في سبيل الدستور

كان رئيس الجواسيس يقرأ التقرير والسلطان يتشاغل بتقليب السيجار بين أنامله ويدخن بسرعة وبلا نظام، وأدرك رئيس الجواسيس قلقه فقال: «صدق ناظم بك، إن سلانيك أعظم خطرًا من سائر مدائن المملكة، وقد عرفت ذلك من قبل فأرسلت إليها رجلًا من جواسيسي منذ بضعة أسابيع، وعهدت إليه في البحث والتنقيب عن جمعية جديدة تألفت هناك من ضباط الجيش. وقد عرفت ذلك من بعض الأعوان في دمشق، فقد كتب إليَّ أحدهم أن بعض المغرورين سافروا من دمشق إلى سلانيك لهذا الغرض، فإذا كانوا قد جمعوا كيدهم كله في سلانيك فسيرتاح بالنا من جهة الشام ونوجه اهتمامنا لمطاردتهم في مركزهم الجديد.»

فقال السلطان: «هل أنت على ثقة من جاسوسك الذي أرسلته إلى سلانيك؟»

قال: «نعم يا مولاي، إنه شاب ذكي اسمه صائب بك، من أشد الأمناء غيرةً على الجناب الملوكي الهمايوني. وقد جاءني منه أمس أنه أوشك أن ينجح في كشف خيانة الخائنين.»

فهزَّ عبد الحميد رأسه وقد تولاه الحنق وقال: «ويل للخائنين ناكري الجميل! حتى الجنود تمردوا عليَّ وأنا الذي لم أدخر وسعًا في التوسعة عليهم؟! إني سأنتقم منهم شر انتقام!»

فتهيب السر خفية من غضب السلطان وقال: «إن الجنود الشاهانية — كما قلت لمولاي — لا يزالون على ولائهم، وكذلك الضباط كلهم على الولاء إلا نفرًا قليلين أغراهم أولئك الخوارج على نبذ الطاعة، وهم يزعمون أنهم يجاهدون في سبيل الدستور.»

فأجفل السلطان من ذكر الدستور وصاح: «الدستور! لماذا يطلبونه؟!»

قال: «إنهم مغرورون يا مولاي. وأنا أعلم أن أمير المؤمنين من أرغب الناس في منح رعاياه الدستور متى رأى فيهم الاستعداد له، ولكن متى كان أهل الشرق يُحكَمون بالدستور، وقد تكرم جلالة البادشاه فمنحهم إياه فلم يفلحوا ولا عرفوا كيف يستخدمونه؟!»

فسُرِّي عن عبد الحميد وقال: «قد أعطيناهم الدستور فأفسدوه، إنهم لا يصلحون له.»

فقال السر خفية: «على أن الدستور يا مولاي يخالف الشرع الشريف، أليس جلالة السلطان خليفة الرسول وينبغي أن يقتدي به؟ هل كان الخلفاء الراشدون يحكمون بالدستور؟ إنه من بدع النصارى أهل أوروبا، ولو كان ملكهم خلافة دينية ما سلموا بالدستور ولا عملوا به، ولكن بعض المغرورين اللئام من رعايا جلالة السلطان فسدت طباعهم بمعاشرة الإفرنج فأرادوا أن يقلدوهم في الحكومة كما قلدوهم في اللباس والطعام والسُّكْر والمقامرة، فأغفلوا قواعد الدين الحنيف وعصوا أوامر النبي ويريدون أن يعصوا أوامر خليفته فخرجوا عليه و…»

فقطع السلطان كلامه قائلًا: «والخوارج الملاعين؟! ما الذي حملهم على الخيانة؟ وما العمل الذي أوجب خروجهم؟ هم يطلبون المناصب ويطمعون في الترضيات المالية وقد تعبت في مرضاتهم. من أين آتيهم بالمناصب التي يطلبونها؟ أمن الإخلاص أنهم إذا جاعوا خرجوا على مولاهم؟!»

فأخذ السر خفية يخفف عنه قائلًا: «إن مساعيهم ستعود وبالًا عليهم، وما أظنهم إلا نادمين عما قليل. وما هذه أول مرة رجعوا فيها صاغرين، لم يكن فيهم أشد وقاحة من مراد الداغستاني وأنصاره، وقد ندموا ورجعوا فأكرم جلالة السلطان مثواهم وأغدق عليهم النعم. ولعل ملجأ الخلافة أيد الله ملكه قد بالغ في الإحسان إليهم والإصغاء إلى صراخهم، ولو أنه أهملهم واستعمل القسوة في عقابهم لكانوا عبرة لسواهم، ولكنه عاملهم بالرفق والإحسان فطمعوا وتمردوا، وقد آن الوقت الذي يدركون فيه شططهم وخطأهم.»

فابتدره السلطان قائلًا: «بل آن الوقت للاقتصاص منهم والفتك بهم.» وصفق فدخل أحد الحجاب فقال له: «ادعُ الباشكاتب.»

فخرج ولبث السلطان ساكتًا وهو يرتعد من الغضب، وتهيَّب السر خفية من رؤيته في تلك الحال. وبعد قليل دخل الحاجب يستأذن للباشكاتب، فلما أذن له دخل وحيَّا ووقف، فأومأ إليه السلطان أن يقعد فقعد، فقال له: «اكتب إلى ناظم بك قومندان سلانيك أن يستعمل الدقة في البحث عن الخونة الذين يزعمون أنهم يقفون في سبيل إرادتي الشاهانية بتأليف الجمعيات السرية. اطلب منه أن يستعمل الشدة بأية وسيلة كانت، وليبادر إلى إيفاء الوظيفة الموكولة إليه بما يليق بالشرف العسكري رغبةً في صيانة الدولة من الأدران الضارة!»

فقال الباشكاتب: «سمعًا وطاعةً أفندم. وقد كتبت بأمر مولانا إلى ناظم بك بهذا المعنى أمس.»

فقطع كلامه قائلًا: «اكتب أيضًا وقل له أن يجرد السيف ويقطع الرقاب ويقتل ويفتك.» قال ذلك وهو ينتفض. وتزحزح من مقعده فنهض الباشكاتب والسر خفية واستأذنا في الانصراف، فأذن للباشكاتب واستبقى السر خفية.

وبعد خروج الباشكاتب ظل السلطان مطرقًا دقيقةً ريثما هدأ روعه، ثم خاطب السر خفية قائلًا: «كيف ترى تحسينًا الباشكاتب؟»

قال: «أراه مخلصًا يا مولاي.»

فتنهَّد تنهدًا طويلًا فهم منه السر خفية ألف معنى، وهو يعلم سوء ظن عبد الحميد بكل أحد، ثم قال: «هب أنه غير مخلص فإني لا أغفل عن كشف أسراره، وقد خصصت له جاسوسًا من أنبه رجالي لاستطلاع حقيقته.»

فقال: «أما وقد فهمت مرادي فكفى، إني لا أثق بأحد سواك.» وأحس السر خفية أنه قد آن وقت انصرافه فاستأذن وخرج.

•••

نهض عبد الحميد ومشى والغضب ظاهر في وجهه حتى دخل غرفة الكتابة، وفيها كرسي ونضد من الزجاج اصطنعهما للجلوس عليهما إذا تكهرب الجو وخاف وقوع الصواعق، لأن الزجاج لا يوصل الكهرباء. فجلس على الكرسي لحظة بغير تعمد، ثم نهض وتحول نحو منضدة عليها أوراق في محفظة فتذكر التقرير الذي أتاه من الشام، فهُرِع إلى غرفة المائدة وأخذه وأضافه إلى ألوف التقارير التي ذكرناها في خزائن الدهليز. وكأنه تعب من شدة القلق فتوسد مقعدًا من المقاعد التي ينام عليها واستغرق في الأفكار ثم جعل يناجي نفسه قائلًا: «تبًّا لكم من خونة! إنكم لا تخدمون عبد الحميد إلا بالمال، حتى السر خفية نفسه لا يخلص لي وإنما يداهنني رغبةً في المال، وأنا أخادعه وأغريه بالآخرين ليطلعني على أسرارهم، وأغريهم به ليطلعوني على سره. لا أخاف غدر هؤلاء وهم بالقرب مني، لأني أملأ قلوبهم بالوعود وجيوبهم بالأموال وأجعل بعضهم على بعض جواسيس، وأقيم السراري عيونًا عليهم أجمعين … إن عبد الحميد أدهى منكم جميعًا، فمن شككت فيه قتلته سرًّا أو جهرًا. وإنما أخاف البعيدين الذين يتعذر التجسس على أعمالهم، ولكنني قاهرهم. وهذا الملك لا يخرج من يدي، ولن يخرج إلا إلى بعض أبنائي، أنا السلطان عبد الحميد، أنا وحدي الآمر الناهي، أنا وحدي مالك الرقاب.»

وسكت هنيهة متشاغلًا بتأمل رقاص الساعة وهو يتحرك يمنة ويسرة، وأخذ يراجع في ذاكرته ما دار بينه وبين السر خفية، حتى إذا وصل إلى ما دار بينهما بشأن العرب عاد إلى مناجاة نفسه قائلًا: «إن السر خفية قلَّل من أهمية العرب في نظري وظنني صدقته، ولكنني خدعته بسكوتي لئلا أريه مقدار خوفي من أبناء العرب، هل أنسى ما رماني به غانم والكواكبي وأرسلان وغيرهم، وما أنشئوه من الصحف في مصر وباريس وجنيف؟ آه منهم! إني أخافهم لأنهم أكثر عددًا في مملكتي من سائر العناصر، وفيهم كتَّاب في أكثر اللغات الإفرنجية، وهم يكتبون في جرائد أوروبا ويجتمعون بدول أوروبا، ولا يسهل علينا إسكاتهم، هذا شأن المسيحيين منهم، فهم لا يقلون أهمية في نظري عن الأرمن الملاعين. على أن هؤلاء قد سحقتهم وقتلتهم وسبيلي إليهم سهل، وأما العرب فالمسيحيون منهم تحميهم الدول، أما المسلمون فإنهم أصل الإسلام ومادته، ولا يزالون حتى الساعة ينكرون علينا حق الخلافة لأننا غير عرب، فكيف لا نخشى بأسهم؟ إن هؤلاء المتملقين يُموِّهون الحقائق، غير عالمين أني أموِّه عليهم وأظهر أني صدقتهم، ولولا ذلك ما قربت عزت وأبا الهدى وغيرهما من المشايخ الذين يتوهمون أنهم يخدعونني، وما يخدعون إلا أنفسهم.»

وتنحنح ومد يده إلى علبة السيكار فأشعل سيكارًا وعاد إلى المناجاة قائلًا: «هم يحسبون أنهم يحتالون في التقرب منى ليكتسبوا المال والجاه، وأنا لا غنى لي عنهم لتوازن الأحزاب والعناصر، ولكني مع ذلك أخافهم ولا أثق بهم.»

ثم خطر له أن يطلب الرقاد في سريره فنهض ومشى إلى غرفة النوم، فمر بالحجرة التي تستطرق إلى دار الحريم من باب كله مرآة وهمَّ بفتحه، فوقع نظره على صورته فيه فوقف يتأمل سحنته ويصلح من شأنه. وكان شديد الرغبة في مظاهر الشباب، يستخدم في ذلك الخضاب والتزجيج والتخطيط، وكان لرغبته في الحياة ينكر على نفسه الاقتراب من الشيخوخة ويلتمس تعليلًا لما في وجهه من غضون حتى لا يعترف بأنه صار شيخًا.

وفيما هو ينظر في المرآة وقعت عينه على صورة زيتية معلقة بجانب ذلك الباب تمثل قاربًا عند الشاطئ، وقد وقف فيه نحو عشرة رجال عليهم ألبسة سوداء وقبعات سوداء يقرب شكلها مما يلبسه الرهبان اليسوعيون، وفي يدَي كلٍّ منهم آلة موسيقية كالناي أو العود أو المزمار يعزف عليها، وهم جميعًا في حال عربدة أو سكر، وأمامهم على الشاطئ نحو عشر نساء عاريات يرقصن أو يتخالعن. وهي صورة أهداها إلى عبد الحميد بعض المتملقين، وفيها يظهر مدحت ورجاله الأحرار بما يحقر دعواهم، ويدل على أنهم يتظاهرون بطلب الحرية والدستور تمويهًا على العقول، وهم في الحقيقة يريدون الخروج على الآداب الدينية والاقتداء بالنصارى في خلاعتهم وسكرهم!

فلما وقع نظره على تلك الصورة حرق أسنانه وهز رأسه وتضاحك مستهزئًا، وقال كأنه يخاطب مدحت: «أتطلب الدستور؟! ما هو الدستور؟ أتريد أن تقيد إرادتي ليُسمَع في الدولة صوت غير صوتي؟ … لا، لا ينبغي أن يُسمَع غير هذا الصوت، هكذا كان عمي وأبي وهكذا ينبغي أن أكون أنا. أغرَّك ما قدرت عليه أنت وأعوانك حتى خلعتم عمي رغبة في الدستور؟ الدستور؟! إنني أنا الدستور، وإرادتي هي الشريعة، وقد نلت جزاء غرورك، مت واشبع موتًا! آه لو أستطيع أن أميتك ثانية! وهكذا سأفعل بمن يقولون قولك ويسعون سعيك، سأسحقهم سحقًا وأقتلهم قتلًا!»

قال ذلك ودخل دار الحريم يطلب الرقاد للراحة وهو ينتفض من الغيظ، وقد توسط النهار ولم يشتهِ الطعام لفرط ما حل به من هياج العواطف المتضاربة بين الغضب والخوف والرجاء واليأس والانتقام.

•••

ما كاد عبد الحميد يدخل دار الحريم حتى سكن ما كان فيها من حركة الجواري والخصيان، فاستولى عليها الصمت والجمود ولا سيما أنه كان قلَّما يدخل تلك الدار في مثل تلك الساعة، لأنها ساعة قراءة التقارير في القصر الصغير.

وكان نادر أغا أول من خفَّ لاستقباله، فوقف له باحترام وألقى السلام وقد توسم الاضطراب والغضب في عينيه، ولم يكن يفوته شيء من أحواله لمَا علمت من تقربه ودخوله في كل أمر لموقعه من نفس عبد الحميد، ولعله أكثر ثقة فيه من سائر المحيطين به.

ووقف نادر أغا ينتظر إشارة البادشاه إلى ما يطلبه أو يختاره من غرف الجواري فإذا هو قد سار إلى غرفة الرقاد، فأسرع نادر أغا لخدمته فيما قد يحتاج إليه هناك فأومأ إليه أن يتركه وحده، فانصرف وقد أدرك مقدار ما في نفس عبد الحميد من القلق.

توسد عبد الحميد سريره في غرفة أغلق بابها من الداخل بيده، وأخرج المسدس من جيبه ووضعه تحت الوسادة كأنه في الصحراء على موعد من هجوم أهل البادية عليه! وكان رغم ما يظهره من الثقة بأعوانه ورجاله يخاف كلًّا منهم، وقد تمكن في خاطره أن الإنسان خُلِق شريرًا، وأن أول أغراضه في هذه الحياة أن يغتال إخوانه ويسلبهم مالهم بأية وسيلة كانت.

وقد نشأ عبد الحميد من صغره حذِرًا سيئ الظن، وشاهد بعينيه خلع عمه ثم موته، ومقتل عوني على يد حسن الشركسي، ثم خلع أخيه مراد. فلما تولى السلطنة رأى حياة السلطان ليست أكثر صيانة من حياة العامة، أو هي أكثر تعرضًا للخطر منها، فزاد تعلقًا بالبقاء واشتد خوفه على نفسه حتى بلغ درجة الهوس، فأصبح لا يسمع حديثًا أو يرى مشهدًا أو يقول قولًا أو يعمل عملًا إلا وهو ينظر من وراء ذلك إلى علاقته ببقائه، واضطُرَّ للمحافظة على نفوذه واستبداده في أول سلطنته إلى أن يسيء إلى بعض الأحرار بالإبعاد أو القتل بدسائس أشرك فيها بعض خاصته، فأصبح يخاف نقمة أهل القتلى، ويخاف دسائس أولئك الخاصة. ولعله كان يقيس شعور الناس على شعوره، فيتصور أنه لو توسم نفعًا بقتل بعض أصدقائه أو محبيه لا يرى بأسًا من قتله، فأصبح يخاف أن يستولي أعداؤه الكثيرون على قلب بعض خاصته فيغريه بالمال أو غيره ليقتله، ولذلك فهو لا يثق بأحد أو يستسلم له كما يستسلم الصديق لصديقه أو الابن لأبيه كما يفعل أكثر الناس، لأنه يرى كل شيء عدوًّا له.

ولم يلقِ رأسه على الوسادة حتى تصور ما مر به في ذاك اليوم من الطوارئ، وأخذ يفكر فيما عساه أن يطرأ في الغد بشأن تلك الجمعية، ويقدِّر الوجوه التي يمكن أن تقع ويدبر حيلة يتلافاها بها. ومع كثرة هواجسه غلب عليه النوم لفرط التعب، فنام وأهل القصر جميعًا كأنهم في سبات مخافة أن ينغصوا عليه رقاده فيغضب.

نام والغرفة مغلقة ونادر أغا جالس ببابها ينتظر ساعة اليقظة ليقوم بالخدمة اللازمة، ولكي يعلم أهل القصر بوجود البادشاه هناك فلا يخطرون ولا يتكلمون.

وفي الساعة الرابعة بعد الظهر سمع نادر أغا نحنحة السلطان فعلم أنه استيقظ فوقف، وما عتم أن فُتِح الباب وأطل عبد الحميد فأشار إلى نادر أغا أن يدخل فدخل، فقال له: «سمعت مشيًا في هذا الدهليز.»

فاستغرب نادر أغا قوله وأكد له أنه لم يمر أحد، ولم يكن عبد الحميد قد سمع شيئا لكنه قال ذلك لسوء ظنه على سبيل الاستطلاع. ثم أشار إليه أن يأمر رئيس الإسطبل بإعداد الجواد الأبيض للتجول عليه في الحديقة، فأسرع نادر أغا وبلغ الأمر لتخلو الطرق من المارة، وبعد قليل نزل السلطان فركب الجواد وسار بين اثنين من ياورانه، وهما مفوضان أن يقتلا كل من يجدانه في الطريق.

طاف الحديقة الصغرى والكبرى على هذه الصورة وهو يتلفَّت ذات اليمين وذات اليسار، فلاح له أن يلهو بزيارة المعامل، ومنها: معمل للترميم، وآخر لصنع البورسلين، وترسانة لصنع الأسلحة من كل نوع حتى المدافع والبنادق. وزار أيضًا ما هناك من المتاحف الصناعية والملاعب المختلفة، ثم تحول إلى الإسطبلات وفيها الجياد على اختلاف أشكالها، حتى وصل إلى أبراج الحمام في الحديقة الصغرى.

وكان ينزل عند كل معمل أو متحف أو إسطبل ويلهو ويتفقد ما فيها، وعمالها يبذلون جهدهم في عرض ما تفننوا فيه من ضروب الصناعة، وهو يظهر أنه مهتم بكل ما يقولونه ولكنه في الحقيقة مشتغل بهواجسه.

فلما وصل إلى الحديقة الصغرى دخل الكشك فتذكر ما كان من حاله فيه في صباح ذلك اليوم. ووقع نظره وهو داخل هناك على شيء أذكره بالمهرج المضحك وهم يسمونه في اصطلاحهم «كاغدخانه أمامي»، فأشار إلى نادر أغا أن يأتيه به.

وبعد قليل جاء المضحك، واسمه علي أفندي، وهو كهل منظره يضحك الثكلى، وكان قصير القامة كبير الرأس عظيم الأنف، وقد لاث حول رأسه عمامة كبيرة وليس جبة طويلة تزيد منظره غرابة. جاء وهو يستعيذ بالله من تلك الدعوة لأن السلطان كان يبالغ في تعذيبه التماسًا للضحك. فحالما أقبل على السلطان وقف مطرقًا بعد أن قبَّل الأرض، فأشار السلطان إلى نادر أغا إشارة فهمها، فأمر بعض الوقوف من الخدم أن يطلوا وجه المضحك بالسواد ففعلوا، ولما تم الطلاء وقف علي أفندي وألقى التحية فضحك السلطان من منظره. وأشار إلى نادر أغا إشارة أخرى، فقبض على ذلك المسكين وحمله بين يديه وألقاه في البحيرة فقهقه السلطان، ولكن الناظر في ملامح وجهه يعلم أنه يتكلف ذلك. فجعل علي أفندي يخوض الماء وقد وقعت عمامته عن رأسه وعامت جبته على سطح الماء وهو يصيح ويستغيث والسلطان يضحك. ثم أمر بإخراجه فأخرجوه والماء يقطر من أردانه وقد أعدوا له ثيابًا أخرى في مكان آخر، فمضى فبدلها وعاد وهو يتظاهر بالسرور والمجون ويده على أنفه يضربه ضربًا متواليًا، فأغرب السلطان في الضحك وابتدره قائلًا: «ما الذي أصابك؟ ولماذا تضرب أنفك؟»

فقال: «أضربه لأنه أصل هذا البلاء عليَّ، أنا أعلم أن شكل هذا الأنف هو السبب فيما أقاسيه من العذاب!»

فأدرك السلطان أنه يعني الإشارة إلى الأرمن الذين هم كبار الأنوف وقد اشتُهِروا بعداوة السلطان، ولكنه تجاهل وقال: «هل نقطع لك هذا الأنف؟»

فابتسم المضحك وقال: «إذا كان البادشاه يريد أن يزيدني جمالًا فليفعل.»

فضحك السلطان وقال: «نادر أغا، اقطع أنفه.»

فأظهر نادر أغا أنه يهم بذلك، فصاح المضحك: «أمان أفندم! أمان!»

فأشار بالعفو عنه وهو يضحك، وقال: «قد عفونا الآن عن أنفك، وأما بعد الآن فلن نعفو!»

فقال: «الأمر لولي النعم، إذا أراد أن يقطعني إربًا إربًا فهو صاحب الأمر. ولكن لا يخلو كبر الأنف من فضيلة، فإن بين أصحابه من يتفانى في رضى جلالة البادشاه، وفيهم من يعشقه ويتمنى الموت تحت قدميه.»

فتبدلت سحنة السلطان من المجون إلى الجد، وأومأ إلى الحضور أن ينصرفوا إلا علي أفندي، فذهبوا جميعًا وظل هذا منتظرًا يحسب لهذه الخلوة ألف حساب.

فلما انفرد السلطان به أومأ إليه أن يقعد بين يديه، فقعد على العتبة جثوًا وأطرق ولبث ينتظر ما يكون، فالتفت السلطان يمنة ويسرة ولما تأكد خلو الحديقة من الناس التفت إلى المضحك وقال له جادًّا: «انزع عنك المجون وخاطبني.»

فأظهر الجد والاحترام وقال: «أنا عبد مولاي البادشاه وطوع إرادته.»

قال: «أنت تعلم منزلتك عندي.»

قال: «يا سيدي، إن نعم أمير المؤمنين قد غمرتني وأنا أخلص عبيده له.»

قال: «هذا عهدي بك، ولا شك أنك تعرف اعتمادي عليك.»

فقبَّل الأرض وقال: «نعم أفندم، وهذا شرف لي.»

قال: «هل عندك شيء جديد ترفعه إليَّ؟ يظن نادر وغيره من كبار الخصيان وسائر أهل القصر أني أقربك للهو والضحك وجعلتك لهذا نديمي!» وسكت ينتظر ما يقوله المضحك.

فسُرِّي عن علي أفندي فقال: «أنا أفتخر بهذه الثقة، وأؤكد لمولاي البادشاه أني ساهر على راحته وأقف بالمرصاد لكل من ينحرف عن واجب العبودية، لأن الناس أشرار لا يعرفون حقوق النعمة.»

قال: «كيف تجد نادر أغا؟»

فطأطأ المضحك رأسه وقال: «إنه نعم العبد الأمين!»

قال: «وغيره؟»

قال: «لم ألحظ شيئًا جديدًا هذين اليومين.»

قال: «أفصح، لا أظنك إلَّا فهمت مرادي …»

قال: «يا مولاي، إن نادر أغا ساهر على هذه القصور ومن فيها.»

قال السلطان: «والوصيفة ج؟»

فأظهر علي أفندي الاهتمام والاحترام وقال: «من أين لي أن أراها؟»

قال: «لا تخف، قل الحقيقة، إنك تراها، وأنا أذنت لنادر أغا أن يتمتع المحظيات والوصائف بمجونك، وكان ينبغي أن تعرف غرضي من ذلك، أها!»

فأجفل المضحك من هذا التهديد وقال: «نعم يا سيدي، أنا فهمت الغرض لكن هيبة البادشاه أمير المؤمنين بعثتني على التكتم.»

فضحك عبد الحميد ضحكة متكلفة وقال: «طيب، فماذا تعرف عن … ج؟ قل لا تخف.»

قال: «إنها يا سيدي في حالة يُرثَى لها، لا تكف عن البكاء.»

فاستغرب السلطان قوله وقال: «إني لم أرها تبكي قط!»

فقال: «نعم، هي لا تبكي في حضرة أمير المؤمنين لأن رؤيته تذهب كل حزن، مسكينة!»

فقطب السلطان حاجبيه وقال: «وتقول مسكينة؟!»

قال: «إذا أباح لي مولاي أن أقول ما أعرفه وأمَّنني قلت.»

قال: «قل، لا بأس عليك.»

قال: «إن هذه المرأة سيئة الحظ.»

فتطاول عبد الحميد بعنقه وحملق بعينيه وقال: «تكون في قصري وتُعَدُّ من نسائي وتزعم أنها سيئة الحظ؟!»

قال: «ألتمس حلم جلالة السلطان، إن سوء حظها مبنيٌّ على وجودها في هذا القصر.»

قال: «وكيف ذلك؟»

قال: «لأنها تتفانى في حب جلالة البادشاه وهو يعاملها بالجفاء.»

فأطرق السلطان لحظة تشاغل فيها بإصلاح لحيته، وعيناه البراقتان يكاد الشرر يتطاير منهما، ثم نهض فجأة فأجفل المضحك ونهض، وخاف أن يكون قد أغضب السلطان بما قاله ووقف متأدبًا وركبتاه تصطكان، وكان السلطان قد اتجه إلى قصره لكنه بعد أن مشى بضع خطوات التفت إليه وابتسم تخفيفًا لما حلَّ به من الرعب فخفَّ اضطرابه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤