الموضوع التائه

جاء من «النادي الأسنى» وفدٌ كبيرٌ يدعوني إلى إلقاء خطبة في الحفلة السنوية، فخاطبتُ الوفد قائلة:

أيها السادة العلماء والأعيان والفضلاء

أنتم تمثلون في أشخاصكم المحترمة جميع مراتب المدعوِّين. ولما كنتُ طامعة في رضاكم ورضى الجمهور لئلا يضيع الوقت سدًى، ونكون عرضة للانتقاد، فأنا أطلب إليكم أن تتفق كلمتكم على موضوع أخاطب الناس به، فأقبل دعوتكم بارتياح.

فقال أحد الأعضاء: «حبذا الاقتراح الحصيف! أما ونحن عند حركة نسائية نبتغي أن تتناول نساءنا وبناتنا، فأحرِ بك أن تتكلمي في ترقية المرأة عن طريق العلم والتهذيب؛ لأنها، وهي دعامة العائلة، إنما عليها تقوم عظمة الأمة وسلامة العمران.»

فقال آخر: «عفوك سيدي، كل موضوع غير هذا حسن. أما إذا ذاكرتنا بهذا الشأن فقد ينسحب المدعوون واحدًا بعد الآخر، كما سبق أني فعلتُ وبعض أصحابي يوم قامت سيدة تلوك أمامنا ما سئمنا سماعه، حتى صرنا نحسب أنها مردِّدة أسطوانة فارغة تحوك الألفاظ ولا تعي. فلتحدِّثنا إذن خطيبة الغد عن الحركة العمرانية الكبرى، وروح العصر العامة؛ فذلك أنسب وأنفع.»

فقال ثالث: «أنُزعج ابنتنا بتهيئة ما قد نلمُّ به من مطالعة الصحف السيارة وإنباء البرق والبريد؟ نريد أن ننشط النساء ونبث فيهن حب الرقي والعرفان، كما نريد تحويل الرجال عن القهاوي، وموائد المقامرة، وحانات الرقص. فلتتكلم إذن في موضوع علمي فلسفي يشحذ القرائح، ويغذي النفوس.»

فقال آخر: «سينعقد الاجتماع بعد طعام العشاء؛ أي ساعة لا يكون هناك متسع «للتغذية»، ويكون «الشحذ» في غير أوانه. وما نفع كلام لا يفهمه سوى النفر القليل فتزهق أرواح الآخرين، فيحسبون الخطيبة متقعرة، ويمقتون في جهلهم وتخلُّفهم العِلمَ للنساء؟ ألا فلتلقي علينا بحثًا فيما مارسته أخواتها دوامًا حتى في العصور المظلمة؛ كالموسيقى والرقص والغناء، فيجيء كلامها سائغًا مُلطِّفًا بعد عمل النهار الشاقِّ، ولا تغلق معانيه على أحد.»

فاعترض آخر قائلًا: «أتريد لتتسلَّى أنت وترتاح أن تجعلها هدفًا لتبجُّح السخفاء الذين سيقولون: بدلًا من أن تلقي علينا دروسًا نظرية في الرقص والغناء، فالأوفق أن ترينا منهما الدرس العملي طارحة عنها عناء العلم والبحث والتنقيب.» قلت: «إذن إنه خير لنا ولها أن تعمد إلى عادة من عاداتنا الشائنة فتُحكم تمحيصها وإظهار أضرارها، مشيرة إلى عادة أخرى يحسن الجري عليها، فنخرج من تلك الحفلة متفاهمين مستفيدين.»

فقال آخر: «إذا طلبنا الوعظ والإرشاد واحتجنا إلى التهذيب والتقويم، فعندنا الكاهن في الكنيسة والخطيب في المسجد. أما ونحن في تطوُّر قوميٍّ كبير، فلتلفتنا إلى ما نفتقر إليه من المشروعات الزراعية والآلية والاقتصادية العائدة على البلاد بالثروة والفرج، فتحثنا على تأييده، ويكون لقولها تأثير عظيم.»

فتأفف آخر قائلًا: «ولكنك تخلط، يا صاحبي، بين احتفالات الأندية وبين أحزاب الإصلاح ولجان التقرير. ليس قصدُنا سنَّ قوانين جديدة للبلاد، وتعديل ميزانيتها، وإلقاء الدروس على ولاة الأمور، وإبدال برامج التعليم بسواها. إن نحن إلا أعضاء نادٍ اجتماعي من رجال ونساء يحيون ليلة أنس وطرب، فأرى أن تترجم مقالًا أو قصيدة عن كاتب أو شاعر غربي؛ لأن الغربيين سبقونا إلى الابتكار الذهني، فتُتحفنا بأفكار جديدة نبتهج لها بلا إجهاد.»

فصاح آخر قائلًا: «فلتسقط الترجمة إلى الحضيض، وليهبط التعريب إلى قعر الهاوية! حرام على من كان ذكيًّا أن يفني وقته في عمل جدير بمعشر الببغاوات البشرية. أما ونحن في هذا الاجتماع شرقيون لا أجنبي بيننا؛ فلتتكلم إذن، ولتتكلم بحماسة عن وجوب تعلق القوم بلغتهم؛ ليفهم المتفرنجون كم هم ضالون وخليقون بالسخرية والاحتقار!»

فقال آخر: «وما ذنب النادي إليك، يا عزيزي، لتقترح اقتراحًا يعود عليه بالتداعي؟ إن جلَّ الأعضاء متفرنجون ومتفرنجات؛ أتريد أن يسخط هؤلاء تاركين قاعاتنا بلاقع؟ دعِ الناس يتكلمون بما شاءوا من لغات أنزلها الله. أما خطيبتنا فلتصدق جنسها النسائي في حكاية غرامية تصفُ فيها بعض طبقات الناس، وبعض عادات البلدان، وتشرح عواطف المرأة ونزعاتها المتنافرة؛ فالرواية اليوم، مسهبة كانت أم موجزة، غدت آلة فريدة لنشر الآراء التاريخية، والنظريات العلمية والفلسفية، فضلًا عن وصف أحوال الشعوب، وتسيير الإصلاح الاجتماعي والديني في وجهة معينة.»

فقال آخر: «لا أرى الرواية مناسبة لهذا الموقف، ولا يجعل للرواية هذه الأهمية إلا ذوو الأذهان الكليلة الذين يأنفون الأبحاث الجادة مجردة من الأوهام والتلفيق، بل فلترمِ هي إلى الإفادة المباشرة وتحدِّثنا بما نُكبره في فتاة؛ كالطبيعيات والفلك، فأنا لا أحتمل من الكُتَّاب والخطباء إلا الذين تنالني منهم فائدة علمية ما.»

فقال آخر: «وهل الإفادة محصورة في العلوم الطبيعية والرياضية؟ وهل هي قائمة في التلقين الأبله كما يلقِّن المعلم صغار المتعلمين؟ أرى أن الكاتب الأمثل هو الذي لا يتصور نفسه فوق الآخرين علمًا وذكاءً، بل يسترسل في أبحاثه واثقًا من أن الجميع يفهمونه، ولكلٍّ منهم أن يحتضن من آرائه الخاصة ما يتفق مع ميوله وحاجاته. هذا هو الكاتب الفنان الذي أعزُّه وأحبُّه وأهوى مجالسته عند صفحات الأوراق؛ لأنه يعرف كيف يثير مني الشجون والرغبات، وكيف يفتح أمامي جديد الآفاق. أما الذي يُنصِّبُ نفسه معلمًا لي، فهو الجاهل المركب، هو الدعيُّ المغرور الذي ألقي على تنطُّعه وتفيُّقه نظرة واحدة لأزداد وثوقًا مما أعلمه، وهو أنه يخيفني من ماء غيره، وأنه ليس عنده أكثر مما يعطيني متعاظمًا …»

فتنهد آخر قائلًا: «ربَّاه! هل جفَّت مناهل العواطف في قلوب الناس حتى صاروا لا همَّ لهم سوى العلوم والأبحاث؟ ألا فلتُسمِعْنا قصيدة منها منظومة أو منثورة، فهي شاعرة قبل كل شيء، ونحن في حاجة إلى أجنحة المثل الأعلى تساعدنا على النهوض من حمأة المادة لنعيش، ولو لحظة، في أبدية الجمال.»

فاحتجَّ قومٌ على الشعر المنظوم والمنثور قائلين إنه آفة هذا الجيل، وانبرى آخرون يدافعون عنهُ قائلين إنه سلوى الحياة ووحيها ورونقها، واشتبك الفريقان في المناقشة والجدال.

فاختليتُ أنا بنفسي أبحثُ عن الموضوع، فوجدتُ فيَّ أخلاطًا نفيسة من معارف ومدركات وقدرات كانت وستظلُّ دوامًا إرث بني الإنسان؛ فهناك الأبحاث الفلسفية والتاريخية، وهناك الاكتشافات والاختراعات، وهناك الآداب واللغات، وهناك العلوم الطبيعية والرياضية، وهناك المذاهب اللاهوتية والباطنية، وهناك الفنون الجملية على اختلافها، وهناك الروايات والأشعار، وعلوم البيان، ووصف الأسفار، وهناك الموضوعات الخفيفة الرشيقة المفكهة، والأخرى الوجيعة الرثائية المحزنة. وعلى مقربة منها أساليب النقد، واقتراحات الإصلاح، وخرائط المشروعات المتنوعة.

وبينا جلبة وفد النادي تصطخب حولي، جعلتُ أنا أخلق لذاتي الجماهير المتعددة — كما تمثل أحيانًا رواية مصغرة خلال تمثيل الرواية الكبيرة — وصرتُ أخطب في كل جمهور بما يحبُّ ويتطلب، فاقتضب الكلام هنا، وهناك أطيلُه. أتكلم مرة بتحمُّس الشاعر، وبتدقيق الباحث أخرى. حينًا بصرامة العلم الطبيعي، وحينًا بسيطرة الفكر الفلسفي. هنا بعذوبة الحب وأنينه، وهناك بقسوة الإصلاح واستئثاره.

خلقتُ لذاتي الجماهير لا لأعلم بل لأتعلم، لا لأفيد بل لأستفيد، لا لأوقف الآخرين على أسرارهم وممكناتهم، بل لأهتدي إلى أسراري وممكناتي. تكلمتُ ودرستُ وكتبتُ وخطبتُ لأهذب نفسي وأدللها، لأُعزيها وأُنميها. فعلتُ ذلك لأطير ونفسي فوق الشواهق، ونحسو ماء الغدران، ونكتنه غور الأعماق، ونمتصَّ عصير الأزهار، فأعيش وإيَّاها تلك الحياة الداخلية الرائعة التي يُشرَفُ منها وحدها على بدائع الكون.

وما زلتُ أفعل ذلك والناس يتناقشون في أي الموضوعات أنسب وأنفع، وفي أي الموضوعات عليَّ أن أعالج!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤