زيلندة

(١) إلى زيلندة

حللت الباخرة نياجرا من بواخر شركة Union Line التي تصل ما بين أستراليا وزيلندة وأمريكا، وحمولتها ١٣٤١٥ طن، لكنها من طراز قديم، وقد كان في وداعي على الميناء المسز وورد وبعض أقربائها. والحق لقد غمرني أولئك القوم بكرمهم، فالكرم والظُّرف وحب المعاشرة سجية فيهم، فلا تكاد تتعرف إلى نفر منهم حتى يأخذوا عنوانك، ويُصروا على الكتابة إليك كأنك صِرْت منهم. وخرجنا نتنحَّى عن الميناء، وقد كان تزاحم المودعين كثيفًا، ومع كل منهم أشرطة ملونة من ورق في طيَّات يُلْقُون بها إلى المسافرين، فيستطيل الشريط كلما بعدت الباخرة عن المَرْسَى؛ لتظل الصلة بين الصديقين طويلًا، فكانت شباك تلك الأشرطة تسد الجو، ولا تسمح بالمرور على الرصيف مطلقًا، وكلما بعدنا تكشفت روائع ميناء سدني.

وقد مررنا تحت القنطرة الفاخرة التي ليس لها نظير في العالم أجمع، ولبثنا نشق مياه المحيط الهادي المارد العظيم، ولم تكن موجاته عالية، ولكن السفينة كانت تتمايل وترتعد كأنها ترهب ذاك المارد الخضم، على أن ما نعرفه عنه من الهدوء بالنسبة لغيره كان مطمئنًا لنا بعض الشيء، ولكن القوم جميعًا كانوا يوجسون خيفة من بحر طسمان، وهو ما بين أستراليا وزيلندة، وبعضهم يقول بأنه من أشد بحار الدنيا اضطرابًا، ويظهر أن حظنا كان جميلًا؛ لأن الأيام كلها قد انقضت في هدوء وجو مشمس جميل يحكي شتاء مصر تمامًا.

fig44
شكل ١: شارع رئيسي في أوكلند وترى البوليس مشرفًا على الحركة من ذاك الصندوق المرتفع.
واليوم الأحد ١٩ يوليو قبيل الظهر رأينا أول قبس من أرض نيوزيلند في ثلاثة مخاريط شبه مجدبة يسمونها The Three Kings، ثم أخذت الجوانب الصخرية المشرفة للجزيرة الشمالية تبدو إلى يميننا، وسنظل بجانبها الليل كله، ولقد كان جمهور المسافرين أكثر ظُرفًا وأميل إلى المعاشرة من رفقاء الباخرة الأولى مالويا؛ لأن الجنس الإنجليزي لم يكن يُوجَد بينهم، بل كان الجميع من أهل زيلندة وأستراليا وأمريكا، وكلهم أميل إلى المرح، وأبعد عن الترفع والكبرياء والصلف، وكم كانوا يكثرون من التحدث إليَّ في شئون مختلفة، وبخاصة عن مصر!

ولما أن عرفوا أني مصري وعلموا بسياحاتي وأطلعتهم على بعض الصور الفوتوغرافية، انهال الجميع يطلبون عنواني، ويعدون بزيارة مصر، ويقدمون إلي عناوينهم كي أكتب إليهم، ودهشوا كيف أستطيع القيام بتلك الرحلات الجسيمة، وكانوا يقولون: إن نفقاتها لا شك تدفعها لك حكومتك، خصوصًا وأنت في وزارة المعارف، فكنتُ أتردد في الجواب وأقول: لا، بل أقوم بها لحسابي الخاص، وإن كانت الوزارة تساعدني مساعدة أدبية فقط. وقد لبثوا يتحدثون معي إلى ما بعد منتصف الليل، وفي الصباح تهافتوا عليَّ يأخذون صورتي وكأنهم لاقوا شخصًا عظيمًا. فانظر كيف يقدرون الرحلات، ويرون القائمين بها أهلًا للإجلال والتكريم!

(٢) أوكلند

وصلنا أوكلند قبيل شروق الشمس بعد ثلاثة أيام ونصف، وأقبلنا على الطبيب وضابط الجمارك ومررنا أمامهم، وتسلمنا ترخيص النزول إلى بلادهم في غير شدة ولا تعطيل، ومررنا من الجمرك بدون تفتيش بفضل رجال مكتب السياحة الحكومي. وقد بدت ميناء أوكلند عظيمة حديثة البنيان والأثاث والمعدات، وترى الأرصفة متوازية وفي صف منتظم، ومن خلفها البلدة تقوم على منخفضات من ورائها ربًى وطيئة.

وقد اخترقت الشارع الرئيسي Queen St. إلى نُزُل أوكلند الفاخر، والشارع شبيه أخواته في سدني وملبورن تمامًا، إلا أن مظهر الناس والمباني والمعروضات أقل وجاهة وثراء.
fig45
شكل ٢: شلالات وايروا الرائعة شمال أوكلند.
وكثير من الناس يبدو عليهم مظهر الفقر، وكان يسير بعض الصبية حفاة، وفي ثياب مرقعة. أقلني الترام إلى المتحف فوق ربوة نُسِّقَت حولها المتنزهات، والبناء حديث وعلى جانب كبير من الفخامة، والدخول إليه مجانًا للجميع، على أنك تجد صندوقًا إلى يمينك كُتِبَ عليه: «نرجو التبرع بشيء للقيام بنفقات المتحف.» ومحتويات المتحف قَيِّمة فيما يختص بمخلفات الماوري من زوارق في أحجام عدة، وطول أكبرها ٨٥ قدمًا، وعرضه ٧، ثم أسلحة حجرية وطبول ومراسٍ «هلب» من حجر مخروط كالرحى، وسلال لصيد السمك، وإبر من عظام الطيور، وأردية من ليف النرجيل، وحرابهم من أسنان السمك خصوصًا Sword fish. ويُسْتَرْعَى النظر بنوع خاص نقشهم على الخشب وحفرهم فيه، فقد بلغ حدًّا كبيرًا من الذوق الفني والمَقْدرة، ويرصعون بعضها بالصدف البَرَّاق.
وكانوا ينسجون أقمشتهم الرقيقة من ألياف قشور بعض الشجر Bark cloth فتبدو بيضاء كأنها الكتان، والفتل في سُمْك جدائل الخيش.
وهناك بعض بيوت للماوري كاملة من الخشب المحفور واللون الأحمر، وتملأ بين القوائم بأعواد الغاب تربطها شرائح رقيقة ملونة منه — كشغل الكراسي الخيزران — في نقوش وألوان فنية بديعة، والسقف مثلث «جمالون»، وأمام الدار شبه «فراندة»، والأعمدة كلها تُنْقَر في أشباح بشعة مخيفة، والبيت مظلم من داخله عديم النوافذ، وتُلْصَق بجميع جدرانه أصداف كبيرة تعكس قبس الضوء الذي يدخل من الباب فينير المكان، والخشب جُلُّه من شجر Kauri المتين أشهر أشجار نيوزيلند. وهناك دار للاستقبال كان يقيمها زعيمهم وسط البلدة للحفلات، واستقبال الضيفان، وعرض الرقص الذي يولعون به جدًّا، ويسمون دار الضيافة Hotunui، ومعاطفهم يُكْسَى بعضها بريش الطاووس. ومن معروضاتهم بعض توابيت موتاهم من خشب كالبرامي الكبيرة نُقِرَت في صورة أشباح مخيفة.

وشعوب المحيط الهادي في جزائره العدة ثلاثة: أهل ميلانيزيا، وهم سود أفريقيون بهم مميزات الزنوج في كل شيء، ويمتدون شرقًا إلى فيجي ونيوكالدونيا، وهم أقدم نزلاء جزائر المحيط الهادي، ثم أهل پولنيزنا، وهم قوقازيون وفدوا حديثًا من الهند على الراجح، واخترقوا ميلانيزيا وانتشروا بعيدًا في المحيط واختلطوا بغيرهم، لكنهم لا يزالون يحتفظون بمميزات الجنس الأبيض — ومنهم الماوري — ثم أهل ميكرونيزيا، تلك الجزر الصغيرة المرجانية شمال خط الاستواء، ولا يزال أصلهم مجهولًا، لكنهم أميل إلى المغول.

ولعل الماوري أهل زيلندة القدماء أكثرهم استعدادًا للرقي، ومن عاداتهم مضغ جذور نبات السرخس Ferns، وذلك بسبب سرعة انحلال أضراسهم وتآكلها، وكان هذا يبدو في الجماجم المعروضة بالمتحف، وهناك بعض آثار أبورجنيز أستراليا، وقليل من بابل والروم ومصر «جثتان وأوانٍ وخرز»، ويلي ذلك في الأهمية قسم الطيور والحيوانات المحنطة، عُرِضَت وسط بيئتها الطبيعية، وأعجبها طير زيلندة العجيب الكيوي Kiwi، ولعله أغرب طيور العالم؛ فليس له أجنحة قط ولا ذَنَب، وخياشيمه على حافة منقاره الطويل النحيل، وريشه يبدو كالشعر تمامًا، والبيض لا يتناسب مع الحيوان؛ فالطائر لا يزيد على الدجاجة الرومية المتوسطة بينما تجد بيضه يحكي بيض النعام حجمًا، وهو جبان نَفُور لا يبدو إلا ليلًا، وكاد أن ينقرض تقريبًا.
fig46
شكل ٣: مشاهد الطبيعة رائعة في زيلندة.
وثَمَّ قسم جيولوجي لا بأس به، وآخر نباتي، وقد استرعى نظري به كتل الصمغ الكبيرة، وزِنَةُ القطعة منها ٧٦ رطلًا، ويُسْتَمَدُّ من جذور شجر الكوري Kauri، وبعض كتله صفراء رائعة جميلة كأنها الكهرمان تمامًا، وقد تُرَى بعض الحشرات داخله، وتُصْنَع منه العقود.

متحف فاخر كلفهم ربع مليون جنيه، ويقع على أعلى ربوة تُشرف على المدينة، ويُوضَع في الدور العلوي منه قبر الجندي المجهول وحوله أسماء ٦٣٠٠ جندي ماتوا من مقاطعة أوكلند في الحرب العظمى، وقد رأيت المكتبة التي أهداها جورج جراي لها، وبها ١٤ ألف مجلد.

قمنا بعد الظهر نطوف بالمدينة وضواحيها في عربات السياحة Sightseeing cars، فاخترقنا أهم أحياء البلدة وأروعها شارع Queen الفسيح كثير الحركة، ثم أخذنا نعلو إلى الربى المجاورة، وعلى مدرجاتها تقوم المساكن الصغيرة الجميلة، ويندر أن نرى في المدينة كلها بيتًا يعلو أكثر من طبقتين، وجُلُّ البيوت من الخشب، ويندر أن تُبْنَى بالحجارة أو الآجُر؛ وتلك لكثرة غابات الكوري حولهم ولمتانة خشبه.

وقد زرنا ساحة سباق الخيل في متسع هائل نُسِّقَ تنسيقًا يفوق الوصف، ومساحته ٥٨٠ فدان وهبها أحد الأثرياء، ويُعَدُّ أجمل ساحة للسباق في نصف الكرة الجنوبي، ويتهافت القوم على المقامرة في تلك الحفلات الأسبوعية بشكل يسترعي النظر، وسباق الخيل أحب الملاهي وأكبر طرق المقامرة عندهم.

لبثنا نسير وسط تلك المخاريط وكلها بقايا لبراكين خامدة، وقد تجمع منها في دائرة قطرها خمسة أميال ٦٣ مخروطًا؛ مما يدل على أن المنطقة كانت نهبًا لتلك القوى الباطنية المخيفة أزمانًا، لكنك تعجب إذ لا تجد في زيلندة إلا بركانًا واحدًا ثائرًا اليوم هو Ngauruhoe وسط الجزيرة الشمالية، وعُلُوُّه ٧٥١٠ قدم؛ لذلك كانت جميع الأراضي من تربة سوداء بركانية غاية في الخصب، حتى إننا لم نكد نرى شبرًا لا تعلوه الخضرة، وحتى شقوق أسفلت الطريق كان ينمو بها العشب كثيفًا.
أخيرًا وصلنا طرف البلدة الشمالي، وعنده تكاد تتصل مياه البحرين الشرقي، وهو المحيط الهادي، والغربي، وهو بحر طسمان، ولا تعدو مسافة الفصل بينهما ميلًا ونصف، وفي تلك البقعة الضيقة المنعرجة أقيمت أوكلند، لكن خير مراسيها في الشرق؛ لذلك اضْطُرت البواخر من أستراليا أن تطوف بشمال الجزيرة مدة يوم كامل حتى تصلها، ومن ثَمَّ فكروا في حفر قناة تصل الشرق بالغرب، وتُقَرب زيلندة يومًا كاملًا من أستراليا، ويُطْلِقون على أوكلند Gateway of N. Zealand، وكنا نُبْصِر بالأطفال والصبية والفتيات في غدواتهم من المدارس وسط الأمطار الهاطلة وهم يلبسون المعاطف من الجلد البراق، والطراطير، وأحذية الكوتش طويلة العنق في شكل جذاب مضحك، وكثير من الأطفال يسيرون حُفاة، وفي ثياب رثة بعض الشيء، مما لم نلاحظه في أستراليا قط.
fig47
شكل ٤: نبات السرخس الكثيف ينمو في جميع أنحاء زيلندة الجديدة.
عدنا الساعة الخامسة بعد ذاك الطواف الطويل، لكن الجو كان مكفهرًا عبوسًا ماطرًا، والبرد قارسًا، ورغم ذلك استمتعنا بمناظر تلك الربى تكسوها الخُضرة، وتنثرها البيوت الخشبية حمراء السقوف. ولن أنسى منظر الميناء بدت من فوق الربى في جمال فاتن، وتنسيق بديع، وهي التي حدت بالحاكم Hobson سنة ١٨٤٠ أن يتخيرها مكانًا لعاصمة جديدة لزيلندة، إلى ذلك فإنها أسهل اتصالًا بالداخل، وأكثر أشجارًا، وأخصب تربة، أسسها منذ ٩٦ سنة، وأسماها على اسم الملكة فكتوريا؛ لذلك يُطْلَق عليها اسم The Queen city.
وأظرف ما يُذْكَر أن تلك المساحة البالغة ثلاثة آلاف فدان شراها من الماوري بالثمن الآتي: خمسين جنيهًا من النقود، وخمسين بطانية، وعشرين بنطلونًا، وعشرين قميصًا، وعشرة أصدار، وعشر قبعات، وأربعة صناديق من الطباق، وصندوق من الغلايين pipes، ومائة ياردة من القماش، وعشر أوانٍ حديدية، وكيس من السكر، وآخر من الدقيق، وعشرين بلطة.

وقد وُفِّقَ الرجل في اختياره، وأقبل القوم عليها، فأضحت أكثر البلاد تجارة وسكانًا «٢٢٣ ألفًا» ومقاطعة أوكلند من أغنى جهات الدنيا بمنتجات الألبان والمراعي، وقد ساعدها جوها المعتدل عن جو ولنجتون فأضحت العاصمة التجارية للبلاد.

(٣) إلى ولنجتون

قمت بقطار المساء إلى الجنوب صوب ولنجتون في أقصى جنوب الجزيرة الشمالية، وظل القطار يسير بنا زهاء خمس عشرة ساعة ٥٠٠ ميل، أي فوق ما بين مصر والأقصر، وسط أراضٍ مموجة تكسوها خضرة قصيرة، وتُسَوَّر بالأسلاك الشائكة قِطعًا كبيرة هي المزارع Sheep farms التي تُرَبَّى عليها المراعي، وكانت تُطْلَق فيها ألوف الخراف في صوفها الأبيض الكث الكثيف، ووجهها الذي يبدو مغضنًا في طيات دائرية بعضها خارج بعض، وسحنتها جميلة جدًّا، وقليل من الأرض يُخَصَّص للأبقار.

وبين آنٍ وآخَر كنا نمر بغابة من شجر الكوري والصنوبر، ولما أن قاربنا ولنجتون زاد تعقيد الجبال، وكثرت المسايل المائية والمساقط العالية، وبعض الجداول كان يتلوى ليات ثعبانية متعاقبة، والقرى كانت تقوم بيوتها في بطون تلك الوديان، لكن عددها قليل وبيوتها نادرة، ثم أوغلنا في مجموعة من أنفاق لا حصر لها، وأخيرًا وصلنا العاصمة وسط جو مكفهر قمطرير، وسيل للمطر لا ينقطع، واضطراب للريح شديد، وبرد قارس زمهرير. والبلدة معروفة بتقلب مناخها، وكثرة أنوائها دائمًا، وبخاصة في هذا الفصل فصل الشتاء؛ إذ تَسُودُ رياح جنوبية قارسة البرد، وتزجي السحاب، فيجعل الجو رطبًا لا يطاق، وقد ظل كذلك اليومين اللذين أقمتهما بها، فلم أستطع التجوال إلا راكبًا.

حللت نُزُل Barrats من الفنادق الفاخرة، ثم جاءت سيارة السياحة وطافت بنا البلد وضواحيه، فكان القسم التجاري والحكومي في المنخفضات المُجانبة للبحر، وجُلُّها أرض طمروها على حساب البحر، وأقاموا عليها أكبر المباني من الأسمنت والحجارة، على أن عددها محدود وارتفاعها لا يعلو كثيرًا. وقانون زيلندة لا يُبِيح العلو أكثر من ١٠٢ قدم — مع أن نيويورك قد علت بيوتها ١٠٢ دور.
fig48
شكل ٥: ولنجتون عاصمة نيوزيلند.
ومن المباني الفاخرة دار البريد والبرلمان والبلدية Town Hall، وبعض البنوك والشوارع لا تتبع نظامًا خاصًّا، بل تتعرج وتحكي أخواتها في أستراليا وأوكلند.

أما أحياء السُّكْنَى، فالرُّبَى المعقدة التي يعلو بعضها فوق ٦٥٠ قدم، وتقوم عليها البيوت الخشبية البديعة في ڤيلات من دور واحد، وكانت الصخور تبدو بركانية في الغالب، ومشققة وملتوية لشدة تَعَرُّض تلك البلاد لفعل الزلازل، فلا يكاد يمر أسبوع دون أن يحدث زلزال يضطرب له القوم، وذلك من الأسباب التي دعت إلى إقامة المساكن من الخشب؛ فإنه أكثر مقاومة لهزاتها.

أما منظر الميناء وخلجانها العديدة من فوق تلك الرُّبى، ومن جوانب الطرق الثعبانية المخيفة التي تتلوى على جوانبها صعودًا وهبوطًا، فذلك ما يعجز القلم عن وصفه. وأنت ترى متسعات الملاعب والسباق فسيحة في تلك المنخفضات، وتلك الميناء اختيرَت عاصمة البلاد سنة ١٨٦٥ بفضل اتساع مساحة مياهها العميقة التي تُقَدَّر بعشرين ألف فدان، وبفضل موقعها المتوسط بين الجزيرتين.

ولقد نمت أهميتها حتى شملت تجارتها ثلث تجارة البلاد، وبلغ سكانها ١٥٠ ألفًا، على أن جوها العَكِر ووعورة جبالها شجع أوكلند أن تفوقها أهمية، وكان بدء تأسيس المدينة في سنة ١٨٣٩، حين شرت مكانها شركة نيوزيلند، ثم حملت اسم دوق ولنجتون الذي شجع بكتاباته كشف أستراليا وتعميرها، وسيقيمون له مهرجانًا ذهبيًّا لمرور مائة عام سنة ١٩٤٠.

ومن جهاتها القيمة: المكتبة التي أهداها لها تاجر وطني سنة ١٩١٨ اسمه Alex Turnbull، بها ستون ألف مجلد من أفخر الكتب، ومنها ٣٢ ألف مجلد على جهات الباسفيك وحدها، وكذلك المتحف، وهو شبيه أخيه في أوكلند، ومجموعة الماوري به قيمة جدًّا، وحديقة النبات تحوي مجموعة قيمة من نبات زيلندة، وكذلك حديقة الحيوان، على أنهما صغيرتان بالنسبة لحدائق أستراليا. وقد استرعى نظري اهتمام البلدية بالبلد وأهله اهتمامًا فاق كل حد، فهي تبذل مجهودات جبارة في إصلاح الأراضي، وإقامة المباني والمتنزهات العامة والتموين. وقد أعجبني منظر عربات اللبن تُصفُّ فتكاد تسد الشارع على جانبيه؛ انتظارًا أمام الملبن الذي يعقم اللبن ويعبئه في زجاجات مغلقة، ويُوَزَّع على البيوت كل يوم. ويبلغ مقداره يوميًّا ٦٠٠٠ جالون.

أما شطوط الاستحمام فنادرة جدًّا؛ لأن الساحل صخري عنيف الموج، إلا في جهات رملها أسود قذر منفر، وفي نهاية تلك النواتئ الصخرية وقفنا نُطِل إلى الجنوب لنرى قبسًا من جبال كايكورو المغطاة بالثلوج في الجزيرة؛ لأن مسافة ما بين الجزيرتين هنا بوغاز كوك لا تزيد على ثلاثة عشر ميلًا، على أن جَماله لم يبد؛ لأن الجو كان أغبر منفرًا.

fig49
شكل ٦: تكاد بلدة واكا تخفيها الأبخرة الصاعدة من جوف الأرض.

ويُخَيَّل إليَّ أن ولنجتون تفوق أوكلند جمالًا بمينائها بورت نكلسون ذات الرءوس والمداخل الجذابة، وإنْ كان بعض الناس يفضل أوكلند عليها. قمت أودع ولنجتون الجميلة، وإن لم يكن استقبالها لنا كريمًا؛ لأن ريحها الصرصر ومطرها الغزير لازمنا طوال اليومين من ساعة وصول القطار الأول إلى قطار الرحيل. قام بنا القطار شمالًا بشرق، وسكة الحديد هنا تديرها الدولة، ومقياسها أضيق من المقاس العادي، وبها درجتان: الأولى والثانية، وهذه مَطِيَّة الجميع، والعربات مريحة جدًّا، مقاعدها مُعَدَّة لاثنين؛ واحد إلى اليمين، وواحد إلى اليسار، وبينهما طرقة، وهي مغطاة بالجلد المجزع الأحمر الفاخر، وتمر المدافئ تحت القدمين، والقاطرة من نوع ضخم جدًّا قوي ليستطيع الصعود فوق تلك الربى العاتية.

وللدولة ٣٢٠٠ ميل، وهي أرخص سكك الدنيا وأكثرها أمنًا؛ فقد بلغ المسافرون في الثماني سنوات الأخيرة ١٨٠ مليونًا لم تحدث خلالها حادثة واحدة. أخذنا نشق طريقنا وسط تلك الجبال المعقدة تكسوها الغابات وغالبها من الصنوبر، وتجري من دونها خوانق ووديان ملتوية خلَّابة يدوي فيها الماء ويضطرب. ومن تلك الجبال ما يكسوها الثلج، لكن ذلك قليل جدًّا، وكانت تقوم القرى البديعة في جهاتها المنخفضة، وكلما تقدمنا قَلَّت الجبال، وانفسحت شبه سهول مموجَة تكسوها خضرة لا يكاد يستقيم لها عود، وقد يكسوها عشب قصير ذهبي، وتنثرها بقع تسدها الغابات، وتلك الأراضي كلها مقسمة إلى مزارع تحوطها شباك السلك، والغنم الأبيض يعبث بعشبها، ويُجْهِز عليه في شهية لا تخبو.

ولقد كانت الشياه أحيانًا تُرَى مع صغارها تقرض العشب على جوانب من تلك المزارع زلقة منحدرة، بحيث يخيل إليك أنها لن تستقر في مكانها، وتَعْجَب إذ تَرَى كل تلك الأغنام عديمة الأذناب؛ وذلك لأنهم يبترونها منذ الصغر؛ لكيلا ينصرف مجهودها عن اللحم إلى الدسم والسمن الذي يُكَدَّس في الذَّنَب بدون جدوى.

ولم تقع عيني على واحدة غير بيضاء أو تشوبها بقعة، ولا تزال حال الفلاح هناك قاسية بسبب هبوط أثمان اللحوم والأصواف، وفي بعض تلك المزارع كانت تُطْلَق الماشية والخيول. وفي مواسم الجز Shearing يطوف الجزازون بآلاتهم وينزعون الصوف عن الأغنام، ثم يُرْسَل إلى المفارز لعزله إلى أنواعه الجيدة وغيرها، ثم يُعَدُّ للتصدير، وموسم الجز يبدأ حوالي ديسمبر من كل عام. ومهنة الجز يقوم بها الماوري غالبًا، فيحملون آلاتهم الصغيرة ويطوفون بالمزارع، وفي غالب المحطات كنا نرى مسالك من خشب تَمُرُّ فيها الأغنام فتُجَزُّ، ثم يُشْحَن صوفها في عربات سكة الحديد المُجَانِبَة لها.
أخذت تلك المتسعات تزيد امتدادًا كلما قاربنا بلدة Napier، وقليل منها يُزْرَع فاكهة وخضرًا؛ إذ جُلُّها للمرعى، ومتوسط ثمن الفدان منها جنيه، ويزيد بالطبع كلما قارب المدن، أخيرًا بعد ثماني ساعات دخلنا المدينة، وقد تحسَّن الجو كثيرًا بمجرد مغادرتنا لولنجتون، على أن السحاب لم ينقشع تمامًا. والبلدة صغيرة ووسط منطقة غنية جدًّا بمراعيها ومنتجاتها من الألبان واللحوم، وقد استرعى نظري نظافة المدينة وحداثة مبانيها الخشبية البَرَّاقة الملونة، لكني علمت أن زلزال سنة ١٩٣١ قد دكَّها تمامًا، وقد أكلت النيران جُلَّ مبانيها، لذلك جُدِّدَت في مجموعها.
وقد رأينا دار البلدية City hall القديم مهشمًا محترقًا؛ تُرِكَ دليلًا على قسوة الطبيعة في تلك الجهات. ولقد نسقوا شارع البحر بالحدائق والأنوار الليلية الوفيرة في إسراف جميل. قامت بنا السيارة تسير في عقد من جبال لا آخر لها جلُّها تُقَسَّم بأسوار السلك إلى مزارع للغنم غنية بعشبها؛ ولذلك جاد اللحم في زيلندة جدًّا؛ فهي من أُولَى بلاد العالم في اﻟ Mutton، لكن الصوف قد قلت قيمته، وفسدت فتلَتُه؛ لأن أغنام المرينو يجب أن تمرح في مساحة أفسح وعشب شحيح؛ لِتُجْهِدَ جسمها بالسير طويلًا؛ فيهزل اللحم، ويزكو الصوف.
fig50
شكل ٧: عند مدخل قرية الماوري واكاريواريوا.
ومتوسط المساحة المطلوبة للشاة فدان من الأرض المتوسطة الجودة، هذا إن أردنا لحمها، ومن تلك المزارع ما تبلع مساحته ٢٥ ألف فدان، لكن الحكومة تشجع اليوم توزيع الأراضي إلى مساحات أصغر، ولم تكن تلك المساحات تخلو من الشجر الكثير، وبعض جهات الجبال كان كثيف الغاب، وفير النمو العشبي أسفل الشجر، خصوصًا فصائل السرخس Fern.
fig51
شكل ٨: في قرية الماوري أمام دار الضيافة، وإلى جانبي كيري القائدة.
وكم مررنا بوديان ذات خوانق متلوية وفيرة الماء عنيفة التيار! وكان منظر الوديان من دوننا ساحرًا، وبخاصة من أعلى بقعة اسمها Turanga Kumu على ارتفاع ٢٨٠٠ قدم، ثم أخذنا نهبط، وتناولنا الشاي في لوكاندة صغيرة اسمها Taupo هي أكبر بحيرات زيلندة الجديدة، وطالما أبصرنا بقطعان من الخيول البرية تمرح في تلك السهول.
أخيرًا في منتصف الثانية مساء دخلنا wairaiki من المحطات البديعة، وتناولنا الغداء، ثم طفنا بوادي فواراتها العجيب بعد أن مررنا بعدة نافورات صغيرة يتصاعد بخارها ويغلي ماؤها. ولما أن انكشف ذاك الوادي أبصرنا به نهرًا كثير الخوانق والشلالات، متحجر الجوانب، وكل مياهه تغلي حرارة، وتنفجر من مصادرها على الجوانب وفي القاع في كثرة مخيفة، وتمتد تلك المنطقة ميلين أو يزيد. والعجيب أنه يَغُصُّ بالنبات الجميل رغم تلك الحرارة المتقدة.
fig52
شكل ٩: فوارة البخار كاربيبتي في وايراكي.
سرنا صوب رتوروا أعجوبة تلك المنطقة، فأوغلنا في أراضٍ مُجْدِبَة بركانية صخرها من النوع المثقب الذي يسمونه Pumice، ولا يصلح للزرع ولا للمرعى قط، ولذلك رأت الدولة استغلاله في غابات الصنوبر، فزرعت مساحات شاسعة من صغار الشجر، ولا تزال دائبة على ذلك العمل، وستصبح تلك الأشجار صالحة لقطع الخشب منها بعد ٣٥ سنة. وفي الرابعة بعد الظهر مررنا بقرية واكاريواريوا ثم دخلنا.

(٤) رتوروا

التي بدت مدينة كبيرة منسقة أَيَّمَا تنسيق، وجُلُّ أهلها يرتزقون من السائحين، وبها عدد كبير من الفنادق الفاخرة، ويؤمها الزائرون للاستشفاء بمياهها المعدنية أولًا، ولمشاهدة عجائب القوى الباطنة حولها ثانيًا، فما كدت أصل نُزُل Waiwera البديع حتى ألقيت بحقائبي وأسرعت لأرى عجائب ذاك البلد، فقصدت قرية الماوري الصغيرة التي تقع على شاطئ بحيرة رتوروا، وتسمى Ohinim utu، فهالني ما رأيت: بيوت خشبية أنيقة يقطنها الماوري تقوم وسط نيران يتصاعد بخارها من كل ناحية، ففي الطرق وفي حدائق البيوت وإلى جوار شاطئ البحيرة يتصاعد بخار يسد الآفاق، وتسمع له أزيزًا أو دويًّا كأنه يخرج خلال مصفاة من الصخر، وهنا وهناك ترى فتحات يغلي فيها الماء، وتسمع دوي فقاقيعه.
وأَعْجَبُ كيف يستطيع هؤلاء الناس، وبخاصة الأطفال، السير وسط تلك الأخطار، وكثير منهم يغترف الماء الحار ليحمله إلى البيت للطبخ أو الغسيل، وبعضهم يستحم في تلك البِرَكِ. وعلى ربوة فوق تلك القرية نَبْعٌ يُسَمُّونَه fairy spring ماؤه لذيذ بارد رائق الزُّرْقَة، يكثر به سمك ملون Trout يلعب في كثرة مدهشة، ويباح للناس صيده، ومن الأطفال من كان يصيد السمكة ثم يسارع فيغمرها في النبع الفوار فَتُسْلَق ويأكلها على الفور.

ولقد دخلت كنيسة الماوري هناك، فإذا بنقوشها فاخرة كلها في عمد من الخشب نُقِرَت في أشباح مخيفة، وزُيِّنَت بالصدف كعادتهم، ومنظر تلك البلدة ليلًا يثير الرعب؛ لأن البخار يظهر في وضوح، ويسد آفاق البلدة — فالشمس تُخَفِّفُ من وضوحه نهارًا. ولقد خُيِّلَ إليَّ أنها بلدة تلتهمها النيران، والناس يأوون إلى منازلهم الصغيرة الخشبية تسمع حديثهم ولا تكاد ترى مقرهم من كثرة الأبخرة، وبعضهم كان ينام في «الفراندة» الخارجية ولا يحس البرد على قسوته؛ لأن الأبخرة تحوطه من كل جوانبه.

fig53
شكل ١٠: فوارات زيلندة الجديدة.
عُدت أزور بعض الحمامات، وهي هناك كثيرة، وأكبرها تديرها الحكومة، فما كدت أقرب أكبرها حتى كان البخار يتصاعد إلى عنان السماء، وإذا بالنبع في دائرة قطرها زهاء أربعة أمتار يصعد ماؤه البخار في مدخنة ضخمة ويسمونه نبع Rachell، ومنه تأخذ الأنابيب الماء القلوي إلى مقر الاستحمام، وهو حوض هائل مكشوف إلى السماء أُحِيطَ بالمقاعد والفراندات، واختلط به المستحمون والمستحمات، ويتصاعد بخاره دائمًا وكأنه نبع آخر، ودرجة الماء ٢١٢°ف، أي درجة الغليان تمامًا، وهو يضاء بالنور الأزرق البنفسجي ليلًا، فيبدو المنظر رائعًا، خصوصًا إذا نظرته من وسط المتنزهات الفاخرة التي تزين المكان إلى مساحات بعيدة، وأنت تشم رائحة الكبريت تعبق الجو في جميع أرجاء البلدة، وقريبة شبه برائحة حمامات حلوان تمامًا.

(٥) واكاريواريوا

قمت مبكرًا صباح الجمعة، وأقلتني سيارة إلى قرية واكاريواريوا Whakarewarewa على بُعْد ميلين من رتوروا، وما كدت أصلها حتى أبصرت مجموعة من المساكن الخشبية الأنيقة لا تكاد تبدو من كثرة الأبخرة المتصاعدة إلى عنان السماء من كل فج، وحولها سور وطيء من شرائح خشبية، ولها بوابة من قوائم خشبية حمراء نُقِرَت في أشباح مخيفة كعادة الماوري.
نزلت بالباب فتقدم إليَّ جمع من سيدات الماوري وفتياتهم يتمايلن في دلال ويَقُلْنَ: أتريد مرشدًا يا سيدي Guide Sir؟ قلت: نعم، فقَدَّمَتْ إليَّ إحداهن بطاقة اسمها وعليها: Kiri، قلت: وهل هذا اسمك؟ قالت: بل مختصَرُهُ؛ فهو بالكامل: Kiriwakariwi، فأخذت تقودني إلى مفاوز تلك القرية العجيبة: هنا مجموعة من فوارات حارة تقذف بالماء الحار في درجة الغليان إلى عنان الجو، وهناك فتحات يتصاعد منها بخار كثيف وهو يزمجر في صوت مرعب، وفي مكان آخر عيون من الطين الأبيض، وأخرى من الوحل الأسود يغلي في فقاقيع كبيرة، والأرض تحت قدمي أينما سرت تهتز وتَنْفُس عَمَّا في جوفها في أصوات فاترة، وبخار خفيف.

وعند بعض تلك العيون ذات المياه الغالية المضطربة رأيت جمعًا من الفتيات يغسلن الثياب وهن يتحادثن ويتسامرن، ويكاد البخار يحجبهن عن الأنظار، وفي مكان آخر أحاطوا بعض الفتحات بألواح خشبية، وعلقوا فيها سلاسل البطاطس أو قدور الشاي، وفي فترة وجيرة يُعَدُّ للأكل أو الشرب، وخلال كل أولئك كنت أرى البيوت الخشبية منثورة، والأطفال يمرحون هنا وهناك في غير وَجلٍ، وبعضهم كان غاطسًا يلعب ويستحم في إحدى تلك البِرَك الصغيرة، ويمر بالبلدة نهير صغير تجد ماءه باردًا هنا، وبعد أمتار يبدو ساخنًا لكثرة ما تُلقي فيه العيون الجانبية، ثم يعود باردًا، وهكذا.

ومن العجيب أنهم يصيدون السمك من فرع منه إلى اليمين، ثم يغمر الطفل السمكة في الشعبة اليسرى الحارة فتُشْوَى ويأكلها على الفور، وأكبر تلك الفوارات يسمونه Pohutu، وقد علمت أنه خمد منذ ثلاثة أسابيع، وعندما يثور يعرفونه بعلامات جانبية من المياه المتفجرة، فتُدَقُّ الأجراس، أو يُنادي المنادي إيذانًا بفورته ليسارع الكل إليه، ويشاهدوا انفجاره الذي قد يصل ١٨٠ قدمًا في الجو، وإلى جواره في شقوق الصخر تضع الطيور البرية بيضها؛ لأنه أدفأ لها، وأسهل لتفريخها.
fig54
شكل ١١: ومن النافورات ما يقذف بالأوحال المستعرة.

استرعى نظري بين البيوت بناء خشبي مستطيل كبير أمامه «فراندة»، وكله من خرط الخشب في الأشباح المخيفة، فقلت: وما هذا؟ قالت: دار ضيافة البلدة، وإلى جواره واحد أصغر منه مرفوع على قوائم خشبية إلى السماء هو مستودع الغذاء الذي سيُقَدَّم إلى الضيفان، وفي ذاك البيت الكبير تُعْقَدُ مجتمعاتهم وأفراحهم و«محازنهم» ومراقصهم، وعندئذ يشاطر أهل القرى الأخرى فيأوون إلى تلك الدار.

وكان كثير من السيدات في «فراندات» بيوتهن دائبات على شغل النسج والجدل من ألياف الكتان لُوِّنَت بالأسود والأحمر في أحزمة حول الجبهة، وحول الخصر، وداليات من عيدان الكتان كُسِّرَت أجزاء منها في فِتَل رفيعة، وتُرِكَت أخرى كأنها قصب الغاب الرفيع، وتلك تُلْبَس من الخصر وتتدلى على الثوب أو على الجسد العاري، فتروح وتغدو وتعطي صوتًا يسترعى الأنظار، ويلبسه النساء والرجال. ووجوه القوم سمراء عريضة التقاطيع جميلتها، والشعور غزيرة هادلة سوداء برَّاقة يُرسلها السيدات إلى ما دون الكتفين، والأجسام أميل إلى الغِلظة والسِّمنة، وبخاصة النساء، وفيهن جاذبية كبيرة، وخفة روح؛ إذ لا تكاد تفارق البسمات ثغورهن أبدًا.

والكل أميل إلى الاجتماع يسارع إليك بالحديث والسؤال عنك وعمَّا حولك في رقة زائدة، ويعيشون عيشة مرحة سعيدة لا يحملون همًّا، وسواء أَكَثُر رزقهم أم شَحَّ فَهُمْ سُعداء في كلتا الحالتين، ولا يعبئون بالدنيا أبدًا، ولذلك لم يعرفوا قيمة النقود، ومنهم بعض الأثرياء الذين يمتلكون مئات الألوف من الجنيهات، لكنهم يبددون منها بمقادير غير معقولة، وبعضهم بدد ماله كله ولا يزال يشعر بالسعادة، ولا يبدي من الهَم ِّشيئًا، وحتى فقراؤُهم وحفاتُهم الذين كنا نراهم في ثياب خَلِقَة كانوا يتقدمون إليَّ في رقة ويتطوعون للإرشاد، ولا يبدو عليهم إِلْحَاف في طلب شيء من الهبات قط؛ فإن قدمت إليهم شيئًا تسلموه شاكرين، وإن لم يكُ من ذلك شيء انصرفوا باسمين غير ممتعضين.

ومنطقهم عذب سائغ موسيقي، وجميع الحروف تبدو ممطوطة ناعمة تشبه اللغة الطليانية، وكل حرف في الكلمة لا بد أن يُنْطَق في وضوح، وفي غير إدغام. وكنا نرى جُلَّ أسماء البلاد والجبال تحتفظ بأصلها الماوري، وتحاول الدولة الاحتفاظ بتلك الأسماء ما استطاعت. والماوري فصيح ذلق اللسان خطيب بالفطرة، وهم يباهون بأدب لغتهم، ويفاخرون بعضهم ببلاغتهم في القول.

عُدت من تلك القرية السحرية التي يعيش أهلها وسط أتون متقد مضطرب صباحَ مساءَ وهم ناعمون راغدون، وقد اخترقت قنطرة على جانب من النهر الذي يجري فيه الماء الساخن، وكان الأطفال يَثِبُون من أعلى القنطرة إلى ذاك الماء ليلتقطوا الدريهمات التي يلقيها السائحون فيه. والماوري هؤلاء يختلطون بالبيض في إخاء ومساواة كاملة، مدارسهم واحدة، وحقوقهم متعادلة، ولهم أعضاؤهم في البرلمان، على أن الدولة تميل إلى منعهم من المصاهرة مع البيض حتى لا ينقرض الماوري باندماجه في الجنس الأبيض وافر العدد، فمجموع سكان البلاد ١٥٥١٧٨٧ منهم ٧٣٧١٥ من الماوري.

وايمانجو

قامت بنا السيارة إلى رحلة Waimangu؛ فسِرْنا في أرض بركانية تعلو وتهبط ويندر نبتها، ثم دخلنا في مجموعة مخاريط بركانية أعلاها Tarawera بِلَوْنِه الأسود المغبر، ثم أشرفنا على هوة تركنا عندها السيارات وأخذنا نسير على الأقدام فوق أرض مرتجفة خلال خوانق عميقة كلها تصعد أبخرة ومياهًا تغلي، ثم وقفنا بِهُوَّةٍ مستديرة مشرفة الصخور تملؤها المياه الزرقاء الصافية في حرارة مضطربة، وإلى يمينها أخرى أصغر منها وأعلى مستوى، وبها ماء درجته ساخنة لكنها دون الأولى حرارة، ثم هوينا إلى خانق يجري وسطه ماء يتلوى يستمد من فوارات الضفاف التي لا تخبو أبدًا.
fig55
شكل ١٢: يغتسلن في مياه الفوارات الطبيعية.
وأخيرًا أشرفنا على بحيرة فسيحة ماؤها صافٍ، وركبنا الزورق البخاري، وما كدنا نخرج من الخلجان الجانبية حتى بدت شواطئها في مداخن مستمرة إلى مد البصر، ويسمونها بحيرة Rotomahana أي المُسْتَعِرَة، ثم تسلقنا الرُّبَى مشيًا إلى بحيرة أعلى منها، وأعظم مساحة، وهي بحيرة Tarawera التي انفجر من حولها البركان في آخر ثوراته سنة ١٨٨٦ فَغَيَّرَ معالم المكان؛ إذ أباد بلادًا وبحيرات، وملأ أخرى بالمياه المُسْتَمَدة من فواراته، وقد أرونا بقايا القريتين اللتين طمرهما بالطين الحار وأهلك أهلهما من الماوري، وقد كان هناك بعض مساكن للجنس الأبيض وبعض الفنادق الكبيرة فأتى عليها جميعًا.

اخترقنا جانبًا من تلك البحيرة في زورق آخر، ثم ركبنا سيارة هناك مَرَّت بنا في غابات من الصنوبر الذي زرعته الدولة للمستقبل، ثم بدت أمامنا بحيرتان: الخضراء إلى اليسار، والزرقاء إلى اليمين، والمكان مُحَاط كله بمخاريط البراكين التي لا تُحْصَى، ولا تكاد تغيب عن العين الأبخرة المتصاعدة.

fig56
شكل ١٣: الطبخ والتسخين على حرارة الأرض في نيوزيلند.

وأخيرًا ظهرت بحيرة رتوروا نفسها وعلى جوانبها مدينة رتروا وقرى الماوري التي زُرْناها من قبلُ: منطقة ساحرة أُحِيطَت بمجموعة من روائع الطبيعة من بحيرات وجبال وغابات ووديان وأخاديد، وزُوِّدَت بتلك الفوارات والمياه المعدنية الحارة في شكل لم أعهده من قبل، اللهم إلَّا في أيسلندة بشكل أصغر منه هنا، وهي تلي في ذلك فوارات يلوستون بارك في جبال الرُّكي من غرب الولايات المتحدة.

فيلوستون بارك، ورتوروا، وأيسلندة قد احتكرت منابع الفوارات في العالم تقريبًا، ويسمونها Gysers، وهي باللغة الأيسلندية تدل على النبع الفوار. تَعْجَبُ إذ ترى الناس يعيشون مطمئنين إلى تلك المخاطر المُحْدِقة بهم، فإذا خاطبتهم في ذلك قالوا: ذلك خير وأجدى؛ لأن كثرة تلك الأبخرة المتصاعدة عندنا من بواطن الأرض هي خير ضمين بعدم حدوث انفجارات عنيفة، أو زلازل مدمرة، فكأنها صمام الأمن Safety Valve لبلاد نيوزيلند كلها.
fig57
شكل ١٤: تنتظر الغادة ريثما تشوي سلة البطاطس في حرارة الفوارات.
حل المساء ودخلتُ غرفة الطعام، وإذا بمُظاهرة ترحيب بي من ركن من أركانها، ولما أن ألفيت جمعًا من السيدات الأمريكيات اللاتي كن معي على ظهر الباخرة نياجرا حييتهم، وأخذنا نقصُّ ما راقنا من تلك الجهات، فقلن: هلَّا جئت معنا لتحضر Maori Concert؟ قلت: نعم، فذهبنا لحضور ذاك الحفل، فأخذ فتيات الماوري بجمالهن الساحر، وأرديتهن الجذابة، وإلى جوارهن الفتيان يعرضن علينا طرفًا من غنائهم ورقصهم Poi، فكانت الأنغام مشجية، وجلها محزنة من نغمة الصبا، وقريبة شبه بأنغام هواي.

وكان الجميع يغنون سويًّا، ومنهم الصوت الرفيع والغليظ في انسجام بديع، ثم عرضوا رقصات مختلفة؛ فرقصة الزوارق وهن جلوس وراء بعضهن وأرجلهن ممدودة، وأذرعهن تلمس الأكتاف، ويحركن الأذرع والأرجل، فيُخَيَّلُ إليك أنهن جمع من البحارة يجذفون ويرتلون. وتلك أحب الرقصات إليهم؛ لأنهم شُهِروا بقدرتهم على بناء الزوارق النحيلة وركوبها في عرض المحيط الهادي المديد، ثم رقصة الفرح، ويقفن صفوفًا متباعدة، وكل صف يبدي حركات تغاير الآخر بالأيدي والأرجل، وصفٌّ واقف والتالي له راكع أو جالس.

ولعل أغرب الكل ما يسمونه Haka، وفي ذلك تنتهي الرقصة أو الأغنية بتكشير السِّحن، ولَيِّ الجباه، وتعويج الخدود، وفتح الأبواق، وإخراج الألسن في شكل بشع، ويشفع ذلك بصيحة مزعجة، ويحاول كل رجل وسيدة أن يُظْهِر حركات غير التي يظهرها الثاني، إلى ذلك الرفس بالأرجل، وتلك يُقْصَد بها تخويف العدو أو التهكم عليه، أو إدخال السرور على الإخوان، كل نوع بحسب المناسبة التي تتطلبه، وتلك من أقسى الدروس التي يُدَرَّب عليها أطفالهم، ولا يُحْتَرم الواحد منهم إلا إذا أتقنها، مع أنها تبدو في ظني مظهرًا وحشيًّا منفرًا، وقد تُعْرَف هذه برقصة الحرب أحيانًا.
وكنت أرى الأطفال يتمرنون عليها في ألعابهم الخاصة وسط الطرق، وكلما تحدثت إلى أحدهم بدرني قائلًا: هل رأيت الهاكا Haka؟ كأنها أهم شيء في نظرهم، وثَمَّ رقصٌ دينيٌّ، وكانت ديانتهم خليطًا من الخرافات وعبادة الجن، والوثوق في السحرة من القساوسة، ويظهر أن الماوري عَبَدَ الطبيعة إلى حد كبير؛ لأنك تراه يتخذ من مظاهرها أسماء له ولذويه، ويميل إلى دفن جثته عند موته في مكان ناءٍ منعزلٍ وسطَ غابة، أو على بركان، أو فوق ذروة جبل، وعندئذ يُصبح المكان مقدسًا يحرم أن يقتل الإنسان حول القبر طائرًا أو حيوانًا، وإن فعل عرض نفسه للقتل. وكنت أرى تلك القبور الفردية قائمة وسط الشجر في طريقنا، وهم في ذلك يشبهون اليابانيين.

والماوري يُعَدُّ من أكثر الشعوب الفطرية عقلًا ورزانةً، واحترامًا للنظام والقانون، واستعدادهم للرقي عظيم، وذوقهم الفني تلمسه أينما سرت في ملابسهم وشعورهم، وتنسيق بيوتهم، وبخاصة صناعة نقر الخشب وترصيعه، وموسيقاهم مشجية. ومن فنونهم التي كانت شائعة: النقش على الوجوه في رسوم مختلفة، ولا يزال يُرَى أثر ذلك في المسنين منهم، وبخاصة النساء، فكنت أراهن وقد خضبن ذقونهن بالوشم الأزرق في أشكال عدة، لكن تلك العادة آخذة في الزوال اليوم، إذ قَلَّمَا كنت أشاهدها في الجيل الناشئ.

وايتومو ومغارة اليراع

ثم عرجت على Waitomo على بُعْدِ مائة ميل إلى غرب رتوروا؛ لأزور مغاراتها ذائعة الصيت، فدخلت مجموعةً من مغارات تفوق تلك التي حدثتك عنها في الجبال الزرقاء قرب سدني بأستراليا، لكنَّ أعجوبةَ الجميع مغارة اليراع Glow worm Grotto، دخلناها وبعد أن قطعنا مفاوز ملتوية أشرفنا على بحيرة فوقها أقبية طبيعية، وهنا رأينا عجبًا: رأينا سماء تتلألأ بثريات تعدها بالملايين، وهي تُبهر النظر بضوئها، وتحتها ماء البركة يعكس أضواءها في مشهد عجيب.
fig58
شكل ١٥: شاطئ البحيرة الملتهبة روتوماهاتا في زيلندة.

ويتدلى من الأقبية خيوط رفيعة في طول بين الشبر والشبرين، وتلك مادة تفرزها اليراعة من فمها، وتتدلى بها هكذا لِقَنْصِ فريستها من البعوض والذباب والحشرات الصغيرة التي إذا ما رأت ضوء اليراع طارت إليه، ومتى لمست الخيوط التصقت بها فلا تستطيع الإفلات، وعندئذ تلتهم اليراعة الخيط أولًا حتى تقرب الفريسة منها فتمتصها، ثم تأكل ما بقي منها، وتلك الخيوط تبدو محببة بيضاء. واليراعة في ضِعف حجم الذبابة العادية، وهي لا تَسمع ولا تَرى، لكنها تحس تموجات الأثير بسرعة عجيبة، وعندئذ تخفي ضوءها لكيلا يراها أحد؛ لذلك نبهنا الدليل أن نسير على مهل، وألا نتكلم قط ولا نسعل أو نبدي صوتًا أو حركة عنيفة ونحن نركب زورقًا تحت تلك السماء المتلألئة.

وتلك اليراعة تمر على أطوار أربع: البَيْض، والدودة الصغيرة ثم الكبيرة — وهنا أكبر نشاطها وأقوى ضوئها — ثم طور الفراش. وتلك المغارة هي الوحيدة من نوعها في العالم، ويعدونها إحدى عجائب الدنيا، فكيف سلك اليراع سبيله إليها؟ وكيف آوت طائفة من الحشرات في مائها الآسن؟ ذلك ما لا يعلمه إلا علَّام الغيوب.

(٦) الماوري

قمت أبرح رتوروا عائدًا إلى أوكلند مُوَدِّعًا طوائف الماوري أول من عَمَّر بلاد نيوزيلند، فلقد وفدوا إليها جماعات متفرقة بدأت أُولَاها سنة ١١٥٠، وأكبر مجموعة منهم وصلت سنة ١٣٥٠، ويذكرونهم باسم Tohungas أو القساوسة، ويفاخرون بالانتساب إليهم، وكلٌّ منهم إلى اليوم يعرف الزورق الذي جاء عليه جده فيقول لك الواحد: أنا وفدت على Arawa، والآخر يقول: لا، بل على Tokitimu أو Tainui، أو Aotea أو Tokomaru. ويخالونهم وفدوا من تاهيتي المجاورة ويسمونها Ha wauki، ويقول مؤرخوهم: إن أول كاشف لنيوزيلند الملاح Kupe من جزيرة Raiatea إحدى جزائر سوسيتي، ورفيقه Mgake سنة ٩٢٥، وعادا يَقُصَّان عن تلك الأرض الغنية غير المسكونة، وقد أسموها Ao-tea-roa أي الأرض المشمسة.
fig59
شكل ١٦: رقصة ماورية.
وقد مضى قرنان ونصف بعد ذلك ولم يذهب أحد منهم إليها، لكن زيلندة قد دخلها قوم من أخلاط الميلانيزيين والبولنيزيين، وهؤلاء قد استعبدهم الماوري، ولا تزال منهم بقية في جزائر شاتام، ويقول العالم الأثنولوجيست الماوري Ti Rangi Hirowa: إن سبب هجرتهم الضغط عليهم بالحروب في جزائرهم الأولى وتكاثر عددهم في تلك المساحات الضيقة، ولا يُعْرَف منشؤهم باليقين؛ ففيهم الدم المغولي، وبعض أسماء أماكنهم، وكذلك هم قريبو شبه بالزنوج في ضخامة أنوفهم وشفاههم، ولكن المظهر الغالب الأبيض القوقازي، فهل كان أصلهم من هنود أمريكا وفدوا إلى الجزائر، أو من مصر جاءوا عن طريق الهند واليابان؟
ذلك أمر لا يزال يفتقر إلى إثبات، ولقد حار العلماء في ذلك حتى أسموا الماوري لغز المحيط الهادي Riddle of the Pacific، ولقد ظلوا أصحاب البلاد حتى جاء الجنس الأبيض، وأول من رآهم طسمان سنة ١٦٤٢، ثم تلاه كابتن كوك سنة ١٧٦٩، ولما بدأ وفود الأوربيين خشي الماوري أن يُغْلَبُوا في بلادهم، فشنوا الحروب عليهم، خصوصًا وأن طبقة المهاجرين الأوائل لم تكن من خيرة الناس خُلقًا، بل من المنفيين والمجرمين، فأساءوا إلى الماوري، واستبوا نساءهم.

ولقد دوخت تلك الحروب الأوروبيين وأدهشتهم بمهارة استعدادها، وخفة حركاتها، على أن عددًا لا بأس به ظل مواليًا للإنجليز، وذلك هو الذي قَصَّر أمَد الحروب، وتخصهم الدولة الآن بزهاء ستة ملايين من الأفدنة هي وَقْفٌ عليهم وعلى ذويهم.

fig60
شكل ١٧: رقصة الپوي أحبها لديهم.

ولما رآهم كوك لم يكونوا يعرفون زراعة الحبوب، ولا صناعة الخزف والمعادن والجلود، ولم يمارسوا الرعاية، وجهلوا الكتابة والقراءة، لكنهم استطاعوا أن يعيشوا بين الهمج مُسَوَّدِين ممتازين بفضل جدهم وذكائهم، ولقد كانوا موضع الاحترام، ومثار الفزع، بذئابيتهم القاسية، ووجوههم المنقوشة، وحروبهم الشعواء، وشجاعتهم النادرة، خصوصًا في الملاحة وجَوْب البحار، على أن ميلهم للمعاشرة، وفرط أدبهم وحبهم للاستطلاع، واستعدادهم للتعليم والتجارة، ساعد على سرعة اختلاطهم بالأجانب.

وكانت معيشتهم في نظام «كميوني» شيوعي يسوده زعماء أشداء، ويدعمه سياج من تقاليد أسموها تابو Tapu. وكانت تقوم ديانتهم على عبادة الأصنام المنوعة، وكان قساوستهم الملقبون Tohunga هم أطباؤهم ورواتهم، ولم يزد عددهم على ١٥٠ ألفًا، وقد نزل اليوم إلى ٨٠ ألفًا بسبب الحروب وفَتْكِ الأمراض الصدرية بهم، ورداءة الحال الصحية بينهم، ولاستخدام الطباق والخمور والملابس الأوروبية.

لكن ظهر منهم علماء خدموا جنسهم، وعنوا بثقافة بني جلدتهم، وبدأت دماؤهم تختلط بالبيض، وأكثرهم ينزل حول منابع المياه الحارة لأنهم استخدموها في شئونهم، ولا يزالون يحتفظون بالكثير من عاداتهم، من بينها: التحية بمسح الأنوف ووضع اليد في اليد، أما التقبيل فيحتقرونه ويمجُّونه — وزهاء نصف سكان العالم كذلك: المغول والملايو والپولينيزيين — إلى ذلك لبس المعاطف من أهداب الكتان، والتزين بالريش، وسماع الموسيقى، وممارسة الرقص، وهم ميالون إلى الرياضة، ورغم أنهم مهروا في كرة القدم والجولف؛ فإنهم يحتفظون بألعابهم، وبخاصة السباحة، وقنص الطيور، والمسابقة بالزوارق.

fig61
شكل ١٨: رقصة البحر عند الماوري.
أقلني القطار عائدًا إلى أوكلند، وقد كثرت في الطريق مزارع الأغنام، وتعددت البلاد الصغيرة التي يشتغل أهلها بتصديرها هي ومنتجاتها، وكنا نرى كثيرًا من مصانع الجبن والزبد واللحوم، ويقولون: إن مقدار الفيتامين الذي بها يفوق نظائرها في البلاد الأخرى بفضل وفرة الشمس وجودة العشب. وقد استرعى نظري في الطريق أشجار يسمونها Cobbage tree كالنخيل الرفيع ينتهي بفروع على كل «شوشة» مسننة «كاللاتانيا»، وكذلك فاكهة مستديرة الشكل Passion fruit بغشاء قرنفلي مُسْوَد سميك كالجلد، إذا كسرته ظهرت به مادة كالطماطم شكلًا وطعمًا، وهم يحبونها جميعًا رغم أني ألفيتها منفرة المذاق جدًّا.
وفي صباح السبت ٢٥ يوليو غادرتُ زيلندة الجديدة، تلك البلاد التي أحببتها الحب كله، فهي قارة أو عالم مصغر حوى بدائع الطبيعة جميعها من جبال وثلوج وغابات ووديان وبراكين وفوارات وسهول ومروج، كل ذلك تراه في الجزيرة الشمالية، ولقد فوَّتني قِصَر الزمن زيارة الجزيرة الجنوبية بمشاهد روائع جبالها وثلاجاتها، وبخاصة حول قمة Cook وفيوردات شاطئها الجنوبي الغربي البري الذي لا يقطنه أحد، وسهول كانتربري الهائلة مقر مزارع الغلال؛ ففي تلك الجزائر مجال لكل زائر مهما اختلفت نزعته، وحتى الحيوان الذي كان نادر الوجود بها أضحى اليوم وفيرًا.

وتَعْجَب إذ تعلم أنه عندما كشف كوك الجزيرة لم يكن بها أي حيوان من ذوات الأربع، وأقدم ما تراه اليوم هناك الحلوف، ولقد كان مع كوك في سفينته قليل منه يوم وصل البلاد، فأطلقها هناك فسارت في الأرض ونما عددها اليوم؛ لذلك لا تزال البلاد عديمة الوحوش والأفاعي. وأهل البلاد بلغوا من المدنية والتهذيب حدًّا كبيرًا يفوق كثيرًا من بلاد أوروبا ولمَّا يزد عمرهم هنا على مائة سنة؛ إذ أول استعمار منظم للبلاد بدأ سنة ١٨٤٠، ونحو ٧٥٪ من السكان اليوم وُلِدُوا في زيلندة، و٢٠٪ في إنجلترا، أعني أن زهاء ٩٤٪ من السكان من أصل إنجليزي، و٥٪ من الماوري، وفوق نصف الناس من سكان المدن؛ لذلك قَلَّ عدد القرى التي كنا نصادفها في سفرنا هناك.

والدولة تشرف على الكثير من موارد الإنتاج، ولذلك كانوا موظفوها زهاء خُمْس مجموع السكان، وهم يُؤْثِرون التوظف في الحكومة؛ لأنها تدفع لهم أجورًا عالية. وليس للدولة دِين خاص، وجو البلاد معتدل جميعًا، وهو صحي إلى أكبر حد، فنسبة الوفيات عمومًا ٨٫٤٨ في الألف «أستراليا ٩٫٢١، وإنجلترا ١٣٫٧، وأمريكا ١٤٫٥»، وبين الأطفال دون سن السنة ٣٢٫١١ في الألف، وهي أصغر نسبة في الدنيا جميعًا، وكذلك متوسط العمر فهو ٦٥ سنة للرجال و٦٨ للنساء، وتلك أعلى نسبة في الدنيا.

والسكان مرحون اجتماعيون مؤدبون كرام يسارعون بالمصادقة، ولا عجب فتلك صفات أكسبهم إياها ركوب البحر، فهم ملاحون بفطرتهم، ومن كان يدير السفن لا بد أن يسحر المسافرين بظرفه وأدبه، والزيلندي أكثر سكان الأرض ركوبًا للبحر وقطعًا للمسافات البحرية الشاسعة. وأساس موارد البلاد مزارع الرعاية وما تنتج من ألبان ولحوم وأصواف، تلك التي يجزونها باليد والآلات. وقد بلغ من مهارتهم أن الرجل ينزع الصوف كله من الشاة قطعة واحدة فيبدو كأنه الفرو. ولا بد أن تُغْمَر الخراف قبل الجز في سائل مُعَقِّم.

fig62
شكل ١٩: تلك الرقصة قريبة شبه برقص الريف عندنا.
ويناهز عدد الأغنام بها أربعين مليونًا — لا يجاوز المرينو المليون؛ لأن اللحم هو الأساس وليس الصوف كأستراليا — والماشية ملايين، أي أن كل فرد من السكان له بقرة حلوب، وتسعة عشر رأسًا من الغنم، والقوم أغنياء لأن مجموع ثروة الأفراد قُدِّرَ بنحو ٦٤٥ مليون جنيه، أي ٤٣٥ جنيهًا لكل فرد. وتوزيع الثروة متعادل لا تكاد تحس فوارق الطبقات قط، ومستوى المعيشة مرتفع جدًّا، وحاجياتهم متعددة حتى بين أفقر الناس.

ويُعَدُّ الزيلندي من كبار أكلة اللحوم؛ فمتوسط استهلاك الفرد يقرب من رطل من اللحم يوميًّا، ونصف رطل من السكر، وسبعة أرطال من الشاي في العام، فإذا استبعدت الأطفال والمرضى كان استهلاك الفرد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير، وبَعْد الشاي في الشُّرب الجعة والويسكي، ويكاد يشرب الشاي مع الأكلات جميعًا، ولا يحبه إلا قويًّا أحمر اللون قاتمًا. أما الألعاب وانهماكه في مختلف أنواعها، فذلك أمر يسترعي النظر؛ فهو لا يقل عن الأسترالي في ذلك، وأنت ترى حوانيت بيع مهمات اللعب في كل شارع، وفوق نصف أوراق الجرائد نَشْرٌ عن الألعاب المختلفة، وبيع تذاكر السباق والكرة والجولف وما إليها، يُعْرَضُ ويُرَوَّجُ له بإعلانات كبيرة تُعَلَّق في كل مكان، وقد حضرت يوم لعب فريق منتخب زيلندة مع فريق إنجلترا، فهالني ما رأيته من تهافت على شراء التذاكر وزحام مدهش داخل الملعب وخارجه.

fig63
شكل ٢٠: الرقص ضروب شتى عند الماوري.

قمت أودع تلك البلاد التي حباها الله في نطاقها الضيق الذي لا يزيد على مساحة إنجلترا إلا القليل بجميع محاسن الدنيا: جو بديع مشمس لا تبلغ حرارته في الصيف حد المضايقة، ولا تنزل في الشتاء إلى ما دون ما تشتهي النفس، وأرض وفيرة الخيرات من خصب في التربة، وملاءمة للحبوب والفاكهة والرعاية والغابات، إلى معادن في كنوز لا تزال ذخرًا للمستقبل، وروائع للطبيعة لا تجتمع في مثل هذا الحيز من بلاد الأرض الأخرى، وأناس هم للظُّرْف عنوان، وللأدب والكرم مورد، وحتى الماوري من الإنسان الفطري كان أجمل همج العالم خِلقة، وأدناهم من الرقي ذوقًا، وأكثرهم ظرفًا وأدبًا.

ومن العجيب أنها آخر البلاد التي كشفها الجنس الأبيض، رغم أنها أنسبها لسكناه، وذلك لشديد بعدها عن العالم، فهي في معزل عن سائر القارات وحتى عن أستراليا نفسها، فهي تبعد عنها بنحو ١٢٠٠ ميل، وعلى الرغم من أنَّ ذلك قد وقف في سبيل رقيها الاقتصادي والتجاري، فإنه أفادها من حيث مجموعة سكانها؛ لأن بعد الشقة قد نجاها من الفقراء والجهلة، ومن أقل الناس إقدامًا وجرأة وكفاءة، فالمهاجرون إليها جاءوا عن طريق الحكومة البريطانية، أو من الأثرياء المقتدرين على جوب تلك البحار الشاسعة؛ لذلك نشأ بها شعب ذكي نشيط، انتشر على قلته في مساحتها التي تعادل مساحة إيطاليا، وتزيد قليلًا على مساحة الجزائر البريطانية نفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤