تقديم

شُغف الناس في القديم والحديث بتاريخ العرب في الأندلس، ووجدوا في قراءته والاستماع لأحاديثه لذة روحانية عجيبة لا يجدونها في سواه، ولعل من أسباب هذا الشغف أنهم يقرءون فيه قصة رائعة للبشرية تتقلب فيها أحداث الزمان، وتصطخب صروف الأيام، ويداول الدهر فيها بين شطريه، فهو مرة صفاء لا يشوبه كدر، وابتسام لا تحوم حوله جهومة، وأمن لا يخالطه حذر، وعز راسخ، وقوة، وسلطان، ونعيم، وملك كبير، وهو في أخرى هم، ونصب، وخذلان، وبلاء مستطير.

إن قصة الأندلس عجيبة حقًّا، مثيرة للنفس حقًّا، فيها من أحاديث البطولة والإقدام ما يعجب له العجب، ويهتز له عِطف العربي الكريم، فيها جرأة طارق، وإقدام عبد الرحمن الداخل، وعزيمة الناصر، وعبقرية المنصور، وفيها إلى جانب كل هذا أمثلة رائعة للصبر حين البأس، وللجلد على أشد المكروه، وللتمسك بالعقيدة والسيف معًا فوق الرءوس، وللثبات في مأزِق يفر فيه الشجاع.

وقصة الأندلس — ككل القصص — كما تصور الرجولة تستهوي النفوس وتسحر العيون، ترسم إلى جانبها الفسولة والجبن، والحقد والنفج الكاذب، والشره في حطام الدنيا الزائل، وبيع النفوس للشهوات في أقبح ما يصوره المصورون.

وتاريخ الأندلس كله عراك ونضال وصخب، لا تكاد تقلب صفحة من صفحاته حتى تسمع قعقعة السيوف، وصليل الرماح: صراع بين ملوك المسلمين، وصراع بينهم وبين نصارى الشمال، وصراع بين الأجناس والقبائل، وصراع بين العقائد والمذاهب، ثم صراع أخير بين الحياة والموت، وبين الأذان والناقوس.

ومن العجب أنك على الرغم من هذا الاضطراب الشامل، تقرأ في قصة الأندلس صحائف من ذهب، تتجلى فيها مدنية العرب معجزة من المعجزات وآية من الآيات.

فلقد كانت الأندلس في العصور الوسطى شعلة النور ومنار الهداية، وكانت جامعاتها بقرطبة، وإشبيلية، وغرناطة، وغيرها ملتقى طلاب العلم من الشرق والغرب، وكان فيها للأدب والشعر والفنون عامةً منزلة لم تكد تصل إليها أمة، وإذا تحدثنا عن فنون العمارة، والهندسة، والنقش، وغيرها، طال بنا الكلام، وخرجنا عما قصدنا إليه من الإيجاز.

إن سقوط الأندلس لم يكن إلا سقوط النجم المتلألئ اللامع، وانهيار الجبل الأشم الراسخ، وإن دولة في الأرض لم تُشيَّع بعبرات العيون، وحسرات القلوب، كما شُيِّعت الأندلس، ولم يبكِ الشعراء ملكًا طواه الزمان كما بكوا مُلك الأندلس، ولم يقف المؤرخون وهم يدونون خاتمة أمة حاسري الرءوس خاشعين، يرسلون الزفرات — كما وقفوا عند قبر دولة العرب بالأندلس.

خفقت الجوانح بحب الأندلسيين على الرغم مما يزعمه التاريخ من أنهم أُعطوا ملكًا فلم يحسنوا سياسته، واستناموا إلى الشهوات، واستعان بعضهم على بعض بالأعداء، على أنه يجدر بأهل الرأي ألا يتعجلوا في الحكم على أهل الأندلس وهم لم يعيشوا في بيئتهم، ولم يدرسوا أَتَمَّ الدرسِ الأحوالَ التي مرت بهم، ولم يدققوا النظر في نظام الحكم الذي التزمته الأمم في هذه الأزمان.

إن المسلمين بالأندلس كانوا في أرض غير أرضهم، وفي إقليم اجتمعت فيه كل صنوف الفتنة والجمال، وكان أعداؤهم من الإسبان يحيطون بهم من كل جانب، وأعداؤهم في المشرق ينصبون لهم الحبائل، أفبعد هذا نَصُبُّ عليهم اللوم حميمًا، ونحمِّلهم وزر تصاريف الزمان، وتحكم البيئة، وسيطرة الأحوال التي وضعتهم فيها يد القدر؟!

إن العرب عاشوا في هذه الفتن الجائحة نحو ثمانمائة عام، قَلَّ أن تستطيع أمة سواهم البقاء في مثلها، ليقُل الشعوبية ما شاءوا، ولْيَقْسُ ابن خلدون وأمثال ابن خلدون على العرب كما أرادوا، أليس من التجني على الحقائق أن يدَّعي ابن خلدون أن العرب لا يصلحون لسياسة الأمم، وأنهم أمة جهل وتدمير، وأنهم إذا نزلوا بلدًا أسرع إليه الخراب؟!

إن سماحة حكم العرب بالأندلس، وجمال مدنيتهم، واتساع مدى ثقافتهم أسمى من أن يصل إليه إنكار منكر أو جحود جاحد، وإن في آثار قرطبة، وإشبيلية، وغرناطة — التي لا تزال ماثلة إلى اليوم من معجزات البناء والهندسة — ما يُخجِل كل من يدعي أن أمة العرب أمة خراب وتدمير، وأنهم يهدمون القصور ليتخذوا من أحجارها أثافي للقدور، ومن خشبها أوتادًا للخيام، أين هذه الأثافي وأين تلك الخيام من جنات الأندلس الباسمات، وقصورها الشامخات؟! ثم أين هي من عظمة دمشق أيام الأمويين، وجمال بغداد في حكم العباسيين، وازدهار القاهرة في عهد الفاطميين؟!

إن العرب يبنون ولا يهدمون، وإن الهدامين لآثارهم ومدنياتهم إنما هم أعداؤهم من البربر، والإفرنج، والتتار، وغيرهم، وإذا كانت دول العرب قد مُنيت بالانحلال السريع في الشرق والغرب، فإن أكثر السبب في هذا — فيما يغلب على الظن — إنما يعود إلى نظام الحكم الذي كان قائمًا، لا إلى طبائع العرب أنفسهم، ولو نظرنا في عهودهم إلى الأمم حولهم في أقطار الأرض، لرأينا أنها أصيبت بما أصيب به العرب.

والآن نعود إلى قصة الأندلس فنرى أن ما كتبه الأولون فيها لا يشفي نفس القارئ، ولا يبل غلته، وهذا كتاب نفح الطيب — وهو خير كتاب أُلِّفَ في تاريخ الأندلس — كله اضطراب، واستطراد، وتكرار، والتواء، وتشتُّت؛ لهذا كانت خزائن الكتب العربية في أشد الحاجة إلى مثل كتاب «إستانلي لين بول» الذي سماه قصة العرب في إسبانيا، والذي قرأته فأحسست بدافع نفسي يلح بوجوب ترجمته إلى لغة العرب، وشعرت بأن النكول عن هذه الرغبة عقوق لحسبي وقومي وتاريخي، وإذا كان هذا القلم الذي جردته أربعين عامًا لا يجيد إلا تنميق قصيدة في الغزل، أو المديح، أو الرثاء، ولا يصول إلا فوق صفحات من الأدب واللغة، حتى إذا جاء كاتب إنجليزي محقق فألف كتابًا بلغته فيه إنصاف للعرب وتاريخهم، وفيه إشادة بحكمهم وعلمهم وأدبهم وحضارتهم — انكمش في دواته وأدركه الحصر، فأجدر بهذا القلم أن يحطم، وأحرى بسنانه أن يقصف، وأخلق بصاحبه ألا يباهي مرة أخرى بعروبته!!

إن إستانلي لين بول يحب العرب ويتغنى بمجدهم، ويؤلف لأبناء أمته في تاريخهم كتابًا، أو قل قصيدة طويلة الذيول كلها ثناء وإطراء، وحب وإعجاب، وعطف وحنان، ولوعة وبكاء، فهل كان يصح في حكم البر بالعربية أن يبقى أبناؤها محجوبين عن هذا الكتاب دهرًا طويلا؟!

ترجمتُ الكتاب فارتاحت نفسي؛ لأني في حين واحد أذعت فضل العرب على لسان رجل ليس منهم، ثم أذعت فضل هذا الرجل؛ لأنه جدير بإعجاب العرب.

أما طريقة لين بول في التأليف فجامعة بين التحقيق العلمي وربط الحوادث بعضها ببعض، وتأدية قصة الأندلس كاملة متصلة الأواصر، في أسلوب شائق وسياق رائع، فإنه بعد أن قرأ تاريخ الأندلس في مراجع شتى بين عربية وإفرنجية، ولقي ما لاقى في اجتياز ذلك الخضم المضطرب بالروايات والحوادث — استطاع أن يخرج للأدب والتاريخ قصة بديعة الأسلوب، متماسكة الحلقات، لها — مع صدق حقائقها — كل ما للقصص الخيالية من فتنة وسحر.

وقد يداخلك بعض الريب في أن المؤلف متعصب للعرب، محتطب في حبلهم؛ لأنك تراه يقتنص الفرص أو يخلقها للإشادة بدينهم، وسياستهم للأمم، ثم بآدابهم ومدنيتهم التي يعدها شعلة النور في أرجاء أوربا بعد أن خمدت مدنية الرومان، وزالت حضارة اليونان، ثم إنه رسم لعبد الرحمن الداخل، والناصر، والمنصور بن أبي عامر صورًا من القوة والحزم، والعدل والدهاء، لم يستطع مؤرخ عربي أن يجمع ألوانها، وإذا غمز بعض المحسنين من الأمراء بنقد، كان خفيف المس رفيقًا، حتى إنه لم يبخل بفضلة من عطفه على ملوك الطوائف الذين بددوا شمل الدولة، فأحسن رثاء دولتهم، وبكى فيهم الهمة والسخاء، وإنهاض العلوم، وإعلاء شأن الأدب والشعر، أما حديثه عن مملكة غرناطة وأفول شمس العرب بالأندلس، فلم يكن إلا أنَّاتٍ وزفراتٍ ودموعًا.

وقف على أطلال الأندلس كما يقف العاشق المحزون، فبكى مدنية زالت، وفنونًا بادت، وعزًّا طاح مع الرياح، وملكًا كأن لم يمض عليه إلا ليلة وصباح، ومجالس أنس كانت نغمًا في مسامع الدهور، ودروس علم هرعت إليها الدنيا وتلفتت العصور.

نعم، إن إستانلي لين بول كان يحب العرب حقًّا، ولكن هذا الحب لم يجاوز به الحق، ولم يخدعه عن نفسه، ولم يسلبه صفة المؤرخ المحقق، وكل ما في الأمر أنه كان صريحًا في نشر الحقائق، فصدع بها حين أنكرها أو شوه من جمالها كثيرٌ ممن يكتمون الحق وهم يعلمون، إن لين بول لم يكن متعصبًا للعرب، ولكنه كان لهم منصفًا، وعلى تاريخهم أمينًا، ولهم أخًا وصديقًا، حين قلَّ الأخُ وعز الصديق، على أن في الكتاب عتابًا في مواطن العتاب، ولومًا في مواضع اللوم، وتعنيف المحب المخلص حين يحسن التعنيف.

ومما تجمل الإشارة إليه أن المؤلف في حديثه عن الإسبان خاصة وأهل أوربا عامة، إنما كان يتحدث عن حياة قوم في العصور الوسطى، أو في أيام حكم البربون، قبل أن يتسع نطاق المدنية، وينبلج فجر العصر الحديث الذي غَيَّرَ كثيرًا من أخلاق الناس وعقولهم ونظرهم إلى الأشياء، فإذا نقد المؤلف رجال العهود الماضية بأوربا وإسبانيا، فإنه لن يتردد اليوم في الحكم بأن الزمن دار دورته، وأن التاريخ لو نظر إلى الخلف لرأى مدنية جديدة وقومًا آخرين.

وقد قصدت في ترجمة هذا الكتاب إلى ترجمة المعاني مع الحرص على الروح التي أملته، فإن لكل لغة بيانًا، وحسب النقل أن يدرك الغاية، ويصيب اللباب، والله سبحانه المستعان.

علي الجارم
جزيرة الروضة
٧ من أكتوبر سنة ١٩٤٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤