انتقام

أخذ المدير ينتقم مني، وأخذت أنا الأخرى أبحث في وسائل لأنتقم بها لنفسي؛ فكانت من أهم وسائله إفهام الإنجليز أني وطنية محبوبة، وأني أكره الإنجليز، وأعمل ضدهم، ولم أكن أتجه إلى وجهة نظره هذه؛ لأني كنت أجهل ما يدس لي عند الإنجليز.

وكان امتحان الكفاءة للمعلمات، وامتحان الابتدائية يقامان في مدرستي، وكان يسبق الامتحانين امتحان عملي للتدبير المنزلي، وكنا نخلي محال المطبخ والمائدة وغيرهما لإجراء الامتحان العملي للتدبير المنزلي، وكانت هذه الأشياء في أعلى دور من المدرسة، وكنت أعلم شدة ميل المدير إلى التدخل في كل شيء يتعلق بالسيدات، فعلمت من هذا أنه سيدخل الامتحان العملي، وأردت أن أقطع عليه الطريق فيما يريد، فكتبت إلى المستر دانلوب خطابًا أقول له فيه: إن وزارة المعارف هي المسئولة عن نظام الامتحانات، وعن المخالفات للآداب التي يجوز أن تقع فيها ما دامت هي القائمة بتلك الامتحانات العامة، وإني أعلم أن المدير شديد الرغبة في أن يتدخل في كل شيء، وأنه سيحضر حتمًا لامتحان العملي، والطالبات في ذلك الامتحان يلبسن ملابس قصيرة تكشف عن سيقانهن كما تكشف عن سواعدهن، بل إن أكمامهن ترفع إلى ما فوق الساعد، وإن دخول رجل بينهن وهن على تلك الحالة يخالف الآداب الشرقية الواجب رعايتها في البلاد، والتي يجب عليك أنت أن تحافظ عليها، فإذا دخل المدير لجنة الامتحان العملي كنت أنت هدفًا للوم الذي سينصب على تلك التصرفات المستهجنة في نظر الناس.

وصله الخطاب، واهتم به، ونبه على رئيسة اللجنة أن تغلق عليها باب الدور الذي سيقوم فيه الامتحان، وأن لا تسمح لرجل بالدخول مهما كانت درجته، وكانت رئيسة اللجنة سيدةً إنجليزيةً، فحضرت، وكان أول ما طلبته أن يعمل لباب الدور رتاج، ودخلت وأغلقته عليها وعلى الطالبات، وطردت جميع الخادمات فنزلن إلى الدور الأرضي، وجلسن فيه، وكان جلوسهن خلف الباب الخارجي أي أمام مكتبي، وتحقق ما تخيلته، وحضر المدير، وطرق الباب، وكنت قد أمرت الخادمات أن لا يفتحن للمدير الباب إلا بعد أن يستأذن مني، وطرق المدير الباب بشدة، وقال للخادمة: افتحي أنا المدير. وذهبت إحداهن تستأذن مني، وتضايق المدير، وطرق الباب مرةً أخرى ثم ثالثة، والخادمة تجيب بأنها لا تستطيع أن تفتح الباب إلا بعد أن تأذن الناظرة، وأن إحدى زميلاتها ذهبت لتستحضر ذلك الإذن، واشتد المدير في لهجته، وقال: أنا مدير البلد. وقالت الخادمة: وأنا مالي يا سيدي.

وأخيرًا قالت له: لا تغضب، وسأذهب أنا بنفسي. وجاءتني الخادمة الثانية فأمرتها أن تحضر لي كوبًا من الماء قبل أن تفتح له الباب، وكانت هذه بالطبع كل الوسائل التي أستطيع أن أنتقم بها لنفسي.

فتحت الخادمة الباب بعد أن وقف خارجه نصف ساعة ودخل، وكنت واقفةً على باب مكتبي، وقد أمرت الخادمات أن لا يرشدنه إلى شيء، ومن ترشده سترفت في الحال، ودخل المدير ووقف أمامهن، وقال لأقربهن منه: أين لجنة الامتحان؟ قالت: لجنة؟ لجنة إيه يا سيدي، ودي تبقى إيه؟ قال: ألم تحضر هنا سيدة أجنبية، فأين هي؟ قالت: سيدة أجنبية! واش عرفني أنا؟ وسأل الثانية فلم تفده بأكثر من هذا، فتركهن وذهب، وبدلًا من أن يصعد إلى السلم الموصل إلى الدور الأعلى ذهب إلى الجهة الثانية التي مر بها المراحيض، وبعد أن زارها بالطبع عاد إلى مكانه الأول، وسأل السؤال الأول بشدة، وقلت أنا للخادمة التي كان يخاطبها في أول الأمر: خذي ده يا فلانة — مشيرةً إلى المدير — وديه اللجنة، وهنا عرفت الخادمة معنى كلمة اللجنة التي كانت تتجاهلها، وذهبت أمامه وتبعها، وهو في غضب، فلما وصل إلى الدور الثالث طرق الباب ففتحت له رئيسة اللجنة بنفسها لترى من الطارق، وقالت: من أنت؟ قال: أنا المدير. قالت: إني آسفة لأني لا أستطيع الخروج إليك ولا إدخالك عندي. وأغلقت الباب، ونظرت الخادمة إليه في شيء من الدهشة، وقد ذهل هو وخجل من موقفه، فقالت له: يا عيني يا سيدي طردتك؟! ولم يجب هو بشيء، ولكنه أسرع بالنزول قفزًا، فكان يقفز كل ثلاث درجات دفعةً واحدةً، ومر بالخادمات اللائي كن بالفناء والخادمة تجري وراءه، ولما خرج هو يجري، وفتح الباب الخارجي، وكان جمهور من الناس مجتمعًا عند الباب في انتظار بناتهم فسمعوا الخادمة، وهي تقول: مسكين والنبي، صعب علي لما طردته. فظن الناس أن التي طردته هي نبوية موسى، وانتشر الخبر في مدينة المنصورة، وأخذ الناس يتساءلون كيف استطاعت أن تطرده وأن تبقى؟ وكثرت الحكايات والأقاويل، وكلها تنصب على موقف المدير المخجل من ناظرة المدرسة الظافرة المنتصرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤