الفصل السادس

لا يكون الحُلم إلا من تجارب الإنسان ومن سابق خبرته؛ فالأحلام على هذائها وبُعدِها عن العقل تُخاطب الناس على قَدْر خبراتهم. هي قد تخلط هذه الخبرة، وتقلب موازينها، وتجعل أعاليَها أسافلَها، وأسافلَها أعاليَها. إنما تظل بالنسبة للإنسان الذي تَعرِض له في حدودِ ما عَرفَ من واقع الحياة؛ ولذلك يستطيع المرء غالبًا أن يُعبِّر عنها، ويروي ما عَرضَ له في أحلامه إذا كان منتظمًا، أو يعزوه إلى خَرفِ النوم، أو فَقدِ انتظامه وتتابُعه.

أما هذا الذي يراه سباعي فلم يخطُر له على حُلمٍ أبدًا، وما تصوَّر أن تضُم جنباتُ الحياة شيئًا مثل هذا الذي يشاهده من راقصات الأوبرج. عرايا صدورهن أو عرايا جسومهن جميعًا إلا موقعًا أو موقعَيْن الغطاءُ فيهما أخبث من العُري. وما إن أفاق هونًا من ذهوله حتى التفَت إلى شعبان: أهؤلاء نسوان؟

وانفجر شعبان في قهقهةٍ عالية ليست غريبة ممن يحويهم هذا المكان، وقال: طبعًا نسوان.

وظل سباعي في بهره وهو يقول: مثل نسوان البلد عندنا؟

واستمرَّت القهقهة يختطف من شهيقها الإجابة.

– ماذا ترى أنت؟

ويقول سباعي في جديةٍ حاسمة لا أثَر فيها لمزاح: النسوان عندنا خفراء.

ويقول شعبان بعد أن هدأَت ضحكاته: لعلَّكَ لم تَرَهُنَّ إلا في مواطن الجِد.

ويقول سباعي في جديته لا يزال: رأيتُهن في كل المواطن، خفراء، خفراء في أكثر المواطن خلاعة.

– لعلكَ لم تُحسن الاختيار.

– وهل هي واحدة؟ إنهن كثيراتٌ عرفتُهن، وكلهن خفراء.

– فما رأيكَ أنك لم تَرَ شيئًا بعدُ.

– ما أرى يكفي. يا رجل، أنا أتعجب من نفسي كيف لم يُغمَ عليَّ.

– لا، اجمد، الليل ما زال طويلًا أمامنا.

– وماذا سنعمل فيه أكثر من هذا؟

– هذا شأني.

– أنا تحت أمرك، عبدك وبين يدَيْك.

– أولًا تشرب هذا الكأس.

– وما له أشربه، هه باسم الله الشافي العافي.

وهَمَّ أن يقلب الكأس جميعه في فمه مرةً واحدة، ولكن شعبان أسرع فأمسك بيده.

– لا، انتظر، ليس هكذا.

– فكيف إذن؟

– رشفةً رشفة، أتريد أن تنقلب منا في الأوبرج.

– أمرك.

– حين ينتهي الكأس أو الكأسان، وليس أكثر سترى ما لم تَرَه حتى الآن.

وانتهى سباعي من شُرب الكأسَين في بطء الجاهل الذي لا خبرة له. وبدأت المناظر التي يراها تصل إلى أعماق كيانه. وتصاعدَت الحُميَّا إلى مكامن الشعور فيه فإذا هو يعيش حياة غير الحياة، حتى ليحسب أنه لم يُولد إلا في هذه اللحظة. وحين أدرك شعبان ما صار إليه حال صديقه سأله: وما رأيك إذا قلتُ لكَ إنك ستقضي الليلة مع واحدة من أولئك الراقصات.

وفي وقارٍ متعتع سأله: وماذا أصنع معها؟

وحينئذٍ انفجر شعبان مرةً أخرى في قهقهةٍ عالية، وراح يقف ثم يقعد والقهقهة على حالها، حتى إذا استطاع أن يلتقط أنفاسه قال لسباعي: كان يوم هَنا يوم عرفتك.

أما أصحاب شعبان فكانا اثنَين، وقد اتخذ كلاهما موقف الشاهد، سعيدَين غاية السعادة بهذا المخلوق الجديد على المكان والجديد على هذه الحياة جميعًا، ولكنه عندما سأل شعبان سؤاله الأخير هذا كانا أشد صخبًا من شعبان. وسأله أحدهما وكان شعبان يدعوه كريم: ألم تقل إنك عرفت نسوانًا كثيرات في البلد؟!

وفي نفس النغمة الوقور المتعتعة قال سباعي: يا سي كريم أفندي، اسم الله على مقامك، النسوان اللواتي عرفتُهن شيء والنسوة هنا شيءٌ آخر بالمرة، لم يرد صنفه عليَّ مطلقًا، ولم يخطر لي على بال أن في العالم نسوانًا بهذا الشكل، بالتأكيد هؤلاء صنفٌ آخر من الناس لا أعرفه أنا ولا أبي.

وتتم الليلة كما ينبغي أن تتم مثل هذه الليالي، ويُحس سباعي أنه بهذه الليلة أصبح من طبقةٍ أخرى غير طبقة أهله، ولكن العجيب أن سباعي مع كل هذه المتعة التي شعَر بها والتي أوغلَت في العميق من كيانه كان يُدرِك أن مثل هذه الليالي إنما هي لهوٌ يتمتع بها من يحبها ليلةً كل شهر أو ليلتَين، ولكنها لا يمكن أن تكون حياة بأكملها كما كان يعتبرها شعبان. كان الأمر بين الاثنَين مختلفًا كل الاختلاف؛ فقد كان شعبان لا يريد من الحياة إلا هذه الحياة، وكان عمله في الأرض عملَ مُرغَمٍ لا راغبٍ، مدركًا أن أباه سينضب عليه موارد المال إذا هو لم يقُم بواجبه كفلاحٍ يعينه على زراعة الأرض الواسعة بما يستأجر من الأوقاف. أما سباعي فقد كان يرى في الزراعة حياته ويرى في مثل هذه الليلة لهوه.

كان من الطبيعي أن تَتوطَّد العلاقة بين شعبان وسباعي، وتكاثَرت الزيارات بينهما. وفي يومٍ حزم سباعي أمره بعد أن فكَّر وأطال التفكير وتدبَّر الأمر مع نفسه، فأحكم التدبير وقصد إلى شعبان في بيت أبيه.

– أنا أحببتُك حبًّا لا تدري قدره.

– هذه مقدمة لشيء تريد أن تقوله.

– أي نعم.

– قل.

– أريد أن أكون قريبك وصاحبك.

– فهمت.

– وما رأيك؟

– لا بد أن أتأكد من صحة فهمي أولًا.

– أنت تفهمها وهي طائرة.

– يكون أحسن لو قعدت.

– أخطُب إليك الست أختك قدرية.

– هل شفتها؟

– شفتك أنت.

– على كل حالٍ أسأل أبي.

– طبعًا.

– ولكن لا بد أن تشوفها.

– ومن غير شوف.

– لا بد.

– أمرك، كيف؟

– هذا أمرٌ ميسور، والحقيقة أنا أُفضِّل أن تشوفها قبل أن أُكلِّم أبي.

– كيف؟

– حتى يتكلم أبوك بعد ذلك، وتجري الأمور في طريقها الطبيعي.

– ولكن معنى كلامك أنك لا ترفضني.

– أنا لا أملك الرفض أو القبول.

– أعرف ذلك، ولكن معنى أن تسمح لي برؤية الست أختك أن الأمر ليس بعيد الاحتمال.

وتَنبَّه شعبان إلى الموقف، وسارع يقول: أنا لا أستطيع أن أقول شيئًا مطلقًا، وأنا أسمح لك برؤية أختي لأني أعتبرك أخًا، وأُحب إذا فاتحتُ أبي في هذا الموضوع أن أكون واثقًا أنك جادٌّ فيه؛ لأن التقدُّم منك ثم الرجوع مسألة قد تسيل فيها دماء.

– أنا أعرف تمامًا وظيفة أبو سريع عندكم، ولا أحب أن أكون أنا أو يكون أبي من بعض مهام وظيفته.

– إذن تراها.

– يا ليت، متى؟

– الآن.

– كيف؟

– اسمع، اخرج من الباب الأمامي قدَّام الخدم ولفَّ وعُد لي من باب الشرفة.

– أمرك.

وخرج سباعي وعاد، وفتح شعبان حجرةً مجاورة وأدخله فيها.

– سأنادي قدرية وأنت تستطيع أن تراها من هنا، وسأجعلها تقعد بحيث لا تراك، فحين تراها وتسمعها روح إلى بيتك من هذا الباب الذي يخرج من الشرفة إلى الحديقة إلى الخارج.

ووجم سباعي قليلًا، وقال: وكيف سأقول لكَ إني وافقت؟

– قلها بكرة، لا أريد أن أعرف رأيك اليوم على كلِّ حالٍ.

– أمرك.

ودخل سباعي الحجرة، وأبقى شعبان بابها نصفَ مفتوحٍ حتى إذا رأته قدرية حسِبَت أنه نصف مُقفَل، وأنه تُرك هكذا عن إهمال لا عن عمد.

ونادى شعبان من بهو البيت الأسفل: قدرية، قدرية.

– نعم يا شعبان فيه حاجة؟

وأطلَّت عليه من أعلى فقال: ماذا تصنعين؟

– لا شيء، أسمع الفونوغراف.

– أنا زهقان، لماذا لا تُحضرين الكوتشينة وتجيئين نتسلَّى؟

– حاضر، جاية.

وجاءت ورآها سباعي وفهم كل شيء.

•••

هي النقيض الكامل للنسوة اللواتي خَبلْن عقله بجمالهن في الكباريه، هي الطرف الآخر من جمال الخليقة. إذا كان سبحانه قد خلق النسوة الجميلات ليرى عبادُه بديعَ صنعه، فهو سبحانه جلَّت قدرته قد خلقها ليعرف عبادُه شديدَ سخطه. إذا كان هناك من لا يُصدِّق أنه سبحانه قادرٌ على خلقِ الجنة والجحيم فليضَع قدرية إلى جانب أي جميلةٍ من جميلات أي مكانٍ، سواءٌ كان هذا المكان هو الأوبرج أو حتى قرية الصالحة. وحينئذٍ ستتمثل له في الفتاة الطبيعية الجنة كل الجنة، وفي قدرية الجحيم غاية الجحيم. سبحانه إنه على كل شيء قدير!

لهذا قال له عبد الحميد أبو ديدة اخطُبها، ولهذا لم يرفض شعبان فكرة زواجه بها رفضًا قاطعًا من أول وهلة، وإن كان قد دُهش من ردِّ الفعل الذي استقبل به شعبان طلبه، وإن كان قد ذُهل لأن شعبان جعل الأمر قابلًا للإتمام، وإن كان قد ازداد ذهوله حين وجده يُسارع إلى إتاحة الفرصة له أن يرى أخته، فإن الدهشة والذهول الآن لا مكان لهما؛ فهو بالنسبة إلى الحالة التي رآها فرصةٌ لا تُعوَّض لعز الدين بك؛ فلا شك أن أباها وأمها وأخاها لم يكونوا يأملون أن تتزوج أكثر من عامل زراعة في أملاكهم ويكون العامل مظلومًا.

كيف استطاع فمها أن يكون بهذه السعة؟ وكيف استطاع أنفها أن ينفرش لينال من وجنتيها — إذا كان لها وجنتان — كل هذه المساحة؟ وكيف استطاع هذا الوجه المسحوب كعلامة تعجُّب أن يسع كل هذا الفم وكل هذا الأنف؟ وهي تغطي شعرها بمنديل، ولكنه شَعرٌ متمرد صاخب يرفض المنديل ويقذف به إلى أعلى ليجعل منه طرطورًا. وكل هذا يهُون إذا تركَّز البصر من الناظر على ذَقَنها، إنه مقذوف إلى أعلى يوشك أن يغلق الفم. وربما كان هذا هو السبب في نحافتها المفرطة؛ فلا شك أن فمها يجد مشقةً عاتية في أن يلقف اللقمات!

لقد وعَى سباعي قبح الفتاة وعيًا كاملًا، ولكن العجيب في أمره أنه ازداد إصرارًا على الزواج بها؛ فقد أدرك لحظةَ رآها أن الزواج بينهما متكافئ؛ بل إن أُسرتها هي الكاسبة فيه؛ لأنهم لا يعرفون ما يُفكِّر فيه هو، الزواج متكافئ لا شك، هي قبيحة كل القبح وهو فقير بعض الفقر؛ فهو مقبل إذن على الزواج في عزم وإصرار ازدادا ولم ينقصا. وهو في إقباله هذا غير مُرغَم ولا مضطر؛ فإنه يستطيع إذا لم يكن يريد للزواج أن يتم أن يذهب من غده إلى شعبان ويُحدِّثه في حديثٍ آخر غير هذا، وسيفهم شعبان وسيعذره، فهو مصمم، وهو مصمم أيضًا أن يكلم شعبان أباه حتى يكون وهدان مضطرًّا لإتمام الزواج. وقد كان سباعي مُقدرًا لهذا الأمر منذ دبَّر أمره قبل أن يفاتح شعبان في شأن الخطبة؛ فهو يعلم حرص أبيه وهدان على أن تعيش أُسرته بعيدةً عن كل المشاكل، فإذا هو امتنع عن إتمام الخطبة فالويل الآخذ والانتقام الوبيل.

وقد كان سباعي واثقًا أنه حين يطلب من أبيه أن يخطب له ابنة عز الدين سيرفُض رفضًا قاطعًا، كما كان واثقًا أنه سيقبل أن يخطبها له على رغم أنفه إذا أخبره أن شعبان فاتح أباه فعلًا في الأمر وأنه قَبِل. قدَّر سباعي هذا جميعًا، وأقدَم على هذا الحديث مع شعبان.

وفي الصباح الباكر كان سباعي واقفًا بجانب شعبان في الغيط: متى ترُدُّ عليَّ؟

ونظر إليه شعبان مليًّا ثم قال: تعالَ الليلة في البيت.

•••

انتظر سباعي حتى صحا أبوه من القيلولة وتوضأ وصلى صلاة العصر، واستقرَّت به الجلسة على الأريكة وبجانبه نبوية، وكان وهدان منشرح الصدر فهو يقول تلك الجملة التي كثيرًا ما يُردِّدها: لقد كان قطع ذراعي بركة، تزوَّجَت بي نبوية بعد أن تأكدَت من قطعه، إنها تُحبني لشخصي، وأعفاني الله من غسيلِ ذراعَين في كل وضوءٍ مكتفيًا بذراعٍ واحدة.

وضحِكَت نبوية وهي تقول: أما زلتَ تذكُر زواجنا؟ قد آن الأوان أن نُفكِّر في زواج أبنائنا.

وقال وهدان: ما أحَبَّ هذا إليَّ!

واندفَع سباعي الذي كان يتربص بالحديث: صحيح يا أبا؟

– صحيح جدًّا.

– إذن فأنا أريد أن تخطب لي.

– من؟!

– قدرية بنت عز الدين بك الخولي.

وهَبَّ الأب واقفًا: من؟!

ودقَّت نبوية صدرها وهي تقول: من؟!

وقال سباعي: ماذا يا أبا؟ ماذا يا أمه؟

وألجمَت الصدمة لسان وهدان، وذُهلَت الأم بعض الحين، ثم قالت: ولكن يا ابني، هل … هل يقبلون؟

وابتسم سباعي وهو يقول: لقد قبلوا فعلًا.

وصاح الأب مرةً أخرى وهو ما يزال واقفًا: ماذا؟!

وقالت الأم: قبلوا، إذن …

ومات الكلام على شفتَيها وارتمى وهدان جالسًا على الأريكة، معتمدًا برأسه على ذراعه الواحدة، مفكرًا في كلِّ ما فكَّر فيه ابنه من قبلُ، وتمَّت الخطبة وتَمَّ الزواج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤