تهمة كاذبة

كان لسوء حظي في ذلك الوقت أن انتشرت إشاعة تشير إلى أن الإنجليز ضدي، مع أني لم أكن أشتغل بالسياسة إطلاقًا، بل لم أكن — علم الله — أكره الإنجليز، ولكن هكذا شاء أعدائي أن يُفْهِموا الإنجليز غير الحقيقة، والإنجليزي إذا فهم شيئًا، واستقر في رأسه لا يتنازل عنه مهما كانت الظروف، ومهما ظهرت له الحقائق، فهم في ذلك يتمثلون بقول الشاعر:

ما الحب إلا للحبيب الأول

فالرأي الأول له عندهم المكانة الأولى مهما كان خاطئًا، وكل ما عداه خطأ لا يأبهون به.

لهذا كان مركزي حرجًا، وأخذ كثير من الموظفين يتحينون الفرص لإسقاطي بعضهم لكراهتهم لي، وهم قليلون، والبعض الآخر مجاملةً للإنجليز جريًا وراء تلك الإشاعة الكاذبة، وفي ذلك الوقت تولى المغفور له السلطان حسين الحكم، وأخذ يزور المدارس، وكان عظمته عصبي المزاج جريئًا يقول ما يريد، فكان المستر دانلوب مستشار المعارف يخشاه.

فلما جاء دور مدرسة معلمات بولاق، وحُدد موعد زيارة عظمة السلطان لها، أخذ المستر دانلوب بنفسه يتردد على المدرسة ليتأكد من أن كل ما فيها يرضي عظمة السلطان، وقد زار الفصول جميعها، فلما دخل فصلي، وكنت أدرس «التربية العلمية»، رأى في سواد ملبسي ما يثبت عليَّ تهمة عدم رضائي بالحكم الحاضر، وقد كنت في شبابي المعلمة الوحيدة التي ترتدي ملابس سوداء، وكنت أفعل ذلك محافظةً على الحشمة والكمال، فقال لي: يجب أن تغيري ملابسك هذه. قلت: وما السبب الذي يدعوني إلى ذلك؟ قال: إن حضرة صاحب العظمة السلطان سيتأكد من ملابسك هذه أنك ضد الحكومة الحاضرة، وأنك تشايعين الخديوي السابق. قلت: لم أتصل عمري بسمو الخديوي ولا بحاشيته، وقد كنت ألبس ملابسي السوداء وسموه في الحكم. قال: ولكن عظمة السلطان لا يعلم ذلك. قلت: ولكن جنابك تعلمه، وأظن أن من الواجب أن تطلعه على الحقيقة. قال: ليس هذا من شأني، ولكني أقول لكِ إنك إذا لم تغيري ملابسك فلا تلومن إلا نفسك، وسينفيك السلطان إلى مالطة، ولا يستطيع أحد أن يعارضه في ذلك. قلت: أَأُنْفَى لأني ألبس ملابسي التي اعتدت أن ألبسها طول حياتي؟ قال: نعم سيكون ذلك، وأنتِ وحدك المسئولة عنه. قلت: لست آسفة يا مستر دانلوب، فإن بلدًا تنفي الناس لا لسبب سوى أنهم يلبسون ملابسهم لا يأسف الإنسان على الخروج منها لا إلى مالطة فحسب، بل إلى جهنم إن شاء الله؛ لأني لا أظن أن في جهنم يعاقَب الناس على ملابسهم.

قال: إذن أنت تصرين على لبس ملابسك هذه أمام عظمة السلطان؟ قلت: نعم، وأمنعك منعًا باتًّا أن تحدثني في أشياء شخصية لا علاقة لها بالعمل، فأنتم الإنجليز تعرفون مقدار الحرية الشخصية، ولا تسمحون لأحد أن ينتقد شخصيات غيره؛ ولهذا فإن لك أن تنتقد أعمالي، أما ملابسي فلست أسمح لك بالكلام فيها. قال: إذن هذا حد بيننا، ولست مسئولًا عما يصيبك، بل أنتِ المسئولة شخصيًّا عن تصرفاتك.

قلت: إني شخص كامل يا مستر دانلوب، وكل شخص بالطبع مسئول عن تصرفاته. فتركني وخرج، وقد كادت الدموع تتساقط من عيني لولا مسكة من الجَلَد كانت تمنعني من أن أظهر ما يشمت الأعداء بي.

وتَجَلُّدي للشامتين أُريهمُ
أنِّي لِرَيْبِ الدهرِ لا أتضعضعُ

بقيت طيلة يومي غارقة في أفكار لا حد لها ولا نهاية.

وفي اليوم التالي زار المدرسة المرحوم الشيخ شريف المفتش بوزارة المعارف، ودخل مكتبي فلم يحيني مع أنه كان يعرفني أيام كنت ناظرةً لمدرسة المنصورة، وكان يحييني تحيةً طيبةً، ولكنه لما بلغه أن الإنجليز ضدي، أو أني أنا ضد الإنجليز كيفما يريد القارئ، فقد أخذ يتجنى علي، ولم يحيني، ولم يكفِه ذلك بل قال لي بصوت ملؤه التأنيب: لِمَ لمْ تحييني عند دخولي؟ فنظرت إليه مندهشةً، وقلت له: إنك أنت القادم، وكان الواجب عليك أن تحييني. قال: ألم يبلغك أني آتٍ لعمل «البروفة» لزيارة عظمة السلطان؟ قلت: بلغني ذلك. قال: فلِمَ لمْ تحييني تحية السلطان؟ قلت: لا أعلم أنك السلطان.

قال: سأخرج، ثم أعود لتحييني تحية السلطان. قلت: لم أَعْتَدْ تمثيل الروايات المحزنة أو المضحكة أمام طالباتي، فأنت تخرج وتعود ليحييك الطالبات، أما أنا فسأظل ساكنةً. قال: وما هي التحية التي ستحيين بها عظمة السلطان؟ قلت: التحية التركية يا سيدي؛ لأن عظمته تركي الأصل، ومن الذوق أن نحييه تحية بلاده. قال: ولكني أريد أن تحييه تحية العرب، فهل تعرفين ما هي؟ قلت: كلا؛ لأن العرب لم يكن لديهم سينما لنعرف تحيتهم. قال: ألم تزوري بلاد الصعيد؟ قلت: لا، لم أتشرف.

قال: هناك يحيون تحية العرب، وهي هكذا؛ «وضرب بيده اليمنى جانبه الأيسر حتى خُيل إليه أنه أُصيب بطلق ناري في ذلك الجنب فمال عليه»، وقال: هل لكِ أن تجربي هذه التحية؟ قلت: كلا يا سيدي، سأحييه التحية التركية. قلت ذلك وملت في وقفتي على منصة المعلم في شيء من السخرية، وكان بجانبه الغمراوي بك المفتش في وزارة المعارف أيضًا، وكان المرحوم الشيخ شريف يعرف اللغة الفرنسية، أما الغمراوي فيعرف الإنجليزية، وفي تلك اللحظة دخلت ناظرة المدرسة، ونظرت إليَّ وأنا أقف تلك الوقفة التي تدل على عدم الاهتمام، قالت: أتقفين هكذا أمام السلطان؟ قلت: كلا سأقف هكذا «وملت قليلًا عما كنت»، فلم تجبني، وخرجت مسرعةً من الغرفة، فلما رأى ذلك الشيخ الغمراوي، وفهم ما دار بيني وبين الناظرة أخذ الشيخ شريف من يده، وقال له: هيا بنا، ما لنا وللسيدة نبوية!

طلب بعد ذلك الشيخ شريف مذكرة الدرس الذي سألقيه أمام عظمة السلطان، فقلت: إني لم أعدها، وسأعدها في يوم إلقاء الدرس كعادتي في باقي دروسي. قال: ولكني أريد الاطلاع عليها. قلت: لست بالطفلة لتعلمني أنت، فإن كان فيَّ الكفاية للتدريس أمام عظمة السلطان تشرفت بالقيام به، وإن لم يكن كان عليكم أن تمنعوني من التدريس أمام عظمته، أما أن تعلمني الدرس قبل إلقائه فهي سخرية لا أرضاها للمعلمات. ووقفت ساكتةً، وكنت في الفصل ألقي درسًا، قال: ألا ترغبين في التدريس أمامي؟ قلت: قد انتهى درس اليوم. قال: هل هناك مانع من أن تلقي الدرس الذي ستلقينه أمام عظمة السلطان؟ قلت: درس السلطان سألقيه أمام عظمته، ودرس اليوم قد انتهى.

ومرةً أخرى سحبه الأستاذ الغمراوي بك من يده، وخرج به.

ذهبت إلى غرفتي بعد ذلك، وقد اسودت الدنيا في عيني، وتأكدت أني واقعة في كيدهم لا مفر لي منه، ثم فكرت قليلًا، وكنت أعرف المغفور له سعيد باشا ذو الفقار كبير أمناء صاحب العظمة المغفور له السلطان حسين، فرأيت من الواجب أن أكتب له، وأطلعه على جلية الأمر، فقلت له في خطابي: «إنك قد رأيتني في المنصورة، وتعلم أن ملبسي الرسمي هو السواد، كنت ألبسه في زمن سمو الخديوي السابق، ولا أزال ألبسه إلى الآن في هذا الزمن السعيد الذي يتولى الحكم فيه أكثر الناس وطنيةً وإخلاصًا للبلاد، ولكنهم يتهمونني بالسياسة ظلمًا، ويريدون ضربي لا بأيديهم، بل بيد أبي الفلاح.» وما كاد عظمة السلطان يقرأ الخطاب حتى أمر باستدعائي إلى السراي، وعندما سلمت عليه، وأخبرته القصة بحذافيرها قال: لا تخشي أحدًا منهم، وسأدافع عنك بكل ما أستطيع.

لم أخبر أحدًا باتصالي بالسراي، ولا بما تم لي مع عظمة السلطان، بل خرجت مدعيةً الذهاب إلى منزلي، ثم عدت من الخارج مثلما كنت قبل خروجي لا سرور ولا ابتهاج، فلم يلاحظوا عليَّ أي تغيير، وقد بيتوا نيتهم على تحريض السلطان ضدي ونفيي إلى مالطة، ثم تعيين شيخ وكيلًا للمدرسة بدلًا مني، وهكذا يريد الله دائمًا أن أحل محل الشيخ، أو يحل الشيخ محلي كأنني من الفقهاء.

أخطأ سادتنا في اختيار الأستاذ الذي أرادوا أن يحل محلي، اختاروا شيخًا لم يُخلق في حياته للتعليم، ولست أنكر أنه كان عالمًا متضلعًا في اللغة العربية، ولكنه لم يكن معلمًا، بل كان من يصغي إليه وهو يلقي الدرس، يظن أن هناك مشاجرةً يجب أن يُستدعى لها البوليس، فهو يلقي بصوت جهوري يخترق الحوائط، ولا تصغي إلى ذلك الصوت طالباته بل يلعبن ويمرحن، كأن كلًّا منهم لا يرى صاحبه، وكان — فضلًا عن هذا — غير منظم في ملابسه، يعشش العنكبوت في أجزاء جبته، وهو لا يشعر به، وكان — بحسب وظيفتي — يجب أن أكون آخر معلمة يزورها السلطان، ولكنهم نظروا إلى ما سيكون فوضعوا ذلك الأستاذ بعدي.

وشرف عظمة السلطان المدرسة، وأخذوا يروون له الأقاصيص عن نبوية موسى، وكراهيتها للحكم الحاضر، وكان عظمته يسمع هذا ليلقي به في الهواء دون أن يقول شيئًا، وزار جميع الفصول فتألم من شكل التحية التي كانوا يحيونه بها؛ فقد كانت المعلمة أو المعلم يقف على المنصة، وهي ترتفع عن أرض الحجرة بنحو ٤٠ سنتيمترًا حتى إذا دخل عظمته الغرفة حياه بضربة قوية من يده اليمنى على جانبه الأيسر يتفزع منها عظمته، خصوصًا وهي تأتي من فوق رأس عظمته، وكان — رحمه الله — قصير القامة، فكان حتى المعلم الذي لا يزيد عنه في الطول يزيد عنه بارتفاع المنصة، تضايق السلطان من تلك التحية المؤلمة، وأظهر مضايقته، ولكنه لم يكن في الإمكان تغييرها، ودخل السلطان أخيرًا الفرقة التي كنت أدرس بها، ويظهر أنهم قالوا له: إن المدرسة هنا نبوية، ولكنه أخطأ السمع فظنها «نبيهة» فدخل الفرقة يقول: «سعيدة يا ست نبيهة.» ولكنه ما كاد يقع نظره عليَّ وأنا أحييه التحية التركية لا من فوق المنصة كما فعلوا، بل من أسفلها، ما كاد يقع بصره عليَّ حتى قال: «أهلًا ست نبوية.» ووضع يده اليسرى تحت يدي ليمنعها من الوصول إلى الأرض، ثم حياني باليد اليمنى يدًا بيد، ولم يفعل ذلك مع غيري؛ لأنه غير ممكن.

ودُهش جناب المستشار كما دهشت حضرة الناظرة؛ لأن السلام كان يدل على أن كلًّا منا يعرف الآخر، وألقيت الدرس أمام عظمته، فسُرَّ منه كثيرًا، وفي نهايته نظر إلى المستر دانلوب، وقال: ما الذي يمنع تلك السيدة من أن تكون ناظرةً لتلك المدرسة؟

وبُهِتَ المستر دانلوب، ولم يُحِر جوابًا، واحمر وجه الناظرة، ولكنها لم تقل شيئًا، وخرجوا من غرفتي إلى غرفة الأستاذ المختار لوكالة المدرسة، وكان طويل القامة جدًّا، وقد وقف على المنصة، فكاد يصل إلى سقف الغرفة، وضرب بيده اليمنى جانبه الأيسر صارخًا: قِيام! فقفز السلطان مترًا من هول تلك المفاجأة، وكادت يد المدرس تصل إلى طربوش السلطان، فلم يقف السلطان في الغرفة، ولم يسمع كلمة من الدرس غير تلك الكلمة المشئومة «قيام»، ثم ذهب إلى غرفة الناظرة، وأقسم لا يبرح المدرسة حتى يُنقل منها ذلك المعلم الفظ؛ لأنه أزعجه هو، وهو رجل، فما بال الطالبات، وهن من الجنس الرقيق، وهكذا كُتِبَ خِطَابُ نَقْلِهِ أمام عظمة السلطان، ولم يَعُد الأستاذ للمدرسة مرةً أخرى.

قد يظن القارئ أني حرضت عظمة السلطان عليه حتى تم له ما تم، ولكني أشهد الله أني لم أذكره لعظمة السلطان؛ لأني كنت أريد أن يحميني عظمته من ضرباتهم لا أن يضرب غيري.

وبعد مبارحة عظمته المدرسة جاءتني الناظرة، فقالت في شيء من الدعابة: ما الذي أعجبه من درسك، لقد كنتِ سوادًا في سواد؟

قلت: لعلك عرفت من هذا أني أستطيع أن أرضي أبناء بلدي. قالت: إنه قد أخطأ في تقديرك. قلت: مَنْ منا التي تُنفى إلى مالطة؟ التي كانت تلبس ملابسها، أم التي تقول على السلطان مثل هذا القول؟ قالت: على رِسلك! فهو لا يستطيع أن ينفيني.

وقد أهداني عظمته ساعة يد من الماس بسوار ذهبي، كما أهدى بعض المعلمات أشياء أخرى أقل من الساعة قيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤