استمرار المناورات

يئس المفتش من حصول نزاع بيني وبين المعلمين، فأراد أن يتدخل في الموضوع، وأن يخلق هو نزاعًا بأي شكل كان، وشاء سوء الحظ أن تتاح له الفرصة فأرسلته وزارة المعارف إلى الإسكندرية للإشراف على حفلة توزيع إعانة المدارس الحرة للبنات، ودعاني مفتش التعليم الأولي لحضور حفلة التوزيع، وألقى المفتش الإنجليزي كلمته في الحفلة فابتدأها ببراعة استهلال، قال فيها:

لقد خُلق المصري جبانًا بفطرته.

ثم انتقل من مدح المصريين بهذه الكيفية إلى المدارس التي جاء لتشجيعها فقال:

إنك تدخل تلك المدارس فترى كل من فيها في حركاتهم وسكناتهم وألفاظهم زبالين.

وساءني أن يقوم إنجليزي في حفل من المصريين كان يرأسه كبير من الأسرة اليكنية فيطعن المصريين أولًا، ثم يعطف على المدارس التي جاء لتشجيعها فيرميها بكل عيب ونقيصة، ساءني أن يحيينا ذلك الأجنبي تلك التحية، وهو واحد ونحن جماعة، فملت أعيب على المفتشين ونظار المدارس الثانوية سكوتهم على تلك الإهانة، وضحك أحدهم، وقال: «إن الرجل كان يتكلم بلهجة أعجمية لم يفهمها أحد إلا الذين اعتادوا لهجة الإنجليز في اللغة العربية.» قلت: ولكنكم أنتم من هؤلاء. قال: نعم، ولكن ما الذي يدعونا إلى إذاعة ما قال بين الملأ ما دام الناس أنفسهم لم يفهموه؟ فكان عذرًا ظريفًا، وإن كان لم يقنعني، وقام المفتش الأول، وقال كلمةً في تعليم الفتاة شاد فيها باسمي؛ بصفتي أول فتاة مصرية تولت المناصب المختلفة بوزارة المعارف، وانتهت الحفلة بعد أن اختلى المفتش الإنجليزي بمفتش التعليم الأولي، وأفهمه أنه أخطأ في الإشارة بذكري لأني ضد وزارة المعارف، ولأنه يجب محاربتي، قال مفتش الأولي ذلك لبعض أصدقائه، وبلغني فأوجست منه خيفةً؛ لعلمي أن هؤلاء الناس يخدمون الإنجليز في كل ما يريدونه من رغبات، ولو بالإشارة، وفيما قاله المفتش الإنجليزي ما يكفي لتوجيه نظر المفتش الأولي إلى العمل ضدي.

لم يطل انتظاري حتى بدا لي مجهود ذلك المفتش في العمل ضدي، فقد ابتدأ أحد مدرسي مدرستي يشق عصا الطاعة، ويناوئني العداء بلا سبب، فكنت أقابل هذا بصبر وحلم خشية أن يكون قد حرضه أحد على ذلك، وأخيرًا أردت أن أكتشف الحقيقة فخاطبت مفتش التعليم الأولي تليفونيًّا في مساء أحد الأيام، وقلت له في أثناء حديثي إن فلانًا — وذكرت له اسم المدرس الذي تخيلت أنه يحرضه — إن فلانًا هذا مع ما يبدو عليه من نشاط وذكاء قد ظهر أن نتيجته في الامتحانات سيئة جدًّا، قلت ذلك لأعلم إذا كان بين المفتش والمدرس رابطة فينقل إليه ما قلت.

وفي صباح اليوم التالي كنت أحضر درس انتقاد كانت تلقيه طالبة في مادة الخط، وحضر جميع المعلمات والمعلمين، وكان على منصة التدريس كرسي وضعته الطالبة لتشرح للتلميذات طريقة الجلسة أثناء كتابة الخط.

ودخل ذلك المعلم متأخرًا والغضب يبدو على وجهه، وكنت في الأسبوع الذي قبله قد طلبت من المعلمين أن يجلسوا على أدراج طالبات كانت موجودةً في جهة من الفصل حتى لا يكونوا قريبًا من المعلمات، وقد أعجب المعلمون بذلك الاقتراح، ووافقوا عليه، وجلسنا جميعًا، ووقف هو زائغ البصر، فقلت له في هدوء وعطف: «تفضل اجلس إلى جانبي.» وكان بجواري مقعد خالٍ فقال: لا … ثم ذهب إلى منصة التدريس، وأخذ الكرسي الذي أعدته الطالبة ووضعه بشدة أمام المكان الذي كنت أجلس فيه، ثم جلس.

وهمست أنا إلى إحدى الطالبات فأحضرت كرسيًّا آخر وضعته بدل الكرسي الذي أخذه المعلم، وتابعت الطالبة السير في درسها، وعند انتهاء الدرس سألت الطالبات، ثم المعلمات، ثم المعلمين عن آرائهم فيه، ولم أشأ أن أتخطى ذلك المعلم حتى لا يظن أني تضايقت منه، فقلت له: ما رأي حضرتكم في هذا الدرس؟ قال: ليس لي رأي فيه؛ لأني كنت متعبًا، فلم أعمل شيئًا. قلت: أشكركم. وسرت في درسي حتى إذا ما انتهيت ذهبت إلى مكتبي، وكتبت له خطابًا قلت فيه: إن بقاء المعلمين الرجال بين المعلمات وبين الطالبات ضرر لا بد منه، ونحن نتحمل مخالطتهم بالمعلمات وجلوسهم معهن رغبةً في الظفر بآرائهم فيما يتعلق بالدرس، وقد قلت إنك كنت مجهدًا فلم تعمل، فلِمَ دخلت هذا الدرس بلا عمل، وأنت تعلم أنك لو طلبت مني تصريحًا بالتغيب عنه لما تأخرت في إجابة طلبك؟ لأن بقاءك بلا عمل مثال سيئ لباقي المعلمات والمعلمين؛ إذ يكون هذا سابقةً لبقائهم في الدرس بلا عمل، وصرفهم الوقت في اللهو والعبث.

قرأ المعلم هذا الخطاب، ولم يستطع الإجابة عليه بل ظل مترددًا مدةً طويلةً، ثم كتب لي كتابًا يقول فيه: «إني قد خالفت أوامر الوزارة في أشياء كثيرة، منها أني صرحت للمعلمين بالأكل داخل المدرسة بعد أن منعت الوزارة ذلك رسميًّا، وأني فتحت سنة أولى من القسم الإضافي في العلوم مع أن الوزارة لم تصرح بذلك، وأني أزيد عدد حصص اللغة العربية عن المقرر.» وطلب مني أن أرفع هذا الخطاب إلى الوزارة. وأردت أن أتأكد من أن المفتش وشى إلى المعلم بما أخبرته به فاستدعيته بالتليفون، وحضر في الحال، فلما حضر استدعيت المعلم فدخل علينا، وكانت دهشتي عظيمةً عندما ابتدأ حديثه معنا بأن أخرج من جيبه خطابًا كان ذلك المفتش قد كتبه له، وهو ناظر مدرسة يدرس بها ذلك المعلم يشكره فيه على حسن نتيجته في الامتحان، قدم ذلك الخطاب، وهو يقول: إن سعادتك كتبت لي ذلك الخطاب تشكرني على حسن نتائجي أيام كنت أدرس تحت رياستك، وهي تنكر عليَّ ذلك، وتقول إن نتائجي في الامتحان سيئة. فنظرت إلى المفتش، وكنت في ذلك الوقت أقوم بوضع أسئلة امتحانات النقل بنفسي دون أن يطلع عليها المعلمون، فنظرت إلى المفتش، وقلت له: إنك تشكره في خطابك هذا على حسن نتيجته في الامتحان، فهل كنت أنت واضع الأسئلة أم هو؟ قال: بالطبع هو الذي كان يضع الأسئلة. قلت: إذن أنت تشكره على خراب ذمته؛ لأن المعلم إذا وضع هو أسئلة الامتحان في المادة التي يدرسها، وكان غير دقيق في عمله، وغير مأمون عليه، أعد التلاميذ له فنجحوا جميعًا، وليس في ذلك ما يستوجب الشكر، بل فيه ما يستوجب الذم، أما أنا فإني أضع أسئلة امتحانات مدرستي، فإذا قلت عن شخص إنه مقصر أو إنه مجد في تدريس مادته فأنا على حق فيما أقول، وإني بعد هذا أسألك سؤالًا واحدًا: هل بينك وبين هذا المعلم اتصال لاسلكي حتى استطعت أن تخبره بما قلته لك أمس في نفس هذه الليلة؟! ليس في منزل الرجل تليفون، فكيف اتصلت به بهذه السرعة؟ لا بد أنك كلفت نفسك كثيرًا، فأنت إذن ذو غاية سيئة؛ ولهذا أطلب منك أن تترك هذا المكتب حالًا، وأن لا تعود إلى المدرسة مرةً أخرى، أما معلمي فسأعرف كيف أقوده إلى الصواب.

وخرج المفتش دون أن يقول كلمةً، واستدعيت بعض المدرسين فقرأت عليهم خطاب المعلم الذي طلب مني تبليغه إلى الوزارة، وقلت لهم: إنكم تعلمون أني لم آخذ منكم رشوةً عندما سمحت لكم بالأكل في المدرسة، ولكني سمحت بذلك حبًّا في صالح عملي، فإن المدرسة بعيدة عن الأحياء المأهولة، وليس بجوارها مطعم أو شيء يمكن أن يُشترى للغذاء، والمعلم إذا بقي بلا أكل لا يستطيع أن يتقن تدريس الحصة السادسة أو السابعة، وليس في أكله في المدرسة ما ينافي الآداب الشرقية؛ لأنه يجلس في غرفة المدرسين، وهي منعزلة تمام العزلة عن المدرسة، فإذا جاز له أن يلهو ويلعب فيها فقد جاز له أن يأكل أيضًا.

فالوزارة مخطئة في عدم التصريح بأكل المدرسين بدعوى أنها مدرسة بنات، وأنتم أنفسكم شكوتم لي ذلك التعنت، فعملت على إزالته، وكذلك فتح الفصل ليس لي فيه مكسب شخصي، ولكني أردت أن أخدم التعليم في الإسكندرية، ولم أكلف الوزارة زيادة المعلمين، بل فتحت الفصل بكم، ولم يتألم أحد منكم من ذلك، فأنا إذن شريفة حسنة النية فيما أفعل لا أريد غير الإصلاح؛ ولهذا سأرسل هذا الخطاب إلى الوزارة، وسأعترف بكل ما فيه، وخرج المعلمون بعد ذلك يكادون يذوبون خجلًا من فعلة زميلهم، ثم كتبت إلى المستر دانلوب خطابًا أرفقت به خطاب المعلم، وقلت له فيه: إن كل ما جاء في هذا الخطاب صحيح، ولم أعمله أنا لغاية شخصية؛ فقد فتحت القسم الإضافي سعيًا في نشر التعليم في الإسكندرية دون أن أكلف الوزارة شيئًا، وصرحت للمعلمين بالأكل؛ لأن ذلك في صالح العمل، وبدونه يختل نظام التعليم بالمدرسة لبعدها عن المطاعم، وزدت عدد حصص اللغة العربية؛ لأن الطالبات سيكن معلمات يدرسن بتلك اللغة، وهن في حاجة شديدة لها.

عملت ذلك للصالح لا للأغراض الشخصية، وإني مصرة أن أعمله طالما كنت ناظرةً لتلك المدرسة فلا تحقق معي فيه، وافعل بي ما شئت على اعتبار أن ما بلَّغه المعلم صحيح، أما المعلم فقد خرج في كتابه هذا عن حدوده؛ لأن الوزارة لم تعينه رقيبًا علي، فليس له أن يتدخل فيما لا يعنيه.

وبعد أسبوعين من إرسال الخطاب إلى الوزارة جاء تصريح للمعلمين بالأكل في المدرسة، وتصريح آخر بفتح الفصل، وإنذار لذلك المعلم تحذره الوزارة فيه من العودة إلى مثل ما فعل، فكان هذا سببًا في أن يبتعد المعلمون جميعًا عن المفتش الأولي الذي كان يمني ذلك المعلم بالترقية، فانتهت أمانيه بالإنذار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤