة في الفصل السابع والأربعين من سفر التكوين، لما جاع المصريون في أثناء القحط فباعوا يوسفَ كلَّ ما اقتنوه من فضة وذهب وماشية، ولم يبقَ لهم إلا الأرض فباعوه إياها بالخبز.

وهكذا كان شأن الأرض في كل الممالك القديمة، فالأرض للملك والأهالي إنما يتمتعون بريعها، وللحكومة حصة من ذلك الريع وهو الخراج، ومن عادات التتر أن الإنسان يستأثر بملك الماشية، وأما الأرض فأنكروا حق تملكها على الأفراد، وكان الجرمان القدماء لا يعترفون بملك الأرض إلا لحكامهم أو رؤسائهم، فكان رئيس القبيلة يوزع أراضيها على أفرادها، وفي السنة التالية توزع عليهم بالتناوب، بحيث إن القطعة الواحدة لا يستغلها الرجل الواحد سنتين متواليتين، ومثل هذه العادة لا تزال إلى اليوم شائعة في بعض شعوب الصقالبة.

وعلى هذا المبدأ كان الرومان يضعون الضرائب على أراضي مملكتهم، وفي جملتها مصر والشام وغيرهما مما فتحه المسلمون من بلادهم، وكان لهم في كل ولاية ديوان خاص بالخراج تدون فيه أعماله ودخله وخرجه، وله كتاب وجباة وعمال من أهل البلاد أو من الحكام، وكان نحو ذلك حال الفرس في العراق وفارس، لأن الفرس اقتبسوا كثيرًا من قوانين اليونان والرومان.

(٨-٢) ديوان الخراج

فلما ظهر المسلمون وفتحوا الشام ومصر والعراق وغيرها، أقروا الدواوين على ما كانت عليه من قبل ولم يغيروا فيها شيئًا، وظل كُتَّاب الدواوين من أهل البلاد أنفسهم من النصارى والمجوس، كما كانوا في عهد الدول السابقة، فكان عمال ديوان الخراج في مصر الأقباط، ويكتبون ديوانهم بالقبطية، وعمال ديوان الشام الروم، وكانوا يكتبونه بالرومية، وديوان العراق يكتبه الفرس بالفارسية، والعرب يراقبون أعمال الدواوين ويستولون على جبايتها، كأنهم لم يريدوا بفتح البلاد امتلاكها لرغبهم يومئذ في الدين عن الدنيا، فلما صار الأمر إلى بني أمية، وانتقل المسلمون من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة، ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة، وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتابة والحساب، غيروا الدواوين إلى لسانهم، وسلموا أمورها إلى رجال من المسلمين، وأول من فعل ذلك منهم عبد الملك بن مروان (نحو سنة ٨١ﻫ) فصارت الدواوين عربية من ذلك الحين، وربما كان عبد الملك البادئ بذلك التغيير، ثم أتمه من جاء بعده، لأن ديوان مصر تم نقله إلى العربية على عهد الوليد بن عبد الملك سنة ٨٧ﻫ.

وأما الحجاز فقد كان ديوانه في المدينة على ما وضعه عمر بن الخطاب، كما ذكرناه في محله، وهو أشبه أن يكون ديوان الجند أو ديوان الأعمال والجبايات، لأنه دون فيه أسماء الصحابة وعين أعطياتهم وطبقاتهم، وضبط ما يرد على المدينة من بقايا الخراج والجزية، بعد دفع نفقات الجند في مصر والعراق.

وكان الخلفاء هم الذين يتولون النظر في أمر الخراج، ويراقبون سير الجباية، فلما أفضى الأمر إلى الدولة العباسية وضعوا ديوانًا مركزيًّا للخراج يشمل ما تحته من دواوين الأعمال — وضعه السفاح وعهد أمره إلى خالد بن برمك جد البرامكة، وكان ذلك أول خطوة لتداخل البرامكة في شئون الدولة وتصرفهم في أموالها، وكان في جملة تصرفهم فيها أنهم كانوا يضمنون مبلغ الخراج لأولادهم وأهليهم، كما ضمن يحيى بن برمك في أيام المهدي خراج فارس وانكسر عليه المال، وأصبح ديوان الخراج في أيدي الوزراء مثل غيره من الدواوين، حتى إذا ضعفت الدولة العباسية وصارت أمورها إلى الأمراء أبطلت الدواوين في أيام الراضي بالله.

(٨-٣) تقدير الخراج

قلنا فيما تقدم إن العرب أقروا الخراج دواوينه وسائر أحواله على ما كان عليه في أيام الدول السابقة (الروم والفرس) ويؤخذ مما ذكره المقريزي أن جباية خراجهم كانت بالتعديل، وهو ما يعبرون عنه بالمقاسمة — إذا عمرت القرى وكثر أهلها زيد خراجهم، وإن قل أهلها وخربت نقصوه.

وكانت جباية الشام على نحو ذلك أيضًا، وأما الفرس فكانوا يأخذون خراج أرضهم بالمقاسمة، حتى مسحه قباذ بن فيروز قبل الإسلام وجعله بالمساحة، فضرب على الجريب الواحد درهمًا وقفيزًا (الجريب ٣٦٠٠ ذراع مربع) مهما يكن حاله من الخصب أو الجدب، فلما فتح المسلمون البلاد عدلوا في الخراج على ما اقتضته الأحوال في سائر البلاد، ولهم قوانين عامة في الأرضين فالأرض في الإسلام أربعة أقسام:
  • (١)

    أرض استأنف المسلمون إحياءها، فهي أرض عشر، للإمام عشرها وتعد من قبيل إحياء الموات.

  • (٢)

    أرض أسلم أهلها عليها، فهم أحق بها، وهي أيضًا أرض عشر.

  • (٣)

    أرض ملكها المسلمون عنوة، فهي غنيمة لهم، وتعد أيضًا من أرض العشر.

  • (٤)

    أرض صولح أهلها عليها، وهي الأرض المختصة بالخراج، وخراجها لا يبطل ولو أسلم أهلها.

وقدْر الخراج على هذه الأرض يعتبر بما تحمله، فلما فتحت العراق وضع عمر على سواده مثل ما كان الفرس قد وضعوه عليه، وهو عن كل جريب من الأرض قفيز ودرهم، والقفيز عُشر الجريب أي ٣٦٠ ذراعًا مربعًا، وضرب عمر على ناحية أخرى بطريقة أخرى، فجعل مقدار الخراج تابعًا لنوع المحصول، فأمر عثمان بن حنيف بالمساحة فمسح، ووضع على كل جريب من الكرم والشجر الملتف عشرة دراهم، ومن النخل ثمانية دراهم، ومن قصب السكر ستة دراهم، ومن الرطبة خمسة دراهم، ومن القمح أربعة دراهم، ومن الشعير درهمين، فقبل عمر بذلك، وظلت أرض العراق بالمساحة أو التوظيف أو الوظيفة، إلى أيام المنصور العباسي فعدل إلى المقاسمة، لأن السعر نقص فلم تكن الغلات تفي بخراجها، وخرب السواد فجعله مقاسمة إذا زادت الغلة زاد الخراج، وتقدير خراج المقاسمة مفوض إلى الخليفة، لكنه لا يزيد على نصف الغلة ولا يقل عن خمسها.

ملكية الأرض

أما ملكية الأرض فظلت كما كانت عليه في أول الإسلام، أي أن الأرض ملك الإمام وأن الناس يستغلونها وللحكومة حق من غلتهم، ما عدا بعض الأراضي الممتازة مما يسمونه الأواسي أو الرزقة أو نحوهما، مما لا محل لتفصيله هنا، حتى دخل القرن التاسع عشر وجرت الإصلاحات السياسية في المملكة العثمانية وفي جملتها مصر، فإنها لما دخلت في حوزة محمد علي في أوائل القرن الماضي رأى أن الأحوال لا تستقيم والفلاح لا يعمل في أرضه إلا إذا كانت ملكًا له، وكانت لما تولاها محمد علي قد أصبحت التزامات يلتزمها بعض وجهاء الناس وأهل الغنى والنفوذ، ويستخدمون الفلاحين فيها ويستغلونها فيدفعون مال الحكومة ويستأثرون بما بقي، فقسم محمد علي مصر إلى مديريات، والمديريات إلى مراكزَ أو أقسامٍ، وهذه إلى نواح، وعين فيها موظفين لإدارة أمورها، وجباة لجمع الضرائب، وأبطل الالتزامات ووزع أراضي كل ناحية بين أهل تلك الناحية نفسها، بحيث إن كل فلاح قادر على الشغل أصابه قسم من الأرض بقدر قسم الآخر.

فلما تولى الخديو سعيد أصدر لائحته الشهيرة المؤرخة في ٥ أغسطس سنة ١٨٥٨ فتمم ملكية الأرض للأهالي وجعلها إرثًا شرعيًّا في ذرياتهم، وأصبحت الأرض المصرية ملكًا للمصريين من ذلك الحين، وجرى نحو ذلك في سائر بلاد الدولة العثمانية، لأن الخليفة العثماني صادق على لائحة سعيد بخط همايوني في هذا المعنى.

ارتفاع الخراج

ويراد به مقدار ما يجتمع من خراج البلاد في كل عام، وهو أمر يعسر تعيينه لاختلافه باختلاف الزمان والمكان، ولأن مؤرخي العرب كثيرًا ما يجمعون بين الجزية والخراج في تقدير الخراج، فيقولون ارتفاع الخراج، ويريدون به الخراج والجزية جميعًا، والجزية أقل من الخراج وأقل ثباتًا منه، لما يدخل من أهل الذمة في دين الإسلام بتوالي الأزمان، وربما أدخلوا في الخراج أيضًا العشور ونحوها، ونحن ذاكرون فيما يلي أمثلة من جباية أعمال المملكة الإسلامية في عصر بني أمية:

فالسواد بلغ ارتفاع خراجه في أيام عمر بن الخطاب (سنة ٢٠ﻫ) ١٢٠٠٠٠٠٠٠ درهم، وفي أيام عبيد الله بن زياد (نحو سنة ٦٢ﻫ) ١٣٥٠٠٠٠٠٠ درهم، وفي أيام الحجاج بن يوسف (سنة ٨٥ﻫ) ١٨٨٠٠٠٠٠٠ درهم، وجباه عمر بن عبد العزيز (سنة ١٠٠ﻫ) ١٢٠٠٠٠٠٠٠ درهم، وكان ابن هبيرة بعده يجبيه ١٠٠٠٠٠٠٠٠ درهم سوى طعام الجند وأرزاق المقاتلة، ثم كان يوسف بن عمر يحمل منه إلى دار الخلافة ٦٠٠٠٠٠٠٠ درهم إلى ٧٠٠٠٠٠٠٠ وينفق على من معه من جند الشام ١٦٠٠٠٠٠٠، وعلى البريد ٤٠٠٠٠٠٠، وعلى الطوارق ٢٠٠٠٠٠٠ درهم، ويبقى عنده للنفقة على بيوت الأحداث والعواتق ١٠٠٠٠٠٠٠، فكان مجموع جباية السواد على أيامه نحو ١٠٠٠٠٠٠٠٠ درهم.

أما مصر فقد جباها عمرو بن العاص ١٢٠٠٠٠٠٠ دينار، ولكن يظهر من عبارة المقريزي أنها مبلغ الجزية وحدها على الجماجم، على فريضة دينارين من كل رجل، قال: وجباها بعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح ١٤ مليونًا، وقل خراجها في أيام بني أمية، حتى إذا كانت أيام هشام بن عبد الملك (١٠٥–١٢٧ﻫ) انتبه لها، فبعث إلى عامله على خراجها وأمره أن يمسحها، فخرج بنفسه فمسح العامر والغامر مما يركبه ماء النيل، فوجد مساحة ذلك ٣٠٠٠٠٠٠٠ فدان١ سوى ارتفاع الجرف ووسخ الأرض، فعدلها فعقدت معه ٤٠٠٠٠٠٠ دينار، وكان السعر راخيًا، وجباها أسامة بن زيد في خلافة سليمان بن عبد الملك (سنة ٩٧ﻫ) ١٢٠٠٠٠٠٠ درهم، واختلف مقدار الجباية بمصر بعد ذلك، وضعف أمرها خصوصًا لما صارت إلى بني العباس، وبعد مركز الخلافة عن وادي النيل، حتى انحط خراجها إلى ٨٠٠٠٠٠ دينار، فلما تولاها ابن طولون (سنة ٢٥٧ﻫ) استقصى عمارتها فبلغت جبايتها ٤٣٠٠٠٠٠ دينار، مع رخص الأسعار، فقد كان القمح كل عشرة أرادب بدينار، وظل خراجها نحو ذلك في سائر أيام بني العباس.

وأما الشام فقد بلغ خراجها في أيام عبد الملك بن مروان ١٧٠٠٠٠٠ دينار، منها ١٨٠٠٠٠ من الأردن، و٣٥٠٠٠٠ من فلسطين، و٤٠٠٠٠٠ من دمشق، و٨٠٠٠٠٠ من حمص وقنسرين والعواصم.

تضمين الخراج

تضمين الخراج نوعان:
  • (١)

    تضمينه للعمال، أي الولاة الذين يتولون الأمصار، وهو باطل في الشرع الإسلامي، لأن العامل مؤتمن يستوفي ما وجب ويؤدي ما حصل، فهو كالوكيل الذي أدى الأمانة، لم يضمن نقصانًا ولم يملك زيادة، وكان الصحابة في صدر الإسلام يشددون في منع هذا التضمين: حكي عن ابن عباس أن عاملًا أتاه يتقبل منه الأبلة بمائة ألف درهم فضربه مائة سوط وصلبه حيًّا تعزيرًا وأدبًا، ولما صارت الخلافة الإسلامية ملكًا أغضوا عن هذا الأمر، وصار الخلفاء يضمنون الخراج لعمالهم أحيانًا، فيعطون بخراج أعمالهم مالًا معينًا، ثم يجبون البلاد ويستولون على ما يفضل مهما كان مقداره، كما فعل يحيى بن برمك وغيره، وتطرقوا بعده إلى تضمين القضاء والحسبة والشرطة كما سترى.

  • (٢)

    تضمين الخراج للملتزمين، وهم أناس من أهل الغنى أو النفوذ كانوا يتقبلون الأراضي، أي يضمنونها من متولي الخراج بمال معين يقع عليه بالمزايدة، فيضمن الواحد قرية أو بلدًا أو كورة فيزرعها ويستغلها، ويدفع ما عليها من الخراج ويستولي على الباقي، وضمانة الأراضي أو التزامها على هذه الصورة ليس من مخترعات الإسلام، بل هو قديم من أيام اليونان، وقد شاع في المملكة الرومانية وكان في جملة ما اقتبسه العرب عنهم، وظل ضمان الأراضي على هذه الصورة شائعًا في المملكة الإسلامية إلى عهد قريب، وقد مرت عليه أدوار تقلب فيها على أشكال وضروب، ومن هذا القبيل ضمان الأعشار في المملكة العثمانية.

(٨-٤) ضرائب أخرى

توابع الخراج

وكان من موارد الأموال في الإسلام، غير خراج الأراضي وعشورها والصدقات والجزية، أعشار السفن وأخماس المعادن والمراعي وغلة دار الضرب والمراصد والضياع وأثمان الماء وضرائب الملاحات والآجام، وغيرها مما يعد من قبيل الخراج.

أما أعشار السفن فكانوا يضربونها على السفن التي تمر ببعض الثغور، فيأخذون عشرًا مما تحمله إما عينًا أو نقدًا، فقد كان عمال اليمن يأخذون هذه الضريبة من السفن التي تمر بسواحلهم قادمة من الهند، تحمل الأعواد المختلفة والمسك والكافور والعنبر والصندل والصيني فيأخذون الضريبة عينًا، وقد بلغت أعشار السفن في أيام الواثق بالله مالًا كثيرًا.

وكان الأندلسيون يضربون على السفن التي تمر ببوغاز جبل طارق في ذهابها وإيابها، فكان الإفرنج أو غيرهم إذا مروا بسفنهم أدوا الضريبة في مدينة هي في أقصى بلاد الأندلس جنوبًا يقال لها طريف واسمها الآن طريفة Tarifa، ويزعم الإفرنج أن كلمة Tarrif — التي تدل عندهم على الضرائب أو الرسوم التي تؤخذ على البضائع في دخولها البلاد وخروجها، أو الكتاب المتضمن بيان لائحة الأثمان — أنها تحريف «طريف»، ثم أهمل اللفظ الأول وبقي اللفظ الثاني، مع أن لفظ «تعريفة» في العربية يدل على نحو معناها الإفرنجي، فيجوز أن اللفظ الإفرنجي منقول عن لفظ تعريفة العربي أو تحريف «طريف» كما يقولون.

وأما أخماس المعادن فهي ما كانوا يضربونه على ما يستخرج من باطن الأرض من معدن أو نحوه، وهي نوعان: معادن ظاهرة، ومعادن باطنة، والمعادن الظاهرة كالكحل والملح والقار والنفط، فهذه المعادن مباحة في الشرع الإسلامي كالماء الجاري من العيون لا يجوز احتكارها، والناس فيها سواء يأخذها من ورد إليها، وأما الباطنة، فهي ما كان جوهرها مستكنًّا فيها، لا يوصل إليه إلا بالعمل كمعادن الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص، فهذه المعادن كانوا يقطعونها لأناس يستخرجون ما فيها على أن يؤدوا الخمس لبيت المال.

وغلة دار الضرب هي ما يخصص لبيت المال من دار الضرب، باعتبار شيء في المائة كما ذكرنا في كلامنا عن دار الضرب من هذا الكتاب، وقد بلغت غلة دار الضرب في عهد بني مروان بالأندلس ٢٠٠٠٠٠ دينار في السنة.

ومن الضرائب التي كانت تؤخذ في الإسلام المكوس، واحدها مكس، وهو ضريبة تضرب على أصناف التجارة من قبيل ما يعرف اليوم بالجمرك أو الفردة (الفرضة) أو نحوها، وكان المكس، أو المقس، شائعًا في الجاهلية، فكان يؤخذ من تجار القبط والفرس في المدينة عشر متاجرهم، فلما ظهر الإسلام أقره عمر بن الخطاب٢ وكانت هذه الضريبة لا تؤخذ من التاجر إلا إذا انتقل من بلاده إلى بلاد أخرى، فالشامي إذا طاف بلاد الشام كلها بتجارته لا يؤخذ منه عشر أو مكس، وأما إذا انتقل إلى مصر أو العراق فيؤخذ منه المكس، والمكس على ما فرضه عمر ثلاث درجات: يؤخذ من أهل الذمة (النصارى واليهود) نصف العشر، أي من كل عشرين درهمًا درهم، ومن المسلم ربع العشر، أي من كل ٤٠ درهمًا درهم، وليس فيما دون المائتين شيء، ويؤخذ من العربان الذين ليسوا من الرعايا العشر كاملًا، ولم يَرُجْ المكس في الإسلام، لأن أهل الورع كانوا يكرهونه، وقس على ذلك ما بقي من أنواع الضرائب.

(٨-٥) الإقطاع

ومما يلحق بالخراج أيضًا مال القطائع، والإقطاع قديم في الأول، وأصله أن الملك إذا فتح بلادًا وأراد استبقاءها واستغلالها، فرقها على قواده في مقابل حربهم وأتعابهم كأنها أجرة لهم، ويؤيد ذلك أن أصل لفظ الإقطاع في الإفرنجية معناه الأجرة، والقواد يفرقون تلك الأرض في ضباطهم، وهؤلاء يفرقونها في العساكر أو من يقوم مقامهم، ويشترط الملك على قواده عند إعطائهم هذه الهبات أن يكونوا أمناء له في الحرب والسلم، فإذا خان أحدهم ونكث رجعت الأرض إلى واهبها، وإن كان الخائن جنديًّا صغيرًا رجعت إلى ضابطه، أو كان ضابطًا رجعت إلى قائده، وهكذا حتى ترجع إلى الملك، فكان من عواقب هذا المبدأ أن تبقى الأرض في أيدي الملوك، بشروطٍ وأساليبَ وضعوها لذلك لا محل لاستيفائها هنا، وبمقتضاها يكون الملك ورعيته وجنده يدًا واحدة في الدفاع عن البلاد لاشتراك مصالحهم وتبادلها فيها، وانتشر مذهب الإقطاع في ممالك أوربا.

أما في الإسلام فالإقطاع كان على كيفية أخرى، ويؤخذ مما كتبه الإمام أبو يوسف، أن الأرض التي تقع في أيدي المسلمين وليس لها مالك يطالب بها — كالأرض التي تكون لحاكم البلاد قبل فتحها، أو تكون لرجل قتل في الحرب، أو أن تكون من مغيض ماء أو نحو ذلك — فهذه الأصناف من الأرض كان الخلفاء الراشدون يجيزون إقطاعها لمن شاءوا، على أن يؤدي عشر مالها لبيت المال أو أكثر أو أقل، على ما يتراءى للخليفة، فبلغ خراج البقاع التي دخلت تحت هذه الشروط من أرض السواد في أيام عمر ٧٠٠٠٠٠٠ درهم، وجرى على نحو ذلك من جاء بعده من الخلفاء والأمراء، فبلغت غلتها في أيام عثمان ٥٠٠٠٠٠٠٠ درهم، فلما كان عام الجماجم سنة ٨٢ﻫ في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث أحرق الديوان، فاستولى كل قوم على ما كان في أيديهم.

وكان بنو أمية وبنو العباس يقطعون الأرضين لبعض خواصهم وأهلهم، فلا يأخذون عليها خراجًا، فتؤخذ أعطيات الجند وسائر النفقات من مال الخراج، ويحمل ما فضل إلى بيت المال، والقطائع تبقى في أيدي أصحابها.

فلما خرجت السلطة من الخلفاء وأفضت إلى السلاطين السلجوقية، جعلوا الإقطاع عامًّا على يد نظام الملك، كما تقدم في الكلام عن أعطيات الجند، واقتدى به سائر السلاطين بعده وفي جملتهم الأكراد، دولة بني أيوب بمصر، فإن السلطان صلاح الدين جعل البلاد كلها إقطاعًا لأمرائه وجنده، وخصوصًا مصر، ثم تعدل الإقطاع بعد ذلك وتبدل، فصارت بعض الأرض إقطاعًا وبعضها مبيعًا وبعضها موقوفًا، ووصف المقريزي أرض مصر في أيامه (في القرن التاسع للهجرة) فقال: إنها تقسم إلى سبعة أقسام: قسم يجري في ديوان السلطان، وقسم أقطع للأمراء والأجناد، وقسم جعل وقفًا محبسًا على الجوامع والمدارس والخوانك وعلى ذراري واقفي تلك الأرض، وقسم يقال له الأحباس وهي أراضي في أيدي قوم يأكلونها عن قيامهم بمصالح مسجد أو نحوه، وقسم صار ملكًا يباع ويشرى ويورث ويوهب، لأنه مشترى من بيت المال، وقسم لا يزرع للعجز عن زراعته، وقسم لا يشمله ماء النيل فهو قفر.

والإقطاع ضربان: إقطاع استغلال، وإقطاع تمليك، وهما يختلفان باختلاف نوع الأرض من الخراب والخصب، وحالها من الحرب والصلح والفتح ورأي الخليفة في كل ذلك.

وسنفصل الكلام في مقدار جباية الدولة في أيام العباسيين، وعلاقة ذلك بثروة المملكة في كلامنا عن ثروة المملكة الإسلامية، في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

١  راجع ملاحظاتنا على هذه المساحة في باب المملكة الإسلامية وإحصائها.
٢  المقريزي ١٢١ ج٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤