شيرين وعبد الحميد

دُعِيت شيرين لمقابلة السلطان فتجلدت جهد طاقتها، ودخلت واليشمك يغطي رأسها ومعظم وجهها، وكان عبد الحميد عند دخولها يخطر في تلك الغرفة مظهرًا عدم الاكتراث، فألقت التحية ووقفت. فأشار عبد الحميد إلى نادر أغا أن ينصرف وأومأ إليها أن تقعد، فظلت واقفة وهي تسترق النظر إلى وجهه فرأت الشرر يكاد يتطاير من عينيه، ثم رأته يقعد على كرسي وهو يومئ إليها أن تقعد على كرسي بين يديه فقعدت وقد امتُقِع لونها، وأدرك هو ما بها فابتسم وقال: «أنت شيرين؟»

قالت: «نعم يا مولاي.»

قال: «يظهر لي أنك من أهل الذكاء والإخلاص، فعساك أن تكوني قد حملت إلينا خبرًا يهمنا كما قلت.»

فارتبكت، ولكنها تمالكت وتجلدت، وتصورت أنها تطلب نجاة رامز حبيب قلبها فقالت: «نعم يا مولاي، إني لم أقدم على هذه الجرأة إلا عن إخلاص وصدق نية.»

فقال: «قولي واصدقيني، واعلمي أنك في حضرة أمير المؤمنين.»

فأشارت إشارة الاحترام وقالت: «إن ذلك شرف لي.» وسكتت وهي تود قبل الكلام أن تعرف ما إذا كان رامز هناك وماذا جرى له، وأدرك عبد الحميد ما يجول في خاطرها فأراد أن يجعل رامزًا وسيلة لإقرارها فقال: «قد علمت السبب الذي حملك على المجيء إلينا وتكبدت هذه المشقة من أجله، ويظهر أنك خائفة فلا تخافي إذا كنت تنوين الإخلاص في قولك، وإلا فإنك …» وسكت.

فتوسمت في كلامه شيئًا مما خطر لها فقالت: «أقسم لمولاي لا أقول غير ما يدعوني إليه الإخلاص و…»

فقطع كلامها قائلًا: «وقبل أن تقولي شيئًا اعلمي أنك تتكلمين عنك وعن رجل آخر يهمك أمره، وهو في خطر القتل الآن.»

فلما سمعت لفظ القتل أجفلت وقالت: «من يعني مولاي؟! هل رامز هنا؟!»

قال: «هو هنا في حوزتنا، وقد خاطبناه وسألناه سؤالًا جعلنا حياته رهنًا بصدقه في الجواب عنه لكنه لم يستطع التصريح بكل شيء، لأنه أقسم الأيمان المغلَّظة على الكتمان فلم يبقَ سبيل إلى نجاته، فهو مقتول حتمًا إلا إذا أنقذته بصدقك.» قال ذلك وهو يراقب حركاتها خلسة، فرآها ارتبكت في أمرها وامتُقِع لونها وقالت: «وما الذي يطلبه مولاي مني؟»

قال: «إني أطلب شيئًا يسهل عليك كثيرًا، ولا ريب عندي أن رامزًا لولا تقيده بالقسم لذكره بعد أن تحقق أنه مخدوع، وربما رجع إلى صوابه في الغد. أما أنت فلا يربطك قسم فأنقذيه وأنقذي نفسك، ولا أكلفك شيئًا غير التصريح لي بأسماء مؤسسي الجمعية التي تسمونها جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك، وبذلك تنجين نفسك كما ينجو رامز وكثيرون غيره ممن قد يكونون مثله أبرياء، ونحن لا نحب أن نأخذ البريء بجريرة المجرم.»

فعجبت من أن يكون رامز قد تساهل في أمر الجمعية وأن يكون الثبات الذي تعهده فيه قد زايله، لكنها ما لبثت أن عادت إلى صوابها وتذكرت ما يقال عن دهاء عبد الحميد، وتفرست في عينيه فأدركت بشعورها النسائي أن ذلك الطاغية يخادعها، وأن رامزًا لا يمكن أن يبوح بشيء، فقالت: «إني يا سيدي قد طلبت المثول بين يدي جلالة البادشاه لأتلو عليه أشياء تتعلق بالدولة ربما لم تُبلَّغ إليه بعد، ولو علم حقيقتها لأوقع القصاص بمرتكبيها.»

فرأى عبد الحميد أن تعريضه برامز لم يغير عزمها، فأراد أن يسايرها فقال: «ماذا تعنين؟»

قالت: «أعني أن الذات الشاهانية تصل إليها أخبار الدولة على أيدي أناس يتكسبون بالكذب والرياء، فيزينون لجلالة السلطان غير الواقع التماسًا لرضاه، ويكتمون الحقيقة وهم يعلمون، ويقفون سدًّا بينه وبين رعاياه الصادقين المخلصين.»

فوجد في نغمتها نغمة حبيبها رامز، فرأى أن يخادعها فقال: «قولي ما في خاطرك، إني أحب الاطلاع على الحقيقة.»

قالت: «إن حالة الدولة في اضطراب شديد، والجمعية التي تألفت في سلانيك لا يُستهان بها، وأعضاؤها أخلص الرعايا لجلالة السلطان، فلو أن جلالته استخلصهم لأنقذ الدولة من مهاوي الانحطاط ومن مخالب الأجانب. إن مطاردة جمعية الاتحاد والترقي لا تفيد شيئًا، لأن الأمة كلها ناقمة على الحالة الحاضرة لما تمكَّن من الفساد في جسم الدولة بما يراه الناس من استئثار رجال القصر بالأموال لا يهمهم أخربت البلاد أم عمرت، وقد أدرك هؤلاء هذه الحقيقة فأصبح همهم منصرفًا إلى جمع الأموال لأنفسهم، تفانوا في اقتناء العقار، وخبأ العارفون منهم ثروتهم في مصارف أوروبا وأمريكا، وطلبوا أعلى الرتب والمناصب فنالوها، واستفادوا من الحالة الحاضرة بقدر ما أمكنهم، ولم يفكر أحد منهم إلا في نفسه وأولاده ثم في الأقرب فالأقرب من عائلته. واستماتوا في الوصول إلى السعادة ونفوذ الكلمة بالتقرب من جلالتكم، واستحوذوا على مناصب الدولة ورتبها ونياشينها وألقابها، وقد جرت العادة بإعفائهم من الخدمة العسكرية هم ومن انتسب إليهم. حتى سقط اعتبار الدولة في عيون الأجانب، وأصبح العثمانيون المقيمون في البلاد الأجنبية أنفسهم يستنكفون من الانتساب إلى الدولة العثمانية، ولا يرون علاجًا لهذه الحالة إلا الرجوع إلى الحكم الدستوري لاكتساب ثقة الدول، بعد أن كانت نتيجة الحكم الاستبدادي خروج كثير من الإيالات العثمانية إلى سلطة الأجانب أو الاستقلال، كما حدث في الفلاخ والبغدان والروملِّي الشرقية والبوسنة والهرسك والجبل الأسود والصرب وقبرص وتونس وتساليا ومصر والسودان وغيرها، وعدد سكان هذه البلاد يزيدون على ثلاثين مليونًا كلهم خرجوا من سيادة الدولة العثمانية بسوء سياسة أولئك المقربين. ولا ريب عندي أن جلالة السلطان مخدوع بما ينقله إليه المتملقون الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية، وقد أصبحت أكثر أموال الدولة تُنفَق عليهم وسائر أهل المملكة في جوع حتى الجند.»

•••

كانت شيرين تتكلم والاهتمام بادٍ في عينيها، وكان صوتها في بادئ الأمر يرتجف وينقطع، ثم انطلق لسانها وفاضت قريحتها، ولم تتم كلامها حتى كلل العرق جبينها، والسلطان مطرق يسمع ما تقوله ويعجب من جسارتها، ويكاد يتميز غيظًا من أقوالها، وحدثته نفسه أن يذهب بحياتها في تلك اللحظة بطلق ناري من مسدسه، لكنه كظم غيظه التماسًا للوصول إلى غرضه، وهو الاطلاع على سر تلك الجمعية، فقال وهو يظهر الإعجاب بما سمعه: «يسرني أن يكون في مملكتي نساء لهن هذه المعرفة وهذه الغيرة. إن أمة فيها أمثالك لجديرة بالدستور، وكم كنت أود أن أعرف زعماء هذه الحركة لأباحثهم ونتفق على طريقة للنجاة من الخطر! وأراك مع ذلك تكتمين عني أسماءهم، وأنا ألومك على ذلك، لأنك لو أخلصت الخدمة لذكرت بعض الذين تظنين فيهم اللياقة لهذا التغيير، ولعلك تفعلين بعد الآن إذا تحققت أني أشد غيرة على هذه الدولة من سواي.» قال ذلك وأظهر عدم اهتمامه باستطلاع سر الجمعية لعل ذلك يهون عليها الإقرار.

أما هي فظلت ساكتة، وقد كادت تصدق ما قاله عبد الحميد من رغبته في الإصلاح. على أنها فضلت السكوت لأن شعورها حملها على سوء الظن بما سمعته، وعادت إلى أمر رامز وأحبت أن تحتال لمعرفة حقيقة حاله فقالت: «إني لا أعرف شيئًا عن أعضاء هذه الجمعية، ولعلي إذا اجتمعت برامز أن نتعاون على خدمة جلالة السلطان في هذا الشأن.»

فأدرك عبد الحميد أنها تكذب، وأنها إنما تحتال للاجتماع به للتعاقد على الإنكار، لكنه أظهر الاقتناع بقولها وقال: «سوف أجمعك به.» ووقف ونادى: «نادر أغا»، فجاء فأشار إليه أن يأخذها إلى محبسها ويعود.

فلما عاد قال له عبد الحميد: «اخفِ هذه المرأة عن عيون الناس كافة، واحذر أن تعرف مكان خطيبها أو يعلم هو أنها هنا.»

فأشار مطيعًا وهمَّ بالخروج فناداه وقال: «ماذا تم في أمر القادين ج؟»

قال: «ستُقتَل الليلة».

قال: «أجِّل ذلك وأبلغها أني اشتقت لرؤيتها، فلتأتِ إليَّ بعد القيلولة لتلبسني ثيابي وحدها. وأظنها ستفرح بذلك كثيرًا.»

فقال: «إنها ستُجَنُّ من الفرح طبعًا.»

فضحك عبد الحميد وقال: «افعل كما قلت لك.» فأشار مطيعًا وخرج.

ثم عاد عبد الحميد إلى مناجاة نفسه قائلًا: «لا يقدر على كشف هذا السر منها إلا تلك القادين الداهية، إنها خبيرة بأساليب الدهاء، وهي تحبني. وعلى كل حال سأكلفها القيام بهذه المهمة ثم أرى ما يكون.»

وذهب عبد الحميد بعد الغداء إلى غرفة المنام، وبعد القيلولة أتت القادين ج وقد أصلحت من شأنها، وكادت تطير من الفرح بهذه الدعوة التي يحسدها عليها سائر نساء القصر، لا سيما بعد أن أهملها مدة طويلة وهي لا تعرف ذنبها.

فلما دخلت علية حيته بالطريقة المعتادة ووقفت تلتمس إشارة، فقال لها وهو يمازحها: «أظنك إذا شُغِلت أنا عنك بمهام السلطنة لا أخطر ببالك.»

فقالت بلهفة: «العفو يا مولاي، إني أمَتك وطوع إشارتك، وأنت مالك الرقاب والقلوب، إني أقبل موطئ قدميك وأتفانى في …» وتنهدت وتشاغلت بتقديم الدرَّاعة لتلبسه إياها.

فأدرك أنها تشير إلى حبها الشديد له فقال: «تزعمين أنك تحبينني؟» ومد يده ليدخلها في كم الدراعة. فقالت وهي تدير الدراعة نحو يديه: «إني أعبدك يا سلطاني ومولاي … إني لا أجد عبارة أعبر بها عن حبي.»

فقال: «وأنا أيضًا أحبك كما تعلمين، ولكنني شُغِلت عنك وعن سواك بقيام بعض الغلمان الملاعين في سلانيك بتأليف جمعية سرية وهم يزعمون أنهم من الأحرار. وأنا لا أخافهم طبعًا، ولكنني أحب أن أعرف من هم، فأذكرني ذلك صادق خدمتك في الماضي. هل رأيت الفتاة المقدونية التي أتتنا بالأمس؟»

قالت: «وأنَّى لي ذلك وأنا في قصري لا أخرج منه؟»

قال: «إن هذه الفتاة اسمها شيرين، قدمت نفسها لي في الصباح، وهي خطيبة أحد أولئك الغلمان، ولا شك أنها تعرف أعضاء الجمعية ولكنها تتكتم. وأنا لم أشأ أن أسألها لئلا ترى مني اهتمامًا بأمرهم، ولا أحب أن أكلف أحد الجواسيس باستجوابها، وأنا أعهد فيك الذكاء واللياقة، فهل تقدرين على القيام بهذه الخدمة لصاحبك القديم؟»

فأثر ذلك التعبير في قلبها، وأذكرها أيامًا كان يظهر لها فيها تقربًا، وقالت وقد أبرقت أسرتها: «إني أفعل ذلك على الرأس والعين.»

وكان قد فرغ من لبس ثيابه فقال: «سآمر نادر أغا أن يأخذها إليك لتمكث معك بحجة الاستئناس بك، فابذلي جهدك في استطلاع ذلك السر منها في أقرب وقت بدون أن تشعر، فهمت؟»

فأحنت رأسها إشارة الطاعة وقالت: «إني أغتنم مثل هذه الفرصة لأبرهن لسيدي وحبيبي على أني ما زلت أتفانى في خدمته.»

فابتسم لها وقال: «لكن احذري أن تعرف شيئًا منك، خذي منها ولا تعطيها.»

فقالت: «على الرأس والعين.» وخرجت.

ثم نادى عبد الحميد نادر أغا وأمره بما ينبغي اتخاذه من الإجراءات.

•••

عاد رامز بعد أن خلا إلى نفسه في قصر مالطة فأخذ يفكر فيما مر به في ذلك اليوم وما سمعه من عبد الحميد، وقد مال إلى الاعتقاد بأن الناس يظلمون هذا الطاغية بسوء ظنهم فيه، وأنه إنما يرتكب ما يرتكبه بإغراء أهل القصر المحيطين به. وقضى بقية ذلك اليوم وهو ينتقل في ذلك القصر من الشرفة إلى النافذة إلى حجرة الجلوس إلى المائدة، وأفكاره تائهة فيما عساه أن يتم على يده من الخير للدولة وللأمة، وتوهم أن أهل القصر صاروا أكثر إيناسًا له واحتفاءً به. وكثر تفكيره في شيرين، وود لو أنه يستطيع تبليغها تلك البشارة لئلا يقتلها اليأس من بقائه. وتذكر أباه وكان قد كثر ترداد صورته إلى ذهنه منذ دخوله يلدز لاعتقاده أنه فُقِد هناك، وإن لم يقطع الأمل من بقائه.

وبعد العشاء ذهب رامز إلى فراشه وقد طار النوم من عينيه لفرط تأثره من حديث ذلك اليوم، وبينما هو يتقلب على الفراش وقد أُطفِئت المصابيح إذ سمع وقع خطوات بباب الغرفة أعقبتها نقرات خفيفة، فجلس على الفراش ونظر نحو الباب وأنصت فرأى نورًا يتخلل شقوقه، فعلم أن شخصًا قادمًا إليه بالمصباح فوثب إلى الباب ففتحه، فوجد خادم القصر وبيده قنديل فسأله عما يريده فقال: «إن رسولًا جاء يدعوك.»

فقال: «إلى أين؟» قال: «إلى خارج القصر، لا أدري إلى أين.»

قال: «من هو؟» قال: «أحد حجاب البادشاه. ولعله يطلب ذهابك إلى جلالته.»

فتوسم في تلك الدعوة خيرًا لما سبق إلى اعتقاده من حسن الظن، فأسرع إلى ثيابه فلبسها وأصلح من شأنه، وخرج فوجد حرَسيًّا في انتظاره ويومئ إليه أن يتبعه. فمشى في أثره بين الأشجار، وقد خيم الظلام وأوت الحشرات والهوام وهدأت الطبيعة، فلم يسمع في ذلك المكان غير وقع خطواتهما، حتى وصلا إلى الشارع المحيط بسور الحديقة الداخلية وفيه بعض الأنوار، فعرجا منه إلى باحة يلدز المؤدية إلى القصر الصغير فتصور رامز أن الحرسي ذاهب به إليه، ولكن ما لبث أن رآه عرج في طريق إلى اليسار بين الأشجار حتى وصل إلى باب قصر فخم، فأخرج الحرسي مفتاحًا من جيبه فتح به الباب ودخل وأشار إلى رامز أن يتبعه، فتبعه إلى فناء يتطرق منه إلى دهليز في اليسار يؤدي إلى غرف يستطرق بعضها إلى بعض. وقد أُنِير الدهليز بالنور فبانت جدران تلك الغرف، فإذا هي تختلف عن سائر ما شاهده في القصر السلطاني وفي قصر مالطة، لأن الجدران في هذا القصر مبطَّنة بالأنسجة الحريرية الملونة بالألوان الزاهية، وعليها إطارات كبيرة لم يقدر أن يتبينها عن بعد. فلما صارا في وسط الدار أشار إليه الحرسي أنه ذاهب وسيعود إليه، ودخل من الباب الأيمن المقابل للدهليز وأغلقه وراءه.

فاغتنم رامز تلك الفرصة ودخل تلك الغرفة وهي مفروشة بالسجاد الثمين، ونقش سجاد كل غرفة يلائم ألوان الأطالس المكسوَّة بها جدرانها، ولكل غرفة نقش خاص بألوان خاصة. وآنس في المكان هدوءًا يدل على خلوه من السكان، فعلم أنه من القصور التي أُنشِئت لبعض المقابلات أو للاحتفال ببعض القادمين، ولم يدرك سبب استقدامه إليه. على أنه تشاغل بالتفرج، فوجد في الإطارات المعلقة خرائط متقنة الصنع، مثل خريطة البوسفور وخرائط الروملِّي والأناضول والأستانة والبحر الأسود، من صنع كبار المهندسين العثمانيين، أكثرها بارز الرسم يمثل حال البلد الطبيعية. فأعجبه أن يكون في رجال الدولة من يستطيع ذلك الرسم الجميل، وتأسف لما حال دون ظهور مواهبهم من المظالم والمفاسد.

وفيما هو يتأمل في ذلك عاد إليه الحرسي وناداه فتبعه، فأشار إليه أن يدخل في الباب الأيمن الذي خرج هو منه فأطاعه، فرأى نفسه في قاعة واسعة لم يرَ مثلها هناك، فيها الرياش الثمين فوق السجاد الجميل، وفيها المناضد عليها آنية البذخ كالساعات المذهبة والتماثيل المزخرفة، وجدران القاعة مكسوَّة بالأطلس الأحمر المغرق بالذهب، وفي سقفها ثريات كبيرة قد أُنِيرت مصابيحها، وعلى جدرانها إطارات فيها خرائط وصور أهمها خريطة الكعبة تمثلها مع ما جاورها مجسمة في غاية الإتقان. ولحظ الحرسي دهشة رامز مما يراه فقال له: «أنت في قصر جيت يا سيدي، وهو من أفخر قصور يلدز. تفضل اجلس هنا حتى يرد إليك الخبر، ولا تخف.» قال ذلك وخرج وأقفل باب القاعة وراءه بالمفتاح.

فاستغرب رامز ذلك ووقف ليتحقق إغلاق الباب فوجده قد أغلق بإحكام وأصبح كأنه هو والحائط قطعة واحدة، ونظر في أطراف القاعة فلم يجد فيها بابًا سواه، فاقشعر بدنه وتوهم أنها أُحبولة نُصِبت له وأنه لا يلبث أن يُقتَل أو يصاب بأذى، لأنه سمع بغرائب أساليب القتل في يلدز، وقول الحرسي «لا تخف» كان سببًا في زيادة خوفه.

ومشى رامز في القاعة معيدًا النظر فيما حوله، لعله يرى بابًا آخر فلم يجد، ومع تألق القاعة بالأنوار أحس بالوحشة كأنه في ظلام دامس، فجعل يتلهى بالنظر إلى الصور والخرائط المعلقة على الجدران حتى ملَّ، فجلس على مقعد بجانب منضدة عليها بعض الكتب وجعل يتشاغل بتقليبها، وعادت إليه ذكرى أبيه: أهو في أحد هذه القصور حيًّا أو سجينًا أم في قاع البوسفور؟

وبينما هو على هذه الحال سمع قلقلة مفتاح فأجفل، ونظر إلى الباب وتوقع أن ينفتح ويدخل الحرسي يخبره بخبر جديد لخيره أو شره، فطالت القلقلة ودلَّه سمعه على أنها في الحائط المقابل له وليس في الباب الذي دخل منه، فنظر إلى الحائط فلم يجد بابًا ولا ما يشبهه، فكذَّب سمعه وأعاد نظره إلى الباب. ثم سمع طقطقة القفل وهو يُفتَح فأصبح يتوقع أن ينفتح الباب، فرآه باقيًا على حاله، ولاح له تغيير في ذلك الحائط، فالتفت نحوه فإذا به قد فُتِح فيه باب دخل منه شبح ملتفٌّ بملاءة بيضاء كأنه خارج من القبر، فاقشعر بدنه ووقف شعره وخفق قلبه فنهض وقد جمد الدم في عروقه، وتوهم أن أباه خارج من بين الأموات أو أن هذا عفريت من الجن شق الحائط وخرج منه على نحو ما جاء في قصص ألف ليلة وليلة. ولم تمضِ لحظة حتى كشف ذلك الشبح الملاءة عن رأسه، فإذا هو عبد الحميد بلباس النوم وعليه برنس أبيض كالملاءة، فدُهِش رامز واستغرب خروجه من الحائط، ولكنه ظل واقفًا مكانه وقد اصطكَّت ركبتاه.

فلما صار عبد الحميد داخل القاعة أغلق الباب وأوصده من الداخل فعاد الحائط كما كان، وتقدم نحو رامز وعلى رأسه عمامة صغيرة وقد التف بالبرنس، وابتسم تخفيفًا لما تولى رامزًا من الرعدة، فاستأنس رامز به وتقدم نحوه وحيَّاه ويداه ترتعشان، فقال عبد الحميد: «لا تخف يا بني، إني جئتك من هذا الباب السري المستطرق إلى القصر لأخاطبك في أمر لا أريد أن يشعر به أحد من أهل هذه القصور.» قال ذلك وهو يقعد على مقعد هناك وأشار إلى رامز أن يقعد.

فقعد رامز وقد اطمأن خاطره وأصبح في لهفة للاطلاع على الغرض من تلك الجلسة السرية. وأما عبد الحميد فإنه لبث هنيهة مطرقًا لا يتكلم وكأنه يفكر في أمر مهم، ورامز ساكت وكله آذان للسمع. ثم فتح عبد الحميد الحديث قائلًا: «لا حاجة بي أن أوصيك بكتمان هذه الجلسة عن كل بشر.» فأشار مطيعًا.

فقال عبد الحميد: «إن حديثك بالأمس عن أهل القصر كان له وقع شديد في نفسي، وما زلت من تلك اللحظة وأنا أفكر فيه فوجدتك مصيبًا، وتحققت أن هؤلاء الأشرار أصل هذه المتاعب، غير أني أصبحت مقيدًا بهم لكثرتهم وكثرة أعوانهم ولا أدرى كيف أتخلص منهم.» وتنحنح وهو يلتفت كأنه يحاذر أن يسمعه أحد، ورامز مصغٍ وقلبه يخفق تطلعًا لما سيسمعه.

فقال عبد الحميد وهو يخفض صوته: «فرأيت أن أستشيرك في الأمر سرًّا، ولم أشأ أن أفعل ذلك في قصري كالعادة لكثرة المراقبين والجواسيس عليَّ وعلى كل ناطق، حتى الخَدَم والطواشية، حتى النساء والجواري فإنهن يتلصَّصن عليَّ لسماع ما يقال. فاخترت هذا المكان وأمرت الحرسي أن يأتي بك إليه لتكون سجينًا فيه بدلًا من قصر مالطة، وأوصيته أن يغلق الباب عليك ويذهب وهو لا يعلم بوجود هذا الباب السري. فالآن نحن هنا في أمان، فما الذي تراه لعلاج هذه الحال السيئة؟»

فاطمأن خاطر رامز، وأصبح لغرابة ما يسمعه يظن نفسه في حلم، ولكنه تأمل فيما هو فيه فتحقق أنه في يقظة فقال: «يأمر سيدي البادشاه بما يريد، فإني طوع أمره بكل ما فيه مصلحة الأمة والدولة.»

فتنهد عبد الحميد وقال: «آه! لقد طالما سمعت كلمتَي الأمة والدولة هاتين ممن يحيطون بي من المتملقين، ولكني أعلم أنهم يخادعونني كما أخادعهم، بل لقد استغرقت في الشطط وارتكبت أمورًا أرجو أن يمحوها الله من سجل أعمالي إذا أنا رجعت إلى الصواب.» قال ذلك وصوته يختنق كأنه يجهش بالبكاء، ورأى رامز في عينيه دمعتين تتلألآن وهو مطرق كالنادم الآسف، فتأثر من منظره وشاركه في البكاء ولم يبقَ عنده شك في صدق قوله لكنه ظل ساكتًا.

فمسح عبد الحميد عينيه وأظهر الاهتمام وقال: «أحب أن أتخلص من هؤلاء المنافقين المحيطين بي، لكنني لا أستطيع ذلك قبل أن أستوثق من أولادي الأحرار الذين أُغرِيت بإساءتهم وهم الآن بعيدون عني، فأحب أن أباحثهم سرًّا ونتفق على طريقة نقضي بها على هؤلاء الأشرار، وننظم حكومة جديدة نحيي بها الدولة وكفانا ما مضى. فما هو السبيل إلى ذلك؟ هل إذا عولت على الأحرار يستطيعون الأخذ بناصري والتغلب على هؤلاء؟ … إني أخاف على حياتي منهم إذا أظهرتُ تغيرًا في سياستي.»

فاعتدل رامز في مجلسه وقد أبرقت أسرته من الفرح وقال: «لا شك يا سيدي أنهم يستطيعون، ولا أخفي على جلالة البادشاه بعد أن رأيت حسن ظنه فينا أن الأحرار هذه المرة ظافرون بلا ريب، لأنهم اجتذبوا الجند إلى حزبهم، ولم يبقَ ضابط في سلانيك أو في غيرها إلا وهو عضو في جمعية الاتحاد والترقي المقدسة فإذا أرادوا عملًا أنفذوه بالقوة، ولا سيما إذا كانت إرادة الذات الشاهانية معهم.»

وكان عبد الحميد يسمع ذلك وقلبه يكاد يتميز غيظًا، لكنه تجلد على عادته وأظهر السرور فانبسطت أسرته وظهر الاستبشار في محياه، فاستأنس رامز بمنظره ورقص قلبه طربًا، ولبث ينتظر ما يقوله عبد الحميد فإذا هو يقول له: «هل أنت على ثقة باقتدارهم على ذلك؟»

قال: «كيف لا وأنا من صميم الجمعية؟ إني واثق بأن الجمعية إذا تأكدت رضى جلالة السلطان عنها تفديه بالأرواح وتقاوم أعداءه أشد المقاومة.»

فقال عبد الحميد: «وما هي الطريقة للمفاوضة معهم في هذا الشأن وأنا سجين في هذه القصور لا أستطيع الخروج منها؟»

قال رامز: «إذا شاء مولاي كنت سفيرًا بينه وبينهم.» قال ذلك وهو لا يتوقع أن يوافقه السلطان على الخروج من سجنه، فرآه قد أظهر الارتياح وقال: «نِعم الرأي هذا! ولكنني أخاف أن يطَّلع أحد من هؤلاء على قصدنا؟»

قال: «لا خوف من ذلك، فان لجمعيتنا طرقًا للتكتم لا سبيل معها إلى معرفة شيء، وقد رأى جلالة السلطان تكتمنا بالأمس وكيف أن أحدنا يعرض نفسه للقتل ولا يبوح بسره، ولا غرض لنا إلا خدمة الأمة والدولة.»

فأطرق السلطان لحظة وقال: «حسنًا، لكنني أود المفاوضة مع زعماء هذه الجمعية في جلسة سرية مثل هذه. إن المخابرة عن بعد لا تشفي غليلًا، وعندي أمور كثيرة أحب تبينها والاحتياط لها، ولا يتم ذلك بالمخابرة عن بعد، وأنا لا يتيسر لي الخروج إليهم كما تعلم.»

فقال رامز: «هم يتشرفون بالمثول بين يدي جلالتكم.»

فقال: «لا أظنهم يفعلون إذ تعوزهم الثقة بي، فإن أهل القصور لم يبقوا للأمة ذرة من الثقة بي.» وغص بريقه.

ولم يكن رامز من أهل الدهاء فاعتقد إخلاص السلطان في كلامه، فقال: «أنا أؤكد لهم حسن ظن جلالتكم، وأحملهم على تعيين وفد يتشرف بالمثول بين يديكم.»

فقال: «لا يسعنا المطاولة في الأخذ والرد، فينبغي أن يكون ذلك الوفد مفوضًا في كل شيء، فتنتهي هذه المشاكل في جلسة واحدة تنتقل بها الدولة من حال إلى حال. آه من هؤلاء المتملقين! كم أغروني بالإيقاع بالأحرار وأقنعوني بأنهم غير أهل للدستور! فالآن أنا ملقٍ حملي عليك وواضع ثقتي فيك، فعسى أن يتم هذا العمل على يدك. وإذا جاء الوفد فليكن مؤلفًا من خيرة الرؤساء العقلاء، وعليهم أن يظهروا أنهم آتون لمشروع اقتصادي أو علمي أو نحو ذلك.»

فأشار رامز مطيعًا وقلبه يرقص طربًا ولا يكاد يصدق أن عبد الحميد يطلق سراحه، فقال: «ومتى يأمر سيدي بمباشرة ذلك؟»

قال: «تذهب في هذه اللحظة، تخرج من هذه القصور من باب سري أرشدك إليه على يد أحد ثقاتي دون أن يدري أحد بخروجك، فإذا أصبحوا في الغد ظنوا أنك فررت. وإنما ينبغي المبالغة في كتمان ما دار بيننا عن كل أحد حتى تصل إلى الجمعية وتعرض هذا الرأي في جلسة سرية. فهمت؟» فأشار برأسه ويديه أن نعم.

وبلغ من استئناس رامز بعبد الحميد وتصديقه إياه أن اعتقد أن الدستور أصبح في قبضة يده. وتذكر أباه وتلهفه على معرفة مكانه فاغتنم قربه من عبد الحميد للسؤال عنه فقال: «قد حملني لطف جلالة السلطان على أن أجرؤ بعرض مسألة، هل أفعل؟»

فقال: «قل يا ولدي، ما الذي تريده؟»

فزاده ذلك التلطف دالَّة فقال: «لي والد دخل يلدز من بضع عشرة سنة ولم نعد نعلم ماذا جرى له، فهل هو يا تُرَى على قيد الحياة؟»

فأظهر عبد الحميد الاهتمام بهذا السؤال وقال: «أبوك في يلدز منذ بضع عشرة سنة؟ ما اسمه؟ وما كان غرضه من المجيء؟»

قال: «اسمه سعيد، وقد جاء للبحث عن أوراق في قصر مالطة.»

فتظاهر عبد الحميد بالبغتة وقال: «سعيد بك أبوك؟ لقد أغروني به وزعموا أنه جاء بدسيسة لينتقم لمدحت باشا لأنه صديقه، وكدت أقتله ثم اكتفيت بسجنه.»

فانحنى رامز انحناء الاستعطاف وقال: «هل يتاح لي أن أراه؟ إن ذلك أكبر نعمة يسديها إليَّ مولاي، فإذا حصلت عليها تفانيت في خدمة السلطان.»

قال: «طبعًا، وهل تخشى أن تطلب مني ما تريده بعد أن صرحتُ لك بمقاصدي؟ سآمر بإخراج أبيك من السجن في هذه الدقيقة وأخرجكما معًا من يلدز في هذه الليلة.» فأكب رامز على طرف ثوب السلطان يقبله، فأمسكه عبد الحميد وقال: «أنا عائد الآن إلى قصري، وسأبعث إليك بأبيك مع حرسي يدخل به عليك من باب هذا القصر كما دخلت أنت، والحرسي يرشدك إلى طريق النجاة.» قال ذلك ونهض، فنهض رامز وهو يقول: «أخشى إذا صرت إلى سلانيك أن يعرف ناظم بك بقدومي فيتعمد القبض عليَّ.»

فقطع السلطان كلامه قائلًا: «لا تهتم لهذا الأمر، أنا أدبره.»

فأعاد تشكره وامتنانه، وتحول عبد الحميد نحو ذلك الباب في الحائط ففتحه وخرج منه ثم أوصده وراءه فعاد الحائط كما كان.

وبقي رامز في مجلسه وقد تولته الدهشة، وأخذ يفرك عينيه لئلا يكون في حلم فتحقق أنه في يقظة، فقال في نفسه: «إذا تم ذلك على يدي فما أعظم سروري! تُرَى هل أرى أبي الآن وأنجو به؟ ربَّ شر ينتج عنه خير، لو لم يَشِ بي عدوي ويلقيني في هذه الورطة لم أُوفَّق إلى لقاء أبي، ولا إلى ما أرجوه من الانقلاب السياسي. لا أصدق أني أصل إلى الجمعية وأقص عليها أخباري.»

ونهض وجعل يخطر في الغرفة وهو ينظر إلى ساعة دقاقة موضوعة على منضدة مذهبة فإذا بها الساعة الثانية بعد نصف الليل، فأخذ يعد الدقائق في انتظار والده الذي صبر على بعده أعوامًا، لكنه وجد هذه الدقائق أطول منها كثيرًا. وأوحشه ذلك السكوت فإذا طنت بعوضة أجفله طنينها.

ثم سمع وقع خطوات في الخارج أعقبها قلقلة المفتاح، فوثب من مجلسه إلى الباب ووقف ينتظر فتحه ليرى القادم، ففُتِح الباب ودخل منه حرسي ملثم وأشار إلى رامز إشارة التحية ثم أومأ إلى الخارج، فنظر رامز فرأى رجلًا فوق الكهولة، قد تغيرت سحنته وطال شعر رأسه ولحيته حتى صار كالنساك الذين لا يمسون شعورهم بقص أو إصلاح. ومع انتظار رامز لوالده واطلاعه على خبر قدومه فقد أنكره لتغير سحنته عما يعرفه، إذ تولته الشيخوخة وشاب شعره واسترسل وامتُقِع لونه من طول الاحتجاب عن أشعة الشمس.

أما الوالد فحالما وقع بصره على ابنه صاح: «ولدى … رامز … حبيبي!» وأكب على عنقه وأخذ يقبله ويبكي من الفرح، فلم يتمالك رامز أن بكى وقبَّل أباه وهو يتفرس فيه، وما لبثا أن تعارفا وعادت إلى ذهنيهما الصورة القديمة التي عرفها كل منهما في صاحبه، فقال رامز: «أبي، ينبغي أن أشكر الله على وقوعي في هذا الأسر، إذ لولاه لم أُوَفَّق إلى رؤيتك وإنقاذك.»

فقاطعه أبوه قائلًا: «إنما الفضل لرضى أمير المؤمنين ومراحمه، فلو لم يدب الحنو في قلبه لم يأتِ مجيئك ولا أسرك بفائدة، فقد أبلغني هذا الحرسي أن جلالة البادشاه أذن بخروجنا من هنا وأنه عهد إليك في أمور خاصة، فنشكر الله على نعمه. فالآن نحن هنا حتى يشير إلينا هذا الحرسي بما نفعل.»

أما الحرسي فكان واقفًا لا يتكلم، ولما سمعهما يذكرانه أخرج من تحت إبطه صرة دفعها إليهما على أن يفضاها، ففتحها رامز فوجد فيها ثوبين مما يلبسه الياوران وأشار إليهما أن يلبساهما، ففعل رامز وهو ينظر إلى نفسه في المرآة فإذا هو كالياوران تمامًا. ووقف ينتظر ما يشير به الحرسي فأخرج من جيبه ورقة كالبطاقة دفعها إلى رامز، أشار إليه إشارة معناها: «أنني سأخرج بك من هنا، ثم تنطلق توًّا إلى محطة السكة الحديدية فتدفع هذه الورقة إلى رئيس محطتها فيركبك القطار إلى سلانيك.» والتفت إلى سعيد بك وأشار إليه أن يلبس فتوقف، وقال إنه لا يستطيع الخروج من يلدز في تلك الليلة، بل يفضل أن يصلح من شأنه قبل الخروج. فاستغرب ابنه ذلك منه وهمَّ بأن يعترض، فأوقفه الوالد قائلًا: «لا بد من بقائي الليلة هنا، وسأتبعك في الغد فنلتقي في سلانيك. فهل عندك شك في أمر العفو؟» قال: «كلا».

قال: «أستحيي من نفسي أن أخرج في الأسواق وأنا كالنساك، وقد قضيت في هذا المكان أعوامًا، وسأبقى فيه يومًا آخر، وفي الغد أخرج وألحق بك في سلانيك إن لم يكن في الأستانة.»

فتأسف رامز على تمسكه بالبقاء، لكنه قال في نفسه: «لا بد من سبب بعثه على ذلك.» ثم أشار إليهما أن يتبعاه، وتقدمهما في طريق قصر مالطة حتى بلغوه، فأشار الحرسي إلى سعيد أن يدخل القصر، وأمر الحراس هناك أن يتسلموه. وقاد رامزًا في طريق بين الأشجار حتى وصل به إلى باب من أبواب السور الخارجي، ففتحه بمفتاح معه وأشار إليه أن يخرج، وإذا اعترضه أحد من الحراس خارج يلدز فليقل له: «الذات الشاهانية»، وهو شعارهم في ذلك اليوم، وهي أول جملة نطق بها ذلك الحرسي الملثم منذ قدومه ومسيره مع رامز، ولم يفعل ذلك إلا مضطرًّا. ولما سمع رامز نطقه وجد صوته يشبه صوت عبد الحميد، لكنه لم ينتبه لذلك إلا بعد أن فارقه، ولم يخطر له أن ذلك الحرسي عبد الحميد نفسه، وإنما اعتقد المشابهة بين الصوتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤