غضب يمحو غضبًا

كانت صلتي بحضرة صاحبة العصمة حرم المغفور له محمد باشا شكري مدير الدقهلية في ذلك الوقت قويةً متينةً كما قدمت؛ فكنت أزورها دون تكليف، وأدخل عليها بدون استئذان، ولكني مع هذا كنت أحتاط لسمعتي، فلا أرفع التكليف في منزل المدير إلا إذا كان هو غائبًا عنه، وقد عرف خدم المنزل مكانتي من صداقة سيدتهم؛ فكانوا يرحبون بي عندما أزور المنزل، وحدث أني ذهبت إلى منزل المدير، ومعي كالعادة ساعي المدرسة، وعندما نزلت من العربة التي أقلتني إليه، سألت البواب عن السيدة، فقال لي بسذاجة: إنها خرجت يا سيدتي، ولكن سعادة المدير يجلس وحده في السلاملك فتفضلي بالدخول عنده. وساءتني هذه الكلمة البسيطة إذ إنها قد تشعر ساعي المدرسة أني اعتدت أن أزور المدير في منزله منفردًا عند غياب زوجته.

ساءتني تلك الكلمة البسيطة؛ لأن الناس في ذلك الوقت كانوا يسيئون الظن بجميع المتعلمات، شأن عامة الناس بكل جديد، غضبت من بواب المدير غضبًا كاد يدفعني أن أخاطبه بغير الكلام لو أن ذلك كان من عادتي، وقلت له في حدة متناهية: ومن الذي سألك عن المدير أيها الحمار؟ وهل من عادتي أنا أني أزوره، أو أسأل عنه؟ الحق أنك غبي بليد. قلت ذلك وعدت مسرعةً إلى العربة التي أقلتني إلى منزلي في الحال، وسمع سعادة المغفور له تلك الألفاظ، فساءه أن يبدو من ألفاظي الشك في سمعته، وهو الأبِيُّ المعصوم، فغضب وأخذ يقول إن نبوية قد خرجت عن حدود الأدب في ألفاظها، وشاء حسن الحظ أن تعود السيدة حرمه، وهو يعتب علي، ويستنكر ما قلته فساءها أن يشتمني كما زعمت، واشتبكت معه في نقاش عنيف كاد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وأخذت تقول له: إنك غربتني عن بلادي، وأنت مع هذا تكره كل صديقة تدخل بيتي، وتخفف من ألم غربتي، وإني ألاحظ على نبوية أنها تشعر بكراهتك لها إلى درجة أنها تترك المنزل عندما تعود أنت إليه. اشتد بينهما الجدل والخصام، وكانت هي الغالبة شأن كل السيدات، وطلب هو الصلح فلم يفلح، فأراد أن يوسطني في الأمر فاستدعاني تليفونيًّا بعد أن أخبرني أن السيدة قد عادت، فحضرت في الحال، فوجدته يقطع بهو المنزل ذهابًا وجيئةً، وهو في حالة غضب، فلما وقع بصره عليَّ أشار إلى الغرفة التي كانت تجلس فيها حرمه، وقال: انظري كيف كنتِ سببًا فيما بيني وبينها من خلاف. فلم أجبه، ولكني دخلت عليها مسرعةً، وما كادت تراني حتى زاد غضبها وقالت: إنه أراد أن يبلغك هذه القصة حتى ينفرك من زيارتي. قلت: كلا يا سيدتي، إني إنما أحضر هنا لزيارتك لا لزيارته، ولا يهمني أغضب هو عليَّ أم رضي، ولكن اسمحي لي أن أقول لك إنك ظالمة في غضبك منه؛ لأنه شتمني داخل منزله بعد أن أسأت أنا إليه على مسمع من الخدم، وعلى قارعة الطريق، إني أنا المخطئة لا هو. فزال غضبها من كلامي، وتم بينهما الصلح.

كانت هذه الحادثة سببًا في إفلاتي من عقاب محقق أراده جناب المستر دانلوب مستشار وزارة المعارف، وهكذا أراد الله أن يكون السوء سببًا في الخير؛ فقد كتبت مقالةً في إحدى الصحف أنتقد فيها بعض أخطاء الرؤساء، وكنت أقصد الرؤساء المصريين طبعًا، ولكن أحد خصومي أفهم دار المندوب السامي أن المقصود بالرؤساء في تلك المقالة هم الإنجليز، واتصلت دار المندوب السامي بجناب المرحوم المستر دانلوب، وطلبت منه أن يطلب فصلي من وظيفتي بما له من إشراف على مدارس مجالس المديريات، وأسرع المستر دانلوب إلى تلبية ذلك الطلب عندما عرف أن سببه هو طعني على الإنجليز، فزاد ذلك ما كان في نفسه من الشك في منافستي للإنجليز، وكراهيتي لهم، وحضر خصيصًا إلى المنصورة يطلب من المغفور له محمد باشا شكري تنفيذ تلك المهمة؛ أي فصلي في الحال، وكان ذلك بعد الحادثة التي ذكرتها بيوم واحد، فحار في أمره، وتأكد أن حضرة صاحبة العصمة حرمه لا يمكن أن تصدق تلك الرواية، بل إنها ستتأكد من أن الفصل إنما بني على غضبه مني، وأن الحادث سيكون وقعه شديدًا على نفسها خصوصًا إذا اتهمته هو شخصيًّا بتدبيره.

احتار الرجل في أمره، وفكر في حضرة صاحب الرفعة محمد باشا محمود لقربه من صداقة الإنجليز، واستطاعته التفاهم معهم، وكان في ذلك الوقت محافظًا للقنال، فسافر في الحال إليه، وطلب منه أن يبحث في دار المندوب السامي عن سبب غضب الإنجليز عليَّ لعله يجد حلًّا لذلك، وذهب صاحب الرفعة محمد باشا محمود فعرض عليه المقال، فترجمه لهم ترجمةً حقيقيةً، وأفهمهم أن المقصود بذلك المقال رئيس مصري، فكتبت دار المندوب السامي إلى المستر دانلوب تقول له إن الترجمة خطأ، وإنه لا معنى لتنفيذ العقاب، وفي الحال خاطب المستر دانلوب شكري باشا تليفونيًّا، وطلب منه أن يصرف النظر عن مسألة الفصل، وما كاد المغفور له يعلم هذا حتى قص القصة على حرمه بعد أن أخفاها عنها كل تلك المدة، ومن غرائب الأحلام أني حلمت أن إنجليزيًّا لا أعرفه دنا مني وقبلني، فساءني ذلك منه، واعتبرته إهانةً عظيمةً، أخذت أبكي وأنتحب من أجلها، وأخيرًا اعتذر إليَّ الإنجليزي قائلًا إنه أخطأ، وما كان يريدني بذلك، فزال ألمي عند اعتذاره، وشعرت بشيء عظيم من الراحة، وفي اليوم التالي زرت صديقتي حرم المدير فرويت لها الحلم، وقلت: إني أخشى أن تنزل بي كارثة، ثم تزول، ولست أدري ما نوع الكارثة. قالت: لا تخشي شيئًا، فإن الكارثة قد وقعت وقد زالت، ثم قصت عليَّ قصة المستر دانلوب، وما فعله المغفور له زوجها لإنقاذي.

وهكذا شعرت نفسي بشيء لم أكن أعلمه، ولعل للأحلام علاقة بما تشعر به الروح الداخلية للإنسان من إحساس غامض؛ فهي قد تشعر بما يحيط بها، بينما يجهله الإنسان نفسه في يقظته، ويخيل إليَّ أن الإنسان قد يرى في أحلامه الأشياء التي حدثت بالفعل وعرفها غيره؛ لأن الروح قد تشعر بما يحيط بها من الحوادث التي وقعت فعلًا، أما الغيب أي الحوادث التي لم تقع، ولم يعلمها أحد فأستبعد أن يراها الإنسان في أحلامه، وإن كنت أنا شخصيًّا قد حلمت مرةً حلمًا خشيت أن يفسر بوفاة المرحوم شقيقي، وقد كان ما خشيته وتحقق الحلم بعد أربع سنوات، ولست أدري أكان ذلك لحبي الشديد له، وخوفي عليه فحلمت ذلك الحلم، ثم شاءت الصدف السيئة أن يتحقق؟ أم أن هناك أسبابًا أخرى لمثل تلك الأحلام قد نجهلها الآن، وقد يكشف العلم في المستقبل عن حقيقتها؟ على أني أعترف أن جميع الأحلام التي رأيتها وتحققت، كانت كلها وقائع صحيحةً حدثت وعرفها غيري يوم رأيتها أنا في منامي، اللهم إلا هذا الحلم الوحيد الذي رأيت فيه المرحوم شقيقي يهوي إلى حفرة عميقة، فيحدث صوتًا مفجعًا عظيمًا أيقظني من نومي وأنا أردد كلمة «أخي»، وبعد ذلك بأربع سنوات ذقت تلك الفاجعة، ولكني لم أتكلم بل تحدثت دموعي كثيرًا فأنابت عن الكلام، وهي — وَايْمُ الحقِّ — أبلغ ما يقال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤