أمريكا الشمالية

(١) عبر المحيط الهادي إلى أمريكا

ركبت الباخرة الأمريكية Monterey لشركة Matson، وهي من أجمل بواخر هذا الخط وأكبرها، وكان في وداعي على البحر بعض الأصدقاء الذين تعرفت بهم في رحلاتي هناك، وقد أحضروا إليَّ بطاقات الزهور، وعندما آذنت الباخرة بالرحيل نزلوا إلى الرصيف، وأخذوا يقذفونني بكرات من أشرطة الورق الملون، أُمْسِكُ بطرفٍ وهُمْ بالطرف الآخر؛ لتظل صلة المودة متصلة بيننا إلى أبعد حد، وكلما تنحت الباخرة عن المرسى أطالوا الشريط. وكان جمهور المودعين الكثيف يسد الجو بتلك الأشرطة.

وأخيرًا بدأت جوانب الميناء تتضاءل وتتقارب وينحصر جمالها حتى كنا في عرض البحر بعد ساعة من الزمن، ثم ظلت جبال زيلندة وجزائرها الصغيرة تبدو طوال النهار، وكان جل المسافرين من الأمريكان والأستراليين والزيلنديين، وكلهم متقاربون في الخِلْقة والخُلُق، وكان المحيط الهادي رفيقًا بنا وديعًا، فلم يحرك من غضب موجه شيئًا مع أنَّا كنا نقرأ أن زوابعه المجانبة لشواطئ اليابان، وتُسَمَّى تيفون، تجتاح تلك البلاد وتدمر من قراها وتتلف من أرواحها الكثير، وظل على هدوئه هذا ثلاثة أيام إلَّا قليلًا حتى أقبلنا على جزائر فيجي.

جزائر فيجي

فانفسح أمامنا خليج مستطيل تَحُفُّه جوانب جبلية تكسوها الخضرة الكثيفة، ويزين مدخله عقد من زبد البحر ورغاويه يبدو أبيض، ويكاد لا يترك من المدخل إلا شطرًا ضيقًا، وذلك حاجز مرجاني Coral reef، كنا نرى بعض نواتئ شعابه بارزة فوق الماء، وعليه تتكسر الموجات فترغي وتعطي ذاك اللون الأبيض الجميل.

رسونا على رصيف الميناء وكان الجو أغبر ماطرًا، لكنه ما لبث ينكشف، وما مضى الظهر حتى بدت الشمس ناصعة بين بقع السحاب المنثور. أخذنا سيارة طافت بنا زهاء ساعتين بين وهاد ونجاد تسدها الخضرة سدًّا، وهنا وهناك تبدو الأكواخ الخشبية في الأحياء الراقية، وأخصاص من الحشائش للأحياء الفقيرة، والناس جلهم من الفيجيين ذوي الوجوه المفلطحة العريضة، والأجسام المفتولة الطويلة، فهم من العمالقة نساء ورجالًا.

fig64
شكل ١: «نبتيون» إله البحار يشهد لنا باجتياز خط الاستواء، ويتهدد من يمسنا بسوء، وقد أسبغ علينا هذه الدبلوم المذيلة بإمضائه الكريم.

وأعجب ما يسترعي النظر فيهم شعرهم؛ فهم جميعًا يتركونه ينمو رأسيًّا في هالة قد تزيد على الشبر طولًا للنساء والرجال معًا، والشعر أجعد خشن أسود، وقليل منه مصفر، وهم يسيرون حفاة الأقدام عراة الرءوس دائمًا، أما الملابس فتحكي لفائف الهنود أسفل الجسد في ألوان مزركشة، واللون الأحمر غالب عليها، وقد يُتْرَك أعلى الجسد عاريًا، وهم على جانب كبيرة من الرقة والوداعة، ينظرون إليك ويبتسمون، ثم يسارعون بالحديث والتودد إليك، ولا يهمهم من أمر الدنيا شيء، فهم قانعون أبدًا ويشعرون بسعادة الحياة كاملة، أما سحنهم فمنفرة في الغالب، وإن كانت أجسادهم جميلة أميل إلى السمن.

ويختلط بهم الهنود في كثرة عجيبة في المدينة والقرى جميعًا، ويقومون بغالب الأعمال التجارية، وشتان بين أجسادهم الناحلة الضئيلة وجسوم الفيجيين كاملة النمو. زرنا بعض مدارسهم — وللفتيان مدارس معزولة عن مدارس البنات — وكان عدد المدرسة أربعمائة طالب منهم من يفوق العشرين عامًا في السن. وهي مدرسة ابتدائية تديرها جماعة المبشرين، ولا يكادون يتقاضون من المصاريف إلا النادر، ولا تزيد على خمسة شلنات في العام، وهم يضعون في كل حجرة طائفتين من الطلبة: قسم للهنود، وقسم للفيجيين. ويتعلمون الإنجليزية ثم لغتهم الخاصة. ولغة الفيجيين لم تكن تُكْتَب، لكنهم يكتبونها اليوم بحروف إنجليزية.

وبعض الفِرَق كانت تتدرب على فلاحة البساتين، وكانوا يزرعون التابيو كاشتلا، وأخرى كانت في درس أشغال يدوية يصقلون قشور النرجيل وينقشونها ليصنعوا منها كئوس الشرب، وقد بدأ الفيجيون يحقدون على الهنود الذين كادوا يحتكرون كل شيء؛ فعددهم في الجزائر كلها زهاء ٧٥ ألفًا، مع أن عدد الفيجيين ٩٢ ألفًا، أما سكان مدينة سوڤا فهم ١٤ ألفًا، وهي العاصمة، وتقع في الجزيرة الرئيسية Viti Levu.

جزائر عديدة تفوق ٢٥٠ جزيرة، لكن المسكون منها زهاء ٨٠، ويخترقها خط طول ١٨٠°، فبعضها يقع غربه والبعض شرقه، والذي يسير من الغرب — كما نسير نحن في رحلتنا — يربحون يومًا، فلقد كان يومنا أمس الثلاثاء ٢٨ يوليو، فأصبحنا اليوم الثلاثاء الثاني أيضًا ٢٨ يوليو، وكنا نعتقد أنه الأربعاء فَقِيلَ لنا: لا، بل الأربعاء غدًا، أما إذا كنا وافدين من الشرق من أمريكا سائرين إلى الغرب، فإذا كان أمس الثلاثاء فاليوم الخميس إذا اجتزنا الخط ومررنا بالنصف الغربي بالجزائر، وبذلك نخسر يومًا يضيع علينا فلا نذكره، ولقد قابلنا ركاب باخرة أخرى في سوڤا، وكان المسافرون معتقدين أنه يوم الأحد فأصبحوا هنا الثلاثاء، وبذلك «نطوا» الاثنين.

fig65
شكل ٢: رقصة الها كا في مظهرها البشع.

وأني لأعجب لسرعة تغير الجو، فلقد أصبح الحر لا يُطَاق هنا والشمس مُحْرِقَة، والسير مُجْهِدًا، مع أنه منذ ثلاثة أيام كانت تصطك أسناننا من أثر البرد القارس يوم برحنا زيلندة! وماذا عسى أن يكون الحر في الأيام القليلة الآتية ونحن مقبلون على خط الاستواء — وجزائر فيجي تقع على ١٦° جنوبًا تقريبًا — والشمس عمودية الآن على عروض الشمال ١٢°ش، والفيجيون شعب من الميلانيزيين الذين ينتمون إلى الجنس الزنجي، والجزائر مُستعمَرة بريطانية منذ ١٨٧٤.

أخذنا نطوف سيرًا على الأقدام بعد أن تركنا السيارة، ونسير من ربوة لأخرى وسط أراضٍ وفيرة الخصب، متعددة الثمر والشجر، وكنا نبصر بوفرة الأناناس والمانجو والباباز والتابيوكا والتارو taro، وهو جذر شجيرة كالموز منتفخ من أسفله — كالقلقاس — يُعِدُّون منه مادة نشوية مغذية. أما النرجيل فَحَدِّثْ عن كثرته، فأنت ترى شَجَرَهُ في كل مكان، خصوصًا إزاء الشاطئ، وعنده ترى الشجر منحنيًا إلى الماء دائمًا رغم علوه الشاهق، وتلك من طرق النشر الطبيعي؛ لأن الثمر الكثيف إذا نضج سقط بعضه على الماء فحملته الأمواج بعيدًا إلى الجزائر الأخرى، فنما شجرًا جديدًا، وانتشر بذلك هذا النوع.
وكنا نرى القوم دائبين على أكله وشرب مائه اللذيذ، وهم يجهزون دهنه ويبيعونه ليدهنوا به جسومهم مقاومةً للحر، وتقويةً للشعر، وتجميلًا للبشرة كما يقولون، ولذلك كانت رائحة الجزائر كلها أينما سرت والناس جميعًا تشع هذا الدسم الذي قد يكون زنخًا كريهًا. ومن الشجر الذي أَلْفَتَ نظري بجماله ورونقه شجرة السائح Travellers Tree في مروحة هائلة، وتمتد أضلاعها في أعلى الساق بانتظام هندسي بديع، وورقها يحكي ورق الموز تقريبًا.

سلكنا سبيلنا إلى الباخرة، وهناك في مجاورة رصيف الميناء عرض الفيجيون تجارتهم من الأصداف وشعاب المرجان الملونة بديعة الأشكال إلى عقود المرجان، إلى أسلحة القوم من سهام وقسي ومطارق وزوارق خشبية صغيرة، وأعجبها المزدوج، فترى زورقين بينهما شبكة عريضة من شرائح الخشب المزركش ليُقَامَ عليها مسكن فوق الماء، وأخذ كلٌّ يحاول اجتذاب أنظارنا إلى سلعه في رقة، وفي غير ذاك الإلحاف المقيت الذي نلاحظه في بائعي الهند وبورسعيد مثلًا.

وفي الخامسة مساء آذنت الباخرة بالرحيل وعزفت موسيقاها كما هي العادة كلما أقبلنا على مكان جديد أو انصرفنا عنه، فأخذت جوانب الميناء تتقارب وينحصر جمالها بخضرتها الناصعة وبيوتها الحمراء نثرت على المنحدرات، وجماهير الناس يودعوننا بهز أيديهم ومناديلهم. والفيجيون يشبهون الماوري في رقتهم وأجسامهم وخفة روحهم ومرحهم الدائم، لكن شتان بين جمال الماوري وبين وجوه هؤلاء التي يندر أن ترى بها مسحة من جمال.

جزائر ساموا

برحنا الجزائر نشق المحيط الهادي في طريقنا إلى الشمال الشرقي، وبعد يومين كاملين أقبلنا على جزائر ساموا الأمريكية التي تُعَدُّ من أكبر القواعد البحرية في المحيط الهادي، فبدت الجزائر تكسوها الخضرة وتعلو جبالها علوًّا كبيرًا. دخلنا خليجًا مستطيلًا منتظم الجوانب، وفي نهاية المرسى مدينة Pago Pago عاصمة الجزائر وينطقونها «پانجو پانجو»، وكان ذلك صباح الأربعاء ٢٩ يوليو.
fig66
شكل ٣: هاإيريرا أو نظرة الوداع.
نزلنا إلى البر وركبنا سيارة مرت بنا مسافة بعيدة على حافة الماء فوق صخور جُلُّها بركاني عتيد، ومن ورائها الجبال الشاهقة كانت تعلو فوقنا علوًّا رأسيًّا شاهقًا، وكلها تُكْسَى بكثيف الغاب ونخيل النرجيل، ويكاد الشاطئ كله يُحَفُّ بسلسلة متصلة من هذا النخيل، وكنا نرى المباني الخشبية المنسقة تكتظ متقاربة عند المرسى، وهي للإدارة الحكومية والبنوك ومحال التجارة ومساكن البِيض، ثم تبع ذلك أكواخ منثورة قد تكون فردية منعزلة للسكان الوطنيين، وفي نهاية المسافة انفسح الجبل وترك بسيطًا من الرمال أقيمت عليه القرية الرئيسية هناك، واسمها Nuuuli.

هنا استقبلنا الأهالي بوجوههم السمحة وسحنهم الجميلة نساءً ورجالًا وأطفالًا، ودعونا إلى ساحة الرقص، فدخلناها وجلسنا، وإذا بثلاثة صفوف من فتيات لبسن حول الخصر حزامًا عريضًا له ذؤابات تتدلى إلى القدمين، وتركن النصف الأعلى عاريًا بلونه الأسمر الخمري الجذاب، وأجسادهن الممتلئة صحة ونشاطًا، ووجوههن الجذابة، وأخذ قائدهن ينقر على صفيحة بعصاه نقرات منتظمة وهن يرقصن وقوفًا وقعودًا، ويغنين ثم يختمن الأغنية والرقصة بضربة من الأقدام وصيحة عالية، وكان الرجل يعلن عن اسم كل رقصة، وتطوف علينا الفتيات بجوز الهند الطازج وقد شطفن ناحية لنشرب ماءه اللذيذ. وتلك تحية لقدومنا.

fig67
شكل ٤: ها إيريماي أو نظرة الترحيب.

خرجنا نطوف البلدة، وإذا بها مجموعة أكواخ من قوائم خشبية يغطي ما بينها القش والعشب، وقد يكون البيت مستطيلًا متحدر السقف أو دائريًّا مخروطي الغطاء، وفي وسط البلدة دار فسيحة لعقد الاجتماعات، وللقرية أربعة رؤساء «زعماء»، وهم الذين يتكلمون ويخطبون في المجتمعات مدافعين عن «صوالح» ذويهم، وكنا نرى أطلال بيوت مهشمة قِيلَ لنا: إن إعصار الهركين مرَّ بها فاجتاح منها الكثير.

وقد استرعى نظرنا جمال السِّحَنِ وجاذبية اللون الخمري خفيف السمرة، وهم قريبو شبه بالماوري في زيلندة الجديدة، ولكنهم بعيدون البعد كله عن أهل فيجي الزنوج، وكثير منهم خصوصًا النساء يرسلون شعورهم السوداء البرَّاقة الهادلة التي تزيدهم رونقًا وجمالًا، وليس بالجزيرة عدد كبير، بل هم قليلون، وهم من الجنس البولنيزي، ويبدو لنا من أشكالهم أثر الجنس الصيني واضحًا، وكم كان سرورهم بوفودنا كبيرًا، فهم يشعرون بالأنس الكبير كلما وفدت عليهم باخرة، وكانوا يتطوعون جماعات لإرشادنا ولا يبتغون من وراء ذلك نفعًا، وكثير منهم كان يعرض علينا صداقته وعنوانه لنكاتبه نساءً ورجالًا، وبعضهم كان يقدم عقود المرجان وبعض أشغال الخشب المنقور هديةً لنا، ويرفض أن يتقاضى ثمنها.

وقد عرض الكثير منهم سلعهم علينا وجُلُّها من منقور الخشب الملون في أسلحة وزوارق وعِصِيٍّ، ثم أشغال القش من سلال ملونة، ثم أرديتهن خصوصًا الحزام الذي تتدلى منه تلك الأهداب الطويلة، وقد نقشوا عليه اسم بلدتهم، ومن أجمل ما عرضوا قطع الأقمشة الملونة التي دقوها وصقلوها من قشور الشجر bark cloth، تبدو كالورق أو القماش المُنَشَّى، وهو متين جدًا.
fig68
شكل ٥: ملابس أهل زيلندة بسيطة جذابة.

ومن أبدع المناظر عقود الزهور الضخمة الملونة الطويلة يلبسونها جميعًا رجالًا ونساءً، وكلما ذبل واحد أعاضوه بغيره، وهم يَفْتنُّون في تنسيقه فيبدو رائعًا، ولا تكاد ترى واحدًا يمشي بدون ذاك العقد يتدلى على صدره، وقد ألبسونا تلك العقود لمَّا أنْ دخلنا دارهم. ولقد عزفت فرقة الموسيقى وغنى معها جمع من الفتيان على شاطئ البحر تجاه السفينة وداعًا لنا عند قيامنا. وعند الساعة الواحدة بعد الظهر ركبنا الزورق الصغير، فأقلَّنا إلى السفينة التي ترسو على بُعد من الشاطئ، وقامت بنا تتنحى عن ذاك الخليج البديع، ثم لبثنا نمر بمجاميع من جزائر صغيرة يجملها ذاك النبات الكثيف الذي يكسو رباها الشاهقة، ونخيل النرجيل الأنيق الذي يزين شطآنها، حتى اختفت عن الأنظار، وعدنا منعزلين وسط مياه المحيط الهادي الساكن الرهيب، ونحن نتحدث عن جمال تلك الجزائر وجاذبية أهلها.

fig69
شكل ٦: ميناء هونولولو في حجر الجبال البركانية.

وساموا مجموعة من جزائر أهمها ثلاث: الاثنتان الغربيتان تديرهما زيلندة الجديدة مُنْتَدَبَةً عن عصبة الأمم، وقد كانتا لألمانيا قبل الحرب، وأهلها زهاء ٤٥ ألفًا، والثالثة الشرقية لأمريكا، وسكانها ١٢ ألفًا.

هونولولو

جنة الباسفيك وجوهرة المحيط الهادي
fig70
شكل ٧: لا يفتر ثغر فتيات هونولولو إلا عن ابتسامات دائمة.
ثم كان يوم الاثنين ٣ أغسطس حين بدت في باكورة الصباح الرُّبَى البركانية لجزائر هواي، وهي سلسلة من جزائر أكبرها اثنتا عشرة من بينها ثمانٍ مأهولة بالسكان، وأكبرها الجنوبية التي تُسَمَّى هواي، والتي بدا منها قبس بركان Kilauea الثائر مقر الآلهة في زعمهم. وأخيرًا أشرفنا على جزيرة Oahu كثيرة الذرى، وأهمها موناكيا ١٣٧٨٤ قدم، ومونالوا ١٣٦٧٥، وفي جانب منها دخلنا ميناء هونولولو في قوس ضيق المدخل، وكانت تقوم في تلك المياه مُظَاهرة بحرية لقِطَعِ الأسطول الأمريكي؛ إذ الجزائر تُعَدُّ أمنع القواعد البحرية في المحيط، وهي تُسَمَّى بحق جبل طارق الباسفيك.
استَعْرَضَنَا الطبيب ثم تقدمت الباخرة من الرصيف، وكانت شرفاته وجوانبه تغص بمجموع المستقبلين تتوسطهم الموسيقى الرسمية التي تعزف استقبالًا لكل باخرة ووداعًا لها. وتلك عادة اتُّبِعَتْ منذ عهد مليكهم كاميهاميها الخامس سنة ١٨٧٢. وكان برج الميناء الشاهق الأنيق يشرف علينا تعلوه ساعة كبيرة، وتزين جوانبه الأربعة كلمة ألوها Aloha — كُتِبَتْ بالخط الكبير ومعناها مرحبًا أو وداعًا — وما كادت تقف الباخرة حتى هاجم المستقبلون أحبابهم، وبيَدِ كلٍّ منهم مجموعة من عقود من الزهر مختلف ألوانه في جمال لا يُحَدُّ، وأخذوا يحلون بتلك العقود أعناق أصحابهم.
وكان باعة هذه العقود، وغالبهم من الفتيات، ينتشرون في جميع الطرق المؤدية إلى الميناء في كثرة تلفت النظر، وتسمع نداءهن في كل مكان، وزهاء مائتي نفس مهنتهم إعداد تلك العقود ويسمونها Leis في هونولولو، ولا يقل ما يُبَاع منها سنويًّا عن ٦٦٠ ألفًا، بسعر شلن لكل واحد، أي نحو ٣٣ ألف جنيه، هذا خلاف ما يُبَاع في الجزائر الأخرى، ولا يقل ما يُلْبَسُ هناك عن مليون عقد في السنة، وتلك من أجمل الظواهر التي تسترعي نظرك وأنت تسير بينهم، وبعضهم — رجالًا ونساءً — يلبس عشرة عقود كبيرة في ألوان مختلفة.

استأجرنا سيارة بخمسة عشر ريالًا — وكنا خمسة أشخاص — لتطوف بنا البلد، وتستوعب الجزيرة كلها، وأخذنا نشق شوارع البلدة وكأننا نسير في إحدى كبريات مدن أمريكا تمامًا؛ فالمباني رشيقة، ومعروضات الحوانيت جذابة، وحركة المرور وبخاصة السيارات تسد الطرق سدًّا، حتى صعب علينا استخدام آلة التصوير فيها، وجماهير المارة في الطرق كثيفة متعددة الأجناس؛ فإلى جانب الوطنيين ذوي الشعر الأسود المرسَل، والسحن المفلطحة، واللون الأسمر، والعيون الكبيرة، والقامات الطويلة، رأينا عددًا غالبًا من اليابانيين في أرديتهم الفضفاضة، ثم البرتغاليين، ثم الصينيين والفلبينيين بسحنهم العجيبة، وقليل من الهنود في جسومهم الناحلة، ثم الكوريين في أكمامهم المنتفخة.

fig71
شكل ٨: التحية بين ماوري زيلندة بمسح الأنوف.
هذا إلى الأمريكيين والغرباء من سائر سائحي العالم، فكأنها بلدة عالمية ترى أحدث أزياء باريس تسير جنبًا لجنب إلى جوار الأردية القومية ذات الذؤابات من العشب، وتشاهد ملاعب الجولف والبولو إلى جوار اللعب بالزوارق انزلاقًا على حافة الأمواج — وتلك أحب صنوف اللعب عند الوطنيين — فهي بلدة پولينيزية تعيش في جو أمريكي بلغ من المدنية شأوًا؛ فالحياة الپولينيزية الفطرية تظلها أحدث المدنيات وأرقاها، ومجموع ذاك الخليط في جزيرة Oahu — وتعني الكلمة مكان الاجتماع — هذه ٢٠١٦١٠، وفوق نصفهم في هونولولو وحدها، واليابانيون يفوقون ثمانين ألفًا، أما سكان الجزائر كلها فنحو ٣٨٠٢١١ نفسًا.
ثم مررنا ببعض المعابد اليابانية والبوذية وكثير من الكنائس، ولعل أجملها كنيسة Kawaiahao التي بُنِيَتْ من صخور المرجان وشعابه لكثرته حول تلك الجزائر، ثم وصلنا بعد ميلين إلى أجمل شطوط الجزيرة ويُسَمَّى Waikiki beach. هنا انفسحت مدرجات الرمال النقية إلى مد البصر، وأقيمت الڤيلات الأنيقة، واكتظ الشاطئ بالمستحمين وبالمقاهي والنُّزُل الفاخرة، ومن بينها نُزُل Waikiki الذي بلغ من الوجاهة والامتداد حدًّا كبيرًا.
جلسنا إلى الشاطئ لنرى أعجوبة الرياضة البحرية هناك ويُسَمُّونَها Surfing، ترى الفتيان والفتيات يمتطي كلٌّ منهم زورقًا نحيلًا أو لوحًا من خشب مدبب الأطراف، ثم يحركه برجليه وهو واقف عليه، فيجري الزورق ويعلو ويهبط وفق تكسر الموج على الشطوط هناك في سرعة وخفة حركة لم أَرَ لها نظيرًا، وهو خلال ذلك يميل ويجلس وينام ثم يعود واقفًا، والزورق يجري في اهتزاز مخيف، ويساعد على تعاقب الأمواج الخفيفة كثرة شطوط المرجان، وتلك لعبة ملوكهم منذ القدم يتعلقون بها إلى حد المخاطرة.
أخذنا نسير بعيدًا عن المدينة ونوغل في ريف الجزيرة، وكنا نمر ببيوت فاخرة ذات حدائق مُنَسَّقَة قِيلَ لنا بأنها مصايف أكبر ممولي أمريكا «المليونيرز» وأشهر نجوم السينما في هوليوود، يفدون إليها لتمضية فصل الصيف كل عام. أما القرى فقليلة نادرة السكان، بيوتها خشبية صغيرة، أو أخصاص مجدولة من العشب وألياف النرجيل. وكانت مخاريط البراكين الخامدة تحوطنا من كل جانب؛ فَحَوْلَ هونولولو وحدها عشرون فوهة بركانية خامدة، وكانت الطرق المرصوفة تلتوي بنا حول تلك النجاد صعودًا وهبوطًا في وعورة مخيفة، ثم وقفنا إلى جوار صخرة Bali الشاهقة المدببة، فبدا منظر الوديان الخضراء من دونها رائعًا، ولم نستطع الوقوف بها طويلًا لشدة عصف الريح التي كادت تلقي بنا جميعًا. وتلك البقعة لا تهدأ عواصفها أبدًا، وهي أشد بقاع الجزائر عُنْفًا في هوائها. ومن جانب تلك الصخرة هاجم أحد ملوكهم Kamehameha عدوه Oahu وألقى به وبجنوده إلى أسفلها مسافة ٦٠٠ قدم فماتوا جميعًا.
fig72
شكل ٩: لا تزال لعادة الوشم فوق الوجوه بقية بين الماوري.
أما عن ثروة الجزيرة بزهورها المختلفة؛ فذلك لم أشاهده في ناحية أخرى من الكرة الأرضية، فيكاد يُرَى الشجر والعشب كله مزهرًا، وفي أشكال ساحرة، ورائحة عبقة، وألوان لا آخر لها. وأظهر تلك الزهور جميعًا الهبسكس، ويعدونه الزهر الرسمي، وهو رمز الجزيرة، ولا تقل أنواعه المختلفة الألوان عن ٢٥٠٠، وتكاد تجدها جميعًا في حديقة هَاوٍ اسمه Kooper يدير فندقًا على بعد ٣٠ ميلًا من هونولولو. والنبات يُزْهِر طول العام، وتبقى الزهرة يومًا واحدًا، لذلك تُقْطَع كل مساء لتخلي مكانها لزهرة أخرى في الصباح.
ومن أعجب الزهور عباد القمر في كأس أصفر كبير تراه ذابلًا منكمشًا في النهار، فإذا ما غابت الشمس وحل الظلام أو انتشر ضوء القمر قام وتفتح، ويُسَمُّونه Cereus، فلا تكاد تقع العين على مكان يخلو من تلك الزهور المنوعة الجميلة؛ لذلك لم أعجب لانتشار عادة لبس عقود الزهر، حتى بين طبقة العمال وهم يفلحون الأرض أو يرصفون الطرق، حتى أضحى عقد الزهر شعارًا لتلك البلاد، ورمزًا للوداع والاستقبال.

ومن أجمل ما استهوى أنظارنا مشهد حقول الأناناس تنتشر إلى الأفق فوق أرض مموجة، وفي تخطيط هندسي بديع، والنبات يبدو كالصبار يتوسطه كوز مصفر محبب من الثمر تزين قمته ذؤابة مورقة، وقد تزن الواحدة ١٢ رطلًا. ومن تلك المزارع عشرون ألف فدان في تلك الجزيرة، وهو أجود أنواع العالم حلاوة وطراوة وحجمًا، ويتطلب عناء كبيرًا في زرعه؛ فبعد زرع البذور يُشْتَل ثم يُرَشُّ بالسائل المطهر ثم يُلَفُّ في ورق لحمايته وهو صغير، على أنه لا يتطلب ريًّا، بل ينمو على مياه الأمطار، وأول ثمره يظهر بعد ١٨–٢٤ شهرًا، ثم تُقْطَفُ الثمرة الأولى فتخلفها الثانية بعد ١٢ شهرًا، ثم الثالثة في السنة الرابعة، ثم يُنْزَعُ من جذوره وتُزْرَع الأرض خضرًا، ثم يُعَاد زرعه من جديد، وهو يزكو فوق المرتفعات المموجة، ويُعَدُّ ثاني حاصلات الجزيرة بعد قصب السكر.

وكنت أرى عربات سكة الحديد تجري وسط الحقول لتنقل الثمر إلى المصانع، وقد زرنا أكبر مصانع الدنيا للأناناس، وهو في هونولولو نفسها، فكان الثمر يُقَشَّرُ بآلات ثم يجري على أشرطة ليمر أمام الفتيات اللاتي كن يلتقطن ما تخلف فيه من زوائد القشر، ثم يرتبن القطع حسب النوع والحجم، ثم تُسَاق القطع إلى المخرطة لتقطيعها، ثم تمر على فريق آخر من الفتيات لوضعها في العلب، ثم تُدْفَع العلب إلى معمل العصير والسكر لرشه بالشربات من عصيره مع قليل من السكر، ثم يُعَقَّم وتُقْفَل العلب وتُشْحَن. وهنولولو أكبر جهات العالم تصديرًا له.

ومن أظرف ما استرعى أنظارنا فوق المصنع شكل ثمرة أناناس هائلة تبلغ عشرات الأمتار طولًا في لونها البرتقالي المحبب وذؤابتها الخضراء، وتلك هي مستودع المياه اللازمة للمصنع، أقيمت على علو شاهق لتمده بالماء من جهة، ولتقوم إعلانًا على إنتاج المصنع من جهة أخرى، وهي أعلى شيء يراه المرء إذا حل المدينة. وكانت حقول قصب السكر تملأ المنخفضات إلى الآفاق، وكانت أعواده بالغة الطول، لكن عقده قصيرة.

وهو ينضج هناك في ١٨ شهرًا، ويُحْصَد في كل شهر تقريبًا، فترى القصب الناشئ الصغير في جانب، والناضج الكبير في الآخر، ولا يُجَدَّدُ زرعه إلا كل ٨–١٤ سنة، ومصانعه هائلة، وهناك فرع كيمائي تحليلي خاص به ملحق بالجامعة، والأبحاث تتقدم سراعًا؛ ففي كل عام يصلون إلى تحسين نوع القصب وعصيره واستئصال آفاته بنجاح ليس له نظير في أي جهة من الدنيا. ولقد اقترح أحد أساتذة الجامعة هناك إيفاد بعض الطلبة المصريين إلى هذا الفرع — كما يفعل الأمريكيون — ما دام القصب والسكر يهم مصر اقتصاديًّا. ويغل فدان القصب سبعة أطنان من السكر غير المكرر.

fig73
شكل ١٠: شيخ ماوري يرتدي الفرو ويزين وجهه بالوشم والتجريح.

وتُعَدُّ هواي ثالثة بلاد العالم إنتاجًا للسكر — بعد كوبا التي تمتاز بخصب تربتها، وجاوة برخص الأجور فيها — وقد بلغ إنتاج الجزيرة من السكر والأناناس مائة مليون ريال في العام، والعامل في مزارع القصب يتقاضى ريالًا كل يوم، ويُزَوَّدُ بالمسكن والطعام والأطباء فوق ذلك. ومما عجبت له طريقتهم في إشعال النار مساء في حقول القصب إذا ما نضج، وفي باكورة صباح اليوم التالي ترى الأعواد قائمة وقد احترقت أطرافها وأوراقها، وبذلك يوفرون على أنفسهم عناء تقشيرها.

وفي جهات كثيرة كنا نمر بمزارع هائلة للموز الذين يحصون من أنواعه هناك خمسين، وبعض العراجين يزن خمسين رطلًا، ويحوي ٣٠٠ موزة، وهناك نحو عشرين نوعًا ينمو بريًّا ويفضله الأهالي لأنه لذيذ الطعم، عطر الرائحة، ولا يزيد عمر الشجرة على سنة ونصف، ثم تُقْطَع وتُغْرَس فسائلها من جديد، وقد يصل طول الشجرة اثني عشر مترًا.

ومن أغرب النباتات التارو Taro كان يبدو نبته كالقلقاس تُقْلَع جذوره وتُغْلى ثم تُؤْكَل كالبطاطا، أو تُسْحَق في شكل معجون لإعداد طعامهم القومي المحبوب المسمَّى poi، وقد أكلته فألفيته منفرًا كأنه الفالوذج الهزاز المرق، بنفسجي اللون في شيء من السُّمرة، وفي غير حلاوة.

أما شجر البوبوز ففي كل مكان يحمل وسقه من أكواز خضراء كالشمام، وهو يثمر طوال العام، ويقدمونه في الإفطار، وهو حلو لذيذ، وله أثر كبير في تنشيط الهضم. لبثنا ننتقل في تلك الجنة الساحرة، ونمرُّ بشواطئ تلك الجزيرة البديعة، وكان القوم يصيدون السمك في كثير من تلك النواحي بحرابهم، فينسل الشاب بين صخور الشاطئ، وما أسرع ما تراه يلقي بحربته الطويلة في الماء ويُخرج وقد علقت بها سمكة كبيرة! وكثير منهم يصيدون السمك ليلًا على المشاعل، فيمسك الواحد منهم بشعلة نار وراء ظهره ويسير وسط الماء، فتجتذب تلك الشعلة السمك، فيقرب منه، وعندئذ يُعْمِل فيه حِرابَه قنصًا وصيدًا.

ومن السمك ما يزن ٣٠٠ رطل، ومن أغرب أنواعه sword fish بأنفه الذي يمتد مترًا وكأنه الحربة ذات المنشارين. وفي مكان من الشاطئ رأينا شبه نافورات تنفجر من البحر، ويعلو ماؤها ورشاشها أمتارًا في الجو، وتلك ظاهرة يسمونها نافورة البحر blow holes، فإذا دفع الموج الماء تحت الصخر المثقب البركاني تفجَّر الماء منه عاليًا.
fig74
شكل ١١: مغارة اليراع العجيبة في وايتومر.
عُدنا آخر النهار إلى المدينة وأخذنا نتجول في أحيائها الغاصَّة بالناس سيرًا على الأقدام، وكان الهوائيون أهل البلاد يسيرون في وجوههم التي تحكي وجوه الماوري إلا أنهم أقل جمالًا، وأكثر سمرة، وأجسادهم ممتلئة، وتبدو عليهم علامات الصحة لجودة مناخ بلادهم، وبساطة معيشتهم في المأكل والملبس والمسكن، فأَخَصُّ طعامهم السمك وجذور التارو البوي poi، ثم الفاكهة الاستوائية.
ومن آدابهم في المائدة أنه لا يصح الحديث في موضوع مادي، وإلا عُدَّ ذلك محرمًا منكرًا tapu، ويجب قَصْرُ الحديث على ما يُدخل السرور على النفس، وعند الجلوس إلى المائدة تُقَدَّم آنية الپوي، وهي سلطنيةٌ يغمس كلٌّ منهم أصابعه فيها، ويتناول بعض بندق kukui مع الملح وبعض أعشاب البحر، ثم يأكل قطعة من قديد السمك، وكلما تناول الرجل أصبعًا من الپوي تناول النساء اثنين. وعلى الضيف أن يقول بين آنٍ وآخر he ono أي ما ألذ هذا!
وجل ملبسهم من قشور الشجر، خصوصًا شجرة tapa التي إذا ما بلغت بين ٣ و٤ أمتار قُطِعَت، ثم حاول النساء سلخ قشرها في قطعة واحدة، ثم يُصْقَل ظاهرها بالأصداف، وتعطن في النهر وتُدَقُّ ثم تُجَفَّفُ. وكثيرًا ما تُرَى القطعة الواحدة تفوق ملاءة السرير كبرًا، وإذا دُهِنَ بزيت النرجيل أضحى «ووتر بروف»، وهو متين جدًّا، لكنه غير قابل للغسيل، ولرداءة رائحته يستخدمون مسحوق خشب الصندل.
وشكل الملابس يحكي ملاءات الهنود، ويُسَمُّونَها Holuku. وهم يفضلون السير عراة الرءوس والأقدام، ويحبون التحلي بالعقود والخواتيم نساءً ورجالًا. وأردية الملوك والوجهاء عباءة يكسوها الريش الثمين بشكل فني جميل، وفراشهم من الحصر، ووسائدهم من خشب أو حجر، وغطاؤهم من لحاء الشجر شجرة Tapa، يبدو كالورق أو الجلد، وأوانيهم من القرع يصقلونه ثم يزين بالنقوش الجميلة فلا يفترق عن الفخار أو الخزف الثمين، ولا تزال ترى طريقتهم الأولى في إشعال النار بحك قطعتين من خشب؛ إحداهما غضة ناعمة بها حفرة، والأخرى صلبة، وبالاحتكاك العنيف يتفحم تراب الخشب ثم يشتعل، وكانوا يحفظونها زمنًا طويلًا بإشعال طرف حبل من شجر tapa فلا يُطْفَأ أيامًا، وكنا نرى تلك الحبال تُعَلَّق على أبواب الحوانيت يشعل القوم منها سجائرهم.
figure

ومن معتقداتهم أن الزعماء مبعوثون من عند الله؛ لذلك يجب تقديسهم، فلا يصح لأحد الوقوف إذا مر زعيم أو ذُكِرَ اسمه، بل يجب الركوع، ولا يجوز استخدام المجرى الذي يستقي منه الزعماء، ولا الطعام الذي يأكلونه. والزعماء هم مُلَّاك الأرضِ وصيدِ البحر ومجهودِ الناس وعملِهم، والملك يُوزِّع ذلك على الزعماء، وهؤلاء على أتباعهم في شبه نظام إقطاعي.

وكان للنساء مركز منحط؛ فلم يُبَحْ لهن الأكل مع الرجال، ولا طبخ طعامهن في إناء واحد مع طعام الرجل، ولا تدخل المرأة المعابد، ولا تأكل الموز ولا النرجيل، فكل ذلك كان محرمًا tapu. وقد حدث مرة أنهم رأوا أميرتين تأكلان الموز فحُكِمَ على مربيتهن بالقتل، وكان للقسس سلطان كبير عليهم.
fig76
شكل ١٢: إحدى مزارع الأغنام في زيلندة.
ولغتهم عجيبة أيضًا فلا تزيد حروفها على اثني عشر هي: a e h i k l m n o p u w، والحروف المتحركة تُنْطَق جميعًا، ومن الكلمات الشائعة التي يستخدمها حتى كبار سراة الأمريكيين في وسط حديثهم ما يأتي: نعم ea – مرحبًا أو وداعًا al oha – كلا aole – تعال هنا hele mai – غضبان كدر hulu – بحر kai – ميت make – موسيقى mele – حسن maikai – كيف حالك ipehea oe – أسرع wikiwiki.
ومنطقهم عذب موسيقي، وعلى جانب كبير من البلاغة الشعرية، فهم يُشبِهون في ذلك ماوري زيلندة، وهم مولعون بالموسيقى حتى أضحت أنغامهم المشجية أحب ما يسمعه الأمريكان أنفسهم، وكنا نسمعها طول الطريق، وكنت أطرب لسمعها؛ لأن فيها شيئًا كبيرًا من الحنان والعاطفة الفطرية، وقد حضرنا رقصة hula وأغنية ukulele ونحن في فندق شط Waikiki، فكانت ساحرة، والراقصة بدت في تمويج الجسم في ثنيات عدة، وتحريك الأيدي والذراع حركات ثعبانية لتحكي حركات الموج وأوراق النخيل إذا ما داعبتها الرياح.

بلاد يشعر المرء فيها بالسعادة الكاملة؛ إذ يستمتع بكل شيء، ويرى القوم فيها هانئين يسيرون مرحين وهم يغنون، ويرقصون، ويزينون أعناقهم بعقود الزهر الجميل وهم حفاة، وإذا جاع أحدهم أو عطش تسلق شجرة النرجيل وألقى بثمرها إلى الأرض، واستمد منه غذاء وشرابًا، والجو حوله ممتع مُوَحَّد طول العام، فَسَنَتُهُم شهر من شهور الربيع مداه ٣٦٥ يومًا، والسماء مشمسة تلطفها الرياح التجارية البليلة، وترسل عليها مطرًا متقطعًا ينزل غالبه ليلًا، والهواء خالٍ من الأتربة والأوساخ؛ فلا تكاد تعرف الجزيرة الأمراض قط، ويزين سماءهم قوس قزح حتى في ضوء القمر.

وليس في لغتهم كلمة تعبر عن معنى الجو، وكثير منهم على جانب عظيم من الثقافة؛ فالتعليم هناك ذو مستوى عالٍ منذ زمن بعيد، فلقد بدأت المدارس هناك عملها قبل أن تبدأ في كلفورنيا نفسها، وكان سراة كلفورنيا يبعثون بأبنائهم لتلقي العلم فيها. وجامعة هونولولو عظيمة راقية، وكثير من طلاب أمريكا يحضرون دروس الصيف فيها؛ ليجمعوا بين العلم والاستمتاع بعطلة الصيف، وقد علمت أن عدد التلاميذ في الجزائر بلغ ٩٢ ألفًا في نحو ٢٥٠ مدرسة، ويقوم بالتدريس لهم ٣٢٠٠ مدرس، وفي الجامعة زهاء ٤٠٠٠ طالب، وهي تسير على نمط جامعات أمريكا.

fig77
شكل ١٣: مثالج اللحوم في نيوزيلند.
هذه حال تلك الجزائر التي تهوي أعماق البحر حولها إلى ٦٠٠٠ متر، والتي كشفها الإسبان «سنة ١٥٥٥» وأخفوا خبرها حتى جاء كوك «١٧٧٨» وأسماها ساندوتش، على اسم صديق له، ولما رآه الأهالي خالوه إلهًا فسجدوا له، وقدموا له القرابين، لكن كثرة طلب الغذاء لإطعام رجال كوك، وسوء سلوكهم مع الأهالي، وعدم احترامهم لعقائد الناس أدى إلى نزاع؛ فتقدم رئيس وطني وطعن كوك بأحد الخناجر التي قدمها كوك له هدية، فَخَرَّ قتيلًا. ويقوم نصب تذكاري له هناك، فقام بعدُ أحد ضباطه ڤنكوڤر وبذل جهودًا كبيرة في مصادقة الناس، وأقنع الملك كاميهاميها ببطلان الأصنام، وإلغاء المحظورات tapus؛ لأنها كانت مصدر مظالم تقع على أيدي القسس.
ولقد طلب الأهالي حماية بريطانيا، لكن إنجلترا كانت إذ ذاك مشغولة عنهم بشئونها، فتقدم الأمريكان ونشروا التعليم والتبشير؛ فقام الناس بثورة سنة ١٨٩٣ خُلِعَت على أثرها آخر ملكاتهم Ihnokalani، فنادى الناس بأمريكا، ورُفِعَ العلم الأمريكي فأُعْلِنَت الجمهورية، وفي ١٨٩٨ طلبوا الانضمام للولايات المتحدة خشية أن تحتلها اليابان التي بدأت تحشر أبناءها هناك، وتجعلها لها قاعدة بحرية، ولقد طمع الروس في تملكها.

وكانت تجارة خشب الصندل أهم الموارد هي وزيت الحوت الذي كان يُصَاد بكثرة حولها، لكن تلك التجارة قد اضمحلت وحلت الزراعة محلها، خصوصًا لمَّا أنْ نشط استخراج الذهب من كلفورنيا، واحتاج نزلاؤها إلى استيراد الغذاء من هواي من غِلال وخضر، ثم شجع الصينيون زراعة قصب السكر والأرز، ثم تشعبت منتجاتها حتى أضحت على ما ترى اليوم.

عدنا إلى الباخرة فبدا الرصيف مائجًا بالمودعين وبائعات الزهور والعقود، وقد لبس كل من المسافرين والمودعين عشرات العقود البديعة، وقد ركب الباخرة في الدرجة الثانية من هونولولو ١٤٠ مسافرًا يعودون إلى أمريكا بعد تمضية عطلة الصيف، وبدأت موسيقى الوداع تعزف، وأشرطة الورق الملون تصل ما بين فريق المسافرين والمودعين، ثم أخذت الباخرة تتنحى عن الميناء تدريجيًّا حتى غابت تلك البلاد الممتعة عن الأنظار، وكان آخر ما يُرَى برج الميناء وعليه كلمة aloha تودعنا.

وخرجنا إلى عرض المحيط ونحن آسفون أن برحنا جنة الباسفيك أو جوهرة المحيط كما يسمونها غالبًا، عندئذ أخذ المسافرون والمسافرات يلقون بعقود الزهر الجميلة إلى المحيط حتى لم يخلفوا معهم منها شيئًا؛ لأن ذلك فأل حسن يؤكد لهم عودتهم لزيارة الجزيرة مرات أخرى، وكنت ألبس من تلك العقود اثنين لم تُسِغ لي نفسي أن ألقي بهما إلى اليم، لكني لم أنجُ من لومهم؛ فكلما مرت بي آنسة قالت: ألا تريد أن تعود إلى زيارة هونولولو ثانية؟ فأقول: بلى، فتلك أمنيتي، فتقول: إذن سارع بإلقاء عقودك إلى البحر، ولما أن غلبتني كثرتهن ألقيت بالعقدين على الرغم مني، ولعل الأمل الكبير في العودة إلى زيارة هونولولو يعوضني عما فقدت من تلك العقود البديعة.

fig78
شكل ١٤: عربات توزيع اللبن تنتظر تعقيمه في ولنجتون.

وبسبب وفرة الزهور كثر النحل جدًّا، حتى إنَّا كنا نسمع طنين النحل في كل مكان، ولقد علمنا أن النحل هناك يغل مليونين من أرطال العسل سنويًّا، وقدروا أن كل عشرين ألف نحلة تحمل رطلًا من الرحيق، وهذا يصبح ربع رطل من العسل، وبذلك يكون مجموع النحل في الجزائر ١٦٠ ألف مليون نحلة، وشهر يونيو هو شهر العسل عندهم، والشمع الذي يُتَّخَذ منه أحسن الأنواع العالمية وأكثرها مقاومة للانصهار.

لوز إنجليز

عدنا إلى المحيط الهادي نشق مياهه الوديعة يومين، ثم أعقبهما آخرينِ بدا خلالهما البحر على غير ما عهدناه؛ إذ ظل مضطربًا حتى أعيى الكثير من المسافرين، وفي يوم السبت ٩ أغسطس دخلنا ميناء سان پيدرو، وهي ثغر لوز إنجليز، وكان شاطئ كلفورنيا الصخري قد بدا إزاءنا منذ المساء.

حللنا البلدة — وهي ضاحية صغيرة، ميناؤها لا يزال تحت التنقيح والإنشاء — وركبنا الترام مسافة أربعين ميلًا إلى لوز إنجليز، ومعناها الملائكة باللغة الإسبانية، فهالنا ما رأينا من أمرها؛ فهي مدينة صاخبة مائجة بالناس والحركة إلى حد كبير، وتكاد تتبع في نظامها نيويورك لأن شوارعها متقاطعة ومتعامدة، غير أنها تعلو وتهبط حسب تموج الأرض حولها، ولقد نمت نموًّا عظيمًا منذ أسسها الإسبان من ١٥٠ سنة، خصوصًا في السنوات الأخيرة، حتى بلغ سكانها مليونًا وربعًا، وأضحت خامسة مدن أمريكا، فهي أكبر من القاهرة.

أما مبانيها فجُلُّها من ناطحات السحاب التي تفوق أدوارها العشرين، ولعل أروع شوارعها برودواي نظير أخيه في نيويورك في وجاهته، والتأنق الفائق في عرض متاجره، والإسراف الكبير في تموين مبانيه بالمرمر الملون الذي يبدو وكأنه الخزف الفاخر تحده أسلاك النحاس الأصفر البديع إلى ذروته مهما علا. أما عن حياة الليل فيه وفيما جاوره من طرق، فذاك أمر يبهر النظر، ويستهوي الحكيم، فالمقاصف والمقاهي تعددت أشكالها وبُولِغ في تنسيقها، ودور الملاهي وبخاصة السينما فاقت كل وصف جمالًا، وحركة المرور في الشوارع تسد الآفاق سدًّا، فَسَيْل السيارات دافق كل آن، هذا إلى الترام متعدد الأنواع، وقُطُر تحت الأرض، وسكة الحديد في كل جانب، وكذلك الأتوبيس، ولا يمكن لأحد أن يعبر مفارق الطرق إلا إذا أُوقِفَت إشارة المرور.

والإشارات أتوماتيكية بالأنوار الملونة، وذراع يُرْفَع وعليه كلمة go فتمر السيارات ويتوقف المارة، ثم يدق الجرس ويسقط ذاك الذراع ويُرْفَع غيره وعليه stop.

زرت بعض حدائقها ومتنزهاتها الرائعة، ومنها حديقة الحيوان التي تمتاز بإظهار بيئة الحيوان الطبيعية حوله من غابات وجبال، ثم مزرعة السباع وبها زهاء ٢٠٠ أسد يروضونها على اللعب، فيركبها الرجل ويدربها على بعض الألعاب، وبعضها يُرْسَل إلى هوليوود ليشاطر في إخراج الأفلام السينمائية، ثم مزرعة التماسيح لتربية تلك الطائفة من الحيوان، ومنها ما يفوق عمره المائة عام، ثم مررنا على دار الألعاب الأُلُمبية «الاستوديوم» الذي يبلغ ١٧ فدانًا، وبه مقاعد لعدد ١٠٥٠٠٠.

fig79
شكل ١٥: زجاجات اللبن تُعَقَّم وتُقْفَل في ولنجتون.

ثم مرت بنا السيارة خارج البلدة خلال بساتين الفاكهة، وبخاصة البرتقال الذي كانت صفوف أشجاره المنتظمة تمتد إلا الآفاق — وهي جزء من إنتاج كلفورنيا الذي اشْتُهِرَت به حتى قُدِّرَ محصول البرتقال بعشرين مليون جنيه في كل عام — ثم كان ركوبنا الترام إلى هوليوود.

(٢) هوليوود

عاصمة السينما في العالم؛ إذ تُخرِج وحدها زهاء ٨٥٪ من جميع أفلام الدنيا، تلك التي أصبحت مطمح آمال الكثير ممن أَنِسُوا في نفوسهم كفاءة في التمثيل والغناء والموسيقى والجمال، وبعض الألعاب كالمصارعة والرقص والملاكمة وما إليها، حتى إن ثلث ركاب الباخرة كانوا منهم، وكلهم جاءوا يطبون الغِنى والمال في عاصمة الخلاعة والجمال.

دخلنا البلد بعد مسيرة نصف ساعة بالترام، فبدت تقوم في حضن جبل منخفض تتوجه رُبًى تكسوها الخضرة، وقد بدا بناء مرصد «جرفث» مشرفًا بقبابه، وقد زرناه، وبه من المناظير ما يُعَدُّ من بين أكبر مناظير الدنيا بعد منظار جبل ولسون — وهو قريب من ذاك الموضع، لكن لم تُتَح لنا فرصة زيارته لنرى منظاره البالغ قطره ١٠٠ بوصة «وهم اليوم يصبون عدسات منظار آخر قطره ٢٠٠ بوصة» — ثم موضع للفلك «پلانتوريوم» شبيه ذاك الذي زرناه في برلين.

أما عن جمال بلدة هوليوود والإسراف في إقامة مبانيها وتسيق حدائقها، فذاك أمر لا يجدي فيه القلم، بل عليك أن تشاهده بنفسك كي تدرك رونقه، وتحس جماله، وترى بريق المباني، وفاخر فرشها، ورائع هندستها، وبديع معروضاتها؛ مما يشعر بالغِنَى المفرط والجاه الكبير، وبخاصة دور الملاهي التي لا تدخل تحت حصر. وقد راقني منها الملهى الصيني Chinese Theatre أقيم على نمط پاجودا الصين، وبُولِغ في تجميله من الداخل، وزُوِّدَ بالفراش الوثير، ويسمونه Premier؛ لأن كل فلم جديد يُعْرَض فيه أولًا، وفي بهو مدخله الفسيح ترى كل رخامة رُصِفَت بها الأرض تحمل طابع يدي إحدى نجوم السينما، وبعض تمنياتها للملهى وإمضاءها والتاريخ. كل ذلك محفور في صميم الصخر.

ومن الدور الشهيرة: الملهى المصري، سُمِّيَ كذلك لأنه أقيم في هندسة المعابد المصرية القديمة، وأينما سرت تلاقيك الاستديوهات ذائعة الصيت، تلك التي تُؤْخَذ داخلها أفلام العالم أجمع، ومن بينها استوديو شارلي شابلن الذي قصر تمثيله اليوم على فلم أو اثنين في العام؛ حتى يتشوق الناس إليه ولا يزهدوا في أفلامه إن كثرت عددًا، وكان لي حظ لقائه هناك.

طفقت أسير في جنبات تلك الضاحية السحرية أشاهد سيول المارة تسد الطرق وأرصفتها سدًّا، وبحر السيارات زاخر بحيث تكاد تُفْرَش الطرق بها فرشًا، فلا يكاد يخرج الواحد إلا في سيارته. وكنت أعجب للحياة كيف تسير في تلك الناحية؛ أرى النساء قد ظهرن في أزياء الرجال من سراويل وجاكتات وأربطة رقبة وشعر مقصوص، بحيث يصعب التعرف إليهن بين الذكور، ومن الرجال من دهن وجهه، وحمر شفاهه، وأرخى شعره، ولمَّع أظافره، وسار يتبختر ويتيه عجبًا كأنه الآنسة الحسناء.

أما عن جمال السحن ودلال المشية وفاخر الهندام، فذلك لم أره في مكان قبل هذا، وكثير من أولئك من سراة العالم أجمع، وبعضهم من نجوم السينما الذين طبقت الآفاق سمعتهم، ومنهم من وفد طامعًا في الغِنَى، راغبًا في الوجاهة، ساعيًا بجماله وخفة حركاته، ورشاقة قده، وشجي صوته أن يصبح في عداد تلك النجوم. ولا عجب أن تصبح هوليوود بغية الناس من أقصى الأرض، وهل يُتَاح لهم من المجون ووسائل اللهو والإسراف ما يلقونه هنا؟ وهل في الدنيا سوى هوليوود واحدة؟! وما أبدع ما يُرَى شارع هوليوود بوليفار قلب المدينة النابض، وشارع هوليوود أڤنيو الذي يليه فخارًا ويقطعه متعامدًا عليه! ما أبدعهما ليلًا حين تكاد الأضواء فيها تبهر النظر، وتستهوي الرزين! وقديمًا عُرِفَ الأمريكيون بالإسراف في سبل الإعلان، ومن أخصها الإضاءة الملونة المتحركة ليلًا.

fig80
شكل ١٦: بين فريق من أهل جزائر ساموا.
ولم أكد أوغل في أطراف المدينة حتى بدت المساكن الأنيقة بحدائقها المنسقة التي تشعر بغنى أصحابها المفرط، وحسن ذوقهم، وجميل اختيارهم، وبخاصة فوق تل يسمونه بيفرلي Beverly؛ حيث رأينا جُلَّ منازل النجوم في إبداع يفوق الوصف، وكانت تسترعي نظري ليلًا أشعة من الضوء القوي تُرْسَل كالسهام إلى السماء في اتجاهات مختلفة، وتتحرك عبر تلك السماوات وهي تتقاطع وتقوى ثم تخبو، وقد تبدو كوابلٍ من الشهب والنيازك الضخمة، وتلك من مميزات كلفورنيا عمومًا في الإعلان، وبخاصة هوليوود؛ لذلك تراها على شاشة السينما دائمًا تنبعث وكأنها أشعة الشمس القوية. وكنت أرى تلك المصابيح تسير على عجل في الشوارع، وإلى جوار كل منها «دينامو» كبير يولد لها الكهرباء، ويحرك الرجل المصباح فيتمايل شعاع الضوء في كل اتجاه.

وعدت في اليوم التالي أزور هوليوود لأني لم أشف من جمالها غلة، وتزودت منه طوال اليوم، وقد لاحظت أن الحياة فيها أغلى منها في سائر البلاد، فلا أكاد أُخرج الريال حتى لا أرى له بقية، وأنت لا تزال تنفق الريال تلو أخيه حتى يصبح وفاضك خلوًا من المال، وعندئذ تفيق لنفسك ولا تندم على ما أنفقت في سبيل الوقوف على حال هوليوود وأهلها. ولقد استوقفني في أحد شوارعها منظر جماعة من العمال ينقلون بيتًا برمته من قطعة أرض إلى أخرى، وقد حفروا حول الأسس، وأوقفوا قاعدة البيت على أعمدة من كتل خشبية تحتها بكر كبير، وسيزمعون جره على تلك البكر إلى بيئته الجديدة.

وقفت مبهوتًا؛ لأني كنت إخال ذلك لمَّا أن سمعته أول مرة منذ عامين ضربًا من الخيال، أو نوعًا من التهكم على مبالغة الأمريكيين و«فشرهم»، لكني ألفيته حقيقة! وقد دهش صديق لي أمريكي لأني لم أعرف أنهم ينقلون البيوت الضخمة مسافات بعيدة منذ زمان بعيد.

مالت الشمس، وآذن ميعاد العودة إلى الباخرة، فأخذت أودع ذاك البلد الساحر، وكان آخر ما وقع نظري عليه منزل النجمة Ann Harding فوق حجارة تحكي الجبال الطبيعية، من دونها بركة الاستحمام الفسيحة، ثم منزل النجمة الجميلة Marion Davies بديع الهندسة، فاخر الحدائق، وقد فُتِحَ للقاء من أراد من الزائرين، وقد استمتعت بزيارته ولقاء صاحبته، ثم مررنا بمدرج Hollywood Bowl الذي نُقِرَ مسرحه الهائل في صخر الجبل، وزُوِّدَ بمقاعد في أنصاف دوائر تتسع كلما بعدت وعلت، وهنا يُعْرَض التمثيل وتُؤْخَذ بعض الأفلام صيفًا في الهواء الطلق.
fig81
شكل ١٧: آنسات هونولولو الرشيقات.

وقد زرت جامعة هوليوود، وعلمت أن بها طالبًا مصريًّا اسمه غنيم، حاولت مقابلته لكني لم أُوَفَّق، وهي غنية بأقسام الفنون والتمثيل والموسيقى والغناء. سار الترام وسط ضواحي هوليوود في طرق تحدها أنواع من النخيل مختلف الشكل، ثم عرج بنا على لوز إنجليز، وقد تزودنا من جمالها وروعة شوارعها، ثم قرب ميعاد العشاء فآثرنا أن نتناوله في مطعم قبل العودة إلى الباخرة، فدخلنا أحد المطاعم الفاخرة وقد كُتِبَ عليه: الوجبة ثمنها ٣٥ سنتيمًا، أي ٧ قروش.

ولما أن وصلنا المقاعد جلسنا ننتظر الخادم طويلًا فلم يحضر، والناس من حولنا يأكلون، فصفقنا فاسترعى ذلك نظر الجميع، وجاءتنا آنسة تقول: ماذا جرى؟ قلنا: نريد عشاءنا، قالت: قوموا تناولوه بأنفسكم. فبدأنا نمرُّ صفوفًا على عدة فتيات: الأولى ناولتنا صينية وفوطة وسكينًا وملعقة وشوكة، فحملناها إلى قسم الشُّربة، فملأت الأخرى لنا سلطنية وضعتها على الصينية، ثم زحفنا بمتاعنا إلى قسم اللحوم والسمك ننتقي ما نحب، ثم إلى قسم الخضر، ثم إلى قسم السلطات، ثم قسم الحلوى، وأخيرًا قسم المشروبات.

عندئذ ألفيت صينيتي قد مُلِئَت وثقل علي حملها، وشعرت بغضاضة في نفسي أن أعمل عمل الخدم، لكن لم أر بُدًّا من ذلك والناس هناك كلهم سواء، وحملتها في جهد إلى المناضد المجانبة، ثم أخذنا نتناول طعامنا بشهية كبيرة، وأخيرًا تناولنا ورقة بالثمن «٣٥ سنتيمًا» ثم دفعناه عند الخروج. وذاك النوع من المطاعم هو الشائع في كل بلادهم، ويرى فيه القوم أداة سهلة لك أن تختار ما يروقك من الطعام المرصوص أمام عينيك، إلى ذلك فإن تلك المطاعم رخيصة جدًّا، حتى إنك تستطيع أن تتغدى بثلاثة قروش.

ومن المطاعم ما تدخلها وتقف إلى جوار البنك وتطلب ما تريد وتأكله واقفًا، وهو أكثرها انتشارًا؛ إذ ترى منها عشرات في كل شارع. وقد شجع على كثرتها تزاحم الناس عليها؛ لأن جل حياتهم خارج المنازل، فلا يكادون يعدون من الطعام في المنازل شيئًا، بل تخرج العائلة كلها عند كل وجبة ويأكلون ما يرغبون.

ركبنا الترام السريع عائدين إلى سان پيدرو، وكنا نمر بقرى كبيرة، وفي جانب منها على مقربة من البحر أبصرنا بشِبْهِ غابات كثيفة من شباك الحديد العالية، فقِيلَ لنا: هي آبار البترول التي جعلت كلفورنيا من أولى جهات العالم إنتاجًا لهذا المعدن، وكانت خزانات البترول Tanks الأسطوانية الغليظة تضيء بلونها الفضي على بعد أميال.
fig82
شكل ١٨: أجساد فتيات هونولولو ممتلئة متناسبة.

قامت بنا الباخرة تبرح لوز إنجليز وضواحيها بعد أن أقمنا فيها يومين كاملين، ولم يبق في السفينة من الستمائة مسافر سوى مائة، والباقون أسرعوا إلى المقام في هوليوود، ولقد أقفرت الباخرة من أُنْسهم وخفة روحهم؛ فجلُّهم ممن ألفوا حياة المجون واللهو في غير قيد لدرجة كانت تهولني؛ فالآنسات يختلفن إلى الفتيان، ويغازلون بعضهم البعض جهارًا، ثم يكون التقبيل والزغزغة والاحتضان وما فوق ذلك مما كنت أستنكره كثيرًا.

والعجب أن ذلك لم يكن يسترعي من أنظار الآخرين أو يثير سخطهم، بل على النقيض من ذلك كانوا يساهمون فيه، وحتى الأمهات أو الآباء كانوا يساعدون بناتهم على ذاك اللهو، وكثير من الفتيات كن يسرن عرايا في غير حياء، وكانوا يسخرون مني إذا ما غضضت الطرف عنهن وعمَّا يأتين، ولم أشهد من الإباحة في أسفاري السالفة ما شهدته هذه المرة، ولا عجب؛ فَجُلُّ القوم من الأمريكيين الهوليووديين والنيوزيلنديين والأستراليين، وكلهم سواسية في الأخذ بأكبر نصيب من الإباحة في كل شيء.

أوى جُلُّ المسافرين هذه الليلة إلى مقارهم على خلاف العادة ليعدوا نفوسهم، ويحزموا متاعهم؛ لأنها آخر أيامنا على ظهر الباخرة التي ستصل فرسكو ظهر الغد، وكان الكل يأسفون على مبارحة السفينة، والحرمان من متاع الحياة فيها. والحياة على ظهر الباخرة مترفة نشيطة، ففي باكورة الصباح يمرُّ الغلام بجرس يعطي أنغامًا كالبيانو ليوقظ القوم عند السادسة، ثم يطوف آخَر بالجريدة اليومية الصغيرة من ست عشرة صفحة على ورق صقيل جميل، كنا نقرأ فيها أخبار الباخرة واللاسلكي الخارجي، ثم مقالات قيمة عن البلدان التي ستقف عليها الباخرة مزودة بالصور البديعة.

ثم تمر الآنسة بكأس الشاي وبعض الفاكهة، وفي السابعة صباحًا يطوف الجرس الثاني ويصيح الغلام: «إن الإفطار سيُقَدَّم بعد نصف ساعة.» عندئذ نتوجه إلى المطعم ونأكل ما راقنا من طعام شهي: فاكهة مثلجة وطازجة ومطبوخة، وبعض البوردج «العصيدة باللبن»، أو مقصوص الرقاق اليابس Corn flakes، أو الكنافة Shreaded wheat، وبعض اللحوم والكبد والسمك، وبعض البيض «عجة أو مقلي إلخ»، وفطائر ومربى وعسل ولبن وزبد وشاي أو قهوة أو كاكاو.
fig83
شكل ١٩: تحلي عقود الود جيد الناس في هونولولو.
وإذا ما فرغنا من الإفطار قصدنا بهو المطالعة نقرأ بعض الجرائد والكتب التي نقترضها من مكتبة الباخرة، ثم نخرج إلى سطوح السفينة لنساهم في الألعاب المختلفة: تنس، وبنج بنج، وbull board، ورمي الحلق، ودفع الأقراص Shuffle board، والاستحمام في البركة المالحة وما إلى ذلك، وفي بعض الأيام يقام سباق الخيل، وبين محطة وأخرى تُقَام مباريات عمومية يساهم فيها الجميع، وتُعْطَى الجوائز للفائزين.
وفي العاشرة صباحًا يطوف الغلام بكئوس المثلجات، وإذا أقبل الظهر دق جرس الغداء فذهب القوم إلى المطعم في غير تكلف في الهندام، فترى الكل نصف عرايا وقد تحرروا من كل قيد. بعد ذلك تعزف الموسيقى فنستمع لها، وبعضنا يؤثر القراءة، والبعض يعكف على الضامة checkers أو الشطرنج check أو النرد أو الورق.
وفي الساعة الرابعة تعزف الموسيقى ويُقَدَّم الشاي، ثم تنشط حركة الألعاب الخارجية، وفي السادسة يدق جرس العشاء، ويصيح الغلام منبهًا بأن الطعام سيُقَدَّم بعد نصف ساعة. هنا يسرع القوم جميعًا رجالًا ونساءً إلى غرفهم ليتزينوا ويلبسوا فاخر ثيابهم، حتى الأطفال منهم، وهم يرون اللبس قبل العشاء لازمًا، فكنت أستعرض من الأزياء صنوفًا وألوانًا، فإذا كانت السفينة ستصل ثغرًا في الصباح كانت حفلة العشاء كبيرة للوداع Farewell dinner، ندخل المطعم فنرى الأعلام الصغيرة وملابس للرأس من ورق ملون مضحك fancy dress. وقد يلبس الجميع أردية مضحكة، أو أزياء تمثل همج الإنسان، أو بعض الأمم الغريبة، فيكون عشاء جميلًا.

ولا تلبث بالونات الجلد الرقيق الملون ترفرف على الرءوس وتطير، ثم يضربها الخادم بدبوس فتنفجر في صوت كصوت المدافع، بعد ذلك نحضر حفلة السينما. وفي منتصف العاشرة يبدأ الرقص والشرب إلى ساعات متأخرة من الليل، وهنا يطوف الغلام علينا بصواني الساندوتش المنوع، وقد تُعْقَد ألعاب للمقامرة وسط كل أولئك.

ذلك مثل من سحابة اليوم الذي نمضيه على ظهر الباخرة، ولا عجب أن بدأ الجميع يشعر بالأسف لمغادرة البحر رغم ما قد يصادفنا فيه من منغصات موجه ومرضه. وفي الحق أن حياة البحر لتعشق إن أخلاها المرء من المغالاة في المجون واللهو، ولعل أجمل ما فيها جميعًا الإخوان الذين نصطحب بهم مهما كثر عدد المسافرين، تراهم يختلطون ويتجاذبون أطراف الحديث ويصيرون أصدقاء، فحياة البحر خير عون على تربية النفس على حب المعاشرة والتهذيب والدعة.

ولقد صرفت نصف يوم الاثنين كله في عبارات الوداع، وتبادل بطاقات الأسماء والعناوين، وكلنا آسف جد الأسف على فراق حبيبه الذي لم يزد عهد صداقته على أسبوعين. دق جرس الطبيب ظهرًا وقد وفد مع رجال المهاجرة، فتقدمنا وكان قلبي يرتجف خشية أن يكون الكشف الطبي قاسيًا، لكني مررت عليه وتسلمت أوراق نزولي إلى أرض الولايات المتحدة دون قيد، فاغتبطت بذلك الغبطة كلها، ويظهر أنهم قد تغاضوا اليوم عن التراكوما رغبةً منهم في الانتفاع بأموال السائحين.

خرجنا إلى سطح السفينة نشرف على رُبَى كلفورنيا، ونستقبل خليج سان فرنسسكو، فبدا في مدخل ضيق يسمونه الباب الذهبي The Golden gate يفصل ما بين فرسكو إلى يميننا، وأوكلند وبركلي إلى اليسار، وقد بدأ القوم يصلون طرفيه بقنطرة معلقة شاهقة ستكون أكبر قناطر العالم طرًّا وأعلاها، وقد رأينا القوائم شُدَّت عليها الجنازير الضخمة المقوسة التي ستحمل القنطرة عند تمامها.
fig84
شكل ٢٠: الصحافة في عرض البحر «مثل من الجرائد اليومية التي تُطْبَع على ظهر الباخرة وتُوَزَّع على المسافرين مجانًا».

(٣) سان فرنسسكو

بدا خليج فرسكو مغضنًا في شعاب عدة تتوسطه جزر صغيرة، رأينا على إحداها أكبر سجن هناك يضم بين جدارنه المحصنة كبار مجرمي أمريكا كلهم، وبخاصة عصابات شيكاغو gangsters، وعلى جوانب تلك الأجوان تقوم المدينة وضواحيها على مدرجات جبال مغضنة. وأبصرنا بقنطرة أخرى بالغة الطول تُسَمَّى «فرسكو وبركلي»؛ لأنها تصل ما بين البلدين، ويبلغ امتدادها أميال، وقد كلفت ٧٧٢٠٠٠٠٠ ريالًا، أي فوق ١٥ مليون جنيه، وهي أطول قناطر الدنيا، وسطحها من دورين: الأعلى للسيارات الخفيفة، وسيمر عليها يوميًّا إذا ما تم بناؤها ٦٥ ألف سيارة، والدور الأسفل لمرور العربات الثقيلة والترام، ويجتازها من الركاب ١٢٧ ألفًا في اليوم.
ولقد كان مشهد المرفأ ساحرًا بديعًا، والميناء تنافس سدني وريودجانيرو جمالًا، وتُعَدُّ أكبر «المين» الطبيعية المغلقة الآمنة في الدنيا. نزلنا البلد ونقلتنا السيارة إلى نُزُل Stewart في شارع Geary، وأجره ريال ونصف في اليوم، والفندق فاخر جدًّا، ويغص بالمسافرين إلى حد لم أعهده من قبل.
خرجت أجوب الجهات القريبة من الفندق، وإذا بشوارعها عظيمة الامتداد، شامخة البناء، فاخرة المتاجر والمعروضات، غاصة بالحركة جدًّا؛ لأنها قلب المدينة، وبخاصة شارع Market Str. أعظم شوارع المدينة وأشدها حركة، يجري به أربعة أشرطة للترام متجاورة لشركتين مختلفتين، وبعض الشوارع تتعامد عليه، والبعض تتوازى معه، وأخرى تميل خارجة عنه، ثم تقابلها غيرها متعامدة عليها أيضًا، والكل يسير على نظام الكتل blocks كما هي الحال في نيويورك.
fig85
شكل ٢١: زهرة عباد القمر في هونولولو.

وفي تلك الأحياء الفاخرة كثير من ناطحات السحاب التي تبلغ أدوارها بين الخمسة عشر والخمسة والعشرين، وقد صعدنا أعلاها؛ وهي ناطحة شركة التليفون، إلى سطح الدور الثلاثين، فكان مشهد المدينة منه جميلًا ساحرًا، ويشتغل بها في ساعات العمل من الموظفين ١٦٠٠ موظف.

ومن المباني الرائعة دار البلدية City Hall بقبتها الأنيقة، تزين ميدانها النافورات والحدائق البديعة، وهي تغص بالحَمَام يطعمه الناس فيرفرف على أكتافهم وهو أليف وديع. أما عن حياة الليل في تلك الشوارع فصاخبة مائجة تزينها الأضواء الملونة التي ألفناها في هوليوود ولوز إنجليز في إسراف كبير، ودور الملاهي لا تُحْصَى، والمطاعم والفنادق تُعَدُّ بالمئات، ففي سان فرنسسكو ١٥٠٠ فندق، وفوق ٣٠٠ مطعم، مع أن سكانها لا يزيدون على سبعمائة ألف.

وقد عجبت كيف تجد تلك الفنادق والمطاعم من الزائرين ما يكفيها، لكني علمت أن نحو ٥٥٪ من سكان المدينة من رواد تلك النُّزُل والمطاعم، مما أَفْقَد البيوت رونقها، وكاد يقضي على نظام العائلة البديع؛ فلا يكاد أحدهم يأكل في بيته قط، وكثير منهم ينام في الفنادق، وإذا أضافك أحدهم على طعام أو شراب، دعاك إلى أحد تلك المطاعم. أما البيت وما له من حرمة مقدسة، وجميل أثر في تربية النشء، فذاك ما لا تراه هناك قط، وكثير من تلك الأماكن باهظة التكاليف؛ إذ أجر المبيت فيها يفوق ستة ريالات في الليلة الواحدة، على أنك تجد الكثير بين نصف الريال والريال.

وجل المطاعم على النظام «الوقافي» تخدم نفسك وتدفع ما بين خمسة قروش وعشرة في العادة. ركبنا سيارة النزهة sightseeing في رحلة مداها فوق ثلاثين ميلًا في ثلاث ساعات، وأجرها ريالان، وطفنا بِجُلِّ نواحي المدينة وأطرافها، وزرنا بعض كنائسها القديمة، وبالمدينة زهاء ٣٠٠ كنيسة جلها للمذهب الكاثوليكي، ثم دخلنا الأكواريوم الذي حوى مجموعة قيمة جدًّا من السمك، خصوصًا الملون البديع، ولعل أعجبه Turkey fish، وهو ملون، وتحكي أجنحته الديك الرومي.

ثم دخلنا متحف التاريخ الطبيعي، ولا بأس بمحتوياته خصوصًا المعدنية، ثم وقفنا بشواطئ الاستحمام الرملية المديدة، وقد أُقِيمَت حولها الملاهي ودور السينما واللونابارك والمطاعم، وفي ناحية منها جزء صخري من الشاطئ به بعض الجزيرات التي تغص مياهها بسباع البحر، تنفر في الماء، وتلعب مرحة آمنة. وقد اخترقنا أكبر متنزهات البلدة، ويُسَمَّى متنزه القرن الذهبي، ومساحته ١٠١٣ فدان، وتكثر المتنزهات خارج البلدة، لكنها تندر جدًّا في وسطها، ثم اعتلينا بعض التلال المحيطة بها، فكان منظر المدينة وبحارها وقناطرها، وبخاصة القرن الذهبي، رائعًا.

عادت بنا السيارة الكبيرة الفاخرة، ومنها ما يسافر إلى أقصى بلاد الولايات المتحدة، ويفضلها الكثير على سكة الحديد؛ لأنها مريحة جدًّا من جهة، ولأن أجرها أرخص بكثير من سكة الحديد، فأجر السفر بها من سان فرنسسكو إلى نيويورك مثلًا ثمانية جنيهات ونصف، مع أن الأجر في القطار ضعف ذلك. ثم كانت زيارتي للمدينة الصينية China Town، وهي قسم من المدينة احتله الصينيون. وهم هناك جالية كبيرة العدد، حتى إن تلك الناحية تُؤْوي أكبر مجموعة من الصينيين خارج الصين، وتقع على تَلٍّ تنحدر منه الشوارع في ميل مخيف قد ينزل فجأة ٤٥°.
fig86
شكل ٢٢: ركوب الأمواج الهائجة بزوارق نحيلة من أحب وسائل الرياضة في هونولولو.

أخذنا نسير وسط تلك الشوارع فأذكرتني برحلتي في الصين نفسها؛ فالمباني أُقِيمَت على النمط الصيني ذي السقوف الخشبية المقوسة الأطراف، والمصابيح من حديد أو ورق ملون، وعنوانات المتاجر في شرائح طولية تزينها بقع الخط الصيني الجذاب، والحركة هناك ناشطة مائجة بالمارة من الصينيين بعيونهم المائلة المنتفخة، وقاماتهم القصيرة، وأرديتهم العجيبة. وجل ما يُعْرَض في متاجرهم من الأنسجة واللعب الصينية، ولهم هناك مطاعمهم ومكاتبهم وجرائدهم التي تُطْبَع بلغتهم.

وقد تناولت العشاء في إحدى تلك المطاعم، وراقني منها الأرز ومزيج من نثير اللحم والسمك والسردين وصنوف أخرى لم أعرفها، واستمتعت بالشاي الصيني الأخضر الذكي، ثم دخلت دار التمثيل الصيني، فمثلوا أمامنا رواية بالملابس الصينية، على أني ألفيت التمثيل جامدًا تعوزه الحركات الخفيفة، فلا تكاد الممثلة تتحرك قط، وصوتهم في الحديث والغناء منفر جدًّا، والنساء يتكلفن القول في تماوت سقيم، وأدهى ما في الأمر موسيقاهم، وهي عبارة عن طبول كأنها الرعد، أو صوت مجموعة من صفائح تُقْرَع عاليًا، ويصيح معها مزمار مُملٌّ النغمات، ويبلغ من علو تلك الجلبة أنا لم نكد نسمع من قولهم في التمثيل شيئًا، وقد تصدعت رءوسنا على أن الصينيين كانوا منصتين مأخوذين، وهم معروفون بتقديرهم للبلاغة في القول، والتعمق في الفلسفة، ثم كان التمثيل المتثاقل، وأمثال تلك الدور كثير في تلك البلدة.

أويت إلى النزل وطفقت أربعة أيام كاملة أتزود من ظُرف سان فرنسسكو، وخفة روحها، وأنس أهلها، ولن أنسى مشيتي خلال تلك الشوارع الأنيقة الغاصة بالجماهير ليلًا ونهارًا، وكانت تستوقفني بين آنٍ وآخر تلك المباني الشامخة التي بُولِغَ في تنسيقها وتجميل مواضعها، وكثير منها يبدو جديدًا. وهذا القسم من البلدة هو الذي دمره الزلزال سنة ١٩٠٦، واشتعلت به النار فلم تُبْقِ منه شيئًا؛ لذلك أنشأه القوم من جديد على نظام هو خير من سالفه، وهو القسم الشمالي الشرقي الذي يتوسطه شارع Market.
ولقد رغبت في زيارة الجامعة فركبت لها الفرسى في ضاحية بركلي Berkly، وهناك في بنائها الفاخر كان يتلقى دروس الصيف زهاء ١٦٠٠ طالب من مختلف الجهات، أما أثناء الشتاء فعدد طلابها ٢٢ ألفًا، وهي من أكبر جامعات أمريكا. ثم عرَّجت في عودتي على حديقة الحيوان الجميلة، وشاطئ الاستحمام وما حوى من صنوف الألعاب الأمريكية على نمط ما رأيناه في مدينة الملاهي في معرض العام الفائت، إلا إنه ثابت وعظيم الامتداد، ومتعدد الألعاب، وتدهش للأموال التي ينفقها الناس هناك، وحتى الأطفال كانوا ينفقون ريالات متعاقبة بدون اكتراث.

ثم عدت مخترقًا بعض ضواحي السكنى، وجل بيوتها من دورين أو ثلاثة، وغالبها بالخشب الذي يُطْلَى فيُرَى وكأنه البناء الأصم، وذلك خشية آثار الزلازل كثيرة الحدوث في تلك الجهات. ولقد أعدت تجوالي ليلتي الأخيرة أستمتع بأنوار المدينة الخاطفة، وحركتها المستمرة، ومتاجرها المعروضة، وحتى بعض البنوك، وبخاصة بنك أمريكا، كانت الأضواء تشرق في بنائه الفاخر، وكانت الحركة المالية فيه مستمرة، وقد كُتِبَ عليه: البنك مفتوح آناء الليل وأثناء النهار.

fig87
شكل ٢٣: همج المحيط الهادي يصيدون السمك بالحراب.

على أني لاحظت رغم كثرة الأموال عددًا كبيرًا من العاطلين، ومنهم من كان يعترضني ويطلب عونًا ماليًّا ويقول بأنه معوز لا يجد عملًا، وقِيلَ لي: إن عددهم يناهز عشرة ملايين في البلاد كلها، ومنهم من تدفع له الدولة إعانة مالية حتى يجد مرتزقًا. وكنت أحس بالألم المفجع لأمثال هؤلاء؛ إذ يبصرون بعيونهم مبلغ المتاع الذي ينغمس فيه أقرانهم، والريالات التي تبدر بسخاء هنا وهناك، وهو صِفر اليدين لا يستطيع سد حاجة مما اعتاد من صنوف المترفات ومطالب الحياة الأمريكية التي لا تُحَد. وكان كثير من أبناء السبيل حفاة وفي ثياب مرقعة، لكنهم رغم ذلك المظهر البائس يسيرون مرحين، فإذا سألك أحدهم عونًا ولم تجبه إلى سُؤله لم يُلحف في الطلب، بل ابتسم وسار إلى سبيله.

وفي صباح الجمعة ١٣ أغسطس قمتُ أودع سان فرنسسكو التي أسسها الإسبان سنة ١٧٦٩ بوساطة بعض بعوثهم الدينية St Francs، وفي سنة ١٨٢٨ لم يزد سكانها على ٨٠٠، وعندما كشف «مارشال» الذهب حول مجرى ساكرمنتو، هاجر الناس إليها من كل فج، وبلغ التزاحم حدًّا كان الفراش يُسْتَأْجَر بجنيه في الليلة، وكانت البيضة تُبَاع بريال، وبلغت أجور العمال ٢٠ ريالًا في اليوم، وفي عامين بلغ أهلها ٣٠ ألفًا.

ركبت السابحة إلى أوكلند حيث محطة سكة الحديد، وأقلني القطار سائرًا صوب الشمال إلى بلاد كندا مخترقًا جبال الركي الشامخة، وكان الجو خلال إقامتي في فرسكو جميلًا أقرب إلى شتاء مصر منه إلى صيفها، بعكس ما قاسيته في هوليوود ولوز إنجليز من الهجير اللافح الذي يفوق في نظري صيف مصر، وذلك كان من ضمن العوائق التي صرفتني عن زيارة «خانق كلرادو» بعد أن كنت قد اعتزمت زيارته. دخل بنا القطار في سهول مبسوطة قد اصْفَرَّ أديمها ببقايا الغلال المحصودة، ومنها متسعات هائلة زُرِعَت بأشجار الفاكهة، وبخاصة البرتقال، ثم أخذت الخضرة الطبيعية تزداد بعد أن سرنا زهاء ثماني ساعات، وكثر الشجر البري.

fig88
شكل ٢٤: في جزائر ساموا ذات الطبيعة الساحرة.
ثم أخذنا نوغل في الربى ونترك السهول والقطار يتلوى صاعدًا في جهد كبير رغم ضخامة قاطرته، ثم عمت الغابات النجاد كلها، وهي في القمم من شجر الصنوبر، لكن الأغلبية من الأشجار المورقة، وبخاصة red wood، وكانت وديان الماء الغائرة المتعرجة تبدو في رواء يستهوي القلوب، وفي بعضها شلالات كبيرة. وكانت القرى نادرة تقوم بيوتها الصغيرة كلها من خشب.

وفي مجاورة المجاري المائية كنا نرى كثيرًا من مناشر الخشب، وهو من أكبر صادرات تلك الجهات، وفي بعض تلك المجاري كانت كتل الخشب الغفل تُوصَل بعضها بعوارض خشبية فتكون عوامة سابحة هائلة، ومقدمها يُرَصُّ في شكل مقدم السفينة في مثلث كي يسهل عليه شق الماء. ومن الشجر الذي كان يقطعه القوم ما بلغ ضخامة هائلة، بحيث كنا نرى جزءًا صغيرًا من شجرة واحدة يملأ فراغ عربة نقل كبيرة.

fig89
شكل ٢٥: قد يزيد الفراش على قامة الرجل في هونولولو.
وكلفورنيا وأرجون من أشهر بلاد العالم بذاك النوع من الشجر الضخم شاهق العلو، وهو Red Wood، وكثير من المناشر تقوم إلى جوارها مصانع عجينة الورق من الخشب. وأخذ ذاك الجمال الطبيعي الذي لم تكد تمسسه يد الإنسان يزداد حتى قاربنا البحر عند بلدة سياتل.

(٤) سياتل

وبينها وبين فرسكو ٥٧١ ميلًا، وتقع على جون غائر في الأرض بألسن لا حصر لها، والبلدة مقامة على مدرج فوق الجبال التي تكسوها الغابات في مشهد جميل، وتبدأ الشوارع متوازية من 1st Av إلى 2nd إلى3rd إلخ، وكل واحد يعلو أخاه بنحو عشرة أمتار أو يزيد، وتقطعها متعامدة عليها شوارع أخرى، وأهمها جميعًا شارع Pike مقر المتاجر الكبيرة والحركة الصاخبة.
ولقد جُبتُ جلَّ تلك الشوارع، وهي على نمط المدن السابقة، ولعل أجمل ما استرعى نظري السوق العام Public Market، تُعْرَض فيه جميع السلع بمختلف أنواعها، وخصوصًا المأكولات، في تنسيق كبير، ونظافة تامة، والباعة يحاولون استمالتك بصياحهم بالثمن، وتحسين بضائعهم، في تزاحم لم أره في سائر المدن الأمريكية الأخرى، مما أذكرني بأسواق الشرق عندنا. وكثير من الباعة من الصينيين الذين لهم حيهم في السكنى على مثال فرسكو.
وفي ركن من البلدة ميدان فيه متنزه صغير أُقِيمَ وسطه نصب هندي يسمونه Totem Pole، وهو يمثل شجرة العائلة لأهل ألاسكا من الهنود الحمر. ويظهر أن الحالة المالية في البلدة كاسدة لكثرة ما شاهدت من العاطلين والمتسكعين، وكثير منهم يقف على نواصي الطرق ويستجدي المارة.

(٥) فكتوريا

غادرت سياتل صباحًا إلى كندا، فركبت الباخرة الفاخرة وكانت غاصة بجماهير المسافرين، فسارت بنا فوق أربع ساعات ٨١ ميلًا كلها وسط أجوان وجزر تحدها الربى التي تتوجها الغابات الكثيفة في مناظر ساحرة، ولما أن رسونا على فكتوريا في جزيرة ڤنكوڤر مررنا برجال المهاجرة فختموا جواز السفر في غير تعطيل، ثم انتقلت إلى نزل جميل فاخر هو Dominion Hotel بريال ونصف في الليلة.

وفكتوريا عاصمة مقاطعة كلمبيا البريطانية مع أنها أصغر من ڤنكوڤر؛ فسكانها ٦١ ألفًا، ولقد أسستها شركة خليج هدسن التجارية منذ أن أقامت قلعتها سنة ١٨٤٣.

ألقيت بحقائبي في النُّزل ثم سارعت بأخذ مكاني من سيارة السياحة، فطافت بنا فوق ساعتين بريال خلال المدينة وخارجها، فبدت البلدة هادئة إلى حد موحش؛ لأنه يوم الأحد من جهة، ولأن بلاد كندا بعيدة كل البعد عن تلك الجلبة وسرعة الحركة التي نشاهدها في جميع مدن الولايات المتحدة. والشوارع هنا أفسح بكثير من الشوارع الأمريكية، لكن مبانيها واطئة لا تُرَى من بينها تلك الناطحات التي أُغْرِمَ بها أهل الولايات المتحدة، وأكثر تلك الطرق حركة ووجاهة Government وDouglas الذي يوازيه ثَمَّ Yates وFort اللذان يقطعانهما، ومن أجمل أحيائها: البلدة الصينية، وهي شبيهة بتلك التي في فرسكو، لكنها أصغر منها.
fig90
شكل ٢٦: نخيل النرجيل على شاطئ وايكيكي في هونولولو.
ومن المباني التي تجتذب النظر دار الحكومة يتقدمها تمثال فكتوريا، وتشرف على جناح من البحر ثم أوتيل Empress الهائل، الذي كُسِيَ من خارجه بالنبات المتسلق الأخضر البديع، وهو مزود بآيات الزخرف والإسراف في التأثيث من داخله، وإلى جواره المتحف الصغير والزورق الشراعي الذي طاف به شاب سنة ١٩٣٠ «٤٠ ألف ميل» حول العالم.
ولقد خرجت بنا السيارة مخترقة الغابات خارج البلدة، وهي غاصة بالنبات الطفيلي خصوصًا Ferns، وفي كثير من جهاتها كانت كثيفة الشجر جدًّا، وكنا نمر بالبيوت الخشبية الصغيرة منثورة وحولها بعض مزارع الغلال والفاكهة، خصوصًا في المنخفضات، وأخيرًا دخلنا حديقة Butchart، وهو أحد السراة أصحاب الملايين، زود بيته بحدائق بالغ في تنسيقها وتنويع شجرها وزهورها التي أعد لها بيوتًا زجاجية، ثم أمدها بمقاعد في مختلف الأشكال، وفي عدد لا حصر له، وفي جناح منها حديقة للحيوان والطيور، وفي كثير من المتسعات قد أعد ملاعب للأطفال وأراجيح، ثم فتح أبوابها للجماهير تؤمها للنزهة واللعب متى شاءت.
وفي عودتنا زرنا المرصد فوق ربوة شاهقة، وبه منظار يُعَدُّ من أكبر ما صُنِعَ، صُبَّت عدساته في بلجيكا وصُدِّرَت إليه قبل احتلال الألمان لمدينة Liege بثلاثة أيام فقط، والمرصد ثاني مراصد الإمبراطورية البريطانية. والمدينة بدت آية في النظافة؛ ولذلك لم أعجب لما علمت أن نسبة وفيات الأطفال أصغرها في العالم إذا قورنت بالبلاد التي تساويها عددًا في السكان، ويطلقون عليها اسم «باب كندا» لأنها نقطة الاتصال بجميع البلاد الخارجية؛ ولذلك يرمزون لها بمفتاح ذهبي تراه معلقًا على صدور بعضهم، ومعروضًا للبيع في كثير من متاجرهم.

وما كان أجمل دار الحكومة وقد أُضِيءَ صدرها كله بالثريات ليلًا، وكانت تواجهها في البحر سفينة صُنِعَت في شكل مسرح هائل زُوِّدَ بالنقوش والأضواء القوية، وأُقِيمَ مدرج كبير أمامه على الشاطئ جلس فيه الجماهير يستمعون لفرقة الموسيقى الكبيرة، ولغناء بعض المتطوعين من النساء والرجال. أما أضواء الشوارع وملاهيها فقليلة بالنسبة لما تراه في المدن الأمريكية. والبلد يبدو عليه الطابع السكسوني الإنجليزي في بروده وجمود حركته، على أنه خفيف الروح في جملته.

ولا يبدو على الناس هنا مظهر الغِنى وتبديد المال كما كنا نشاهد في البلاد الأمريكية، وكثير من الناس فقراء ويستجدون غيرهم، ويبدو على هندام بعضهم العوز الشديد، وحتى أطفالهم قد اعتاد الكثير منهم ذاك التسول.

قمنا الساعة الثانية مساء نستقل السابحة إلى مدينة ڤنكوڤر.

(٦) ڤنكوڤر

وكان التزاحم فوق الباخرة كبيرًا حتى كانت أكتافنا تتساند، ولم يكن في الباخرة مكان للحركة؛ ذلك لأن هذا الميعاد صادف اليوبيل الذهبي للمدينة؛ ولذلك أقاموا فيها عدة مهرجانات وزينوها، وخفضوا أجور النقل شهرين كاملين، هذا إلى أن القوم يحبون الانتقال، فكلما سنحت لهم فرصة سافروا في نزهة بحرية، وهل أجمل من السير بين أجوان جزيرة ڤنكوڤر ومناظرها الساحرة.

fig91
شكل ٢٧: العناية بأرض الزرع في هونولولو.
لبثنا نسير أربع ساعات وسط صخور وجزيرات تكسوها الغابات، وتتلوى بينها الأجوان في مناظر خلابة، وقد كانت الفنادق مكتظة حتى إنِّي بعد جهد وجدت غرفة لي في نُزُل Dunsmuir، ولا بأس بها، وأجرها ريال. أخذت أجوب أكثر نواحيها حركة في شوارع فسيحة، وأبنية لا بأس بوجاهتها، ومنها ما يعلو عشرين دورًا، وقد زُيِّنَت بالأعلام والثريات، وكُتِبَ على الأعمدة: مرحبًا بكم، وذلك بمناسبة الاحتفال الذهبي.
وأكبر شوارعها التجارية جرانفل Granville يمتد خمسة عشر كيلومترًا، وفي أحد طرفيه نهر فريزر، ومن أجمل المباني عليه فندق ڤنكوڤر الذي تديره سكة حديد كندا الباسفيكية، وبها فوق ٥٠٠ غرفة. وفي الصباح أخذت مكاني من سيارة السياحة وطفنا بنواحي البلدة، ومما راقني كثيرًا المدينة الصينية، وبها ١٤ ألف صيني يقطنون في بيوت صينية الهندسة، ولهم معابدهم وإعلاناتهم بخطهم العجيب.
ودخلنا معرضهم وفيه بوابة فاخرة أقرضتها الحكومة الصينية حتى تنتهي حفلات اليوبيل، وإلى جوارها المدينة اليابانية وبها سبعة آلاف. وأخيرًا وصلنا Dtanley Park في مساحة ١٠٨٤ فدان جُلُّها من الغابات التي أدهشنا مختلف الشجر فيها وضخامته، ومن الشجر ما يزيد محيطه على ٦٠ قدمًا ويشمخ عاليًا في الجو، خصوصًا Red cedar، وتبدو جذوعه وكأنها حزمة من أشجار التوت على بعضها، ومنها ما ينمو من وسط جذع لشجرة أخرى قُطِعَت من قديم، وهناك شجرة ملتوية نما القسم الأكبر من جذعها أفقيًّا، وقد نمت عليه شجرتان رأسيتان من نوع آخر.
وأقسام الزهور هناك كبيرة، وتحوي مجاميع بديعة، وخصوصًا القسم المسمى Shakespeare’s house، وفيه تنمو كل الزهور التي ورد ذكرها في مؤلفات شاكسبير. والعجيب أنهم يضعون وسط كل حوض للزهور مصابيح الكهرباء لتضيء ليلًا وتُظهِر الزهور في شكل بديع. وقد زُوِّدَ المنتزه بالملاعب المختلفة والحمامات وحظائر الحيوان، وبه قسم مخصص للهنود الحمر، وقد أُقِيمَت به قرية هندية نموذجية تتقدمها أنصابهم المخيفة من نقر الخشب، وتبلغ علوًّا شاهقًا، وهي تمثل الآلهة ذوات أجنحة تنذر بالرعد والمطر، وعيون محدقة تنذر بوميض البرق المخيف.
وهناك أثر حجري للهنود قُدِّرَ عمره بنحو ١٨٠٠ سنة، وفي جانب من المتنزه جزيرة صخرية يسمونها Dead man’s island، كان الهنود يدفنون فيها موتاهم، وطريقتهم في الدفن أن تُوضَع الجثة في زورق يُعَلَّق بين الأشجار، وتحرسه تلك الأشباح والأنصاب البشعة. والمتنزه يشرف على أجوان الميناء من عدة مواضع، فكانت تبدو الجزيرات والربى التي تكسوها الغابات في جمال رائع، فالطبيعة في تلك الجهات غنية بجمالها الذي يستهوي المرء أن يقيم في تلك البقاع طويلًا.
fig92
شكل ٢٨: هونولولو تنتج خير أنواع الأناناس وأوفره محصولًا.

أما البلدة نفسها فليست في روعة البلاد الأمريكية، ويبدو على مبانيها القدم، فهي تظهر قاتمة غبراء، وأهلها أبعد عن وجاهة الأمريكيين في هندامهم ومرحهم، وكثير منهم رقيق الحال معوز محتاج.

ومن المتاجر التي زرناها Stanley من ستة أدوار، وفي أعلاها حديقة سماوية معلقة يصعد إليها من شاء التريض والاستمتاع بمنظر المدينة من السماء. وقد راقني في الدور السادس معروضات الموبيليات تفرش الحجرات فرشًا تامًّا؛ فيُخَيَّلُ إليك أنها في بيت عامر بالسكان. وقد استرعى نظري كثرة الكنائس في ڤنكوڤر وفكتوريا، فقد تجد خمسًا منها في شارع واحد، إلى ذلك جماعة المبشرين الذين كنت أراهم في نواصي الطرق يخطبون الناس حاثين على التمسك ﺑ Jesus، ومعهم الموسيقى تعزف لهم، وهم يغنون بين آونة وأخرى، وكنت أرى نسخًا من الإنجيل في كل غرفة من الفنادق هناك.
قمت مساء بقطار Canadian National السابعة إلا ربعًا أخترق جبال الركي.

(٧) جبال الركي وجاسپر

فسرنا في متسعات من السهول تغص بالغلال والفاكهة، ثم بدأنا نتسلق جبالًا وطيئة نصف مجدبة، وما فتئت الأشجار تتزايد والجبال تعلو والقطار يَجِدُّ صاعدًا في جهد كبير، وقاطرته تُعَدُّ من أضخم قاطرات العالم وأحدثها. وفي شفق الصباح بدأنا نوغل في تيه من الربى والغابات تطوقها مسايل المياه تنقبض تارة وتنبسط أخرى، ودوي المياه فيها كأنه الرعد.

وكم مررنا بشلالات رائعة أفخمها مكانًا «شلال الأهرام» الذي تتفجر مياهه وهي هاوية إلى الأغوار في شكل مثلث! وكانت بعض الدببة السوداء قيمة الفراء والتياتل والموس والألك تُرَى هناك على قلة، وقد شعرت أنها آمنة؛ إذ هي في الحرم الذي يُمْنَع فيه الصيد، وحتى المتوحش لا يضربه البوليس إلا بإذن من الحكومة. وقد فاجأتنا مجموعة من بحيرات فضية آسنة تنعكس ذرى الجبال المحيطة بأشجارها الكثيفة على صفحة مائها في مشهد رائع، وبين آونة وأخرى كنا نرى بعض الثلج الناصع البياض يكسو الربى النائية، ولعل أروعها جميعًا Mt. Robson، وعُلوُّه ١٢٩٧٢.
ومن أشهر الأنهار التي مررنا بها: فريزر، الذي كان يتسع في بعض جهاته إلى ثلاثة أمثال نيل مصر، وكانت سابحات الخشب تعوم في سلاسل متعاقبة تجرها اللنشات إلى حيث تُنْشَر. وكان يهولني النمو الأسفل للنبات الطفيلي، وبخاصة السرخس ferns الذي كثر كثرة عجيبة، وظلت تلك المناظر الخلابة تتزايد سحرًا كلما أوغلنا في تلك الجبال، ومررنا بالقرى النادرة ببيوتها الخشبية الصغيرة حتى كانت الساعة الواحدة والنصف من يوم الأربعاء حين وصلنا: جاسپر، أي بعد زهاء ١٨ ساعة من ڤنكوڤر.
fig93
شكل ٢٩: جماهير المودعين يمسكون بأشرطة الورق الملون.
هنا تركت القطار وودَّعتُ من حولي من رجال ونساء التقوا بي وعكفوا على التحدث إليَّ وتمنوا لي رحلة سعيدة، ثم أويت إلى فندق الأهرام الصغير الجميل، وقد آثرته على غيره بمجرد أن رأيته يحمل اسمًا مصريًّا. والبلدة كلها صغيرة تتألف من مجموعة من الڤيلات الخشبية البديعة نُثِرَت وسط المزارع الطبيعية، وقامت من حولها مخاريط الجبال من كل جانب تُكْسَى بالخضرة والشجر الصنوبري، ويُغَطَّى بعضها بالثلوج الوضاءة. وهي هادئة لا تكاد تسمع فيها حركة فتخالها خلوًا من الأهلين، ولا يزيد سكانها على ١٥٠٠، وقد اختيرت وسط Gasper National Park الذي أوقفته الدولة متاعًا للناس جميعًا في مساحة ٤٢٠٠ فدان، وحرمت فيه صيد الحيوان وقطع الشجر وامتلاك الأرض.
ولقد عنيت شركة سكة الحديد C. National بتنسيقه في بعض جهاته، وتزويده بالطرق والفنادق، وبخاصة في مدينة جاسپر؛ لتجتذب السائحين إليه، ولقد زرت فندقها الفاخر Lodge الذي أُقِيمَ من كتل الخشب الأسطوانية في عدة أبنية منفصلة، ونُسِّقَت حوله الحدائق أيما تنسيق، وزُوِّدَ بِبِرْكَةٍ صافية الماء للاستحمام، لكن أجره باهظ هو سبعة ريالات في اليوم للنوم فقط. وقد حفظت مكاني في سيارة السياحة بريالين فطافت بنا بعض الجبال المجاورة، ثم خانق Maligne الذي سرنا على جوانبه خمسة أميال وهو يتلوى وتتعقد صخوره وتهوي روائع شلالاته في مناظر نادرة المثال، وعدنا بعد ساعتين ونصف.
ومن أروع الجبال المشرفة على البلدة «كافل» في هرم مدرج تكسوه الثلوج الخفيفة، ومن دونه بحيرة ينعكس عليها في صفاء ناصع، ثم نهر أتاباسكا المختنق الذي يتلوى إلى جانب البلدة لَيَّاتٍ شديدة، وتكاد تسده الغابات على جانبيه. وبمجرد نزولنا من القطار استرعى نظرنا عمود Totem Pole الذي يذهب عهده إلى ١٨٠٠ سنة قديمًا، وهو رمز سيادة الأسرة عند الهنود الحمر، يحتفظون به ليدل على أنهم من أصل عريق شريف. وكنا نرى قليلًا من الهنود بوجوههم القبيحة، ولونهم الأغبر الكدر، وقاماتهم القصيرة، وأكتافهم المقوسة.

وعجيب أنهم بعيدون عن أي استعداد للتقدم، فمستواهم العقلي منحط، بطيئو الفهم، رغم محاولة الدولتين الأمريكية والكندية تحسين حالهم. وهم لا شك آخذون في الانقراض، وشتان بين عقليتهم الراكدة وسحنتهم المنفرة، وبين الماوري مثلًا بذكائهم المفرط وجمالهم الجذاب. والهنود الحمر قريبو شبه بالصينيين؛ لذلك رُجِّحَ أنهم وفدوا من الصين عن طريق سيبيريا وألاسكا وانتشروا في الأمريكتين، ولا يزيد عددهم في كندا على مائة ألف.

وكثير منهم يشتغلون بصيد السمك وحيوان الفراء وقطع الخشب، ويسود الأسكيمو البلاد الجليدية الشمالية. وقبائل الهنود الحمر عديدة لا تُحْصَى، وأهمها: الأسكيمو و المكماك Micmac والمنتانيا والتشپوا والأتاوا و الكري Cree والبلاكفيت والهورن إيروكوا.
fig94
شكل ٣٠: في هوليوود بوليفار.

وفي البلدة مدرسة جميلة تحوي السنوات الابتدائية والثانوية معًا، وبعض فصولها يزيد عدده على الأربعين. طفقت يومين أجوب نواحيها وأرتقي جبالها وأغالب غاباتها، والهدوء من حولي شامل أشعرني بشيء من الوحشة والحنين إلى ضوضاء المدن التي ألفتها في رحلتي هذا العام؛ إذ جُلُّها كان في البلاد العامرة الصاخبة.

وجاسپر خير مكان لطلاب الراحة والسكون، ولطائفة الكتاب والشعراء والفلاسفة. أما الجو في تلك الأنحاء فبارد منشط تنتثر سماؤه بالغيوم التي تَسِحُّ جفونها أحيانًا، ثم تتكشف عن أضواء جذابة من وراء حجب الجبال والغابات القاتمة، والنهار هناك طويل جدًّا؛ إذ كنت أقرأ الجرائد أمام النُّزل الساعة التاسعة مساء على ضوء الشفق؛ ذلك لأن المكان على خط عرض مرتفع جدًّا هو ٥٤° شمالًا، ولما أن وصلنا جاسپر كانت ساعتنا الواحدة والنصف، لكنَّا ألفيناها هناك الثانية والنصف، فقدمنا ساعاتنا واحدة.

وبلاد كندا عريضة جدًّا بها أربع مناطق زمنية، فكلما سرنا إلى الشرق خمس عشرة درجة دفعنا بعقارب ساعاتنا خطوة إلى الأمام. أما حياة الليل هناك فموحشة مظلمة عديمة الحركة، ووسائل التسلية نادرة، فليس ثمت إلا سينما واحدة صغيرة ومقصفًا أو اثنين، وأذكر أنني كنت أتناول الشاي في أحدها وإذا برجل متقدم السن دخل في زمرة من الأطفال، يفوقون العشرة عدًّا، وهم مرحون، وقد هجموا على البائع يطلب كلٌّ ما يرغب من شراب أو مرطب، ودفع عنهم الرجل جميعًا، ولما أن سألته: أهؤلاء بنوك؟ قال: كلا، بل إني أحب أن أجمع الأطفال الفقراء وأُزوِّدهم بشيء مما نستمتع به آنًا بعد آنٍ. فأكبرت فيه هذا الشعور الجميل، وعلمت أن الكثير من هؤلاء الناس خيرون، طيبو القلب، شفيقون بالغير. والمدهش أن الرجل لم يترفع عن الجلوس معهم ومسامرتهم رغم هندامهم الرث، وحالتهم المزرية.

fig95
شكل ٣١: في ناحية من هوليوود.

هنا لُمْتُ نفسي وشعرت بشيء كبير من الخجل والخزي؛ لأني لم أفعل ذلك مرة واحدة مع شريدي الشوارع في مصر، وهم لا يُحْصَوْنَ عَدًّا، وآليت على نفسي أن أشرك بعض هؤلاء معي فيما مَنَّ الله به عليَّ من نعيم ومتاع.

(٨) ونيپج والپريري

قمت بقطار الخميس صوب ونيپج وأرض الپريري الشاسعة، فكانت المنطقة حبلية غنية بمناظرها وغاباتها وبحيراتها ومجاريها، وبخاصة نهر أثاباسكا، ثم أخذت الأشجار في القلة والصغر، وأضحت البيئة بستانية كما يسمونها Park، وندرت الجبال، ثم أصبحنا وسط سهول مترامية لا تكاد ترى في أرضها تموجًا ولا حزونًا، وذاك لما أن بلغنا أدمونتون من كبريات مدن مقاطعة Alberta، وظهرت منابت القمح وقد كسا الأرض ببقاياه الصفراء الذهبية. وكان القوم جادين في حصده ودَرْسه بآلات كبيرة غالبها يُدَارُ بالبنزين، والقليل بالخيل. والمدينة مركز هام للغلال وللتعدين.
وقد مررنا بمطارها الهائل الذي لا يزال يخدم وتطير منه الطائرات ألف ميل إلى مناطق التعدين شمالًا، وبها كنوز الذهب والراديوم، ويخالونها من أغنى بلاد العالم. والطائرات خير وسائل النقل إلى تلك الأصقاع النائية الباردة، إلى ذلك فهي مركز لتجارة الفراء وصيد حيوانه إلى شمالها. عدنا إلى الشرق زهاء ٩٠٠ ميل كلها سهول مبسوطة اخْضَرَّ أديمها بعشب لا يكاد يستقيم عوده، وظهرت منابت القمح الصفراء خلاله، وكلما قربنا من جدول أو وادي نهر ظهر الشجر القصير وحاكى الإقليم الغابات القصيرة المغلقة. والأرض هناك مقسمة إلى مزارع يُسوِّرها ذووها ويقيمون وسطها بيتهم الصغير من كوخ أو اثنين، وإلى حافة المزرعة رافعة الغلال Elevator كالبرج المربع تعلوه شبه قبة، وهنا تُخَزَّنُ الغلال حفظًا لها من التسويس أو خطر الفيران. وليس بالمَزارع أشجار ولا آبار ولا مضخات هوائية كتلك التي تميز أرض بامباس بأمريكا الجنوبية.
fig96
شكل ٣٢: بعض مسارح هوليوود في الهواء الطلق يسع ٢٢٠٠٠ نفس.

والمَزارع ميل مربع في المتوسط — زهاء ٦٠٠ فدان — وأصغرها ربع ذلك، والحكومة تساعد القوم بإعطاء من أراد ١٦٠ فدانًا يخدمها ثلاث سنين، فإن أفلح تُرِكَت له بقيم زهيدة تتراوح بين ٤–٦ جنيهات للفدان. والغلال تُزْرَع على المطر ليس غير، فيُبْذَر القمح في مايو ويُحْصَد في أغسطس، والمطر يسقط في تلك المدة عادة، وإذا ما فرغ الفلاح من الحصاد وتخزين قمحه حرث أرضه من جديد وتركها للعام المقبل، وينزل عليها الثلج شتاء إلى علو ياردة تقريبًا، وإذا ما ذاب في الربيع روى الأرض، وبذر الفلاح قمحه الجديد، ولا يتطلب المحصول خدمة، بل ينمو بعد ذلك وحده حتى ينضج.

وقمح كندا أحسن أنواع العالم قاطبة ويسمونه Grade 1، ولا يزال يحتفظ في الأسواق بأغلى ثمن، وقد بلغ هذا العام ٨٥ سنتيمًا للبوشل، وقُدِّرَ محصوله بنحو ٢٥٠ مليون بوشل — أي نحو ٥٠ مليون أردب — ولم يكن محصول هذا العام وفيرًا بسبب الجفاف الذي حل بالأراضي وندرة المطر، لكن الله عوضهم خيرًا فرفع قيمة الثمن عمَّا كان عليه من قبل، وقدروا متوسط المحصول للفدان بنحو ١٠ بوشل، مع أن العادة كان بين ٢٠–٣٠ بوشل.

لبثنا اليوم كله نشق تلك الپريري المبسوطة المملة، وكان ترابها يخترق كل شيء مما أذكرني بتراب صعيد مصر، وقد اشتد الحر وسط النهار جدًّا، ونزل في الليل إلى ما يقرب من برد شتاء مصر. وقد كان الحر منذ شهر بالغ الشدة هنا حتى مات بسببه الكثير؛ إذ زادت الحرارة في الظل على ١١٠°ف. والعجيب أن الشتاء الماضي كان قاسيًا أيضًا؛ إذ نزلت الحرارة ٥٠° تحت الصفر، وكلما قاربنا ونيپج زاد انبساط الأرض، واسودَّ أديمها، وجاد نوعها، فهي خير أراضي الپريري خصبًا، وتمتد شمالًا زهاء ٣٠٠ ميل، وجنوبًا إلى مساحات بعيدة في الولايات المتحدة.

وكان يُخَيَّلُ إليَّ أن المزارع خالية من السكان تمامًا؛ إذ قلما كنا نبصر بالناس فيها، ذلك لأنها لا تتطلب عملًا كثيرًا، على أن العمال قد يُوَظَّفُون هناك في مواسم الحصاد، وأجرهم نصف جنيه في اليوم، ويُزَوَّدُون بالمسكن مجانًا، ومع ذلك فهم غير قانعين ويرغبون في المزيد. والقوم هنا ظرفاء، ويميلون إلى العشرة وإكرام الغريب جدًّا، وفيهم شيء كبير من صفات البدو والرعاة.

ومما كان يدهشني جدًّا مستوى أطفالهم من الذكاء والرجولة، يتحدث إليَّ الطفل وهو عليم بكل ما أحاط به من ظروف الأرض والجو والإنتاج، اعتاد السفر بعيدًا عن بلده، واعتمد على نفسه في كثير من الأمر ولمَّا تبلُغ سنه العاشرة، فكنت أغبط القوم على تلك التربية الاستقلالية، وآسف لنصيب أبنائنا منها. والمدارس هنا تبدأ بالروضة، ثم بالفرق الاثنتي عشرة، وبعدها يدخل الطالب الجامعة، ولا يتعلم لغة أجنبية إلا في الفرقة الثامنة فقط، وهي هنا إما الفرنسية أو الألمانية أو اللاتينية.

fig97
شكل ٣٣: هوليوود أثناء الليل.
أخيرًا بعد ثمانٍ وعشرين ساعة دخلنا ونيپج بعد أن اخترقنا مديرية ساسكاشوان، ووقفنا ببلدة ساسكاتون الكبيرة، ثم أوغلنا في مديرية مانيتوبا وقدمنا ساعاتنا واحدة، وفي ونيپج حللت نُزُل ونيپج الجميل مقابل ريال لليلة. والمدينة مقامة وسط تلك السهول في شوارع فسيحة يزين أغلبها الشجر المزدوج، وأكبر شوارعها Portage وMain، وبها غالب المتاجر ودور السينما والمقاهي والمطاعم.
وخير ما يُزَار بها City Park، وهو خارج المدينة، حوى حديقة حيوان صغيرة ومجموعة غنية من الزهور البديعة، ثم بعض البحيرات للسباحة وملاعب الرياضة المختلفة. والبلد تقع عند تلاقي نهري Red وIssinaboin، وهي وإن كانت من البلدان الكبرى إلا أن المظهر الريفي يسودها، فهي أقل وجاهة من البلدان الساحلية، وأهلها أبسط هندامًا وأرقُّ حالًا، وهم على جانب كبير من كرم الطباع والظرف.

(٩) ميناپلس وسنت وبول

قمت التاسعة صباحًا صوب الجنوب إلى ميناپلس مسافة ٥٠٠ ميل قطعناها في ١٤ ساعة، فأخذنا نشق السهول ذات التربة السوداء، والسطح المنبسط، والخصب الظاهر في كثرة العشب في كل مكان. والحق أن أرض الپريري لا يعوزها إلا الماء والأيدي العاملة الرخيصة القانعة حتى تغل من الإنتاج النباتي أضعاف ما هي عليه اليوم؛ إذ إنها لا تستطيع إلا زرع الغلال والعشب شهورًا قليلة، وتُتْرَك بورًا باقي العام.

وحيث كانت تبدو البحيرات أو الجداول كان النبت يزداد، والشجر يتكاثف، فيصبح المكان أشبه بغابة مغلقة. وبعد ساعتين ونصف وصلنا حدود الولايات المتحدة، وتقدم رجال الجمارك وفتشوا أمتعتنا في رفق، ثم مر ضابط المهاجرة وختم الجواز. وكلما تقدمنا جنوبًا كثر الشجر وسط تلك الپريري الممتدة، وزادت الآلات الزراعية في الحقول، وتضخمت مخازن الغلال وروافعه Elevators.

ولقد كان هجير الحر شديدًا لافحًا طيلة اليوم، مما فاق أردأ أيام الصيف في مصر شدة، وذلك رغم المراوح التي زُوِّدَ بها القطار، وصنابير الماء المثلوج في طرفي كل عربة نحتسيه في أكواب من ورق صُنِعَت في أسطوانات فوق الصنبور. والمقاعد في هذا القطار استرعت نظري بوثير فرشها من القطيفة الثقيلة، والمقاعد فردية كبيرة «فوتيل» تدور على محور، فيحركها الجالس في أي اتجاه شاء، ومنها صف في كل جانب من العربة، أما وسطها فتُرِكَ فسيحًا وقد زُوِّدَ بالبُسط الثمينة ومطافئ السجائر الأنيقة، بحيث تشعر وكأنك تجلس في صالون أو مقهى فاخر، وعربة الطعام والمرطبات متصلة بالقطار نشتري منها ما نريد.

رغم كل ذلك نغَّص الحَرُّ علينا عيشنا، فكاد القوم يخلعون كل ثيابهم ويبدون عرايا، وقد ابتلت ملابسي كلها عرقًا. وأظرف شيء في قطارات الولايات المتحدة وكندا أنها كلها ذات درجة واحدة، لا فرق فيها بين غني وفقير، تنتقي من المقاعد ما راقك، على أني لاحظت في المسافرين من طبقة الفقراء حسن الذوق، فإذا كان من العمال من يرتدي ملابس العمل الرثة لا يتقدم وسط الجلوس، بل ينتحي جانبًا من العربة هو وإخوانه، على أنك قلما ترى أحدهم في قذارة تنفر منها.

fig98
شكل ٣٤: وسط المناظر الساحرة فوق ذُرى جبال الركي «جاسپر بارك كندا».
أخيرًا أقبلنا على طلائع بلادة كبيرة بأضوائها الخاطفة، وهي ميناپلس، ثم قام القطار إلى شقيقتها سانت پول التي وصلناها الحادية عشرة مساء. حللت نُزُل Ryan الكبير الفاخر ﺑريال ونصف، ونمت ليلتي نومًا عميقًا، وفي الصباح أقلتني سيارة السياحة مقابل ٢٫٥ ريال لنطوف المدينتين الشقيقتين Twin Cities، وهما تقعان على نهر مسسبي العظيم، وكنا نخال النهر هو الفاصل بينهما، والحقيقة غير ذلك؛ إذ النهر هناك يلتوي في شكل S.

في الطرف الشمالي تقع ميناپلس على جانبي النهر، وفي الطرف الجنوبي تقع سانت پول، والمسافة بينهما تفوق عشرة أميال؛ فهما ليستا متقابلتين. وعند منتصف هذا الالتواء قنطرتان يخترقهما الترامُ فيَصِلُ ما بين البلدين، ولكل منهما عدة قناطر تصل بين نواحيهما المختلفة؛ ففي ميناپلس وحدها عشرون قنطرة.

fig99
شكل ٣٥: مروض السباع في هوليوود.
وأكبر البلدين ميناپلس، وسكانها دون نصف المليون بقليل، وهي مشتقة من كلمتين: مينى هندية معناها المياه، پوليس الإغريقية معناها مدينة، وقد حملت اسم مدينة المياه؛ لأن بها إحدى عشرة بحيرة، مررنا بخمسٍ منها، وقد رُصِفَت جوانبها وحفَّها الشجر الكثيف، وفي بعضها جزائر كثيفة الغابات، وفيها تُقَام ألعاب الماء من سباحة وزوارق Yakhting ومزالق للجليد شتاءً. وقد علمت أن المنطقة المجاورة لميناپلس بها عشرة آلاف بحيرة وسط غابات الصنوبر.

أما مجموعة المتنزهات التي حول البلدة فذاك ما لم أره في بلد آخر، وقد تُرِكَ غالبها في حالته الطبيعية من غابات وجداول وأحراش يأوي إليها المتريضون، ويقيمون فيها خيامهم، ويستمتعون بمناظر طبيعية جذابة. ولقد قُرِّرَ لكل مائة نفس هناك فدان من المتنزهات، وتلك لا شك نسبة لا نراها في بلد آخر. وتدهش إذ تعلم أن غالب تلك المتنزهات هبات من بعض الخيرين هناك.

وعلى جوانب كثيرة من تلك المتنزهات والبحيرات تقوم مساكن الأثرياء في ڤيلات خشبية بديعة تُطْلَى بالجص الملون في أشكال الرخام والآجر والحجارة، ولا تكاد تجد اثنتين متشابهتين في الهندسة؛ لذلك لم أعجب لما علمت أن ميناپلس تُسَمَّى: مدينة البحيرات والمتنزهات والبيوت الفاخرة. وجل المسافة بين البلدين متنزهات على هذا النمط، وبعضها يحمل أسماء هندية مثل بحيرة كتشي كومو، وعلى جوانبها رأينا مجموعة من أكوام مخروطية من الثرى منثورة إلى مسافات بعيدة، وفيها كان يدفن الهنود موتاهم، ويقيمون نصبًا صغيرًا على ذروة كل منها، والبيض لم يحلوا تلك الجهة إلا منذ ٦٥ عامًا، وهو عمر تلك المدينة الحقيقي.

أما ليات مسسبي وكثافة الشجر على جانبيه، فذلك قد أكسبه جمالًا فائقًا، وإن كنت إخال النهر أعظم من ذلك ماءً وأفسح مجرًى، إذ ألفيته صغيرًا لا يبلغ نصف نيلنا اتساعًا، وماؤه شحيح آسن، وهو هناك أشبه بخانق صخري مشرف الجوانب، في جزء منه شلال صغير يُسَمَّى Minnihaha وHiawatha. ومن أروع المباني التي مررنا بها جامعة منسوتا في امتداد يفوق الوصف، ويلتحق بها ٢٧ ألف طالب، وتُعَدُّ ثالثة جامعات الولايات المتحدة، ورابعة جامعات العالم بعد فرنسا، وكلمبيا بنيويورك، وبركلي في سان فرنسسكو، وبها مدرج المحاضرات أُعِدَّ بنحو ٦٥ ألف مقعد، ثم الكلية الحربية، وهي فرض على كل طالب أن يجتاز دراستها ليُلِمَّ بالشئون الحربية الأمريكية كلها.

ثم زرنا أحد مصانع فورد التي تُخرج ٥٢٥ سيارة في اليوم، وقد أُقِيمَ على جانب المسسبي، وهنا حُبِسَ كل مائه في خزان يُسْتَمد من دفعه قوة الكهرباء اللازمة للمصنع. ووقفنا بأكبر مطحن للغلال في العالم يشرف على النهر بمداخنه الهائلة، ويُخْرِج كل يوم ٩٠ ألف برميل من الدقيق.

fig100
شكل ٣٦: ميناء سان فرنسسكو بشعابها العديدة.
وميناپلس تفاخر بأنها مدينة الدقيق Flour City، وفي مخازنها وروافعها يُطحن ٦٠٠ مليون بوشل في كل عام.
وجو المدينتين صناعي بكثرة المداخن وغبرة الجو الذي كسا برماده المباني بلون قاتم، والصناعة التالية للغلال هناك بذر الكتان Linseed. أما مباني المدينتين فعظيمة شأن سائر البلاد الأمريكية التي تميل إلى نظام البلوك والنواطح، وأعلاها ناطحة Foshay تعلو ٣٢ دورًا وكأنها البرج، ودورها الأرضي ذو مساحة عظيمة وحدائق منسقة، والناطحة تقوم وسطه كأنها مئذنة المسجد، وهي رمز لوشنطن، والمدينتان متشابهتان إلا أن سان پول يبدو عليها القِدم في ضيق شوارعها، وقِصَر مبانيها، واغبرار لونها، وهي أصغر امتدادًا، فسكانها نحو ربع المليون. وفي حديقة من ميناپلس لوحة وُضِعَت على خط ٤٥° شمالًا، وهو منتصف المسافة بين خط الاستواء والقطب الشمالي؛ مما جعل البلد قلب نصف الكرة الشمالي.

وكثير من الناس هنا يبدو عليهم مظهر الغِنَى، وحتى العامل في ثيابه المغبرة يضع يده في جيبه ويخرجها قابضة على مجموعة من أوراق الريالات يدفع منها ثمن ما اشترى في غير اكتراث، ونحو ٥٦٪ من السكان يملكون البيوت التي يقطنون فيها، وجلهم يحرزون سيارات هي مطيتهم في الانتقال. ولقد أدهشني حشد السيارات خارج مصنع فورد، وهي كلها ملك للعمال الذين يشتغلون داخل المصنع، فإذا ما فرغوا من العمل استقل كُلٌّ منهم مطيته، إلا أني إلى جانب أولئك كنت أرى من الفقراء والمتسولين الكثير، وبخاصة في سانت پول. والحي الفقير هناك قذر، وأهله يبدو عليهم البؤس مجسمًا، وأمريكا بلد المتناقضات ترى الغني المفرط إلى جوار البائس المسكين.

قمت صباح الثلاثاء إلى شيكاغو وركبت القطار السريع المفتخر الذي يسمونه Fephyr، وهو عبارة عن عربة واحدة ممطوطة جدًّا في شكل الحوت، وفي طول خمس عربات كاملة، وهو من خارجه من الألمنيوم الفضي البراق في ثنيات طولية متعرجة، ويجري بسرعة ٧٠ ميلًا في الساعة بقوة الكهرباء، وقد قطع المسافة بين البلدين في ست ساعات ونصف. أما فرشه من داخله ففاخر إلى درجة كبيرة، وإذا حل ميعاد الطعام تقدم الخادم وثبت منضدة صغيرة أمام كل مقعد، وقدم الطعام والشراب المطلوب، ونحن خلال ذلك نسمع الراديو البديع الواضح، وبه أمكنة فخمة للغسيل والتوالت وصنابير الماء البارد والساخن.
fig101
شكل ٣٧: سان فرنسسكو بناطحاتها العديدة.

أما ماء الشرب فمثلوج نحتسيه في أكواب من ورق، فدهشت وقلت إلى أي حد سيبلغ الترف بهؤلاء القوم المُنَعَّمِين الذين لا يدخرون وسعًا في توفير وسائل النعيم والراحة للجمهور كله! أما الطريق فقد بدأ سهولًا كثيرة المناقع والمسايل المائية. ولقد لبثنا زهاء ثلاث ساعات بجانب نهر المسسبي، وقد ظهر هنا باتساع عظيم، ضفافه برية مهملة كثيفة الشجر والعشب، أما اختناقه عند سانت پول فذاك لأنه يدخل في خانق حجري يبدأ من شلال سنت أنثوني المجاور لميناپلس؛ ولذلك لا يصلح للملاحة شمال ذاك الشلال.

ثم أخذت منابت الذرة تبدو في متسعات إلى الأفق، وكانت أكداس الأسمدة البيضاء منثورة في الحقول، وإلى جوار ذلك بعض المراعي من البقر والخنازير، وقليل من الغنم في مزارع مسورة، ثم بدت التلال الجيرية المتعددة، مما أكسب الأرض مظهرًا غير مظهر الپريري؛ إذ كثر شجرها وتُرِكَ مهملًا في مساحات كبيرة، وزاد تموج الأرض بحيث لا يصح تسميتها سهولًا، وكانت مضخات الهواء تظهر عالية في الحقول، مما أذكرني بسهول بامباس أمريكا الجنوبية، إلا أن الأرض هنا كثيرة الشجر غير مملة المنظر كما هي حال البامباس، والبيوت مبعثرة وسط الحقول، وجلها من الخشب الكثير هناك.

(١٠) شيكاغو

ولما أن قاربنا شيكاغو كثرت القرى المكتظة، وزادت مداخن المصانع في كل مكان.

أما عن قضبان سكة الحديد، فذاك أمر هالني إلى أقصى حد؛ فلقد كانت تفرش الأرض إلى الأفق، وتقوم المصانع وسطها، والقضبان تجري عليها بعضها فوق بعض، وقد نرى ثلاثة قطارات الواحد تحت أخيه، ولما لم يبقَ على المدينة سوى ستة أميال أغْبَر الجو، وساده الدخان الذي كسا المباني لونًا قاتمًا منفرًا رغم ضخامتها، وأخيرًا ظهرت وسط ذاك الظلام الصناعي ناطحات السحاب في كثرة هائلة، حتى خُيِّل إليَّ أنها فاقت تلك التي في نيويورك، ثم أوغل القطار في سلسلة من قناطر ملتوية حتى دخل سراديب لا حصر لها جُلُّها تحت الأرض، وهي محطة شيكاغو الهائلة. ومن تلك الناطحات ما أعدَّ في كل دور جراجات للسيارات، فإذا أردت الصعود إلى بيتك رُفِعْتَ بسيارتك مهما علا الدور الذي أنت فيه.

حللت فندق Midland Club Hotel الرائع الفخم، وأجره نصف جنيه في الليلة. وشيكاغو تُعَدُّ من أغلى البلاد على الغريب، وما كدت أنزل لأجوب بعض نواحي البلدة حتى قصف الرعد، وأبرق الجو، وسحَّ المطر وابلًا عاق حركة المرور، لكني رغم ذلك نزلت أخوض بعض تلك الأرجاء، فكان أثر البلدة ونواطحها المرصوصة الشاهقة بالغًا حتى إني نسيت إلى جوارها نيويورك وعظمتها.

أنظر إلى البناء فأجده يعلو باسقًا إلى السماء في مرمر براق، وقد زُوِّدَ بالأبواب النحاسية الثقيلة الرائعة، وثمن باب واحد في ظني يقيم بيتًا من بيوتنا. والعجيب أنهم ينيرون تلك النواطح بإسراف شديد، ثم يسلطون عليها أشعة بيضاء تجعل منظرها للوافدين رائعًا، وترى الطابق الأسفل لها عبارة عن شوارع نُسِّقَت بها المتاجر ومعروضاتها أيما تنسيق، وفي أركانها الروافع نُمِّرَت، وبعضها بلغ الأربعين.

والحق أن ذاك المشهد الهائل لَأَوَّل ما يأخذ على الوافد لُبَّه، ويكاد يُذهله فلا ينسى ما خلفه ذاك في مخيلته من عظمة وفخامة لا يدانيها أي بلد في العالم سوى نيويورك.

fig102
شكل ٣٨: إحدى قنطرتي سان فرنسسكو.
فمن تلك الناطحات التي راعتني Field، بها ٤٢ دورًا، والبرج يعلو فوق ذلك ١٩ دورًا، وهو أحدث الأبنية، ولقد اعتليت قمته فكان مشهد المدينة رائعًا، ثم بناء Board of Trade وأدواره ٤٤، والدور المخصوص للبورصة مزود بأحدث النظم العالمية، ويُعَدُّ أحسن من سائر نظائره في الدنيا، ويشرف عليه تمثال Ceres إلهة القمح.

وأروع ما ترى تلك الناطحات في مشجان أفنيو؛ حيث تبدو في صف مستقيم تمتد إلى الأفق، وتناطح ذراها السحاب، وتشرف كلها على البحيرة. والشارع قد زُوِّدَ بالمتنزهات البديعة، والأرض رُصِفَت بالمسلح، ورُسِمَت الخطوط التي تحدد للسيارات سيرها، ونظام السير يكفل أربع سيارات تسير متجاورة إلى اليمين وأخرى مثلها إلى اليسار، وإذا أُعْطِيَت إشارة المرور تحركت سيارات جانب واحد فقط، ثم يُوقَف هذا ويتحرك الآخر، وذلك ليُمَكن المارة من اختراق الشارع على دفعتين، ولولا ذلك لاستحال على الناس المرور لكثرة السيارات التي تسد الطريق سدًّا في كل دقيقة.

ولشدَّ ما كانت دهشتي لمَّا أن علمت أن أجر غسل البيت الواحد من تلك الناطحات ٦٠٠٠ ريال، وهم يحرصون على غسلها ليزيلوا عنها تلك الطبقات السوداء التي يخلفها فوقها دخان المصانع التي تغص بها شيكاغو. ومن الأبنية الفاخرة «لوكاندة استيفنز» أكبر فنادق الدنيا؛ إذ بها ٣٠٠٠ غرفة، وفي كل غرفة حمام وتوابعه، ثم «أثر الحرب» الذي كلفهم ٣ ملايين ريال، وبُولِغ في نقشه وتأثيثه إلى حد لم أر نظيره في مكان آخر، ثم بناء «متحف التاريخ الطبيعي»، وهو على نمط متحف ميونخ في ألمانيا، وإلى جواره دار الاستديوم الذي يسع ١٥٠ ألف نفس، وقد كلفهم ٥ ملايين ريال، ثم معهد الفلك Planetorium الذي يحكي معهد برلين، وتُعْطَى المحاضرات الفلكية للجمهور كل يوم.
ومن أفخر شوارعهم مشجان أفينو على البحيرة، وشارع ate الذي يشق قلب البلد ويوازي مشجان، وهو مقر المتاجر الفاخرة، ودور الملاهي، ومُستراض المحبين طوال الليل. وكثير من شوارع البلدة منمرة على نمط نيويورك، ويقسمها شارع مادلين إلى East وWest town. ويشق المدينة نهرٌ صغير، هو نهر شيكاغو، يصب في البحيرة، وقد أُقِيمَت عليه عشرات القناطر الثقيلة، وقامت على ضفافه الناطحات.
أما عن المتنزهات المنسقة الفسيحة فذاك قد فاق كل حدٍّ، ففي شيكاغو ١٦٩ متنزهًا، ومن أفخرها Lincoln، ومساحته ٦٠٠ فدان، وفي قسم منه حديقة الحيوان، وبها مجموعة غنية جدًّا، وبخاصة السباع، ثم حديقة النبات وتربية الزهور في جانب آخر.

وعلى جانب من تلك المتنزهات تطل بيوت السكنى، وجُلُّها فاخر لا يجاوز أربعة أدوار، وبخاصة في القسم من شاطئ البحيرة المُسَمَّى جولد كوست، وسُمِّيَ كذلك لأنه مأوى الأثرياء «المليونيرز»، وهناك ناطحة يسمونها بيت المليونيرز بها ١٤ دورًا، وفي كل دور منها مسكن لمليونير.

fig103
شكل ٣٩: أغلب شوارع سان فرنسسكو منحدرة هكذا.

أما البحيرة نفسها فهائلة كأنها البحر الزاخر مرتفع الموج كثير التعرجات، وقد أُقِيمَت عليها حواجز الأمواج والمرافئ، ونُسِّقَت الطرق والحدائق، ولا عجب فهي رابعة بحيرات العالم العذبة، ولا يزالون يزيدون مساحة الأرض على حسابها، ويمدون الطرق إلى جوارها حتى بلغت ٢٦ ميلًا، وكنا نرى وسط الماء بعيدًا منا أربع محطات لرفع الماء وسقي المدينة. وكثير من الشواطئ مدرجة رملية تقوم عليها المسابح التي يؤمها خلق كثير.

ثم كانت جولتي في الحي الزنجي، وكثير من أبنيته فاخر، ومنهم كثير من المليونيرز المثقفين. وفي البلد ٢٣٤ ألف زنجي أسود جلُّهم يقطنون بجهة واحدة «حي كولنز»، وقد مررت بأكبر فنادقهم Ritz، وهو أجمل فنادق الزنوج في الدنيا، وفي هذا الحي كثير من الكنائس؛ لأن السود متعصبون للدين جدًّا، ويؤمون الكنائس دائمًا.
ثم كانت زورتي للجامعة وأبنيتها المرصوصة إلى مد البصر، والمكتبة العامة، ولها ٥٢ فرعًا منثورة في عرض المدينة، وكذلك معرض الفن الجميل، وبه قسم مصري حوى بعض التماثيل والجثث والحُلي والتوابيت الذهبية البديعة. بلد هائل ما كنت إخاله بلغ هذا الحد الذي فاق سائر بلاد الدنيا اللهم إلا نيويورك، فأنت تلمس آيات الثراء والغِنى بمجرد النظر إلى مبانيهم وفنادقهم، وبخاصة حول المنطقة التي يسمونها The Loope، ويُسَمَّى كذلك لأن القطار المرتفع Elevator يطوقها.

وذاك القطار من الأعاجيب؛ فهو يسير إزاء الدور الثاني أو الثالث من البيوت، ويشق أمهات الطرق وهو مرفوع على شباك ثقيلة من الحديد نمر نحن والسيارات وترام الأرض من تحتها، وليس له نظير في العالم إلا في نيويورك. إلى ذلك فقد زُوِّدَت البلدة بمجموعة من خطوط حديدية تحت الأرض، وكم كنت أقف مبهوتًا عند مفارق بعض الطرق حينما كنت أرى ثلاثة مجاميع من قطارات يسير الواحد فوق الآخر، والسيارات تسد الطريق سدًّا، ولا ينقطع سيلها ثانية واحدة، والمارة على الأرصفة العريضة جماهير متلاصقة الأكتاف! وليس ذلك بعجيب إذا علمت أن سكان شيكاغو قاربوا الأربعة الملايين.

fig104
شكل ٤٠: سان فرنسسكو وأضواؤها ليلًا.
أما الجلبة التي تسمعها أينما كنت في صوت كالرعد، فتنغص على المرء نومه إلا إذا اعتادها. وحياة الليل خصوصًا حول اللوب تسترعي النظر، وبخاصة كثرة الجماهير الذين يسيرون في الطرق الليل كله، وخصوصًا السيدات، حتى كان يُخَيَّل إليَّ أن ليس للقوم بيوت يأوون إليها سوى المطاعم والمقاهي ودور السينما وأرصفة الشوارع. وغرامهم بالسينما بالغ الحد؛ فأجر الدخول زهاء ريال، ومع ذلك لا تكاد تشق لك مكانًا وسط الجماهير الدافقة عليها، رغم أن السينما متواصل نهارًا وليلًا، وكلما انتهت الرواية بدأت من جديد. ولقد دخلت أكبر تلك الدور Palace Theatre، وشريت التذكرة وزاحمت وسط الجماهير الغفيرة، ولبثنا وقوفًا في ردهات الملهى نحو ساعة حتى جاء دوري في الدخول؛ ذلك لأن الأماكن كلها مشغولة، وكلما خرج فريق من المتفرجين استُعِيضَ بغيره من المنتظرين.

ولا أدري من أين لهم تلك الأموال البالغة التي ينفقها الواحد منهم حتى العمال والأجيرات؛ إذ ينفقون الريالات المتتابعة، على أني لما مررت بأحيائهم الفقيرة تألمت جدًّا لأن جل قاطنيها من الحفاة والمتسولين يأوون إلى بيوت قذرة مهملة متهدمة، وقلما يرى الغريب تلك الأحياء، بل تأخذه عظمة القسم المستحدث الرائع من المدينة، فيُشْغَل به عن غيره، والمدينة تفاخر بأنها أجمل المدن وأكثرها تقدمًا.

أما مستوى الثقافة فهو مرتفع جدًّا، ويُخَيَّل إليَّ أن الفضل فيه راجع إلى الصحافة أولًا، وإلى دور السينما ثانيًا، فالأولى تزود كل الطبقات ببدائع المصورات والمقالات والمعلومات التي تناسب عقليتهم، والثانية تجتذبهم من سائر الطبقات وتنبئهم عن العالم الخارجي؛ فتوسع بذلك مداركهم. ولا تكاد ترى طفلًا أو رجلًا أو امرأة يسير بدون مجموعة من المجلات والجرائد، فالكل قراء لها بشكل يستلفت النظر.

أقمت في البلدة ثلاثة أيام، ولم يسعفني في تفقد الكثير من أحيائها سوى سيارة السياحة، التي لبثت تجوب بنا خمس ساعات حتى استوعبنا جلَّ ما يهمُّ السائحين أمره من المدينة. ولما أن عدتُ عصرًا ركبتُ الترام المرتفع إلى منطقة عرض حيوان المراعي وشرائه، ثم مصانع ذبحه وإعداد اللحوم، وهي التي كونت عَظَمة شيكاغو المالية، ويسمونها Union Stock Yards، وتقع في جنوب البلد ما بين شارعي ٣٩–٤٣، وتشغل مساحة قدرها ٤٠٠ فدان، فظَلَّ القطار طويلًا يسير ومن دونه إلى الآفاق مربعات من حواجز خشبية ملأى بالحيوان «أبقار وخراف وخنازير».

وإليها تفد ألف سيارة كبيرة من أنحاء الولايات المتحدة كلها محملة بالحيوان الذي يُعْرَض هناك، فيفد تجار الجملة مع الخبراء، ويشترون ما قيمته مليونان من الريالات، أي أربعمائة ألف جنيه في كل يوم، وفي وسط المنطقة تنتشر مصانع اللحوم الهائلة، وأكبرها «سوفت وشركاه، وآرمر وشركاه»، وهما يبيحان للناس زيارة المصنع تحت إشراف دليل خبير يقودهم شارحًا كل شيء.

مجازر شيكاغو

على أني وصلت هناك بعد الميعاد؛ إذ توقف الزيارة بعد الثالثة مساء، فاضطررت أن أرجئ سفري يومًا، وعدت في الصباح ودخلت مصنع سوفت الهائل الذي يقع في «الميل المربع» المعروف بأنه أكثر بقاع العالم حركة تجارية، ومساحة المصنع وحده ٥٨ فدانًا، ويبتاع في كل يوم من الحيوان بمليون وربع ريال. استقبلنا الدليل وأقعدنا في غرفة الانتظار، وقدم لكل منا كتيبًا مصورًا عن المصنع، وعرض علينا مجموعة من كرتات مصورة عن المصنع أُعِدَّت لكتابة البريد على المكاتب المرصوصة هناك.

ولما تجمهر عدد كبير من الزائرين تقدمنا الدليل وسار بنا إلى قسم الخنازير — والمصنع أكبر جهات العالم إنتاجًا للحوم الخنازير Ham & Bacon — فبدأ بقسم الذبح. وهنا رأينا منظرًا مفزعًا: عجلات حديدية كالتروس الهائلة تتدلى من جوانبها سلاسل غليظة، وتلك العجلات تدور فيُسَاق قطيع من الحلاليف السمان في سرداب، وبمجرد ملامسة الحيوان للسلسلة تقبض على يده وترفعه معلقًا وهو يصيح صياحًا منكرًا، وتدفع به إلى سلسلة متحركة تقوده إلى قصَّاب بيده آلة مدببة يغمدها في مكان من حلق الحيوان، فينفجر الدم ويسير إلى مجارٍ تحت الأرض ليتجمع وتُصْنَع منه الأسمدة وبعض أغذية الطيور والعلف.
fig105
شكل ٤١: شاطئ الاستحمام في سان فرنسسكو.

تصور مئات من العجلات والصفوف والقصَّابين يقتلون جماهير الحيوان في ذاك المشهد البشع، ووسط صياح وعويل من الخنازير يصم الآذان ويلقي الرعب في القلوب، وإخالك تدهش دهشتي إذا علمت أن عدد ما يُقْتَل من الحلاليف في الساعة الواحدة ٧٥٠، فإذا كانت ساعات الأسبوع ٤٢–٤٥، فتصور العدد الهائل الذي يُقْتَل في العام في أحد مصانع شيكاغو «فوق مليون وستمائة ألف».

ولما أن صُفِّيَ دم الحيوان جرته السلسلة إلى المحارق، فيمر على لهيب يأكل الشعر، وما تخلف ينظفه العمال، وهو يمر تباعًا الواحد بعد الآخر. وهنا يمر كل حيوان على مفتش الصحة الذي يختبر غدد الحلق والرأس والكبد والطحال، وإذا بدا فيها عيب أتلف لحم الحيوان على الفور، ثم تمر الجثث على رجال يرشونها بالماء، فآخرون يسوقونها إلى المخرطة مثل الجيلوتين تمامًا، فتُقَطَّع الجثة أنصافًا أو أرباعًا، وقسم منها يمر على فتيات يحزمن القطع دون أن يمسسن اللحم بأيديهن، ثم تُتْرَك هذه في الغرف المثلجة، ويخرجن زهاء مائتي حزمة في الدقيقة.

وبعضها يُوضَع في الغرفة المثلجة ما بين ٢٤–٤٨ ساعة، وبعض القطع تمر على رجال بأيديهم مشارط ومفارم يشذبون بها زوائد اللحم، ويستبعدون الشحم الذي كانت شظاياه تتطاير أمامنا هنا وهناك، ثم تمر القطع بين أسطوانات فتصبح رقائق مسطحة، ثم تُسَاق القطع إلى أفران التبخير والتدخين، وهنا تبقى بين ٢٤–٣٦ ساعة فوق نار من خشب شديد الصلابة، ثم تسير إلى قسم الصناديق والشحن، وهناك زهاء ٦٠٠٠ عربة من عربات سكة الحديد ذات المثالج يُشْحَن فيها اللحم؛ لأنها لا بد أن تبقى في درجة التجميد دائمًا.

خلفنا الخنازير بصياحها وعفوناتها ودهنها منفر الرائحة وسِرْنا إلى قسم الغنم؛ حيث يُقْتَل بالطريقة عينها ٨٠٠ رأس في الساعة، أي ١٣ مليونًا في السنة، ثم تمر على الرجال الذين يسلخونها في عجلة مدهشة، وجلهم من الزنوج، ثم إلى التقطيع فالضغط فالتثليج والحزم، وكل ذلك في أقل من ٢٦ دقيقة، ثم سرنا إلى قسم الماشية والبقر beef، وشاهدنا عملية الذبح، وهي هناك نوعان؛ الأول: بضرب الحيوان بمطرقة حادة في مخه فيموت لساعته، ثم يُغْمَد في زوره خنجر حادٌّ فيُصفى الدم، والثاني: بالذبح بِجَرَّة واحدة من سكين حاد، وذلك تحت إشراف رجال من اليهود؛ لكيلا يحرموا أكل ذاك الحيوان.
fig106
شكل ٤٢: حقول الفاكهة تمتد إلى الآفاق في كلفورنيا.

وبعد مشاهدة العملية يُخْتَم اللحم، وإلا امتنع اليهود عن شرائه، ثم تمر على الغسيل ثم شق الصدر وإخراج الأحشاء العليا، ثم شق البطن لإخراج الأحشاء السفلى، وفي ٢٥ دقيقة يُعَدُّ الحيوان للتصدير. وعدد ما يُذْبَح من البقر ١٨٠ في الساعة، أي نحو ٤٠٠ ألف في العام، وصالة التثليج التي تبقى درجتها ٣٤°ف دائمًا تسع ٣٠٠٠ نصف من البقر المشقوق بطوله، ولقد شعرنا برعدة البرد وقسوة التجمد ونحن نمشي داخل تلك الغرفة.

ويزن الحيوان المتوسط ألف رطل، وإذا أُعِدَّ نزل الصافي منه إلى ٥٥٠، ومما بقي تُسْتَخْرَج مواد أخرى تزن ١٥٠ رطلًا. وللصناعة فروع أهمها: الأسمدة، وأغذية الكلاب والقطط، والبصطرمة، والصابون، والمرجرين، وهو خليط من دهن الحيوان والزيوت النباتية. أخيرًا بعد ثلاث ساعات كاملة خرجنا إلى غرفة قُدِّمَت لنا فيها بعض الحلوى، وودعنا رجال swift وصرحوا بأن المصنع يرحب بأية زيارة أخرى مهما بلغ عدد الزيارات والزائرين. وعدد من يشتغلون من العمال هناك ٥٥ ألفًا.
ذلك مجهود مصنع واحد من مئات المصانع المرصوصة في تلك الجهة. هنا فهمنا حقًّا مبلغ أهمية تلك الصناعة وفروعها لشيكاغو وأهلها؛ فهي التي جعلت شيكاغو في مقدمة بلاد العالم غنًى ومالًا. عدنا إلى «الإلفتير» نشع من رائحة اللحوم، وبخاصة شحم الخنازير التي ظلت رائحته في أنفي تنغصني اليوم كله، وزاد الطين بلة رائحة «الزرابي» المجاورة Stock Yards، على أنَّا لبثنا نتحدث عن تلك العظمة الصناعية وذاك المجهود المالي الجبار الذي يقوم به أولئك القوم فيدرُّ عليهم مالًا وفيرًا.

قمت أودع شيكاغو — ومعناها بالهندية الرائحة القوية؛ لأنها كانت تختص في زراعة البصل قديمًا، واليوم تشع لحمًا وشحمًا — ولبثت سائرًا صوب نياجرا مسافة عشر ساعات بالقطار، وكان أولها سهولًا مبسوطة كثيرة المرعى والذرة، منثورة بالشجر، وكنا نجانب حافة بحيرة متشجن، وعندما بلغنا حدود كندا طاف بنا رجال الجمارك والمهاجرة، ثم أوغلنا في أرض كندا دون أن نلاحظ تغيرًا في المناظر، وعندما تقدمنا بعيدًا في شبه جزيرة البحيرات تموج سطح الأرض، وكثرت غاباته ومسايل مائه البديعة، وزاد حيوان المرعى، وبخاصة البقر في الحقول.

ثم فُوجِئْنَا عند بلدة هملتون بمزارع هائلة من الكروم والفاكهة، وبخاصة التفاح، وكانت تسد الأرض كلها إلى الأفق، وكانت المحاط الصغيرة هناك تشحن صناديق لا عَدَّ لها من التفاح، والصبية يسيرون وبأيديهم تلك الفاكهة يسرفون في أكلها واللعب بها، ولقد غَيَّرْتُ القطار إلى نياجرا التي وصلتها عصرًا.

(١١) نياجرا

ثم شاءت المقادير أن أزور نياجرا واستمتع بمشهدها الرائع للمرة الثانية؛ كي أشفي في النفس غلة، وأطفئ ظمأ لمَّا يُمكِّني سحاب نياجرا ومطرها العام الفائت من تحقيقه. دخلتها والسماء تقطر وابلًا، والسحاب أدكن قاتم منفر، فكانت مني خيبة أمل، وكدت أواصل سيري إلى تورنتو، لكن القلب حدثني ألا أيأس من رحمة الله، فلعل الله يفعل بعد ذلك أمرًا فتقلع السماء ويصفو الجو. نزلت فندق Fox Head Inn الجميل بريالين، وهو يطل على الشلال بمشهده الذي يأخذ بمجامع القلوب.
fig107
شكل ٤٣: البرتقال كبير الحجم وفير الثمر في سان فرنسسكو.
ألقيت بحقائبي ونزلت أشق طريقي وسط سيل المطر وقرِّ البرد وعصف الريح. بدا الشلال بروعته يشرف على خانق نياجرا الفاتر بشرفاته الرأسية الشاهقة، ويهوي ١٦٠ قدمًا في زبد أبيض ناصع، وإذا ما وصل ماؤه الهوة أسفله أرغى وفار وصعد برذاذ يصل إلى عنان السماء، ويدرك المرء أينما سار على مرأى منه، وهو يُرَى وكأنه بخار ناصع أو دخان أبيض. وينقسم ذاك الشلال الرائع شطرين بجزيرة Goat بغاباتها المستملحة، فتترك الجانب الأيمن قوسًا كبيرًا يحكي حدوة الفرس، ومن ثم سُمِّيَ Horse Shoe، وهو يناهز ثلثي الشلال كله، والقسم الأيسر، وهو الأصغر، داخل في الحدود الأمريكية، وتنزل مياهه في جدائل تختلف سُمكًا، ولا تلبث لفائف مائه الهاوي تنعقد ثم تتبعثر إذا ما صادمها ركام الصخور السفلى، ثم تذوب ماء يتفجر خلال الصخر ويندفع إلى قرار الخانق، وهو يلتوي في دوامات مخيفة. وأروع ما ترى تلك الدوامات من فوق القنطرة الحديدية المعلقة التي تعبر النهر أسفل الشلال، وتصل ما بين الجانب الأمريكي أمامنا، والكندي الذي كنا نحل أرضه؛ لذلك وقف على طرفي القنطرة رجال الجمارك والمهاجرة ليطلعوا على متاع العابرين وجوازاتهم.

أعياني السير وسط ذاك الجو المنفر، فأويت إلى النُّزل أتناول طعام العشاء، ثم عدت إلى الشلال وكان رذاذ المطر قد خف أو كاد ينقطع. هنا أذهلني جمال ما رأيت، أُطْلِقَت الأضواء القوية الملونة من مصابيح لا حصر لها، فوقعت أشعتها على مياه الشلال وحافته في ألوان مختلفة كانت تتغير بين دقيقة وأخرى فتُكْسِب الشلال روعة سحرية لن يستطيع القلم تصويرها، فليس إلا القلب وكامن الإحساس بمُدركٍ مبلغَ أثرها في النفس، وقد مُدَّت الطرق المرصوفة تتلوى على طول الخانق في مواجهة الشلال، وبين فترة وأخرى تخرج شرفة ناتئة فوق الماء زُوِّدَت بالمناظير التي تقرب الشلال وتزيد منظره روعة.

أخذت أجوب تلك المناظر الساحرة، ومما زاد المنظر روعة وسحرًا بصيص القمر من بين أكداس السحب وقد أحاطت به هالة بيضاء بديعة، ثم جلس على ناصية من هاتيك متسول ضرير يعزف على قيثارته الأندلسية بيديه، وفي فمه موسيقى الفم الصغيرة تتبع القيثارة في أنغام جذابة.

بكرت في الصباح وأنا أوجس خيفة الجو الأغبر المطير، وإذا بالشمس ناصعة بين منثور السحاب والهواء بليل منعش، فكان اغتباطي لا يُحَدُّ، وأخذت أعيد الكرَّة أستجلي روائع الشلال وما أحاطه من جمال، وزحام الزائرين من مختلف بقاع الدنيا كثيف هائل، ثم ركبت الباخرة الصغيرة التي كُتِبَ عليها Maid of the Mist، ووصلت بنا هوة الشلال الأمريكي، واعتلينا بعض صخوره بقناطر صغيرة بعد أن كسونا أجسادنا ورءوسنا بمعاطف رقيقة لا يؤثر فيها بلل الماء، ثم دخلنا مغارة وراء الماء، فكانت كتلته الهاوية تنزل أمامنا وكأنها الستار الكثيف في إرغاء شديد، وهزيم كأنه صوت الرعد أو فرقعة المدافع الثقيلة، ثم نقلتنا الباخرة إلى الشلال الكندي، ولم نستطع أن ندنو من هوته لشدة تياره وغزارة مائه.
fig108
شكل ٤٤: الأشجار الضخمة في غابات كلفورنيا.

وبلدة نياجرا فولز صغيرة قامت على شئون السائحين فأسرفت في الفنادق الفاخرة والمطاعم الكبيرة، ونسقت من المتنزهات في كل ناحية، ولا يكاد ينقطع عنها سيل السائحين ليلًا ولا نهارًا، وهي لا شك خير مستراض للنفس التي أرهقها كد العمل، أو أضناها مضض الوجد والهوى، فهي أكبر عون للنفس أن تستعيد نشاطها الكامل في أيام قليلة، إلى ذلك فهي ملتقى المحبين، حتى آثرها كل حديثي عهد بالزواج، أو كل أليفين على أهبة الاقتران؛ لذلك أطلقوا عليها أرض شهر العسل.

(١٢) تورنتو

قمت أودع نياجرا بقطار الثانية بعد الظهر صوب تورنتو، ولبثنا نشق أرض الفاكهة المحدودة، ثم عبرنا قناة «ولاند» التي زُوِّدَت بالأهوسة لتصل الملاحة بين بحيرتي أيري وأنتاريو، وتجتنب شلال نياجرا. وبعد ثلاث ساعات دخلت المدينة واخترقت محطتها الرائعة، وأويتُ إلى نُزُل Carls Rite بريال ونصف، ثم نزلت أجوب بعض أرجائها، فبدت مدينة عظيمة تمتاز باتساع طرقها، وشدة نظافتها، وحسن نظام المرور بها، فعلى جميع النواصي تقوم الأضواء المثلثة اللون: الأخضر لتفتح الطرق، والأصفر للاستعداد، والأحمر لإيقاف المرور، يُوقَدُ ويُطْفَأ من تلقاء نفسه في جميع الشوارع في فترات ثابتة.
والناس يخضعون لتلك الإشارات، ولا يتعدون القانون مطلقًا على الرغم من عدم وجود رقيب من البوليس، وحتى المارة ينتظرون وقوفًا — ولو لم تكن حركة المرور مزدحمة — حتى تفتح الإشارة الخضراء، وعندئذ فقط يعبرون الطريق. ومن أجمل الطرق Yong مقر المتاجر الرئيسية، وهو يقسم البلد شطرين: شرقي وغربي. على أني ألفيت الحركة هادئة في سائر أنحاء البلدة؛ وذلك لأنه يوم السبت حين يتأهب الجميع للراحة.

أما في اليوم الثاني، وهو الأحد، فقد خُيِّلَ إليَّ أن ليس بالمدينة أحد؛ لأني كنت أسير في الطرق وحدي. وهم شديدو التعصب لذاك اليوم فلا يبيحون العمل فيه مطلقًا، ويجب أن تُغْلَق جميع المتاجر سوى الصيدليات والمطاعم، دهشت لما أن سرت ليلًا أتفقد دور الملاهي، فإذا بها مغلقة؛ ذلك لأنه يوم الأحد، ولا يُبَاح فتحها إلا بعد منتصف الليل، وعندئذ تموج بالناس، وجلهم من المتذمرين الناقمين على تلك الشعوذة وذاك التعصب.

وقد راقني ليلًا موقف الكثير من المبشرين على رءوس الطرق يصيحون ويخطبون الناس حاثين على التمسك بالدين وعدم الانهماك وراء الماديات هكذا، وقد ضحكت لما أن كان أحدهم يقول بأن المال ليس كل شيء، فلا فائدة منه إذا لم يصحبه الإيمان في …

وقبل أن ينطق بالكلمة صاح الجميع متهكمين قائلين: Jesus Christ، وظلوا يسخرون من الخطيب وهو يحاول إقناعهم عبثًا، وقد بدا لي أن جُلَّ الناس مندفعون وراء الإلحاد والماديات رغم كثرة الكنائس التي بلغ عددها ٣٥٠، وجلُّها في أبنية فاخرة.
أقلتني سيارة السياحة بريال ونصف وطافت بنا البلدة كلها ومتنزهاتها الهائلة التي بلغ عددها ٦٩ متنزهًا، وأكبرها مساحة «هوارد» ذرعُه ٣٥٥ فدانًا. والعجيب أنه هبة من أحد الخيرين، ثم متنزه High كأنه الغابة المغلقة، وبه مجموعة من الحيوان خصوصًا التياتل والياك وجاموس أمريكا، وكان السنجاب يجري حولنا ويفد ليأكل من أيدينا في جسمه الصغير، وذنبه المنتفخ الكبير.
fig109
شكل ٤٥: قد يتسع تجويف الشجرة لمرور عربة كاملة في غابات كلفورنيا.

والبلدية هناك مصلحة إلى درجة عظيمة ترعى مصلحة الناس، وتكاد تدير كل شيء؛ ففي المتنزهات تقيم لهم المقاعد والمناضد، وتبيح لمن شاء أن يعسكر ليلة الأحد وفي الأعياد، وقد قسمت المتنزهات إلى قطع منمرة يتسلم كل فريق ترخيصًا بمعسكره في نمرة معينة؛ لكيلا يتشاحن القوم فيما بينهم، ووسائل النقل تديرها هي وتربطها بعضها ببعض الترام والأتوبيس، ولك أن تركب من أول البلد إلى آخره بتذكرة واحدة وتُغَيِّر ما شئت من خطوط.

كذلك الإضاءة الكهربائية، فالطرق تُضَاء بإسراف شديد، وفي الشوارع الرئيسية ترى المصابيح متقاربة، وفوق كل عمود ستة مصابيح في دائرة جميلة، وتكاليف الإضاءة في المنازل لا تجاوز ريالًا في الشهر، وكل تلك القوى مستمدة من شلال نياجرا.

ولقد اخترقنا حي السكن الأرستقراطي واسمه Rose Dale، وإذا به مجموعة ڤيلات بديعة، كل بيت يغاير الآخر في هندسته، ويُحَاط بالشجر المزهر الطبيعي، وكلما جد بيت زرعت البلدية أمامه شجرة الأسفندان Maple، وهي شعار كندا كلها. وفي هذا الحي متلوية طرق لا تكاد تستقيم بضعة أمتار؛ وذلك لتمنع الإسراع في سَوق السيارات، وبذلك تخف الضوضاء، ولا يُبَاح فتح المتاجر ولا المطاعم هناك مطلقًا؛ لذلك كان المكان ساكنًا سكونًا عميقًا لا تسمع به حركة مطلقًا، ويُحَاط الحي بخندق طبيعي يسمونه Ravine، وحتى أسلاك النور مُدَّت تحت الأرض فلا ترى لها أثرًا.
ثم كان مرورنا بالجامعة وأقسامها، فهي تكاد تشغل قسمًا كاملًا من المدينة أُحِيطَ بأبدع المتنزهات، وبها ٢٨ بناء كُلٌّ يمثل كلية Faculty، وهي أكبر جامعات كندا، بها نحو ٨٠٠٠ طالب، وعمرها ١١٢ عامًا، وقد تخرج فيها مكتشف الأنسولين علاج السكر، ولا يزال أستاذًا هناك.
والتعليم هناك إجباري ومجاني بين سن السادسة والسادسة عشرة، وبالمدينة ١٠٤ مدرسة ابتدائية Public، والمكتبة العامة كبيرة جدًّا، ولها ١٧ فرعًا تنتشر في أرجاء البلدة، وفي عطلة الصيف يقيمون مدارس مكشوفة وسط المتنزهات لتثقيف الصغار وتنشيط قواهم الجسمية، حتى إن وزن الطفل يزيد في المتوسط عقب كل إجازة سبعة أرطال.
ثم مررنا بحي مساكن العمال فدهشنا من نظافته، وجل البيوت ملك لهم، وكنا نرى لكل بيتين واجهة مشتركة، وذلك ليتخلصوا من الضريبة التي تُدْفَع بحسب امتداد واجهة البيت على الطرق العامة، وعجبت لما علمت أن ٦٤٪ من سكان البلدة يمتلكون منازلهم رغم عدد السكان الذي فاق ٨٠٠ ألف نفس؛ لذلك أُطْلِق على المدينة City of Homes، وبالمدينة حي للصينيين، وهم زهاء ٦٠٠٠ نفس، وآخر لليهود وعددهم ٥٠ ألفًا، ويبدو على البلد وأهله طابع إنجليزي، فهم أهدأ طباعًا وأكثر تمسكًا بالتقاليد من سائر الأمريكيين؛ لذلك عُدَّت العاصمة الإنجليزية لكندا.
fig110
شكل ٤٦: مدخل المدينة الصينية في فكتوريا بكندا.

ومما يسترعي النظر هناك كثرة الفروع التي للمصارف في كل شارع، على أن عدد المصارف الرئيسية قليل محدود، وكلها تحت إشراف الدولة؛ لذلك أَمِنَ الناس شر إفلاس بعضها كما هي الحال في أمريكا التي تتعدد مصارفها إلى حد خطير. وقد صادفت زيارتي لتورنتو ميعاد انعقاد المعرض العام، وهو يُعْقَد مرة في كل سنة من ٢٨ أغسطس إلى ٢٠ سبتمبر، ويقوم على مساحة ٣٥٠ فدان، ولقد صرفت فيه شطرًا من مساء السبت، وكانت معروضاته عظيمة ومتعددة، وبخاصة قسم المسليات والملاهي، على أنه في جملته لا يفوق معرضنا السابق كثيرًا، وإن قالوا عنه بأنه أكبر معارض الدنيا، وجزء منه يطل على بحيرة أنتاريو ذات المياه الهادئة والشواطئ التي تكاد تكسوها الغابات، وعليها تقوم ميناء تورنتو، وهم جادون في توسيعها، وعندئذ تصبح أكبر الثغور التي تبعد مسافة عن المحيط — أما اليوم فمنتريال هي التي تحقق ذلك — ولقد قدَّر الهنود الحمر قيمة مياه البحيرة منذ زمان بعيد؛ لذلك أسموها «أنتاريو» أي المياه البديعة. ولقد ختمت زيارتي بالمتحف عظيم البناء كثير المعروضات، وبخاصة المخلفات الهندية الأمريكية، ثم حديقة الحيوان التي حوت مجموعة لا بأس بها من حيوان أمريكا وأستراليا.

(١٣) أتاوة

قمنا صباح الاثنين صوب أتاوة العاصمة السياسية لكندا، وكان القطار يجانب بحيرة أنتاريو بمياهها الملساء، وشواطئها التي تكسوها الغابات الجميلة، وكانت الأراضي سهولًا للفاكهة والغلال التي كانوا يحصدونها عند ذاك بآلات تجرها الخيول، وكنا كلما اقتربنا من أتاوة زادت كثافة الغابات، وبخاصة شجر البتولا والصنوبر، وقد عرَّى القوم مساحات أطلقوا فيها مراعيهم من البقر والخيول والأغنام ودجاجهم، وكانت القرى صغيرة، بيوتها أكواخ من خشب تقوم وسط الغابات، ولا تكاد تستبين خلال الأشجار إلا كلما بدا شارع مرصوف شُقَّ وسط الغابات.

ولبثنا سبع ساعات في مناظر بديعة من تلك الغابات تجري خلالها النهيرات السريعة، تقوم فيها الأخشاب مسافات بعيدة حين تلتقي عند مصنع للورق أو منشر للخشب، ثم أقبلنا على أتاوة؛ تلك العاصمة التاريخية التي يرتبط اسمها بنهر أتاوة التي تقوم عليه، ولقد بدا ذاك النهر فسيحًا هائلًا قبيل البلدة ثم ضاق عندما قاربناها، ولقد كشفه شامبلين Champlain سنة ١٦١٣، وبهره جمال شلالاته يوم أن وقف ينظر إليها من الربوة التي تحلها العاصمة اليوم، وقد أسماها شوديير؛ لأنها تفور وكأنها قدر الشاي «شوديير أي غلاية»، ثم ما لبث هذا النهر أن أصبح طريق تجارة الفراء مدة قرن ونصف.
fig111
شكل ٤٧: ميناء فكتوريا تحف بها الأبنية الرئيسية.
وكان الهنود يرسلون على مياهه فراءهم إلى منتريال، وفي سنة ١٨٠٠ تنبأ أمريكي اسمه فيلمان ريت Phileman Right بمستقبل الجهة، ونزل في مكان القرية هل Hull المقابِلَة لأتاوة، وبدأ صناعة الخشب فيها، وتلك هي المورد الرئيسي اليوم لتلك البلاد، ثم زادت شهرة أتاوة لما أن شُقَّت قناة ريدو Rideau التي تصل المدينة ببحيرة أنتاريو دون أن تمس حدود أمريكا، وقد بُنِيَت لأغراض حربية يوم كانت العلاقات بين إنجلترا وأمريكا متوترة، وقد بدأها الكولونيل John By.
وقد رأينا حجرين فوق Hill Park يعينان مكان مقر ذاك المهندس القدير وراء قصر لوريي، ولقد ظلت أتاوة تُسَمَّى مدينة باي By town إلى سنة ١٨٥٥، ولم تصبح أتاوة عاصمة كندا إلا منذ سنة ١٨٥٧ حين اختارتها الملكة فكتوريا حسمًا للنزاع والمنافسة الحادة بين منتريال وتورنتو؛ إذ كل منهما كانت تصبو أن تكون عاصمة البلاد.
وهي تقوم على ربوة تشرف على نهر أتاوة، ومن ورائه مرتفعات لورنشيا الوطيئة، وعندها يلتقي نهر جاتينو Gatineau وريدو Rideau بنهر أتاوة؛ لذلك استطاعت أن تستغل قوة انحدار تلك المياه المختلفة، وبخاصة شلالات شوديير التي رأيناها على بُعدٍ من ربوة البرلمان، ولقد أُقِيمَت اليوم على مسافة لا تجاوز أربعين ميلًا من المدينة مجموعة هائلة من مصانع ومولدات للكهرباء، فعلى مسافة عشرة أميال منها يمكن استغلال ١٢٥٠ ألف حصان كهربائي من منحدراتها، وعلى مسافة ٤٥ ميلًا يمكنها أن تُخْضِع لسلطانها مليون حصان كهربائي أو يزيد.
حللت نُزُل King Edward بريال ونصف، ولا بأس به، وهو يواجه محطة Union Station، ثم قصدت لساعتي ربوة البرلمان ذائعة الصيت، وهي مجموعة من متنزهات بديعة تشرف على نهر أتاوة بقناطره البديعة التي لا تُحْصَى، وشعابه الكثيرة، وجزائره الأنيقة، وكانت تواجهنا في الجانب الآخر ضاحية Hull الصناعية، والتي يغلب على أهلها الفرنسية، وعلى جانب النهر بدت مصانع الورق، وكانت أكداس الخشب إلى عنان السماء، والنهر يغص بكتل الخشب السابحة، وكل كتلة عليها طابع صاحبها، وعند مناطق القناطر يقف الناس ليفرزوا ما لهم ويحزموه آلافًا في سابحات كبيرة تقطرها باخرة صغيرة إلى المصنع.

والمنظر من تلك الربوة ساحر، خصوصًا ناحية منبع النهر حين بدا شلال شوديير الصغير الذي حُبِسَت مياهه واسْتُغِلَّت في توليد الكهرباء. وتزين تلك المتنزهات دار البرلمان التي أُقِيمَت على نمط قوطي رائع لا إخالني رأيت دارًا أفخر منها، وهي من داخلها مجموعة آيات فنية من النحت والتصوير وخرط الخشب، وبخاصة في المكتبة التي حوت نصف مليون مجلد، وقُسِّمَت بحسب المديريات المختلفة، وبها غرفة تُعَدُّ هيكلًا مقدسًا نُقِشَ على جدرانه بالذهب أسماء أبناء كندا الذين فقدوا حياتهم في الحرب الكبرى.

وبرج الدار شاهق تعلوه ساعة تدق كل ساعة دورًا موسيقيًّا يظل خمس دقائق وهو يرن رنينًا جذابًا عاليًا يُسْمَع من آخر البلدة، وحوله مجموعة من دور الحكومة، ويواجهه على الجانب الآخر لقناة ريدو قصر لوريي Chateau Lawrier في هندسة القرون الوسطى الضخمة الشاهقة، وهي أكبر فندق هناك، وقد كان لوريي رئيس الوزارة وزعيم الأحرار مدة ١٥ سنة، ويكاد يكون شارع ريدو الرئيسي في المتاجر والأضواء.
fig112
شكل ٤٨: يقف بنا القطار في محطة وسط جبال الركي.

وليست مباني البلدة شاهقة كسائر البلاد الأمريكية، فقلما تزيد على الدور الثالث، وكثير من المتاجر يُكْتَب اسمه بالفرنسية، وهنا لأول مرة كنت أسمع بعض القوم يتحدثون بها في الشوارع، وبخاصة في بلدة «هل»، وحتى في الإذاعة يتكلم المذيع بالفرنسية والإنجليزية، وقد بدا على سِحَن بعض الناس التغير، وقَلَّت نسبة الجمال هنا جدًّا عما كانت عليه في البلاد الأخرى، ثم طفت بالكثير من المتنزهات الفاخرة، وبالمزرعة التجريبية التي تبلغ ٩٠٠ فدان أُعِدَّت لخدمة الفلاح وتوزيع الزراعة في البلاد.

ولقد كان الجو باردًا كأنه شتاء مصر تمامًا، والسحاب لم ينقطع من السماء، وفي الشتاء يقسو البرد جدًّا وتجمد مياه نهر أتاوة إلى عمق ياردة، ويكثر الانزلاق عليه، وقد شاهدنا بعض المزالق تعلو في الجو ١٥٠ قدمًا.

(١٤) منتريال

قمت إلى منتريال التي وصلتها في ثلاث ساعات، وكانت أجلى ظاهرة حولي كثرة من يتكلمون بالفرنسية في القطار وفي شوارع المدينة، وجُلُّ العنوانات وأسماء الشوارع كُتِبَت بالفرنسية أولًا وتحتها بالإنجليزية، وكذلك خدام الفنادق يبدءون الحديث بالفرنسية؛ ذلك لأن المدينة تُعَدُّ ثالثة المدن الفرنسية في العالم كبرًا بعد باريس ومرسيليا؛ فسكانها ١٢٠٠٠٠٠، أي فوق مجموع سكان القاهرة، وثلاثة أرباعهم ٧٦٪ فرنسيون لا يزالون يحتفظون بتقاليدهم وعصبيتهم ومذهبهم الكاثوليكي؛ لذلك كان حتمًا على كل فرد أن يتعلم اللغتين الفرنسية والإنجليزية.

وكل شيء يُكْتَب هناك من صورتين، ولكل من الطائفتين مدارسهم، على أني لاحظت أن المشادة والبغضاء بين الفريقين حادة، خصوصًا الطلبة، فكل فريق يمقت الآخر مقتًا. وحُقَّ لمنتريال أن تظل فرنسية لأن تاريخها يؤيد ذلك؛ إذ كان جاك كارتيي أول من رسا هنا على بعد ألف ميل من المحيط سنة ١٥٣٦، ورأى هنا قرية هندية اسمها Hochelaga، تلك القرية التي لم يبق لها أثر يوم وصل شامبلين سنة ١٦١١، ثم أطلق شامبلين اسم مونت رويال على المكان إكبارًا لملك فرنسا.

والمكان على ربوة علوها ٧٦٩ قدمًا، ولم يُمَدَّ أول شارع وتُقَمْ أول مَحِلَّة للنزلاء إلا سنة ١٦٧٢ بعد كفاح عنيف بين البيض والهنود الحمر، وقد وزع الملك الأرض على الفرنسيين على نظام الإقطاع، ولكي يشجعهم على استغلالها والبقاء فيها بعث بالسفن الملأى بالفتيات الجميلة من آنسات فرنسا ليكن قرينات للنزلاء، حتى أُطْلِق عليها سفن العرائس، لكن النظام الإقطاعي فشل؛ لأن الناس فضلوا صيد حيوان الفراء من الغابات والاتجار فيها وفي الأخشاب. وظلت البلاد تحت لواء فرنسا حتى كانت معاهدة باريس التي أنهت حروب السنين السبع سنة ١٧٦٣ حين حل العلم البريطاني محل الفرنسي.

والمدينة أكبر بلاد كندا، وسابعة بلاد أمريكا الشمالية، ويُطْلَق عليها أحيانًا باريس أمريكا؛ لأن الحياة فيها تحكي حياة باريس إلى حد كبير، وحتى دور الملاهي أضحت من المراقص الباريسية «كابريه»، وغلب شرب النبيذ غيره من المشروبات، وهي اليوم العاصمة التجارية والصناعية لكندا، وتُعَدُّ أكبر ثغور أمريكا بعد نيويورك، وهي أول ثغور العالم تصديرًا للقمح، وتقع على جزيرة وسط النهر ذرعها ٣٠ × ١٠ أميال، وعندها يلاقي نهر أتاوة أباه سنت لورنس، ثم يتشعب نهر أتاوة اثنين بينهما جزيرة Jesus، وبين تلك الجزيرة ومنتريال يُسَمَّى الفرع Rviere des prairies، وبين هذا والقارة يُسَمَّى نهر الألف جزيرة Riviére des milles isles.
fig113
شكل ٤٩: تُعْرَف جبال الركي في كندا بروعة مناظرها الطبيعية.

ولقد خال كارتيي يوم سار في النهر أنه وجد الطريق إلى الصين، ومن ثم أطلق الاسم على شلالات لاشين القريبة من المدينة، وأقام على ذروة جبل رويال صليبًا من خشب استُبْدِلَ اليوم بصليب هائل من الحديد تراه على بعد أميال من البلدة، خصوصًا أثناء الليل حين يُوقَد بالكهرباء فتتلألأ ثرياته مشرقة رائعة.

مدينة هائلة تبدو من العواصم الكبرى، وقسمها الحديث وجلُّه إنجليزي يحكي مدن أمريكا الكبرى في حركته وأضوائه ومعروضات متاجره، وبخاصة في شارع سنت كاتارين، والقسم القديم فرنسي بحت ضيق الطرق، واطئ المباني إلا حول كنيسة نوتردام أكبر كنائس البلدة، حيث تقوم البيوت المالية والحركة التجارية، وهناك شارع نوتردام أطول شوارع المدينة يمتد ٣٧ ميلًا، والمساكن هناك قديمة قاتمة.

وأغرب شيء فيها أن السلم يُقَام خارجها في الطريق، ولكل دور سلم قد يلتوي فيصبح حلزونيًّا، لذلك ترى واجهة المنازل على طول الشارع مجموعة من سلالم معوجة في شكل مضحك؛ وذلك ليوفروا مكان السلم ويقيموا غرفة؛ لأن غالب البيوت مكتظة، والعائلات الفرنسية هناك وفيرة العدد كثير النسل جدًّا — على عكس فرنسا نفسها — وفي بعض الأحياء الفقيرة ينام الأطفال بالدور على فراش واحد، وكلما أمضى فريق في الفراش ساعات نومه انصرف وحلَّ محله الفريق الثاني، وكل بيتين متلاصقان كأنهما بيت واحد؛ وذلك لسهولة التدفئة شتاء.

وبرد الشتاء هناك قارس جدًا؛ فالمتوسط ١٨°ف، وقد تنزل الحرارة إلى ٦٤° تحت الصفر فتجمد المياه، وتُتَّخَذ الأنهار والبرك مزالق لألعاب الجليد. وكنا نشاهد الأبراج تعلو علوًّا مخيفًا؛ لينزلق القوم عليها في لعبهم شتاء، وقد يتكاثف الثلج فيسد الطرق، وعندئذ تمر كانسات الجليد فتزيحه على الجوانب، ثم تحمله بعيدًا لتسهل للناس المرور؛ لذلك أُغْلِقَت ميناء منتريال من أكتوبر إلى فبراير، وتحولت التجارة إلى هلفاكس.

وقد مررنا بحي West Mount مقر السكن الأرستقراطي، فكانت ڤيلاته آية في التنسيق، ويسكنها ٦٠ ألف نفس خليط من الإنجليز والفرنسيين، وقد بلغ من وجاهة بعضها أنَّ أجرتها تزيد في الشهر على ٧٠ جنيهًا، وسكانها من الأثرياء الذين لم يتأثروا بالأزمة العالمية قط، بل على النقيض من ذلك ربت أموالهم. والضاحية شبه مستقلة تدير مصالحها العامة وحدها بمجلس منتخب منها، ولا تزال تنفذ قانون تحريم الخمر بين جدرانها.
ومن الأحياء المتوسطة نوتردام دي جراس، وسكانه من الإنجليز، لكن ملاك الأراضي من الفرنسيين، وقد ألفت نظرنا الدليل إلى بيت صغير قال بأنه البيت الوحيد الذي يشتمل على سبعة مطابخ Seven kitchens، ولما سألناه عن السبب ضحك وقال: لأن صاحب البيت اسمه المستر مطبخ Kichen، وزوجته المسز مطبخ، وأربعة بنين هم مطابخ أيضًا، ثم مطبخ البيت، فأغرق القوم في الضحك رغم برود تلك النكتة الإنجليزية.
وإلى جوار المنطقة مساحة من الأرض المزروعة هي للدولة تبيح للعاطلين أن يحرزوا منها ما استطاعوا زرعه في العام؛ ليتعيشوا منه بدون مقابل حتى يجدوا لهم عملًا. ومتنزهات المدينة لا حَدَّ لها، فعددها ٧٢، ومن بينها بارك منتريال مساحته ٦٩٢ فدان، وجله تُرِكَ غابات في شكلها الطبيعي، وفي إحداها زُرِعَت ٥٠٠ شجرة من الأسفندان maple شعار كندا، وعُلِّقَ على كل واحدة اسم جندي ممن فقدوا حياتهم في الحرب الكبرى، وعلى واحدة منها عُلِّقَ ثلاثة أسماء من عائلة واحدة.
fig114
شكل ٥٠: بعض وعول جبال الركي عند جاسپر.

أما عن كثرة الكنائس التي تلقاها أينما سرت وعظمة بنيانها والإسراف في نقشها وزخرفها، فذاك ما كاد يفوق روما نفسها، وفي بعض الشوارع ترى الكنائس متلاصقة، ولا يخلو الطريق من القسس أو صِبْيَتِهم الذين يلبسون معطفًا أسود وحزامًا أخضر تتدلى له ذؤابتان طويلتان في شكل يسترعي النظر. ونفوذهم في تصريف الأمور عظيم جدًّا حتى كادت أن تصبح حكومة مديرية كوبك من رجال الدين، وغالبهم من الكاثوليك؛ ولذلك أُطْلِقَ على البلدة «مدينة الكنائس»، ففيها ٢٥٠ كنيسة أكثر من نصفها كاثوليكية.

والصحافة هناك فرنسية، وأكبر جرائدهم La Pesse التي توزع فوق ٣٠٠ ألف في اليوم الواحد. والقضاء في البلاد نوعان: فرنسي يتبع قانون نابليون، وإنجليزي، وكثيرًا ما يسبب ذلك ارتباكًا بين المتخاصمين، خصوصًا إذا كان أحد الخصمين كاثوليكيًّا والآخر إنجليزيًّا بروستانتيًّا. وأكبر كنائسهم نوتردام على نمط كنيسة باريس تمامًا — وهي تشرف على ميدان الحراب Place d’armes — بُنِيَت سنة ١٦٧٢ ثم جُدِّدَت سنة ١٨٢٤، ويحتوي بُرجاها على عشرة أجراس، أحدها يُعَدُّ أكبر أجراس أمريكتين، وبها مقاعد لعشرة آلاف مُصَلٍّ.
وعلى ربوة في الجبل هيكل سان جوزيف، أقامه قسيسٌ اسمه André صغيرًا ليتعبد فيه، ثم ذاعت عنه الكرامات؛ فبُنِيَ بشكل أكبر، ثم أخذوا يمدون فيه، ولا يزال البناء سائرًا، وسيكون من أفخر هياكل العالم وأكبرها. نُسِّقَت المتنزهات أسفله ثم بدأت السلالم إليه، وعددها ٩٩، وكان الحجاج هناك كثيرين جدًّا يركعون على كل سلم منها ويقرءون وُرْدًا، ومتى بلغوا القمة دخلوا الهيكل، وقدَّموا قرابينهم، وبُورِكُوا فشُفُوا من أمراضهم وضمنوا الجنة. هكذا كانوا يقولون!

ولا يزال القس أندريه يتعهد الهيكل ويدرس في مدرسة أسفله مع أنه بلغ سن ٩١ سنة، ويصله من الخطابات زهاء ٢٠٠ ألف سنويًّا، ينتظرون الرد منه والتبريك حتى تتم سعادتهم، ومن استطاع الحضور بنفسه حج إلى المكان من أقصى الأرض. وليس بالمدينة كثير من ناطحات السحاب، فأعلى الأبنية ٢٥ دورًا، ولقد حرم القانون اليوم العلو أكثر من الدور الرابع، ولقد مررنا بإحدى تلك الناطحات المتواضعة بالنسبة لأخواتها في شيكاغو ونيويورك، لكني دهشتُ لما علمت أن بها ستة أدوار تحت الأرض لإيواء سيارات الساكنين في ذاك البناء، وعدد سياراتهم ٦٥٠.

وجل التعليم هناك تحت إشراف القسس، وقسم كبير منه ديني بحت، وليس هناك قانون إجباري للتعليم، ومع ذلك فنحو ٩٩٪ من الأطفال يؤمون المدارس. وبالمدينة جامعتان: ماك جل Mc J’ll أُسِّسَت سنة ١٨١١، وتشمل ثماني كليات، ثم جامعة منتريال أسسها قسس كوبك سنة ١٨٧٨، وهي فرع من جامعة Laval في مدينة كوبك، وبها ٣٥٠٠ طالب.
fig115
شكل ٥١: على ذرى الركي حيث كثر الثلج وانضمر الشجر.

ومن أعجب ما زرت مستودع الدواء فاخر البنيان عظيم الزخرف، حتى إن سقفه من الفضة الصب في وزن أطنان كثيرة تُرَى في كل ناحية منه، ومن أدواره العدة التليفون ومكبرات الصوت تلبي نداء أي إنسان في أقصى المدينة وتسعفه بالعلاج، والرجال والسيدات الوقوف به من خبراء الأطباء، وهو يعمل صباح مساء، ولا تُقْفَل أبوابه ساعة، ويتولى العمال رقابتهم على ثلاث دفعات في اليوم لكلٍّ ثماني ساعات، وأظرف ما به أنه يفتح أبوابه للزائرين جميعًا ويمدهم بالكرتات المصورة، ويبيح لكل إنسان أن يكتب رسالة يرسلها المحل إلى أقصى الأرض على حسابه.

وقد كتبت أنا بطاقتين وسجَّلت اسمي بين كشوف الزائرين، ولن أنسى بهاء المنظر وأنا أقف على شرفة جبل منتريال أُطلُّ على النهر الفسيح الهائل وجزائره المنثورة، وقد نُثِرَت بعض المدافع التي غنموها في حروبهم القديمة. ومن أبدعها جزيرة سان هيلين التي سُمِّيَت على اسم زوجة شامبلين، وهي في مجموعها متنزه واحد كبير، ويصلها هي والجزائر الأخرى بالمدينة مجموعة من قناطر أنيقة. قُمتُ إلى كوبك.

(١٥) كوبك

في سيارة الأمنبوس — ٧ ريال ذهاب وإياب — الفاخرة التي تقل ثلاثين راكبًا، وقد بلغت من الوجاهة حدًّا فاق سكة الحديد؛ فالمقاعد بالقطيفة الوثيرة والشماعات البراقة من حولنا، وعلى رءوسنا رفوف من الجلد البراق الثمين، والمراوح تدور صيفًا والمدافئ شتاء، وتلك تشق أرجاء أمريكا كلها بمواعيد ثابتة، وأجرها أرخص من سكة الحديد بكثير؛ فالسفر من سان فرنسسكو إلى نيويورك، أو من شواطئ المحيط الهادي إلى الأطلنطي دون عشرة جنيهات، وذلك أقل من نصف الأجر في سكة الحديد، وفوق ذلك فإنها تسلك طرقًا أجمل بكثير، ولا تحجب المناظرَ كثرةُ الأسلاك والمحطات وعربات الشحن التي تُنغِّص علينا سفرنا في سكة الحديد.

قمت صباحًا فوصلتها عصرًا في سبع ساعات، وكان جل سيرنا إزاء مجرى سنت لورنس الذي كان اتساعه هائلًا، وماؤه هادئًا براقًا رائقًا، وبين آن وآخر كان يلاقيه فرع أو اثنان ثم تكثر الجزائر التي تتشعب المياه حولها، وكانت تقوم المصانع الكبيرة طوال الطريق، وبخاصة الأخشاب والورق، ثم مطاحن الغلال ومخازنها وروافعها.

والطريق كله مدن وقرى بديعة أُقِيمَت أبنيتها من الخشب في تنسيق ونظافة تامة، والإقليم عامر بالسكان، وكلهم فرنسيون لا يكادون يتكلمون الإنجليزية إلا إذا اضْطُرُّوا إليها، وعندئذ تكون لغتهم ركيكة ضعيفة. وأكبر ما كان يلفت نظرنا كثرة الكنائس والقسس والصلبان التي كنا نراها قائمة حتى في وسط الحقول؛ فأينما نظرت ألفيت قسيسًا أو صليبًا، والكنائس كبيرة وفاخرة إلى حد كبير حتى في القرى الصغيرة، مما دل على شديد عصبية القوم الدينية، وكلهم من الكاثوليك المتمسكين بالدين تمسكًا شديدًا.

والأراضي كلها سهول فسيحة إلى الآفاق يزرعها القوم من الخُضر على اختلافها، ثم الغلال، وبخاصة القمح، ثم الشوفان ثم قليل من الذرة، وبعض البقاع تُرِكَ مهملًا طبيعيًّا فكَسَتْهُ الغابات، وعندها تكثر مناشير الخشب ومصانع الورق، وفي تلك المصانع يُسْحَقُ الخشب ثم يُنْقَعُ في السلفيد Salphie ليستحيل عجينة منها يُصْنَع الورق، أو تُصَدَّر خامته لصناعة الورق في البلاد الأخرى.
fig116
شكل ٥٢: عمود الهنود الحمر في جاسپر وسط جبال الركي.

وقطع الخشب عمل رئيسي يدر على مديرية كوبك وحدها فوق أربعين مليون ريال كل عام، ويجتذب آلافًا من الناس كل عام يهيمون في المجاهل، ويتوزعون في معسكرات يضم الواحد خمسين رجلًا يقطعون الخشب ثم يسوقونه إلى المجاري المتجمدة، وإذا ما ذاب جليدها عُوِّمَت الكتل بطريقة مدهشة: إذ يقف الواحد على كتلة سابحة وفي قدميه حذاء ذو نعل بارز المسامير، ثم يُحَرِّك الكتلة برجليه فتدور وهو فوقها، ثم تسبح في سرعة خيالية.

وكان يستلفت نظري أن السكان كانوا ينشرون ملابسهم المغسولة على جوانب الطرق بدون رقيب، وكذلك يعرضون بعض أشغال أيديهم من الطنافس الصغيرة، ولا تتعرض هذه لسرقة أو عبث؛ مما جعلني أمتدح فيهم تلك الأمانة. وأمام سور كل بيت صندوق مفتوح يُوضَعُ فيه البريد والجرائد الخاصة بكل بيت، ولا يتعرض لها أحد من المارة مطلقًا، وحتى الأطفال الذين يلعبون ويمرحون طوال اليوم. وفي منتصف الطريق وقفنا ببلدة الأنهار الثلاثة Trois Rivieres، وعندها تتلاقى أنهار ثلاثة مع سنت لورنس فتجعل منظر المياه الممدودة في كل ناحية رائعًا. والمكان صناعي وبخاصة للورق والخشب. وكنا نرى مجاري الأنهار مقسمة بشبه حدود من عوامات من كتل الخشب؛ لتمنع اختلاط أخشاب كل مصنع مع غيرها.
دخلنا كوبك ونحن نسير في طرق ضيقة تعلو وتهبط وتشرف عليها ربوة صخرية عاتية، وحللت فندق Old Homestead Hotel المتواضع في ميدان Place D’Armes، وأمامه «شاتو فرنتناك» على اسم أحد الحكام الفرنسيين الأوائل — أفخر فنادق البلدة، وهو ملك لشركة كندا الباسفيكية، بُنِيَ على شكل حصون القرون الوسطى، ومُدَّت أمامه الأرصفة وزُوِّدَت بالمقاعد والمقاصير لتطل على النهر والمدينة السفلى من أعلى الربوة في منظر ساحر.
وكوبك بلدتان: السفلى مقر دور الأعمال والحركة التجارية، والعليا فوق صخرة كوبك التاريخية، وجلها للسكنى، وكم كان يروقني السير وسط تلك الأزقة المتلوية التي تكاد بيوتها المتقابلة تتلاصق وهي قاتمة مظلمة، وقد رُصِفَت أرضها بالحجارة الصغيرة البارزة لكي تخفف من أثر شدة انحدار الطرق، وكنا نعلو إلى الطرق التي فوق الربوة بدرجات قد تفوق المائة. والترام يسير فوق منحدرات مخيفة جدًّا، وفي بعض الأحيان يكون الصعود بالروافع Elevator.
والميناء غاصة بالحركة التجارية وبالسفن الكبيرة التي تمخر المحيط بين أوروبا وكوبك. والنهر هائل الاتساع شديد العمق، ويخضع للمد الذي قد يعلو ١٦ قدمًا. وعجيب أن المياه كلها عذبة، وتظل كذلك أربعين ميلًا جهة المصب. وتجانب الميناء سكك الحديد، وقد استلفت نظرنا مستودع الغلال لشركة Can. National بروافعه التي تتسع لنحو ٤٥٠ مليون بوشل، وكذلك مصانع الورق الكثيرة هناك، ثم مصنع هائل للأحذية يُعَدُّ من أكبرها في الدنيا. ومن خصائص البلدة العربات ذات العجلتين يجرها حصان تُذكِّر المرء بالعصور الغابرة، وقد أعدت شركة الترام عربات مدرجة مكشوفة ليستطيع الركاب أن يشاهدوا مناظر البلدة في جلاء.
fig117
شكل ٥٣: معبودات الهنود الحمر في كندا.
وفي زاوية من شارع ضيق في المدينة السفلى زرنا بيت شامبلين مؤسس كوبك، وهو صغير كأنه الكوخ الخشبي، وإلى جواره تدفن رفاته، ثم صعدنا إلى سطح الربوة فأشرفنا على منظر المدينة السفلى والنهر الفسيح الهائل في مشهد بديع. وقد سُوِّرَت الربوة وصُفَّت على جوانبها المدافع القديمة في سلسلة لانهائية، وفي السهل الفسيح «سهل Abraham» كانت الموقعة الفاصلة بين قائد الجيش الإنجليزي وولف Wolfe وقائد الجيش الفرنسي مونتكام Montcalm، وكان النصر حليف الإنجليز، لكن القائدين قُتِلَا في الموقعة، وسجَّلا لهما فخرًا كبيرًا سنة ١٧٥٩. وقد أُقِيمَ لهما أثر تذكاري في إحدى الحدائق هناك. وبيت مونتكام الخشبي الصغير هناك، وهو مدفون في دير بالمدينة. والسهل اليوم تُرِكَ فسيحًا تكسوه الخضرة.
أما عن الكنائس الهائلة فذاك في كثرة لا تُوصف بحيث خُيِّلَ إليَّ أنَّ البلد كله مقر ديني للكاثوليك، ومما زُرْنا معبد Franciscan Sisters، وأعجب ما فيه أن الراهبات يتناوبن الركوع أمام الهيكل صباح مساء، بحيث لا تخلو ساعة منهن طوال العام. وقد رأينا خمس فتيات ركعن مطأطئات الرءوس يقرأن أورادهن ولا ينصرفن حتى توافيهن صويحباتهن.
والبلد بدا فرنسيًّا خالصًا، فلم نسمع الإنجليزية هناك قط، ويدير شئون البلاد مجلس المديرية المُؤَلَّف من خمسة عشر عضوًا فرنسيًّا وثلاثة من الإنجليز، وهم يحاولون الاحتفاظ بالصبغة الفرنسية في كل شيء، ويتعصبون لقوميتهم ولغتهم جدًّا، وحتى الصحافة كلها فرنسية، وليس بالمدينة إلا جريدة واحدة إنجليزية Chronicle Telegraph، على أن الإنجليز رغم قلتهم وضعف نفوذهم فهم أصحاب رءوس الأموال في تلك البلاد.
وكنت أعجب كيف استطاع الفرنسيون أن يحتفظوا بقوميتهم رغم مرور قرن ونصف وهم تحت الحكم الإنجليزي، لكنَّ الفرنسيين قد عُرِفُوا بوطنيتهم الشديدة التي لا يخفونها مهما أحاطهم من عوائق، ولا يزالون يعدون شرق كندا «فرنسا الجديدة» كما أسماها شامبلين من قبل، وفوق ٩٠٪ من سكان كوبك البالغ عددهم ١٤٢ ألفًا فرنسيون، ولا عجب فكوبك — ومعنى اسمها مدينة الصخرة Rock City — هي «فرنسا الجديدة»، وقد ظلت أربعة قرون تحرس مدخل السنت لورانس بحصونها العاتية التي صرف عليها الإنجليز بعد فتحها ٣٥ مليون ريال.
fig118
شكل ٥٤: ترى هذه الأشباح المقدسة أينما سرت في الركي.

وهي في ظني من أجمل بلاد العالم، لا يتمالك الزائر لها أن يعشقها لجمال موقعها. وهل أروع من منظر النهر وجزائره، وبخاصة جزيرة لورنس، عندما رأيته من أعلى الربوة؟! أو أجمل من منظر صخرة كوبك نفسها حين رأيتها من الزورق إزاء شاطئ الجزيرة؟ إلى ذلك فإن احتفاظها بأبنية القرون الوسطى وأزقتها المختلفة المتلوية زادها في نظري جمالًا، هذا إلى الذكريات التاريخية التي تحوط كل ركن من أركانها.

ومما يلفت النظر في المدينة كثرة ميادينها الضيقة التي تتوسطها تماثيل عظماء الرجال، ومن أخصهم لاڤال أول قسيس حلها وبدأ نواة جامعة لاڤال أكبر معاهد العلم في كندا، وكذلك تمثال شامبلين، ويجاور شاتو فرنتناك مشرفًا على النهر.

(١٦) إلى نيويورك

قمت أودع ذاك البلد الذي خُيِّلَ إليَّ وأنا أجوب نواحيه أني في قطعة من بلاد فرنسا المحتفظة بالقديم، وعدت إلى منتريال التي غادرتها إلى نيويورك صباح الجمعة ٤ سبتمبر. وقد اخترق بنا القطار النهر العظيم الذي بدا كالبحر لا تكاد تُرَى شواطئه، وكان عبورنا إياه على قناطر تربطها عدة جزائر، ولم تمض نصف ساعة حتى مر بنا رجال المهاجرة والجمارك، وفحصوا أوراقنا ومتاعنا في رفق وبشاشة، ثم بدأنا نسير إزاء نهر ريشليو، ثم أقبلنا على بحيرة شامبلين التي ما كنت إخالها تمتد هذا القدر الهائل، ولبثنا نخترق مجموعة هائلة من جزائرها بقناطر لا حصر لها، وكانت المزارع تغص بالخُضر وبعض الغلال.

وجل البلاد تحمل أسماء فرنسية، والقوم فرنسيون، ولما أن فرغنا من البحيرة وشعابها ظهر إلى يميننا نهر هدسن في اتساع يفوق نيلنا، ثم أخذت الأرض تتغضن وتعقدت رباها، وكانت المزارع خليطًا من الغابات وأرض الكلأ، وكثيرًا ما كان الصخر الجرانيتي القاسي يظهر عاريًا، ولقد أضحت المناظر من حولنا ساحرة بديعة.

وكانت البلاد والقرى كثيرة غاصة بالسكان والمصانع التي لم تغب عن أعيننا طوال الطريق، ولا عجب؛ فتلك بلاد نيو إنجلند أقدم جهات أمريكا صناعة، وأقدرها مهارة في العمل وذكاء في العامل؛ ولذلك عُرِفَت بإنتاج المصنوعات الدقيقة، وكان أجر العامل فيها أعلى مستوى منه في سائر بلاد العالم. وعندما وقفنا ببلدة تروادة Troy تشعبت الخطوط الحديدية في كثرة هائلة، ثم واصلنا سيرنا، وبعد تمام عشر ساعات ومسافة ٤٦٠ ميلًا دخلنا محطة Grand Central في نيويورك.
وقديمًا كان مجرى هدسن هذا طريقًا طبيعيًّا للانتقال اتخذه هنود أمريكا مسلكًا لهم، ثم زاد العلم اليوم في قيمته فأضحى طريقًا مائيًّا من منتريال إلى نيويورك، ومُدَّت على طوله سكك الحديد في خطوط لا حصر لها، وكان له شأن في تجارة الفراء في أوائل عهد كشف أمريكا، على أنه يجمد شتاء فتعمل كسارات الجليد على فتح جزئه الجنوبي بين Troy ونيويورك، وحتى ثغر نيويورك يتعرض للتجمد لولا مقاومة الجليد بوساطة تلك الكسارات التي تعمل طول فصل الشتاء. ولقد كان البرد شبيهًا بشتاء مصر في منتريال وما جاورها، لكنا عندما أقبلنا على نيويورك دفئ الجو نوعًا، ولم يلزمنا بلبس معاطفنا التي حملناها من قبل.
fig119
شكل ٥٥: قطعان البيسون في سهول الپريري.
خرجنا من المحطة العامرة وأنا ذاهل من فخامتها وفسيح امتدادها، وتعدد أرصفتها، وشعاب المواصلات المختلفة التي تخرج منها إلى أنحاء المدينة خصوصًا تحت الأرض، وحللت نُزُل Chelsea في شارع ٢٣ بقرب 7th Avenue مقر المتاجر الكبيرة والمباني الشاهقة والثروة الطائلة، ومنه إلى برودواي وشارع ٤٢ وما لهما من صيت في الملاهي والأضواء ليلًا، فلقد خلفا في مخيلتي أثرًا قويًّا منذ زيارتي الأولى حتى شككت فيما كتبتُ، وخشيتُ أن تكون المبالغة قد لعبتْ بقلمي، لكني ألفيتني لم أوف تلك الجهات حقها من الإكبار؛ فلقد كان أثرها للمرة الثانية أروع منه في الأولى وأبلغ.
وكم وقفت ذاهلًا وأنا أرى تلك الناطحات تكسوها الأضواء المتلوية المتحركة، وأولئك الجماهير الذين يسدون الطرق سدًّا ليلًا ونهارًا، ووسائل النقل التي لا تُحْصَى عدًّا، كل ذلك في نظام تام ووجاهة لا تُحَدُّ! ثم كان الصباح وكانت جولتي حول الناطحات الشهيرة مثل Empire وChrysler وركفلر وما أحاطها من طرق وأبنية، فكانت نظراتي لها إكبارًا لهؤلاء القوم ذوي العقول الجبارة والأموال الطائلة، وما وافى الظهر حتى ركبت قطارَ تحتِ الأرضِ Subway، وهو يسير تحت الأرض في الشوارع الرئيسية التي لا يجري فوقها «الإلفتير Elevator»؛ وذلك ليجد الناس وسيلة يركبونها في كل شارع.

جزيرة كوني

وكان مقصدي جزيرة كوني Coney Island، فظل القطار يسير زهاء ساعة في سرعة مخيفة، ولقد انتقلنا منه إلى غيره ثلاث مراتٍ، كل ذلك بقرش واحد؛ فبمجرد أن تلقي بالقرش في الصندوق يدور بك الباب فتدخل محطةً لك أن تركبَ أي قطار شئت: Express، أو Loca، إلى up town، أو Down town، ولو أحببت أن تظل يومك كله تركب هذا وتنتقل إلى ذاك فعلتَ ما دُمتَ داخل المحطات، فإن خرجت وجب أن تدفع قرشًا آخر.

بعد ساعة كاملة اخترقنا مجموعة من قناطر أدت بنا إلى الجزيرة، فألفيتها بلدًا عامرًا مُدَّت الحمامات الفاخرة على شواطئه الرملية، وأُقِيمَت في وسطه مجموعة من دور الملاهي والمعارض والمقاصف والمطاعم بشكل ليس له نظير في أية جهة من الدنيا، وفي كثرة استغرقت من وقتي ثماني ساعات كاملات حتى مررت بها مرورًا سريعًا؛ فلقد حوت كل ما يخطر بالبال من صنوف الألعاب: البهلوانية والسحرية والميسر والأراجيح، وعَرْض خوارق الطبيعة من حيوانات وإنسان؛ فهناك مجموعة هائلة من أنصاف الآدميين، والذين وُلِدُوا على نقص في تكوينهم.

ومن أعجب ما رأيت جسم فتاة لها رأسان، وجسم إنسان أطرافه كعجل البحر، وآخر كجلد التمساح، ومجموعة من الأقزام الذين لا يزيد طولهم على نصف متر، وثلاث من النساء جمعن بين صفات الذكر والأنثى؛ فنصف الجسد الأيمن خشن قوي العضلات وفير الشعر، والأيسر أملس رقيق ناعم، وجمعن بين عضوي التذكير والتأنيث معًا، وسيدة بلغ بها السمن حدًّا مخيفًا؛ فمحيط بطنها متران ونصف، ووزنها ٧١٥ رطل، وطولها متر.

fig120
شكل ٥٦: مستودعات الغلال في سهول الپريري بكندا.

وكثير من تلك المعروضات تُشْرَح شرحًا علميًّا يرمي إلى فائدة الجمهور رغم مظهره الهزلي، فلقد دخلت معرضًا منها يعلن عن بعض أنواع التعذيب التي كانت متبعة قديمًا في وصفها الحقيقي بتماثيل تُظْهِر الحقيقة جلية، أذكر من بينها: التعذيب في بلاد الصين؛ يُوضَع الرجل في قفص ينكمش شيئًا فشيئًا ويضغط على المسكين وهو يتألم، ثم تُطْلَق عليه مجموعة من فيران جائعة كبيرة تنهش لحمه حتى يموت.

و«العاشق والعاشقة»؛ إذا أحبت فتاة شابًّا رغم إرادة أبويها حُكِمَ عليها بوضعه في «صندوق السماء»، وأُقْفِل عليه، وفي غطاء الصندوق مسامير حادة، وعليه مكبس لا تفتأ تديره فيضغط معشوقها حتى يموت بيديها على مرأى من أبيها، وفي اسكتلنده في القرن ١٥ كانوا يضعون أقدام المذنب في أحذية عالية من حديد وتُصَبُّ فيها المنصهرات، وفي إنجلترا سنة ١٤٤٧ استُخْدِمَ الوثاق Rack يُشَدُّ عليه الرجل بواسطة أسطوانة عصارة كلما دارت شدت الرجل فاستطال حتى مات، ثم التحمير البطيء بأن يُرْبَط الرجل على حافة عجلة كبيرة تدور به، ومن تحتها نار متقدة تكاد تلمس الجسم كلما مر بها، وبذلك يُشْوَى الرجل شيًّا بطيئًا.

وفي المجر سنة ١٥١٨ عذبوا المجرم بربطه نائمًا، ثم يأتي الجلاد بكتلة من حديد سُخِّنَ إلى درجة الاحمرار، وكوى قدميه كيًّا بطيئًا، ثم الدفن حيًّا أواسط أفريقيا عدا الرأس، ثم يُلَطَّخُ الجسد بالعسل فينجذب النحل الكبير وينهش الجثة حتى يموت الرجل، أو يُوضَع الرجل في برميل وتبقى رأسه ظاهرة تعرض للشمس المحرقة حتى يموت.

وأخيرًا عُرِضَت المقصلة وهي تهوي على رأس ماري أنتوان في مخرطة ثقيلة حادة، ونحن خلال ذلك نسمع أنينًا واستغاثة وبكاء مؤلمًا مؤثرًا لم أدر مصدره، ثم معرض آخر لعادات بعض الهنود الحمر وزنوج أفريقية من رقص وأزياء. وهنا يبدو جمع من الزنوج الحقيقيين يعرضون علينا برنامجهم، ونحن خلال ذلك نرى أمام كل معرض رجلًا أمسك بيده مكبر الصوت وأخذ يحاضر الناس ويغريهم على الدخول بعبارات شائقة جذابة تستهوي كل إنسان. وما أقبل المساء حتى انتشرت ثريات الكهرباء في إسراف شديد من عقود متشابكة لا أول لها ولا آخر، مكان يسحر القلوب، ويستهوي النفوس، وزحام الناس عليه كثيف.

ورغم رخص أجور الدخول إلى تلك الأماكن — فهي زهاء قرشين لكل منها — ينفق الواحد ريالات متعاقبة دون أن يشعر إلا وقد خلا جيبه منها، وكانت دهشتي كبيرة لما ينفقه القوم هناك حتى الذين تبدو عليهم علائم الفقر والأطفال الصغار، وكفى أن يرى المرء ذاك البلد حتى يؤمن بأن أمريكا بلاد العجائب والمدهشات. كان اليوم الأحد ٦ سبتمبر فآثرت أن أرود بعض المتنزهات لأرى ما هنالك، فقصدت Central Park فكانت جموع الناس كثيفة، وفي ناحية منه أُقِيمَت حديقة للحيوان هي أصغر بكثير من حديقة Bronx Park التي زرتها عامي الفائت، لكنها ضمَّت بين أقفاصها مجموعة قيمة جدًّا من مختلف الحيوان في حيز من الأرض صغير، بحيث يمكن لكل فرد أن يطوف بها ويخرج بدرس في الحيوان مفيد.
ثم ركبت القطار المرتفع إلى طرف المدينة المسمى Battery، وهو أقدمها، وهناك مُدَّت المتنزهات الفسيحة على حافة البحر، وكان الناس يسدون المكان سدًّا؛ لأن البواخر التي تربط مختلف الجزائر خصوصًا بروكلن تروح وتغدو من تلك الجهة، ولقد أدى بي السير في تلك الجهة إلى أحياء العمال ومساكن الفقراء المتقاربة المكتظة، والجهة كلها تعوزها النظافة، وأهلها بدا عليهم العوز الشديد، وكثر بينهم المتسولون وأبناء الشوارع والسكارى المدمنون في ثيابهم الخَلِقة، وقد دُهِشْتُ لما أن رأيت سيدة هناك تتمايل وتشاكس الناس، وأخيرًا أتى الخمر الذي أسرفت في شربه على قواها فسقطت على الأرض في حال يُرْثَى لها.
fig121
شكل ٥٧: الشارع الرئيسي في ونيپج.
وفي ناحية من تلك المنطقة حي اليهود، وكانت اللغة العبرية تُكْتَب بالخط العريض في كل مكان، وباعة الملابس القديمة على رءوس الشوارع، وباعة «الشربات» يعرضونها في براميل زجاجية، وقد ألقوا بها قشر الليمون والبرتقال وكتبوا ثمن الكوب: سنتيمًا واحدًا، أي ملليمين. ولقد بلغ من كثرة اليهود في نيويورك أن أُطْلِق عليها أحيانًا اسم Jew York. ومن أظهر شوارع المنطقة Essex وBowery.
وفي تلك المناطق يكثر اللصوص وقطاع الطرق الذين يسمونهم gangsters، وكثيرًا ما يهاجمون المارة ويسلبونهم متاعهم ونقودهم ليلًا، وقد يصحب ذلك ضرب وقتل، وحتى في وسط نيويورك في سنترال بارك Cen. Park يحدث بعض ذلك. ولا عجب؛ فإن الإمعان في الغِنى والإسراف في إنفاق النقود الذي كنت ألاحظه على المتيسرين يوغر صدور الفقراء وينحدر بهم إلى الإجرام هكذا. ولقد جمعت نيويورك بين المتناقضات حقًّا، فمن غنًى مفرط إلى فقر مدقع. ومما ساعد على وقوع ذلك في حي Battery أن الشوارع هناك غير مستقيمة؛ لأن هذا الجزء قديم من جهة، ولأن أرضه متلوية الشواطئ؛ لذلك لم تُنَمَّر الشوارع كما هي حال باقي المدينة.
ولقد بنى أحد الأثرياء الذين كانوا من فقراء الحي وأضحى مليونيرًا ناطحة هائلة سيؤجرها مساكن رخيصة لسكان الحي أصدقائه الأقدمين، واسم الرجل Alfred Smith، فكان ذلك منه وفاءً جديرًا بالتقدير.
وهنالك تمتد القناطر بين مانهاتن هذه وجزيرة بروكلن، ومن أشهرها قنطرة بروكلن المعلقة، وقنطرة مانهاتن، وهذه شاهقة بحيث تمر من تحتها أكبر البواخر، وفي الشوارع أسفلها يمر الترام وفوقه القطار المرتفع، والقنطرة فوق كل أولئك، وضخامتها هالتني كثيرًا؛ فهي تشمل شارعًا للمارة يليه طريق لقطارين Elevators متجاورين «الإكسبريس والعادي»، يليه وسط القنطرة للسيارات الثقيلة والأمنبوس، هذا إلى اليمين ومثله إلى اليسار، وفوق الجانبين دور آخر للسيارات الخفيفة.

وقفت وسط القنطرة وأنا دهش مذهول، وكان منظر القناطر الأخرى، وبخاصة بروكلن والماء من تحتها وواجهة جزيرة بروكلن بناطحاتها الساحقة، رائعًا بديعًا. هنا عَنَّ لي سؤال فاجأت به شابًّا كان يقف إلى جواري على القنطرة، فنظر إليَّ وابتسم وقال: أنت ابن عرب؟ قلت: نعم، مصري، قال: وأنا إسكندراني جئت هنا منذ ست سنوات، ولا تزال عائلتي في الإسكندرية، على أن الكساد الحالي في أمريكا قد أخلاه عن العمل هو وزهاء ستة من المصريين، قلت: ولكن أتظلون عاطلين الوقت كله؟ قال: كلا، فإن الرئيس روزفلت — الذي يحبه العمال حبًّا جمًّا — قد ابتكر نظامًا يوظف به العاطلين ثلاثة أيام كل أسبوع حتى يجدوا عملًا ثابتًا.

fig122
شكل ٥٨: يلعبون الضامة في المتنزهات العامة.
قلت: وكم تُؤْجَرون على ذلك؟ قال: ١٢ ريالًا في الأسبوع، أي ثمانين قرشًا لليوم الواحد، أعني زهاء عشرة جنيهات في الشهر، ولا يكاد ذاك المبلغ يفي بحاجاتنا؛ إذ المعيشة هنا غالية، ومطالب الحياة متعددة، قلت: وماذا كنت تشتغل قبل ذلك؟ قال: اشتغلت عاملًا في عمارة أختص بالرافعة lift، وكنت أتقاضى ٢٥ ريالًا في الأسبوع، أعني عشرين جنيهًا في الشهر. ومن لم يجد عملًا من العاطلين يقيد اسمه في كشف اﻟ Relief ويتقاضى ريالًا في اليوم تدفعه له الدولة. ولقد تمسَّك أن أُرافقه إلى المقهى وأشرب معه كأسًا من القهوة، فأكبرت فيه هذا الكرم، الذي علَّمته إيَّاه مصر بلاد الكرم، وهو من عنصر أجنبي وُلِدَ في الإسكندرية وتمصَّر.
وَدَّعْتُه ثم عرجت في عودتي على المدينة الصينية China Town بشوارعها التي تزينها الكتابة الصينية في بقع عريضة كُتِبَت كلماتها تحت بعضها على شرائح تُعَلَّق إلى جوانب المتاجر، على أني ألفيتها بؤرة فساد؛ إذ آوت جماهير المبتذلات والمومسات، فعجلت بالخروج منها عائدًا إلى قلب نيويورك النابض: Times Square الذي عنده تتلاقى الشوارع الثلاثة الشهيرة: برودوي و٤٢ والطريق السابع 7th Avenue، وتتوسطه عمارة جريدة التيمز الأمريكية N. Y. Times في ناطحة كاملة، وقد شريت عدد يوم الأحد بقرش فألفيته ٧٦ صفحة في أربعة أقسام: المصور والأخبار والهزل والرياضة، وتظل تعلن أهم أخبار اليوم بالضوء المتحرك في حروف كبيرة جدًا ليقرأها المارة جميعًا.

هنا بهرتني أضواء تلك المنطقة وإعلاناتها المدهشة التي تسد الجدران سدًّا، ولقد راقني من بين تلك الإعلانات التي لا حصر لها بحر مائج يغص بالسمك مختلف النوع في ألوان بديعة متحركة، وآخَر من رجل يصب شرابًا أحمر من زجاجة في كأس، وثالث فنجال من القهوة يصعد منه بخار كثيف، وسيجارة تحترق ويصعد دخانها، كل ذلك بالنور المتوهج المتحرك. ومن صنوف الإعلان عن بعض المراقص إقامة تماثيل للراقصين والراقصات تتحرك وترقص في الشكل الطبيعي والأضواء تنعكس عليهم.

أما سيل الناس وبخاصة مساء الأحد، فذاك أمره عجيب، الأكتاف تتلاصق في غير مبالغة، وأينما كنت أسير كان يقودني تيار الناس ودفعهم لي، والسيارات الفاخرة تسد الطرق، وكنا نسمع أصوات الراديو منبعثة من كل سيارة في جلبة كبيرة، وظل جميع الناس إلى بعد الثانية صباحًا وبينهم الأطفال الصغار، ولهم العذر إذ المكان يبهر العقول ويستهوي من الناس الحكيم الرزين، فما بالك بالأطفال ضعاف الأحلام. وكنت كلما هممت بالعودة إلى الفندق لأنام ووجهت خطاي إليه أجدها تساير التيار وتأبى إلا التجول في تلك المنطقة الساحرة.

أما خروج الغانيات والشبان عن الحد المألوف في تبخترهم وعناقهم وتقبيلهم على قارعة الطريق، فذاك ما كان يروعني كثيرًا، فكأن الإباحة قد بلغت هناك غايتها، وامتنع الحياء بتاتًا، والمدهش أن ذلك لم يكن يسترعي من المارة لفتة استنكار أو امتعاض، فالكل راضون بذلك، وهل الحياة في نظر رُوَّاد برودواي إلا هذا المتاع والإسراف في المجون؟!

قمت صباح الاثنين قاصدًا تمثال الحرية، فأقلني القطار المرتفع Elevator إلى الباتري South Ferry، وهناك أخذت الباخرة Ferry إلى جزيرة صغيرة أُقِيَم عليها التمثال الذي أهدته الأمة الفرنسية للولايات المتحدة منذ خمسين سنة، وهو لسيدة تمثل الحرية تمسك بيدها اليمنى شعلة الهدى والحق والحرية مرفوعة إلى السماء، وباليسرى كتاب هو دستور الحرية.
fig123
شكل ٥٩: نشرف على نياجرا وقد أذهلنا بروعته.

وقمة الشعلة تعلو عن مستوى البحر ٣٠٦ قدم، أي زهاء مائة متر، ورأس السيدة تبعث أشعة الحرية كأنها الشمس في لونها الذهبي، وفي الليل تُوقَد تلك الشعلة بالمصابيح الكهربائية، وتلقي أشعة النور من الأركان على جسم التمثال كله فيلتهب وضوحًا وبريقًا، وقد أُقِيمَ على قاعدة من الجرانيت زُوِّدَت بالروافع والدرج التي توصلنا إلى أقدام التمثال، وحول تلك القاعدة نُسِّقَت المتنزهات وزُوِّدَت بالمقاعد.

fig124
شكل ٦٠: على قنطرة نهر شيكاغو.
ولقد هالني جماهير الزائرين الذين يسدون المكان طوال اليوم، وقد أُعِدَّ هناك سجل لقيد أسماء الزائرين، وقد دونت اسمي تقديسًا للحرية وإيمانًا بها، ولما أن عدت ركبت أطول خطوط «الإلفتير»، واخترقت البلدة كلها من أدناها إلى أعلاها from down to up. ولقد استغرقت المسافة بالقطار السريع الإكسبريس ساعة كاملة، قطعت خلالها فوق مائتي شارع وسط تلك الناطحات الهائلة، وذلك على طول 3rd Av، كل ذلك بنيكل، أي قرش واحد رميته في صندوق المدخل، وأدرت الباب وانتظرت هنيهة حتى وفد القطار، وفُتحت أبوابه من تلقاء نفسها فركبته، ثم دق الجرس فامتنع الناس عن الركوب وأقفلت الأبواب وحدها، وسار بنا ينهب الأرض نهبًا.
وهذا القطار يجري من أقصى البلدة إلى أقصاها في أربعة شوارع تكاد تكون متوازية، وفي آخره تجولت في حديقة النبات ببيوتها الزجاجية التي حوت نبات جميع المناطق، ثم عرجت على جانب الحيوان وبه حديقة الحيوان الكبرى، وفي عودتي أخذت قطار تحت الأرض Subway جرى بي على طول شارع 7th Av. والعادة أنه يسير في الشوارع الكبرى التي لا يجري فوقها الترام المرتفع، وهو أسرع الوسائل إذ لا تعوقه علامات المرور، فهو تحت الأرض في سراديبه الخاصة، ولقد دُهِشْتُ لما ألفيت السراديب عليها أربعة أشرطة متجاورة للإكسبريس والعادي Express & Local على الجانب الأيمن يسيران إلى أسفل المدينة down town، ومثلهما على الجانب الأيسر إلى أعلى المدينة Up town، وأجره نيكل أيضًا.
وحدث أنَّ محطتي التي كنت أريد النزول بها شارع ٢٣ لا يقف عليها الإكسبريس، فمر بها ووقف في شارع ١٨، فنزلت وخطوت إلى الجانب الآخر Up town وانتظرت حتى جاء القطار العادي local، فركبته إلى حيث أردت ولم أدفع لذلك شيئًا. إلى ذلك فهناك مجموعة من الترام العادي والأتوبيس الفاخر البديع والبواخر Ferries المتعددة التي تسهل لك الاتصال بأية جهة من المدينة وما حولها من جزائر، وكل ذلك بنيكل ليس غير.
fig125
شكل ٦١: في ناحية من مجازر شيكاغو.

ولهم الحق أن يفاخروا بأن مواصلات نيويورك أرخص وأسرع وأرقى منها في أية مدينة أخرى في العالم، ولقد ساعدها على رواجها هذا وفرة الركاب الذين تغص بهم العربات صباح مساء، فلا تتجاوز المدةُ بين القطار والذي يليه دقيقتين. وقد عددت عربات قطار تحت الأرض فألفيتها عشرًا في كل قطار، كل ذلك ولا تكاد تجد مكانًا خاليًا، وكثيرًا ما تظل واقفًا.

ولعل أفخر ما رأيته من وسائل النقل هناك محطة پنسلفانيا للسكة الحديدية، وقد كنت إخال أن المحطة التي وصلت إليها وافدًا من منتريال Grand central لا يفوقها في الأبهة والفخامة شيء، وإذا بها لا تُذْكَر إلى جانب المحطة الأخرى پنسلفانيا، فبهو المدخل يبهر النظر بمرمره وبريقه، وجمال المتاجر على الجانبين، والأقبية المذهبة فوق الرءوس، وتزين واجهة منه مجموعة من أعمدة كادت تبلغ بعظمتها أعمدة الكرنك، ثم تنزل درجًا إلى بهو آخر فسيح للتذاكر والاستراحات والمطاعم والتلغراف والتليفون والاستعلام، ثم تنزل إلى ثالث عظيم به يقف المسافرون كل فريق أمام مدخل رصيفه Track، وحول مكان مدخل ٢٨ رصيفًا لقطارات مختلفة، والراديو بمكبراته يذيع على الجيوش التي تراها كل لحظة رقم القطار الذي سيقوم الآن ووجهته ومِن أي رصيف يسير، وإذا دخلوا نزلوا دَرَجًا آخر تحت الأرض وركبوا عرباتهم.
عجبت من نزعة الأمريكيين إلى الظهور بمظهر الأبهة والغِنى المفرط في كل شيء؛ فلا يروقهم إلَّا الضخم الطلي من الأشياء، وتقع تلك المحطة في 7th Av. خرجت منها ذاهلًا وأحببت أن ألقي بآخر نظرة على أكبر ناطحات العالم The Empire State، وكان على مقربة منه، فطفت حوله فزدت إعجابًا به وبالقدرة الهندسية التي أنتجته، وقد أعلنوا في بعض نوافذه السفلى «الفترينات» يحضون الناس على الصعود إلى قمته.

وأذكر من ذلك أنهم وضعوا نماذج كبيرة للبناء إلى جوار برج إيفل ومسلة وشنطن والهرم الأكبر وبرج پيزا المائل، ورُوعِيَت فيها نسب الارتفاع، فكان هو أعلاها، ثم تدرجت الأخرى نقصًا في العلو على الترتيب المذكور، وفي نافذة أخرى أعلنوا عن عدد الزائرين لقِمَّة البناء، فكانوا في الأسبوع الأخير من أغسطس: ١٢٦٤٤، وفاق مجموع من زاره إلى آخر أغسطس ٢ مليون ونصف، دفع كل منهم ريالًا أجرًا للصعود، أعني أنهم ربحوا من وراء ذلك نصف مليون جنيه، ثم ذكروا الدول المختلفة التي ينتمي إليها أولئك الزائرون، ومن بينها مصر، ثم نشروا جميع أعلام تلك الدول — وكان علمنا الأخضر الجميل ظاهرًا بينها — كل ذلك ليستميلوا الناس إلى الصعود فيربحوا من وراء ذلك مالًا وصِيتًا.

أحسست بالجوع عاجلًا هذه الليلة لأن غدائي كان مفاجأة غريبة؛ فلقد رأيت في إعلان الطعام الذي يضعونه على مقدم مطاعمهم بالخط الكبير وعليه الثمن، أن الطبق الخاص Special dish اليوم هو Hot dog، ومعناه الكلب الحار، فأحببت أن أتذوق لحم الكلاب الذي يحبه القوم حبًّا جمًّا — لكثرة وروده على ألسنتهم وفي إعلاناتهم — وإذا به مجموعة من لحوم مقطعة تحكي البسطرمة حُشِرَت في أغشية حمراء أسطوانية تحكي المُنْبار.
fig126
شكل ٦٢: الساحل الذهبي مقر مليونير شيكاغو.
تناولتها في غير شهية ظنًّا مني أنها من لحوم الكلاب، ولما أن استفسرت عنها آخِر الأمر ضحك الرجل وقال بأنها من لحوم البقر، وقد سُمِّيَت كذلك لأن الكلاب تحب رائحتها حبًّا جمًّا. دخلت في المساء مطعمًا للعشاء، وهنا كان رأس الطعام صيني الأصل يُسَمَّى chop suéy، ويُعْلَن عنه بحروف كبيرة من نور أمام المطاعم، لذلك خلته شهيًّا، وإذا به خليط من نثير لحم البقر وشرائح البصل والشكوريا، صُبَّت عليه الصلصة فبدا كالعجين الأحمر، فتناولته على مضض مني لأن مذاقه كان منفرًا، ولم ينقذني من الجوع سوى الحساء والخبز والزبد. وذلك يُقَدَّم مع كل طعام، ثم فطير التفاح Apple pie وفنجال القهوة مع اللبن، وذاك نظام طعامهم العادي، وقد كلفتني تلك الوجبة ثمانية قروش مصرية.
انحدرت بي قدماي إلى كعبة أهل نيويورك وزائريها: برودواي وشارع ٤٢ و7th Av، فكانت الحالُ كما تراها كلَّ ليلةٍ: بحر زاخر من الناس من مختلف الأرض، وكنت أسمع كل فريق من المارة يتكلم بلغة مختلفة: فرنسية وطليانية ويونانية وعربية وإسبانية إلخ، وحتى اللغة الإنجليزية التي يتكلمها السواد الأعظم من أهل نيويورك، بل وأمريكا، محرفة دخلها كثير من الكلمات الغريبة.

ولم يكن يروقني سماعها منهم، فقد أكسبوها اعوجاجًا وإضعافًا أفقدها موسيقى النطق الذي نسمعه من الإنجليز، وبخاصة السيدات، وذلك طبيعي بين أمة قد تألفت من عناصر متباينة وجنسيات عدة توطنوا في البلاد، ولم تتأصل في ألسنتهم اللغة الإنجليزية، أما عن اللحن والتكسير في قواعد اللغة فذاك لا يكاد يخلو منه أحد هناك.

طفقت أتجول هناك وأنا مبتهج بما أرى من أنوار وأزياء، طروب لما أسمع من ضوضاء حركة المرور الصاخبة التي كانت تنغصني بادئ الأمر، ثم ألفتها فأحببت سماعها: من صياح الناس يعلنون عن ملاهيهم، إلى صوت العجلات، إلى غناء الراديو المنبعث من كل سيارة، إلى جلبة «الإلفتير» فوق الرءوس، و«السبوي» تحت الأرض. وكان صوته ينبعث من النوافذ التي تشغل كثيرًا من أرض الطرق في شباك حديدية لا يفتأ بين آن وآخر يتفجر منها دخان وبخار ساخن هو الهواء الفاسد الذي تطرده مضخات التهوية، وتعيضه بغيره من الهواء البارد المنعش.

ومن تلك القطارات ما يسير فوق بعضه، فهناك ثلاثة أدوار «للسبوي» الواحد تحت الآخر، وفوق أولئك ترام الأرض العادي، وفوق ذلك «الإلفتير»، وقد يكون من دورين؛ قطار يجري فوق الآخر، أعني أن وسائل النقل قد تشغل ستة أدوار بعضها فوق بعض. كل ذلك يُحْدِث جلبة تقلق راحة من يحل البلد لأول وهلة، لكنه لا يفتأ يعتادها فينفر من السكون، ويعده ضربًا من الوحشة المقلقة، وذلك ما كنت أحسه أنا آخر الأمر. وعند منتصف الليل رجعت إلى الفندق، وكان جو اليوم حارًّا بعد أن كان أميل إلى البرودة في الأيام السالفة.

والجو في نيويورك سريع التقلب، فبينا تجد الشمس صاحية وَضَّاءة والهواء عليلًا، إذ به ينقلب في ساعة واحدة فيحجب السحاب الشمس، وقد يمطر وابلًا أو يعم الجو شبه دخان يخفي الكثير من جمال مناظر البلدة وما أحاطها من بحار وجزر وناطحات، وذلك هو السائد في جو نيويورك إذ قلما يصفو الجو يومًا بأكمله.

fig127
شكل ٦٣: نجلس على حافة خانق نياجرا ومن ورائنا الشلال.
ودعت نيويورك ظهر يوم الثلاثاء ٨ سبتمبر مستقلًا الباخرة Saturnia الإيطالية، بعد أن أفلتت مني الباخرة Rex ملكة البواخر الإيطالية، وحمولتها ٥٣ ألف طن. أما هذه فزهاء نصفها حجمًا، لكني ألفيتها عظيمة فاخرة البنيان والأثاث، فسيحة الأبهاء والحجرات، شهية الطعام — والإيطاليون معروفون بجودة الطهي إذا قُورِنُوا بالإنجليز — وهل أنسى صنوف المكرونة البديعة التي لم تخل منها وجبة أبدًا؟ أو قناني النبيذ بلونيه الأحمر والذهبي الذي يتلألأ فوق مناضد الطعام جميعها في كل آنٍ، والذي يشربه القوم بدل الماء في إسراف شديد، فلا يفتأ الواحد يفرغ القنينة الكبيرة ويعقبها بثانية فثالثة.

أخذت الباخرة تتنحى عن أرصفة نيويورك ومينائها الصاخب العظيم، فتجلت ناطحات السحاب في روعتها الكاملة، وأخذت هذه تنضمر وتتوحد كلما بعدنا حتى أضحت شبحًا فاترًا، ثم غابت عن الأنظار. وكانت وجهتنا بسطن.

(١٧) بسطن

أكبر بلاد ولاية ماستشوستس، وقد أُعْلِنَ على لوحة الباخرة أنَّا سنصلها صباحًا؛ الأربعاء، ولما أن استيقظنا في الصباح ألفينا الباخرة واقفة في غير حراك وقد أحاطتها حجب كثيفة من الضباب ألزمتها الوقوف، وحرمت عليها السير خشية أن تصطدم بصخرة أو باخرة أخرى، ذلك لأنَّا كنا نحاول عبثًا أن نبصر بشيء على بعد أمتار قليلة من الباخرة ولم تُجْدِ مناظيرُنا في ذلك شيئًا. وتلك المنطقة عُرِفَت منذ القدم بخطر الملاحة فيها لأنها وسط بين تلاقي التيارين: مياه تيار الخليج الدافئ وافدة من الجنوب، ومياه تيار لبرادور البارد تقد من الشمال؛ فتكثف كثيرًا من أبخرة الجو في سحابات قاتمة هي ذاك الضباب الثقيل، وقد يسمون هذا الحجاب أو الستار الثقيل The cold wall بالحائط البارد؛ لأنه يقف سدًّا كالحائط يُشع برودة وبللًا.

لبثت الباخرة واقفة تعلن عن مكانها بالأجراس والأبواق لتنبه البواخر الأخرى اليوم كله إلى الساعة السادسة بعد الظهر حين انجلى ذاك الضباب، وكنا نخاله سيخف حوالي العاشرة صباحًا عندما تعلو الشمس وتبخره، لكنه أدهشنا بركوده طوال اليوم، وقد حل ذلك بالكثير من السفن الماخرة في تلك المياه، ولقد أعلنت الجرائد عن هذا الضباب الذي عاق سير الكثير من السفن وقالت بأنه أسوأ ما وقع في فصل الضباب كله هذا العام.

fig128
شكل ٦٤: بعد أن نزلنا من الباخرة تورنتو على بحيرة أنتاريو.
نزلنا بسطن بعد أن جزنا مجموعة كبيرة من جزائر عند مدخل مينائها، ولقد ظهرت فاترة وسط دخان المصانع المحيطة بها، وهي مدينة المنسوجات على اختلافها. وأخذنا نخترق نواحيها فكانت المباني عظيمة شاهقة، لكنها تطل على شوارع ضيقة متلوية، فكلما سرت قليلًا انعطف بك الطريق يمنة ويسرة، وتكاد تُكْسَى جميعًا بطبقة سوداء قذرة منفرة من الفحم المنبعث من دخان المصانع. وأدهشني ما رأيته من القطار المرتفع Elevator الذي يجري في خط واحد فوق الرءوس، ثم لا يفتأ ينزل إلى تحت الأرص فيصبح Subway، فكأنها جمعت بين وسيلتي النقل العظيمتين اللتين في نيويورك.

والمدينة أقدم بلاد أمريكا، والذكريات التاريخية تحوطها من كل جانب، فهي مهد الثورة الأمريكية، وفيها بدأت أول شعلة لحرب استقلال أمريكا، وكانت مقرًّا لزعماء تلك الثورة.

فلقد زرنا الكنيسة القديمة التي أُقِيمَت سنة ١٦٠٣، والتي عُمِّدَ فيها بنيامين فرانكلن، ثم مررنا بالبيت الصغير الذي وُلِدَ فيه، وقد أبصرنا بالمكان من المزارع المحيطة بالمدينة الذي بدأت فيه أول مناوشة قاوم فيها الفلاحون الإنجليزَ بالسلاح، حين خطب زعيم الرعاع في الناس قائلًا: اثبتوا في أماكنكم ولا تطلقوا النيران حتى يعتدوا عليكم؛ فإن رغبوا في الحرب فلنبدأها في هذا المكان: Stand your ground, don’t fire unless fired upon, but if they mean to have a war, let it begin here.
ثم زرنا دار البلدية القديم The Old State House الذي بُنِيَ سنة ١٧١٣، والذي قام وشنطن يخطب الناس من شرفته الصغيرة ويقرأ تصريح الاستقلال والانسلاخ عن الإنجليز Declaration of Independence، وأمام تلك الشرفة وسط الميدان الصغير وُضِعَت علامة من الحجر الأبيض لتدل على مكان مذبحة بسطن التي سُفِكَت فيها أول دماء الثورة سنة ١٧٧٠. ثم كانت زيارتنا لمهد الحرية قاعة فايناي Faneuil Hall التي قُرِّرَت بين جدرانها عناصر الثورة وبنود الاستقلال سنة ١٧٦٣.
ومن الكنائس القديمة كنيسة المسيح Christ Church التي عُلِّقَت فيها المصابيح سنة ١٧٢٣ لتنبه Paul Revere بزحف الجنود الإنجليزية.
وأخيرًا اعتلينا ربوة بنكر Bunkers التي كانت مقر الموقعة الحاسمة Bunker Hill Battle بين الأمريكيين والإنجليز، ويقوم عليها نصب تذكاري لانتصار أمريكا، وهو عبارة عن مسلة شاهقة علوها ٢٢١ قدمًا ارتقيناها بنحو ٢٩٤ سلمًا. ومن نوافذ الذروة بدت المدينة في منظر بديع رغم ما أحاطها من دخان وضباب. وقد بدأ بناؤها سنة ١٨٢٥، وتم ١٨٤٣، كل تلك الذكريات أحلت المدينة من نفسي مكانًا ساميًا، فهي أقدم المدن الأمريكية وأقدسها، ويعدها القوم كعبتهم يحجون إليها، ويزورون تلك الأماكن الخالدة، ويترحمون على مقابر قادتهم وأبطالهم الذي ماتوا ودُفِنُوا في رحابها دفاعًا عن استقلالهم وحماية لحريتهم.
ولقد كان طريق عودتنا من الشارع الرئيسي للمدينة الذي تقع عليه أكبر المتاجر وأروع الأبنية، ويُتَوَّج باسم زعيم حركة استقلال أمريكا جورج وشنطن. ولم ندرك متحفها الشهير Agassiz Museum الذي حوى مجموعة قيمة من مختلف الزهور في أحجامها المختلفة وألوانها البديعة، وكلها من الزجاج صُنِعَ في مصانع المدينة، وليس له نظير في العالم أجمع.

ولقد كان يسود جو المدينة شيئان: المظهر الصناعي الذي كان يبدو في كثرة المداخن وسواد الأبنية، ورث الثياب التي كان يرتديها غالب المارة وهم طبقة العمال، والشيء الآخر رائحة السمك التي كانت تنبعث من كل الأرجاء، وبحار بسطن تُعَدُّ من أكبر مصائد الأسماك في الدنيا؛ بفضل قربها من مياه شط نيوفوندلند نهاية دفء تيار الخليج، وكثرة الضباب الذي يجد السمك تحته غطاءً ومخبأً، وتُعَدُّ ضاحيتها التي تُسَمَّى جلوستر من أغنى بلاد الدنيا؛ لأنها أغنى المناطق هناك بصيد السمك وإعداده.

fig129
شكل ٦٥: أشرف على نهر أتاوة من ربوة البرلمان.

وعجيب أمر هذا الضباب؛ فما كدنا ندخل الميناء ونقف بها بضع ساعات حتى عاد فخيم علينا من كل ناحية، ثم انجلى ساعة واحدة سلكنا سبيلنا فيها إلى عرض المحيط، وها نحن اليوم الخميس نشق طريقنا خلاله في بطء شديد، ولا نكاد نبصر بشيء قط، ولا تفتأ الباخرة تعلن عن مقرها بالأبواق والأجراس، ولبثنا هكذا يوم الجمعة كله حتى أخذ ينجلي تدريجًا. أما الجو فكان باردًا منعشًا، والبحر هادئًا وديعًا. واليوم السبت فقط سطعت الشمس وصفا الجو؛ لأنَّا بعدنا عن أطراف هذين التيارين.

ولقد أذكرني ذاك الضباب بفاجعة الباخرة تيتانيك التي كانت تعبر المحيط لأول مرة بعد بنائها سنة ١٩١٢، وكانت تفاخر بأنها أحدث البواخر التي شقت المياه وأكبرها، وكان آلاف الركاب آمنين على أرواحهم واثقين برسوخ قدم مطيتهم على سطح الماء، وما أن أوغلت في ذاك الضباب إلى الشمال من منطقتنا هذه حتى باغتها جمد من الجليد لم تَنمَّ عنه حُجبُ الضباب الكثيفة، فحطم جانبها وغرقت. وقد أودت بحياة الألوف من المسافرين؛ لذلك لا يغامر قواد السفن اليوم في تلك المنطقة إذا أحاطهم ضبابها، ويجب أن تظل الباخرة واقفة حتى تخف وطأة تلك الظلمات.

نزل الباخرة من بسطن جمع كبير من المسافرين، وجلهم من الطليان والإغريق الذين توطنوا أمريكا، وقد حنوا إلى أوطانهم فعادوا يزورون أهلهم هناك، وبعضهم يعتزم العودة والكثير يؤثر أن يقيم في بلاده الأولى بعد أن حمل معه ما جمع من ثروة ومال، خصوصًا وأن المقام في أمريكا اليوم لا يعود عليهم بكبير فائدة؛ لأن الضائقة المالية لا تزال آخذة بمخنق الكثير في تلك الديار.

fig130
شكل ٦٦: دار البرلمان الفاخرة في أتاوة.

وممن ركب الباخرة زهاء مائة طالب من مختلف بلاد إيطاليا استقلوا الباخرة، وقد مروا على الكثير من ثغور البحر الأبيض والبرتغال وأزورا وبسطن ونيويورك، ثم أقاموا في باخرتهم وهي ترسو هناك خمسة أيام تفقدوا فيها أنحاء المدينة تحت إشراف أستاذ إيطالي. وقد علمت لما أن حادثتهم في هذا الشأن: أن موسوليني فرض على كل باخرة أيًّا كانت وجهتها أن تعد مكانًا في أية درجة فيها لمائة طالب يسافرون معها في رحلتها ذهابًا ورجعة، مقابل نصف أجر الدرجة الثالثة تدفعه الدولة، وذلك لأنه يؤمن بفائدة الرحلات وأثرها في تربية النشء على الاستقلال، وقوة الملاحظة، والرجولة، والاعتماد على النفس.

وقد كان سلوكهم أينما ظهروا مشرفًا؛ فلم نرهم إلا في كامل حللهم يلزمون الهدوء، ويبتعدون عن المجون، ولم نلمح أستاذهم بينهم إلا نادرًا، وحتى في حفلات الرقص آخر الليل كانوا يحضرون ويشاهدون ما يقع فيها دون أن يحركوا ساكنًا. أكبرت تلك النزعة المصلحة في زعيمهم موسوليني الذي لا يدخر وسعًا في تكوين الرجال الذين ستعتمد عليهم إيطاليا في مستقبلها، وكنت أشعر بالحزن الشديد لنصيب أبنائنا من تلك التربية، وإلى متى تظل حكومتنا غافلة عن أبنائها؟ وهل يكلف وزارة المعارف مثل ذاك الأمر إلا القليل من المال؟ به يرى المصريون العالم الخارجي فتتسع مداركهم، ويرون بعيونهم كيف يغامر أبناء الأمم الأخرى طلبًا للرزق الوفير في أقصى الأرض، غير قانعين براتب ضئيل تمن عليهم به حكومتهم في وظيفة لا تلبث أن تقتل فيهم روح العمل وحب البحث، أليس ذلك أجدى على الطلبة مما يدرسون في مدارسنا، وما يحرزون من «شهادات»؟ إني لأرجو أن يلمس رؤساؤنا ما لذلك من أثر جليل في التربية، ويعدوا العدة لإنفاذه، وها نحن على أبواب عصر جديد، وقد زالت عقبة السياسة التي كانت تقف في سبيل كل تقدم، وتعترض كل محاولة للإصلاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤