الفصل السابع

من الحضارة الإسلامية إلى العلم الحديث

(١) ملامح حضارة ناهضة

بلغت البشرية عصرها الحديث ومرحلة العلم الحديث عبْر وبفضل المرحلة التي تُعرف باسم مرحلة تاريخ العلوم عند العرب في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية،١ وهي مرحلة تمتد من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الثاني عشر، لكنها في واقع الأمر تملأ الفراغ الحضاري الممتد منذ انتهاء عصر العلم السكندري في مصر إبَّان القرن الأول الميلادي، حتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة.

مرحلة تاريخ العلوم عند العرب أهم مراحل العلم القديم طُرًّا، ذروته وتاجه؛ حيث صياغة مفهوم المنهج العلمي وآلياته الإجرائية، متميزة وواضحة لأول مرة في التاريخ، كنظرية وكواقع وكممارسة، ناشئة عن النموذج المعرفي الشامل، ومتفاعلة مع الإطار الحضاري، وتتميز هذه المرحلة بوضعيةٍ خاصة للقيم وتوليد لإيجابياتٍ قيمية علمية، بفضل تفعيل حي للعوامل السوسيولوجية والثقافية.

لم يكن الأمر تنضيد إجرائيات المنهج العلمي فحسب، بل تكامُل المنهج العلمي بقيمه الإيجابية الدافعة. كانت الحضارة الإسلامية مهيأة لذلك؛ لأن عالم الشهادة، العالم التجريبي، الطبيعة، ليس مصدرًا للدنس والخطيئة، كما كان الأمر في المسيحية، بل هي في علم أصول الدين/علم الكلام «عالم»؛ أي علامة دالة على وجود الله، واحتلت الطبيعة موضعها على مسرح الحضارة الإسلامية.٢ إنها حضارة مركزها النَّص الديني الذي احتوى آيات بينات دافعة إلى النظر العقلي في الكون وفي الحياة وفي الأنفس، توجه مباشرةً صوب الطبيعة، صوب العالم التجريبي. لقد كانت دافعية الممارسة العلمية أصلًا ثاوية في آيات القرآن.
ترامت الإمبراطورية الإسلامية الناهضة التي لعبت «المدينة» فيها دورًا أكبر، وضمت مراكز الحضارات الأسبق في مصر والعراق والشام وفارس ومناطق شاسعة في أواسط آسيا. وحتى الصين التي لم يفتحها العرب ولم يطئها جندي مسلم واحد، تكفلت طرق الحرير والقوافل التجارية بنقل تراثها التقاني الزاخر إلى العرب، وأصبح في متناول أيديهم كل التراث العلمي السابق عليهم تقريبًا، في الحضارات الشرقية القديمة والتراث الإغريقي والسكندري، ليتفاعل مع تفتحهم الذهني وتسامحهم العقلي، وعوامل شتَّى في حضارتهم التي كانت دافقة، وعبقرياتها من ذوي الملل والأجناس الشتى، فتشكلت أهم مراحل العلم القديم وأنضج صياغاته وممارساته للمنهجية العلمية، وكانت حركة الترجمة والبحث تتم بمباركة السلطة وكرمها الباذخ أحيانًا. يقول ج. كراوثر: «وقفت الثقافات الإغريقية واللاتينية والهندية والصينية جميعًا بالنسبة إليهم على قَدَم المساواة، وكان من نتائج هذه العقلية المتعطشة للمعرفة عند المسلمين، أنهم أصبحوا بالفعل المؤسسين الحقيقيين لمفهوم العالمية في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية، وهي إحدى السمات بالغة الأهمية بالنسبة للعلم الحديث.»٣
لقد كان النموذج العلمي المنهجي في الحضارة العربية الإسلامية «عالميًّا بمنابعه ومصادره، عالميًّا بتطوراته وامتداداته»،٤ امتلك وسائل التأثُّر والتأثير، لغته العربية وحَّدت العلم ولم تَعُد لغة شعب أو أمة تضم شعوبًا ولغات، بل هي لغة المعارف العقلية، كأول لغة علمية عالمية.
حمل النموذج الإسلامي للبشرية درسًا ثمينًا في فضائل النزعة الإنسانية، والتكامل والتفتح والتسامح المعرفي، وهي قيم أساسية للمنهج العلمي كمنهج بحث. في العلم الغربي الحديث انفصل المنهج انفصالًا بائنًا عن القيم والأخلاق، وفي العقود الأخيرة ألحت «أخلاقيات العلم»٥ والبحث العلمي، وباتت في صدر الأولويات، بينما تميَّز منهج البحث العلمي في الإطار الإسلامي، بأنه تأتَّى في إطار توجُّه أخلاقي مثالي عام، ولم ينفصل العلم عن القيمة.

•••

لم يكن للعرب قبل الإسلام باع في العلوم الرياضية والتجريبية، إنها ليست كالشِّعر بل كالفلسفة؛ أي نتيجة لمعلولٍ مستحدَث هو الثورة الثقافية العظمى، التي أحدثها الإسلام، ثم تعاظمت بفعل العوامل السوسيولوجية؛ فشهدت الرياضيات والعلوم في الحضارة الإسلامية، المرحلتين التاريخيتين اللتين مرت بهما الإنجازات المستحدَثة للعقلانية العربية؛ أي مرحلة الترجمة والنقل، ومرحلة الإسهام والإبداع، ولم تكونا مرحلتين منفصلتين متعاقبتين آليًّا، بل — بالأحرى — قوَّتين علميتين متفاعلتين، فيما سُمي جدلية البحث والترجمة.

في الترجمة مثَّل النموذج الإسلامي درسًا منهجيًّا في التفاعل الخلاق المبدع حين نقل المشترك الإنساني العام، الترحيب بالعلم استحسانًا للحق حيثما كان أو — كما يقول الكندي — «من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية والأمم المباينة». لم يبدأ رفض الآخر مثل رفض بعض الأصوليين للمنطق واعتبار العلم دخيلًا، إلا في فترات الانهيار تحت وطأة غزو الآخر وسقوط بغداد العام ٦٥٦ﻫ. وفي طلب الحق دأب الإسلاميون على ترجمة النص الواحد المهم مرة واثنتين وثلاثًا، تنقيحًا وتجويدًا وتطويرًا لمفردات اللغة العلمية. المترجمون الأوائل هم الذين قاموا ببناء اللغة العلمية العربية. كانت الترجمة إلى العربية تتقصى نقل أكثر الأبحاث تقدُّمًا في ذلك العصر، وكما يقول رشدي راشد، وهو الحجة في تاريخ الرياضيات الوسيطة، لم يكن هذا «نقل نسخ وتقليد واستيعاب، لكنه كان نقل إصلاح وتجديد، أدَّى إلى خلق فكر علمي وفلسفي مبتكر»، كانت أسسه العقائدية واللغوية والفقهية والكلامية والفلسفية والتاريخية قد ترسَّخت. سرعان ما أصبحت الترجمة مهنة علمية ومؤسسة شهدت المترجم الهاوي والمترجم المحترف والمترجم-العالم، ثم العالم-المترجم، إنها «جدلية البحث والترجمة»؛ فكان ثمَّة ترجمة مرافقة للبحث وفي عين حقله، والترجمة التي لحقت بالبحث مع مثول مسافة زمنية بينهما، وتنتهي إلى دمج النص المترجَم في تقليد مختلف عن مجاله الأساسي، مثل ترجمة «كتاب المسائل لديوفانطس السكندري» بمصطلحات الخوارزمي الجبرية. بدأ التخصص وزاد عدد المتخصصين، مما أدَّى إلى تكوين مجتمع من العلماء والمثقفين، في حاجةٍ إلى معارفَ جديدة في الفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك وعلوم الهندسة والزراعة، ترافق مع هذا توحيد وتعريب وأسلمة الإمبراطورية وأجهزتها الإدارية، منذ عصر الخليفة هشام بن عبد الملك الذي قام بتعريب الديوان، وصك العملة العربية بدلًا من العملة اليونانية. ولَّدت متطلبات إدارة السلطة وظائفَ الكاتب والمحتسب وغيرهما التي تتطلب ثقافة عامة. تزايد الطلب على علوم الأوائل، وتزايدت الحاجة إلى الترجمة.٦

وقد دفع هذا الواقع الموار إلى ترجمة النصوص المعرفية النخبوبة، وأيضًا إلى ترجمة ما يتصل بالجوانب التطبيقية والتقانية أو فروع الهندسة العملية والتقنيات الزراعية، فأينعت في الحضارة الإسلامية علوم رياضية وتطبيقية من قبيل علم المساحة، وعلم الحِيَل المتحركة، وعلم جر الأثقال، وعلم الأوزان والموازين، وعلم الآلات الجزئية، وعلم المناظر والمرايا، وعلم نقل المياه، وعلوم تجريبية كعلوم الطب والجراحة والصيدلة والبيطرة والزراعة.

(٢) في الرياضيات

تظل الرياضيات أعلى مدارج العقل العلمي الممنهج وأرقى أشكال التفكير المنهجي الممنطق، والمدخل الحق للطرح المنهجي العلمي. وقد لعب العرب دورًا كبيرًا في تاريخ الرياضيات ومسارات تطورها، وعلى مفترق الطرق بين الحساب والجبر وبين الجبر والهندسة. أخذ العرب بتصنيف الإغريق للمباحث الرياضية، فانقسمت الرياضيات العربية إلى أربعةِ علومٍ أساسية هي: الحساب، والهندسة والفلك (علم الهيئة)، والموسيقى، وتتفرع فروعًا عدة، ويُعَد الجبر — إنجاز الرياضيات العربية الأعظم — امتدادًا أو فرعًا للحساب.

ولم يكن إسهام العرب فصلًا مثيرًا في قصة العلم الرياضي فحسب، بل أيضًا في فلسفة الرياضيات، كما يوضِّح مثلًا بحثهم العلاقة بين التصوُّر والبرهنة من خلال مفهوم اللامتناهي في الصغر في إطار هندسة المخروطات.٧

بدأت قصة الرياضيات العربية حين أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بترجمة «السدهانات» أي «مقالة الأفلاك» التي عرفها العرب باسم «السندهند»، وهي موسوعة هندية في الحساب والفلك والتنجيم، وتتألف من جزأين، أحدهما عن الأزياج؛ أي سير الكواكب التي نستخرج منها جداول التقاويم، والآخر عن الوسائل الحسابية لهذه الجداول، حملها إلى بغداد عام ١٥٣ﻫ/٧٧٠م العالم الهندي كنكه، فترجمها إلى العربية يعقوب بن طارق (ت٧٩٦م)، وإبراهيم بن حبيب الفزاري المنجِّم (ت٧٧٧م). كانت «السدهانات» أو «السندهند» فاتحة الاتصال بالرياضيات الهندية، التي كانت بدورها العلة المباشرة لنشأة الرياضيات العربية، تنامت فيما بعدُ عن طريق الاتصال المباشر بالحضارة الهندية، خصوصًا على يد اثنين من أكبر الرياضيين العرب هما الخوارزمي والبيروني، كلاهما أتقن اللغة السنسكريتية وزار الهند.

لم تشفِ «السندهند» غليل العقلية العربية الناهضة المتشوفة آنذاك، فأمر جعفر البرمكي بترجمة كتاب إقليدس «أصول الهندسة» ليكون أول ما تُرجم من كتب اليونان، وأيضًا البوابة العظمى التي دخل منها العقل العربي الإسلامي إلى عالم الهندسة، وإلى تفكير الحجة البرهاني وإلى الاستدلال الاستنباطي الرياضياتي، مأثرة الإغريق العظمى.

اهتم الإسلاميون بالرياضيات أكثر من سواها من مباحث العلوم العقلية، وانشغلوا بموقعها في النسق المعرفي، وضعها الكندي (١٨٤–٢٥٠ﻫ) — أول الفلاسفة الإسلاميين — كمدخل للعلوم، فتسبقها جميعًا، حتى المنطق ذاته يأتي بعد الرياضيات، وجعلها جسرًا للفلسفة، وللكندي رسالة في أنه «لا تُنال الفلسفة إلا بالرياضيات»، وله من الكتب والرسائل أحد عشر في الحساب، وثلاثة وعشرون في الهندسة، فضلًا عن تسعة عشر في النجوم. وإذا كان ابن سينا (٣٧٠–٤٢٨ﻫ) — الشيخ الرئيس — يضع المنطق في المدخل ثم الطبيعيات، وبعدها تأتي الرياضيات وأخيرًا الإلهيات، فهذا يعكس مسار العقل وتدرُّج خطاه؛ فقد اهتم بالرياضيات أكثر من الكندي، وصنَّف علومها إلى علوم الرياضة الرئيسية، وهي العدد والهندسة والهيئة (الفلك) والموسيقى، ويتشعَّب عنها علوم الرياضة الفرعية؛ فعن العدد يتفرع الجمع والتفريق والحساب الهندي وعلم الجبر والمقابلة، وعن الهندسة تتفرغ علوم الهندسة العملية التقانية، أما علم الهيئة فيتفرغ عنه علم الأزياج والتقاويم، ومن فروع علم الموسيقى اتخاذ الآلات الغريبة. ونلاحظ في هذا تكامل العلم النظري والعلم التطبيقي، سَلَّم التراث الإسلامي بالعلوم الرياضية، بوصفها مبرهنات يقينية، لا بد أن تحتل موقعها في بنية العقل، وحتى الإمام الغزالي حين صبَّ جامَّ غضبه على العقلانية وعلوم العقل، استثنى الرياضيات وقال إن أعظم جناية على الإسلام الظن بأنه ينكر الرياضيات، فظلت الرياضيات دائمًا «لا معنى لإنكارها ولا للمخالفة فيها»٨ بتعبير الغزالي.
أدَّى اهتمام الإسلاميين بالرياضيات وإعلاء شأنها إلى تناميها على أيديهم، تناميًا يصعب تفسيره فقط بهذه النظرة الداخلية للنسق المعرفي، لتقوم الجوانب السوسيولوجية بدورها، إنها جوانب من قبيل اهتمام العرب وأسلافهم العتيق بالتجارة وحساب الأنصبة والأرباح في البضائع والبيوع، ثم نظام المواريث الإسلامي المعقَّد، بعض مؤرخي العلم أمثال جوان فرنيه Juan Vernet، يرون القرآن نقطة البدء في الرياضيات العربية بسبب هذا النظام. وثمَّة أيضًا تعاظم جحافل الجيوش الجرارة وتوزيع رواتبها وغنائمها وحساب نفقاتها، ثم الرخاء الاقتصادي والتراكم المالي، الذي تلا تكوين الإمبراطورية الإسلامية، ومشكلات حساب أنظمة الجزية والخراج والضرائب والزكاة، هذا فضلًا عن مشكلات عمليات المساحة وتقسيم الأراضي وتشييد المدن.

وكان تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينية، يدفع الإسلاميين إلى اهتمامٍ مكثَّف بالفلك (الهيئة)، خصوصًا وأن البيئة الصحراوية دفعتهم إلى الاعتماد على التقويم القمري بصعوباته في تحديد التواريخ سلفًا، وفي الوقت نفسه اهتموا بالتقويم الشمسي في الأمصار الزراعية، التي دانت لهم من أجل تحديد أوقات جباية الجزية والضرائب والزكاة وفقًا لمواسم الحصاد، والمحصلة أن استطاع العرب تطوير علم حساب المثلثات، وتصنيع آلات فلكية لتعيين المواقيت والاتجاهات، وكانت من أدوات اكتشاف الأمريكتين وإثبات كروية الأرض.

وتظل المأثرة الكبرى للرياضيات هي تأسيس علم الجبر في «الكتاب المختصر في الجبر والمقابلة»، الذي وضعه محمد بن موسى الخوارزمي، فيما بين عامي ٨١٣–٨٣٣م؛ أي في عهد الخليفة المأمون، و«لأول مرة في التاريخ صيغت كلمة «جبر»، وظهرت تحت عنوان يُدل به على علمٍ، لم تتأكد استقلاليته بالاسم الذي خُصَّ به فقط، بل ترسخ كذلك مع تصور لمفرداتٍ تقنية جديدة مُعدة للدلالة على الأشياء والعمليات».٩ ويحتفظ «الجبر» حتى الآن باسمه العربي في اللغات الشتى، منذ أن ترجم روبرت أوف شستر كتاب الخوارزمي في عام ١٢٤٥م ناقلًا المصطلح العربي كما هو إلى اللغة الأوروبية؛ لأنه ليس له مقابل عرفوه من قبل.
بطبيعة الحال تباشير الجبر كائنة منذ الحضارات البابلية والهندية القديمة وعند الإغريق، جميعها مجرد إرهاصات، وأهمها كتاب «المسائل العددية» لديوفانطس السكندري، وهو أول رياضياتي يعترف بالكسور كالأعداد، وأول مَن تناول المعادلات البسيطة من الدرجة الأولى، ومعادلات الدرجة الثانية ومعادلات من رتبةٍ أعلى، على أن أسلوبه كان غير فعال وطرقه غير دقيقة؛ فلم يكن إلا مبشرًا.١٠ أما «الجبر والمقابلة» فيلقي أسس العلم بصورةٍ منهجية ناضجة قابلة للنماء، يعرض المنهج المنظم لحل معادلات الدرجة الثانية وسواها، الجبر يتعلق بمعالجة المعادلات بحيث يستبعد منها العدد السالب، بينما تمثِّل المقابلة طريقة لتبسيط المعادلات عن طريق جمع أو طرح كميات متساوية. أطلق الخوارزمي على الكمية المجهولة اسم «الجذر»، إشارة إلى جذر النبات الذي عادة ما يكون مختفيًا تحت الأرض، وأطلق على مربع الجذر اسم «المال». انطوى جبر الخوارزمي على جدةٍ حقيقية، وإبداع أصيل في المنهج لا يتعلق بأي تقليد حسابي سابق عليه، لا شرقي ولا غربي، فقطع شوطًا يفصله كثيرًا عن ديوفانطس، ويحق له القول إن كل ما يتعلق بالجبر «لا بد أن يخرجك إلى أحد الأبواب الستة، التي وضعتها في كتابي هذا.»١١
لم يتوانَ المعاصرون للخوارزمي والتالون له، عن شرح وتفسير كتابه، خصوصًا أبا كامل شجاع بن أسلم الذي أضاف فصلًا، وثابت ابن قرة، ومنصور بن عراق الجيلي، وأبا الوفا البوزجاني، وسنان بن الفتح الصيداني … وسواهم. شهد الجبر قفزةً تالية مع عمر الخيام، الذي وضع قواعد لحل ثلاث فئات من معادلات الدرجة الثالثة وفئة من معادلات الدرجة الرابعة، وتدافعت أفواج الرياضيين العرب منذ القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري، و«راحوا يطبِّقون الجبر على الحساب، والحساب على الجبر، وكليهما على حساب المثلثات، وكذلك طبَّقوا الجبر على نظرية الأعداد لإقليدس، وعلى الهندسة، كما طبَّقوا الهندسة على الجبر. وضعت هذه التطبيقات أسس فروع أو على الأقل مباحث جديدة»،١٢ لم ترد من قبلُ للإغريق أو لسواهم، تغيَّرت معها الرياضيات في لغتها وتقنياتها ومعاييرها، واتسع أفقها.
لم يكن تأسيس علم الجبر مجرَّد إضافة علم إلى العلوم، بل تأسيسًا لمنهجيةٍ متكاملة ونموذج ثوري بكل معنًى قصده توماس كون في فلسفته للثورات العلمية. من حيث تكامل هذا النموذج مع الإطار المعرفي، بيَّن رشدي راشد في تحقيقه لكتاب الخوارزمي، ما تَدين به نشأة هذا العلم الجديد إلى علم اللغة وإلى حساب الفرائض في الفقه الحنفي، بخلاف العوامل السوسيولوجية التي أشرنا إليها. ومن حيث تاريخ تطور المنهجية العلمية، حدث ميلاد عقلانية علمية جديدة جبرية وتجريبية، لم تنتقل إلى العلم الحديث فحسب بل ميَّزته تمييزًا، «تأسست في الفترة بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر، على يد علماء عاشوا في بقاعٍ متباعدة، من إسبانيا المسلِمة حتى الصين، وكتبوا جميعًا باللغة العربية».١٣ كان الجبر هو النواة العقلية لتلك الحداثة،١٤ أتاح نشأة استراتيجيات ذهنية جديدة تأدت للعقلانية الجديدة، التي كانت مقدمةً شرطية لما سُمِّي بعقلانية العلم الحديث.

•••

ظهر كتاب الجبر والمقابلة في نفس وقت ظهور ترجمة كتاب «الأصول لإقليدس»، الصرح الأعظم للهندسة. كان الحجاج ابن يوسف قد ترجم بعض أجزائه من اللغة السريانية إلى العربية، وعلى مدار عهدي هارون الرشيد والمأمون وما تلاهما، عمل على ترجمة أجزاء كتاب الأصول ومراجعة الترجمات وتنقيحها، كوكبة من ألمع المترجمين الرياضيين. وفتح الأصول شهية العرب للرياضيات البرهانية، بمنهجها الاستنباطي المنتج خصوصًا في عصرها الذهبي — العصر السكندري — فتوالت دفعة واحدة ترجمة العديد من أمهات هذا التراث، ولعل أهمها كتاب أبلونيوس (١٩٠–٢٦٠ق.م تقريبًا) «القطوع المخروطية»، الذي تُرجم إلى العربية في عصر المأمون تحت اسم «المخروطات». ولأن أصول إقليدس معنية بهندسة المسطحات، فإن اقتحام عالم المجسمات والقطوع المخروطية كان مرحلةً جديدة، ارتقى إليها المنهج الرياضي والعقل الهندسي في الحضارة الإسلامية، وأسدى إليها وأبدع فيها. وكشأن «الأصول» نجد كوكبةً من المترجمين الرياضيين في الحضارة الإسلامية، ومن أجيالٍ متعاقبة توالت على ترجمة كتاب «المخروطات» لأبلونيوس، ومراجعة الترجمات وتنقيحها، وأيضًا كشأن «الأصول» قلَّ أن يمر رياضياتي عربي، بغير أن يصنِّف رسالة في «المخروطات».

على مفترق الطرق بين الحساب والجبر، تقدَّمت الرياضيات العربية بنشأة علم الجبر وتأسيسه تأسيسًا. وعلى مفترق الطرق بين الجبر والهندسة، صانت للبشرية هذا السِّفر الثمين «القطوع المخروطية لأبلونيوس»، والذي يقف كعاملٍ جوهري لنشأة الهندسة التحليلية في القرن السابع عشر مع فرما وديكارت. تقدِّم الهندسة التحليلية طرقًا أعمق من طريقة أبلونيوس، وتوضِّح وحدة القطوع المخروطية بطريقةٍ أبسط؛ إذ تمثِّلها بمعادلاتٍ من الدرجة الثانية بمجهولين، فلا يُعَد كتاب أبلونيوس أو شروحه من لدن نصير الدين الطوسي وإبراهيم بن سنان والحسن بن الهيثم مجدية في الوقت الحاضر، بيد أن هذا الكتاب يحتفظ بدورٍ خطير في تاريخ الرياضيات وتطوُّر مساراتها.١٥

(٣) في ترييض الفيزياء

إذا كان أخطر أسرار نجاح العلم الحديث التآزر بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب، فإن أخطر ما في الرياضيات العربية، أنها أبانت عن ضرورة تأسيس علاقات جديدة بينها وبين الفيزياء، كمكونٍ منهجي من مكونات البرهان، فيما يشي بتآزر قطبي المنهج العلمي. وهذا ما أثبتته دراسات لرشدي راشد أهمها «علم المناظر والرياضيات» (١٩٩٢م)، و«الهندسة وعلم انكسار الضوء في القرن العاشر: ابن سهل، القوهي، ابن الهيثم» (١٩٩٦م)، و«بين الرياضيات والمناظر – من علم الانكسار إلى الهندسة: ابن سهل، ابن الهيثم، ديكارت» (٢٠١١م). أوضح راشد أن الحسن بن الهيثم (ت٤٣٠ﻫ) أول عالم يرفض اعتبار المفاهيم وحدها كافية لمعرفة الأشياء المادية، ورأى أن إمكانية معرفتها الحقيقية تكمن في رياضياتها، فيتجلى دوره الخطير في إعلان الترافق بين الرياضيات والفيزياء.

كان التجريب لا يزال مفهومًا مبهمًا إلى حدٍّ ما، مثلما كان مع فرنسيس بيكون مثلًا. اتخذ التجريب المسترشد بالرياضيات عند ابن الهيثم، فحوى مختلفًا تمامًا عن مجرد الرصد، أو حتى القياسات الفلكية والتكميميات المعتادة. تعددت معاني التجريب ووظائفه عنده، بقدْر تعدُّد العلاقات بين الرياضيات والفيزياء، وهو يؤسس لتلك العلاقات بمناهج متباينة، لم يعالجها كموضوعٍ قائم بذاته، إلا أنها منبثة في أعماله، فاستطاع رشدي راشد تقنينها وتحليلها.

المساهمة الأساسية لابن الهيثم في مجال البصريات هي علم المناظر الهندسي. لقد انشغل بإصلاح علم البصريات ومراجعة مجالاته المختلفة: المناظر والظواهر الضوئية وانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها، والمرايا المحرقة وعلم البصريات الفيزيائي، ثم الجوانب والسيكولوجية والفيزيولوجية للبصريات، مستخدمًا الأساليب الهندسية والتجريب في كل المجالات. أنهى التقليد القديم مع إقليدس وبطليموس؛ حيث كانت الرؤية هي إضاءة الشيء المرئي، فلا فرق بين شروط الرؤية وشروط انتشار الضوء، أما ابن الهيثم فقد وضع تمييزًا قاطعًا بين فيزياء الضوء وبين فيزيولوجيا وسيكولوجيا الإبصار؛ الإبصار يخضع لقوانين الضوء وليس العكس.

يحمل علم الانكسار أو دراسة الأشعة المنكسرة، أمضى تطبيق للرياضيات على الفيزياء، الذي اتخذ عند ابن الهيثم «مناحي مختلفة تتفق ونضوج المفاهيم في كل فرعٍ من فروع العلم، التي عالجها في عمله الضخم من جهة، كما يتوقف على إمكانية إخضاع الظاهرة إلى التجربة من جهةٍ أخرى».١٦ من هذه المناحي ما هو متعلِّق بتماثل البنيات، كما هو عليه الأمر في المناظر الهندسية بعد إصلاحها من قِبلِه. وثمَّة منحًى آخر هو تطبيق الرياضيات بواسطة علم آخر وُضع على شكلٍ رياضي «استخدام ترسيمة ميكانيكية في دراسة المناظر على سبيل المثال».١٧ في علم البصريات الفيزيائي علاقة مع الرياضيات، عن طريق التماثل بين الرسومات الهندسية لحركة جسم ثقيل والرسومات الهندسية للانعكاس والانكسار، وتأدت رؤية ابن الهيثم إلى نوعٍ آخر من التجريب المسترشد بالرياضيات، مارسه كمال الدين الفارسي (ت ٧١٠ﻫ)، «حيث تنحو العلاقة بين الرياضيات والفيزياء نحو بناء نموذج، بحيث يُختزل الضوء داخل وسط طبيعي — عن طريق الهندسة — إلى انتشاره داخل أداة مصنوعة، مما يعني أننا بصدد تعريف تناظر رياضي تمثيلي بين الطبيعي والأداة المصنوعة؛ مثال ذلك الكرة المملوءة بالماء لدراسة القوس قزح. ووظيفة التجريب هنا هي التعبير عن الشروط الفيزيائية لظاهرةٍ ليس لدينا طريقة أخرى لدراستها مباشرة.»١٨ تكمن حداثة مشروع ابن الهيثم في هذه الأشكال من التجريب المُتريِّض — إن جاز التعبير، كانت آليات ضبط ومستويات وجود لمفاهيم إدراكية. هذا فضلًا عن استهدافه الحصول على نتائج كمية، وابتدع من أجل ذلك أجهزة وتدابير معقدة. لقد أرسى ابن الهيثم دعائم اعتبار التجريب جزءًا لا يتجزأ من البرهان الرياضي في الفيزياء، «والتسلسل الذي يبدأ بابن الهيثم ليصل إلى كبلر وغيره من علماء القرن السابع عشر ثابت؛ لهذا كانت المعرفة بالعلم العربي ضرورية حتى نتفهم الحداثة الكلاسيكية.»١٩
أتى ابن الهيثم في مرحلةٍ كانت الحضارة الإسلامية فيها قد قطعت شوطًا، فاستقطب نضج المنهج العلمي فيها، وخلاف سر الأسرار أي الترييض، يمكن استخراج جواهر منهجية أخرى من لدنه، على رأسها رفض سلطة الكتابات القديمة، فيقول إن «طالب الحق ليس هو الناظر في كتب الأقدمين، المسترسل مع طبعه بحسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم.» ورأيناه يطيح بالرؤية القديمة لإقليدس وبطليموس. وثمَّة إرساء قواعد الشك المنهجي والنزاهة، وقاعدة النقد والتفنيد التي هي جوهر رؤية كارل بوبر. وقد استخرج ماهر عبد القادر من كتابات ابن الهيثم تحذيرًا من أوهامٍ مفضية إلى فساد البحث العلمي — كأوهام بيكون — وهي أوهام الرؤية وأوهام الاعتقاد وأوهام الظن.٢٠

(٤) في العلوم التجريبية

تواتر عطاء التجريبيين الذين أطلق عليهم علماء الكلام اسم «الطبائعيين»؛ لأنهم يبحثون في طبائع الطبيعة. ثمَّة أسبقية زمانية لجابر بن حيان، جاء في القرن الثاني الهجري، ليكون في طليعتهم، إمامًا للكيمياء أو السيمياء القديمة، حتى سُمِّيت «علم جابر»، خرجت من أعطافه كيمياء العرب وكيمياء العصور الوسطى. وقال برتيلو: إن جابر له في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق؛ أي إنه أسَّسها تأسيسًا. علَّم العلماء منهجية العمل الدءوب في قلب المعمل حين البحث في العلم الطبيعي، على أساس أن الدربة؛ أي التجربة، هي أم الصنائع، وكمنهجية علمية منتجة معرفيًّا فإنها بدورها تحتاج إلى التحصيل العلمي، فيقول جابر صراحةً: «إياك أن تجرِّب أو تعمل حتى تعلم»، «ثم تقصد لتجرِّب فيكون في التجربة كمال العالم.»٢١ إنه تكامل التحصيل العلمي والتجريب كمنهجيةٍ علمية ناضجة. وقد بحث جابر أشكال الاستدلال التجريبي: المجانسة ومجرى العادة والآثار.٢٢
وفي سياق البحوث التجريبية لن ينتهي الحديث بشأن الإنجازات المعروفة للعمل العربي في الطب والجراحة مع أمثال: الرازي، وابن سينا، وابن النفيس، وأستاذه مهذب الدين الدحوار … والبيطرة والصيدلة والنبات … إلخ. وهل يفوتنا ذكر البيروني (٣٦٢–٤٤٠ﻫ) الذي قال عنه المستشرق الألماني إدوارد ساخاو بعد أن حقَّق بعض أعماله، إنه أعلم علماء العصور الوسطى طُرًّا، ومن أعظم العقليات التي شهدها التاريخ، ذكرناه كرياضياتي، وقد كان أيضًا مهندسًا وفلكيًّا وعالمًا طبيعيًّا، ومنشغلًا بالعلوم الإنسانية وتحديدًا الجغرافيا وعلم الأديان المقارن.٢٣ وبصدد الإنسانيات والعلوم الاجتماعية يبدو ابن خلدون في غير حاجةٍ للذكر.
كانت قد تكاملت في الحضارة العربية موسوعة للعلوم، مختلفة تمامًا عن الموسوعة الإغريقية الأسبق، عرض الفارابي في كتابه الشهير «إحصاء العلوم» لمعالمها، وبذل البعض جهودًا لتوضيح أنها كانت تمهيدًا لا غنَى عنه لتصنيفات المحدثين.٢٤

(٥) النقلة إلى العلم الحديث

وكما هو معروف عملت الحضارة الأوروبية في العصر المدرسي وعصر النهضة، على نقل وترجمة الحصيلة العلمية العربية في الرياضيات وفي العلوم وفي الطب والجراحة. انتقلت أدبيات العلم العربي، أسفاره المؤلَّفة والمترجمة، من عواصم الحضارة الإسلامية في بغداد ودمشق والقاهرة عن طريق التجار والرحالة. على أن العامل المستجد الحاسم كان العائدين من الحملات الصليبية حاملين الأسفار العلمية. واستفادت أوروبا كثيرًا من مواطن التواصل المباشر مع الحضارة الإسلامية في حوض المتوسط مثل صقلية وسواها. وبطبيعة الحال قامت الأندلس التي مكث العرب فيها ثمانية قرون بدورٍ خاص، اضطلعت طليطلة بترجمة أعمال ابن سينا في أواخر العصر المدرسي، وكانت جامعة بولونيا أول جامعة تتخذ كتابه «القانون في الطب» كتابًا تعليميًّا، وفي أواخر عصر النهضة كان القانون يمثِّل نصف المقررات الطبية في الجامعات الفرنسية.

في هذه المرحلة كانت قد استقامت السينوية اللاتينية والرشدية اللاتينية، بمعنى مثول أعمال ابن سينا وابن رشد كقوةٍ دافعة للحركة الفكرية في أوروبا. يتمثل تأثير ابن سينا في الراهب روجرز بيكون (١٢١٤–١٢٩٤م)، الذي تميَّز بنزعةٍ علمية تجريبية قوية لم يستسغها تمامًا الوسط المدرسي في أوروبا. أما الرشدية بما تعنيه من عقلانيةٍ وانتصار للتفكير البرهاني، فقد كثُر الحديث عنها كعامل قوي من عوامل النهضة والحداثة في أوروبا.

في تاريخ العلم مثَّلت قرطبة مركزًا من أهم مراكز العلم العربي في الأندلس، وكانت تعج بمدارس الرياضيات العربية، التي سهل انتقالها إلى أوروبا على يد المستعربين. يتقدم إدلارد الباثي الذي أتقن اللغة العربية ودرس في قرطبة، وترجم «أصول الهندسة» لإقليدس قرابة عام ١١٢٠م من العربية إلى اللاتينية، وظلت هذه الترجمة تُدرَّس في مدارس أوروبا حتى عام ١٥٨٣م، حين تم اكتشاف الأصل اليوناني.٢٥ أما السِّفر الهندسي الثمين الآخر؛ أي القطوع المخروطية لأبولونيوس، فقد فُقد الأصل الإغريقي تمامًا، ولم يبقَ للبشرية وللنهضة الأوروبية الحديثة إلا الترجمة العربية، انتقلت إلى أوروبا واستفاد منها يوهانس كبلر عام ١٦٠٩م، وطبَّقها في الميكانيكا السماوية، التي أحرزت معه ثورةً تقدمية، طبعًا بخلاف ترجمات جبر الخوارزمي. وتوالت ترجمات العلوم التجريبية، خصوصًا أعمال الحسن بن الهيثم، الذي عُرف في أوروبا باسم الهازن، ومن قبله جابر بن حيان وسواهما. وحظيت كتب الطب والجراحة مع ابن سينا والرازي والزهراوي … باهتمامٍ خاص، في ترجماتها وفي تدريسها بجامعات أوروبا في عصر النهضة وحتى مشارف العصر الحديث.

•••

هكذا يمثِّل الرصيد العلمي العربي، الذي تسارعت عمليات نقل أدبياته المترجَمة والمؤلَّفة إلى اللغة اللاتينية منذ القرن الثاني عشر، أهم المقدمات التي تمخَّضت عن ثورة العلم الحديث في أوروبا.

وفي ذخائر هذا الرصيد، ثمَّة واقعة محددة لا بد أن توقف بإزائها، على أساس أن العلم الحديث يبدأ كوزمولوجيًّا وإبستمولوجيًّا بكتاب كوبرنيقوس «دوران الكرات السماوية» (١٥٤٣م)، هذا الكتاب حمل صياغةً رياضية لنظرية أرسطارخوس القائلة بمركزية الشمس، بدلًا من نظرية بطليموس القائلة بمركزية الأرض التي كانت سائدة. سادت النظرية البطلمية طوال العصور الوسطى، وعن طريق إزاحتها والأخذ بمركزية الشمس استقام تصوُّر الكون، مجمل العالم الفيزيقي لتبدأ ملحمة العلم الحديث على أسسٍ أمتن. الواقعة المحدَّدة المقصودة تتعلَّق بالخروج من أطر البطلمية، لتؤكد بشكلٍ مباشر كيف كان البحث العلمي عند العرب مفضيًا إلى مرحلة العلم الحديث، وقد أسرف توبي هف T. E. Huff في التعويل عليها وتأكيدها، وهو يحاول تفسير بزوغ فجر العلم الحديث.
إنها واقعةٌ خاصة بمرصد «مراغة» الكائنة الآن في حدود إيران، استطاع العاملون فيه، خصوصًا إبَّان القرنين الثالث عشر والرابع عشر، التوصُّل إلى ابتكار أول نظامٍ فلكي غير بطلمي، منهم: الأزدي (ت١٢٦١م)، والطوسي (ت١٢٧٩م)، وقطب الدين الشيرازي (ت١٢٧٩م)، وأههم جميعًا ابن الشاطر (ت١٣٧٥م). ويؤكد توبي هف تأكيدًا مشددًا، أن ابن الشاطر بالذات هو الذي مهَّد لكوبرنيقوس، وعلى تفاصيل التناظر بين نماذج كوبرنيقوس ونماذج مرصد مراغة، بحيث ينتهي إلى أن السؤال الذي بحثه نفرٌ من مؤرخي العلم الحديث ليس عما إذا كان، وإنما متى وأين تعلَّم كوبرنيقوس نظرية مراغة؟ وقد كان دبلوماسيًّا كثير التجوال والاطلاع على ما لدى الآخرين. يقول توبي هف:
وشدَّ ما هو ذو دلالة خطيرة فعلًا، أن العلماء العرب المسلمين هم الذين مهَّدوا الطريق المفضي إلى الثورة العلمية في أوروبا. لقد عمل العرب على تطوير ومناقشة جوانب عديدة للمنهج التجريبي، وتخطيط كيفية التسلح بها، ليس هذا فحسب، بل أيضًا طوَّروا الأدوات الضرورية للوصول إلى أرقى مستويات الفلك الرياضي، علاوةً على هذا، فإن العمل الذي اضطلع به مرصد مراغة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، قد بلغ ذروته في عمل ابن الشاطر، وتمخَّض عن تطوير نماذج كوكبية جديدة للكون، كثيرًا ما تُوصَف بأنها باكورة النماذج اللابطلمية على طول الطريق المفضي إلى العلم الحديث، وهي ما اتخذه كوبرنيقوس فيما بعد، لم يكن ينقصها العامل الرياضي، أو أي عوامل علمية أخرى، العامل الوحيد المفتقد في هذه النماذج هو أن ترسو على فرض مركزية الشمس، وكان الفشل في الإقدام على هذه الوثبة الميتافيزيقية، من كونٍ مركزه الأرض إلى كونٍ مركزه الشمس، هي التي حالت بين العرب وبين إحداث النقلة من العالم المغلق إلى الكون المفتوح.٢٦

وكان كوبرنيقوس هو الذي أقدم على هذه الوثبة، فكانت النقلة الكبرى وبداية نسق العلم الحديث والعصر الحديث في أوروبا، وأحدثت هذه القارة العجوز أبرز قفزة معرفية في تاريخها، وفي تاريخ العالم بأسره.

•••

في استطلاع أبعاد هذه القفزة المعرفية أو النقلة إلى العلم الحديث، رأينا كيف شهدت العصور الوسطى الحضارة الإسلامية، وهي تخوض ملحمتها مع العلم الرياضي والتجريبي، من حيث كانت حضارة متصالحة مع الطبيعة. وتبقى الإشارة إلى أن الطبيعة كانت آنذاك تعاني إقصاءً وتهميشًا في الحضارة الغربية.

وعلى مسرح الأحداث في الحضارة الأوروبية نعود إلى الوراء، لنجد أصولها الإغريقية قد دأبت على تحقير العمل وتمجيد النظر، حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار، المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمُّل والصداقة! وهذا ما جسَّده بمنطقه الذي يُعَد القياس ثمرته. القياس الأرسطي منهج استنباط النتائج الجزئية من المقدمات الكلية المطروحة، اعتمادًا على قوانين العقل والمنطق فقط، دون التجاء للواقع أو التجريب. وفي العصور الوسطى المدرسية بدا للسلطة الكنسية أن هذا ملائم للتعامل مع الكتب المقدسة؛ فهي زاخرة بحقائق مُسلَّم بصحتها، لنتوصل إلى النتائج الضرورية لها بواسطة القياس. أصبح منطق أرسطو وقياسه منهج البحث المعتمَد في العصور الوسطى، وسُمِّي هذا المنطق «الأورجانون» Organon أي الأداة، أداة التفكير وآلة الاستدلال والبحث.

وكما يقول توب هف، حتى بدايات القرن السابع عشر كانت الهيئات الجامعية، تفرض غرامة على خريجيها وأساتذتها قدرها خمسة شلنات، مقابل كل نقطة افتراق عن أرسطو أو عدم التزام بمنطقه. وإذا أضفنا إلى هذا دأب المسيحية على التحقير من شأن المادة، واعتبارها أصلًا لكل شر وخطيئة، بل وتأثيم الانشغال بها؛ أي تنافر عقائدها اللاهوتية مع الطبيعة، تبيَّن لنا أن سيادة المنهج الأرسطي قد أكَّدها في أوروبا طوال العصور الوسطى، أن السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها لم يكن ملحًّا، ولم يكن ثمَّة دواعٍ قوية للحث على استكشافها، وتكاتف هذا مع عوامل عديدة، جعلت العصور الوسطى الأوروبية ينقشع عنها نور العلم والبحث العلمي.

ثم كانت الكشوف الجغرافية التي أخبرت إنسان عصر النهضة في نهايات القرن الخامس عشر، أن العالم الطبيعي أوسع كثيرًا مما تصوَّر أرسطو، ومن كل ما تضمنته الصحائف وكتُب الأقدمين التي كانت تقف عند مضيق جبل طارق غربًا، وما بعده بحر الظلمات وخط الاستواء جنوبًا، فضلًا عن أن الكوبرنيقية أدَّت إلى تصويب النظرة الفلكية ليبدو الكون الطبيعي بأسره هو الآخر أوسع كثيرًا. بدت الطبيعة عالمًا مثيرًا يغري بالكشف واقتحام المجهول. ومع نهايات القرن السادس عشر كان السؤال عن الطبيعة قد ارتفع إلى الصدارة، وأوشك أن يكون سؤال العصر الذي تنشغل به العقول.

وسرعان ما توالت المتغيرات على الأصعدة كافة، الصعيد الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتجاري … وظهرت المطبعة وبدأت المخترعات والماكينات تغيِّر من وجه الحياة، وراحت العقول الواعدة تتلمَّس الجديد من كشوف العالم الطبيعي. طغى الإحساس بعقم وإجداب المنطق الأرسطي وقياساته، وما يتسم به القياس من دوران منطقي ومصادرة على المطلوب وتحصيلٍ لحاصل. غير أن ما عابه على الخصوص، هو أنه أسهم مع الأناجيل في إقصاء العقول عن التفكير في الطبيعة بسببٍ من مجافاته للواقع؛ إذ إنه منطق لتناول قضايا مطروحة في الصحائف والأوراق، وكانت الثورة على قياس أرسطو ومنطقه بمثابة الإعلان الصريح عن رفض الماضي، والرغبة في الإقبال بمجامع النفس على الآفاق الجديدة للعصر الجديد، واستكشاف الطبيعة، هذا العالم النابض الذي امتد وترامت آفاقه أمام إنسان العصر الحديث.

أصبح الهم الفلسفي الأول صياغة منهج حديث يلائم الروح الحديثة، ويلبي المتطلبات المعرفية المستجدَّة للعصر الحديث، وفي الطليعة يتقدم ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م) الرائد، ليمثل العلامة الفارقة وانتهاء المدرسية وفلسفة العصور الوسطى، راح يؤسس الفلسفة الحديثة وهو يستلهم وضوح الرياضيات، ويقينها في محاولة لتأسيس المبادئ العامة للمعرفة بأسرها؛ أيضًا أسَّس الهندسة التحليلية، وقام بدور في تطوير علم الطبيعة الحديث. وإذا أخذنا في الاعتبار أن قوة منهج العلم في تآزر التجريب مع الرياضيات، أمكن القول إن ديكارت الذي انطلق من أهمية الرياضيات وخصائص التفكير الرياضي، إنما يشارك في إرساء الأصول المنهجية للعلم الحديث.

على أن رفع لواء المنهج التجريبي تعبيرًا عن روح العصر الحديث ومهمته وواجباته وطموحاته وعن معالم الحداثة ذاتها، إنما هو مقام محفوظ للفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون F. Bacon (١٥٦١–١٦٢٦م) الذي يوازي الفيلسوف الفرنسي ديكارت في الأهمية، حين طرح قضية المنهج والحداثة، ولا يوازيه أحد حين طرح قضية المنهج التجريبي والعلم الحديث.

لقد اقتحمت أوروبا آفاق الحداثة، وتربَّع المنهج العلمي على عرش العرفان، ومنذ ذلك الحين فصاعدًا ترسَّخ نهائيًّا أن كل وأي حديث عن الحداثة والتحديث، مقترن بالضرورة بتمكينٍ وتفعيلٍ لمفهوم المنهج العلمي.

١  الحضارة العربية هي سويداء وأرومة الحضارة الإسلامية، والحضارة الإسلامية آفاق للحضارة العربية، والمتفق عليه أن مصطلح «تاريخ العلوم عند العرب» أو «تاريخ العلوم العربية» أفضل من مصطلح «العلوم الإسلامية»، حتى لا تختلط العلوم الرياضية والتجريبية التي هي مجال المنهج العلمي بالعلوم الإسلامية النقلية كالفقه والتفسير والسيرة … وما إليه.
٢  إنها القضية التي عُولجت معالجة تفصيلية ومستجدة في كتابنا: «الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل»، صدر في أكثر من طبعة، انظر خصوصًا فصليه الثالث والرابع.
٣  ج. ج. كراوثر، «قصة العلم»، ترجمة د. يمنى الخولي وبدوي عبد الفتاح، ص٥٧.
٤  د. رشدي راشد، «دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها»، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب، العدد ١٢، بيروت، ٢٠١١م، ص٣٦.
٥  انظر: ديفيد رزنيك، «أخلاقيات العلم»، ترجمة د. عبد المنعم عبد اللطيف، مراجعة وتقديم د. يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، يونيو، ٢٠٠٥م.
٦  د. رشدي راشد، «دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها»، ص٦٨–٧٥، ص٩٨ وما بعدها، ومواضع متفرقة. العبارات الواردة بين علامتي تنصيص، مأخوذة من مواضع شتَّى في هذه الصفحات الثمينة.
٧  يمنى الخولي، «في الرياضيات وفلسفتها عند العرب»، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٤م، وهذا العمل ترجمة عن الإنجليزية وتقديم ودراسة لنص الدكتور رشدي راشد بعنوان: «القابلية للتصوُّر والقابلية للتخيُّل والقابلية للإثبات في التفكير البرهاني: السجزي وابن ميمون في القضية ١٤ الكتاب الثاني، من كتاب أبوللونيوس (القطوع المخروطية)». وتنص هذه القضية على أن الخطوط المقاربة والقطع الزائد يقتربان من بعضهما أبدًا دون أن يلتقيا، مما يعني اقترابًا بمقادير لا متناهية في الصغر.
وهذا فيضٌ من غمرٍ يكشف عنه الجهد الدءوب للعلامة رشدي راشد في تاريخ الرياضيات العربية.
٨  أبو حامد الغزالي، «معيار العلم»، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، ط٢، ١٩٦٩م، ص٣١.
٩  د. رشدي راشد، «تاريخ الرياضيات العربية: بين الجبر والحساب»، ترجمة د. حسين زين الدين، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب (١)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ١٩٨٩م، ص٧.
١٠  توبياز دانزج، «العدد لغة العلم»، ترجمة د. أحمد أبو العباس، مكتبة مصر، القاهرة، بدون تاريخ، ص٨٢.
١١  نقلًا عن: رشدي راشد، «تاريخ الرياضيات العربية»، ص٢٧.
١٢  د. رشدي راشد، «دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها»، ص٥٣.
١٣  المرجع السابق، ص٦٤.
١٤  السابق، ص٦٠.
١٥  انظر مقدمة الترجمة العربية د. يمنى الخولي، في «الرياضيات وفلسفتها عند العرب»، م. س، ص٣١–٦٧.
١٦  د. رشدي راشد، «دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها»، ص٣٠٦.
١٧  المرجع نفسه والصفحة نفسها.
١٨  السابق، ص٦٣.
١٩  المرجع نفسه والصفحة نفسها.
٢٠  د. ماهر عبد القادر محمد علي، «المنهج العلمي عند علماء العرب: محاولة في الفهم»، ندوة الثقافة والعلوم، دبي، ١٩٩٥م، ص٧٢–٩٠.
٢١  جابر بن حيان، في: «كتاب التجريد»، تحقيق هولميارد، نقلًا عن: د. جلال محمد عبد الحميد موسى، «منهج البحث العلمي عند العرب: في مجال العلوم الطبيعية والكونية»، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ١٩٧٢م، ص١٢٦.
٢٢  د. يمنى طريف الخولي، «بحوث في تاريخ العلوم عند العرب»، دار الثقافة، القاهرة، ١٩٩٨م، ص٧٣–١٢٧؛ حيث دراسة للمنهج عند جابر تستند إلى نصوصه التي جمعها وحقَّقها المستشرق بول كراوس إبَّان عمله في جامعة القاهرة حين كانت جامعة فؤاد الأول. ولا يفوتنا التنويه إلى كتاب «جابر بن حيان» في سلسلة أعلام العرب الشهيرة الذي أخرجه أستاذ الجيل الدكتور زكي نجيب محمود.
٢٣  يمنى الخولي، «بحوث في تاريخ العلوم عند العرب»، ص١٣١–١٩٩.
٢٤  د. جلال موسى، «منهج البحث العلمي عند العرب»، ص٥٥ وما بعدها.
٢٥  في تفاصيل هذا انظر: د. يمنى طريف الخولي، «إدلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة»، في: مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، العدد ٥٣، مارس ١٩٩٢م، ص٢٤٧–٢٦٥.
٢٦  T. E. Huff, The Rise of Early Modern Science: Islam China and the West, (1993), Cambridge University Press, 1999, P. 237.
ولأن هذا الكتاب الذي قدَّم دراسة حضارية مقارنة لظاهرة العلم كتاب بالغ الأهمية، فقد أخرجت له سلسلة عالم المعرفة المرموقة ترجمتين، بهدف أن تكون الثانية أوضح من الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤