موجة الفتح

لم يكن هذا فتحًا كغيره من الفتوح يا أمير المؤمنين، فإن الوقعة كانت أشبه باجتماع الحشر يوم القيامة …

هكذا كتب موسى بن نصير أمير إفريقية إلى الخليفة الوليد في وصف انتصاره بموقعة وادي لكة.

وليس عجيبًا أن يدهَش المسلمون لنصرهم المؤزَّر الحاسم، أو أن يتملكهم الزهو بهذا الفتح المبين؛ لأننا إذا ألقينا جانبًا الأساطيرَ والأوهامَ التي لفَّقها مؤرخو الإسبان حول سقوط لذريق، ورجعنا إلى التاريخ المتَّئد غير المتحيز، رأينا أن انتصار المسلمين في وادي لكة ألقى بإسبانيا كلها في أيدي العرب؛ فقد ربح طارق ومن معه من الاثني عشر ألف بربري الجزيرة جميعها، ولم يكن في حاجة إلا إلى قليل من الجهد ليقضيَ على المقاومة الخائرة في بعض المدن.

ولم يُضِعْ طارق وقتًا في متابعة انتصاره؛ فقد تقدم هذا القائد المجدود بلا تردد متحديًا أمر موسى الذي كان يتحرق حسدًا لما ناله جنديُّه البربري من المجد الذي لم يكن يخطر له ببال، وقسم طارق قوته ثلاث فرق أو كتائب وبثها جميعًا في شبه الجزيرة، فأخضع مدينة إثر مدينة بعد مقاومة لا تكاد تذكر.

وأرسل مغيثَ بن الحارث على سبعمائة فارس لامتلاك قُرْطُبَةَ، فأخفى جنوده حتى إذا جاء الليل تقدم نحو المدينة، واتفق في ذلك الحين أن سقط هاطل من البَرَد أخفى وقع سنابك الخيل، فعد المسلمون ذلك عناية من الرحمن، والتقوا براعي غنم أرشدهم إلى ثغرة في سور المدينة، فعزموا أن يجعلوا منها منفذًا لهجومهم، وتسلق رجل منهم كان أكثرهم نشاطًا وأشدهم حمية شجرة تين كانت تحت الثغرة، ثم وثب منها إلى السور حتى إذا استقر به خلع عمامته، وأرسل بطرفها إلى بعض أصحابه، ثم جذبهم إليه واحدًا واحدًا، حتى إذا نزلوا من السور إلى داخل المدينة دهموا حراس الأبواب ففتحوها للفاتحين، وتم الاستيلاء عليها دون عناء.

وعندما دخل المسلمون قرطبة التجأ حاكمها وحرسها إلى دير يعصمهم من العدو، ولزموه ثلاثة أشهر محاصَرين، حتى إذا انتهى أمرهم إلى التسليم بقيت المدينة بأيدي اليهود الذين أثبتوا صدق إخلاصهم للمسلمين فنالوا عطفهم ورعايتهم، ونظر العرب إليهم نظرتهم إلى الصديق، فلم يضطهدوهم كما اضطهدهم قساوسة القوط إلا في العهد الأخير، فحيثما اتجه سلاح المسلمين سار اليهود من ورائه متابعين متزاحمين، فالعرب يحاربون واليهود يتَّجرون، حتى إذا ألقت الحرب سلاحها رأيت اليهود والعرب والفرس وقد اجتمعوا على إنماء التعليم، والفلسفة، والآداب، والعلوم، إلى غير ذلك مما ميز حكم العرب، وأرسل شعاعه في العصور الوسطى منيرًا وهاجًا.

وجرت فتوح طارق شوطًا بعيدًا بمعاونة اليهود وشدة فزع الإسبان، فاستولى على أُرْشُذونة دون أن يلقى مقاومة، وفر سكانها إلى التلال، وألقت القيادَ مالَقة، وعصفت الحرب بإلبيرة (بالقرب من مكان غرناطة الآن).

ودافع تُدْمير Theodemir حينًا عن شعاب جبل مُرْسية بشجاعة وصبر، ولكنه دُفع إلى ترك معقِله والاشتباك مع العرب في موقعة طاحنة حُطِّم فيها جيشه تحطيمًا، وفر مع خادم له إلى مدينة أوريولة، وهناك فكر في أن يلقَى مطارديه بخديعة بارعة، فإنه حينما رأى أن الحرب لم تكد تبقي على رجل بالمدينة لسقوط شبان مرسية في المعركة جميعًا، جمع النساء وألبسهن ثياب الرجال ووضع الخوذ على رءوسهن وسلَّحهن بقصب يشبه الرماح، وأمرهن أن يضعن شعورهن فوق الذقون كاللِّحى، ثم وزعهن على أسوار المدينة، فلما اقترب المسلمون في دَغَشِ الشفق، سُقِطَ في أيديهم لما رأوا من قوة الدفاع عن المدينة، وبعدئذ حمل «تدمير» بيده راية الهدنة، وألبس خادمه عباءة يلبسها السفراء، وذهبا لمفاوضة القائد المسلم الذي لم يعرف الأمير الإسباني فأحسن استقبالهما، ثم قال له تدمير: «لقد قدمت نائبًا عن حاكم المدينة لأفاوض في شروط تليق بعظيم تسامحك وشرف منزلته، فأنت ترى أن المدينة جديرة بأن تثبت أمام حصار طويل، ولكن الحاكم شديد الرغبة في الإبقاء على حياة جنوده، فَعِدْنِي بأن يغادروا المدينة أحرارًا دون أن يمسهم سوء أسلمها إليك غدًا بغير حرب، وإلا فقد وطدنا العزم على القتال إلى آخر رجل.» فقبل القائد ما عرضه عليه.

ثم وُضعت شروط التسليم كما أحب، وبعد أن ختمها القائد وأمضاها تدمير، التفت إلى القائد قائلًا: «انظر إليَّ فأنا حاكم المدينة.»

وعند الفجر فُتحت أبواب المدينة، واتجه المسلمون ليروا الحامية القوية خارجة منها، ولكنهم لم يروا إلا تُدمير وخادمه في درع محطمة، وخلفها جمع من الشيوخ والنساء والأطفال، فسأله القائد العربي: «أين الجنود ورجال الحامية الذين رأيتُهم حول الأسوار البارحة؟» فأجابه: «ليس لديَّ من الجند أحد، أمَّا رجال الحامية فها هم أولاء أمامك فانظر إليهم، فبهؤلاء النسوة حصَّنت أسواري، أما هذا الخادم فهو سفيري وحارسي وحاشيتي.» فأخذ القائدَ العجبُ من جرأته، وسُرَّ من براعة حيلته فعينه حاكمًا لمقاطعة مرسية التي سماها العرب بعد ذلك باسمه.

وتدل هذه القصة على كرم العرب ورقة طباعهم، ولا ريب فقد كانوا مُثلًا عالية للفروسية الحقة التي طالما ازدانت بها أعمالهم، وكانوا يمتازون بالعفو عند المقدرة وبكثير من صفات البطولة والنجدة التي حملت الإسبان بعد تغلبهم عليهم على أن يلقبوهم «بفوارس غرناطة وبالغطارفة، وإن كانوا عربًا».

وفي هذه الأثناء كان يضغط طارق على طليطلة قصبة القوط؛ لأنه كان يَجِدُّ في طلب أشراف القوط، فقد بحث عنهم في قرطبة ففروا قبل جيئته، ولما دخل طليطلة التي أسلمها إليه اليهود لم يجد بها للأشراف أثرًا، فقد غادروا المدينة قبل دخوله والتجئوا إلى صخرة أَشْتُورِش (أستورياس) ولم يبقَ بطليطلة إلا الخونة من أسرتي غيطشة ويوليان الذين كوفئوا بمناصب في الدولة، أما سَراة المملكة فقد هجروها وأسلموها للعرب فصارت ولاية تابعة للدولة الأموية التي جعلت مقر حكمها بدمشق ووسعت رقعة مملكتها من جبال الهند إلى أعمدة هرقل.

وتُرِك لموسى بن نصير إخضاع ما بقي من الأندلس، فإنه حينما سمع بفوز طارق المطرد عبَرَ المضيق على عجل بجيش من العرب في صيف سنة ٩٣ﻫ/٧١٢م لينال نصيبه كاملًا من المجد، وكان عدد رجاله ثمانية عشر ألفًا، فاتصل بطارق في طليطلة بعد أن أخضع قَرْمونة وإشبيلية وماردة، ولم تكن مقابلة القائد الأعلى الفاتح مقابلة ود وصداقة، فإن طارقًا حينما سارع إلى لقاء موسى في حفاوة وتكرمة عاجَلَه هذا بالسوط، وأخذ يقرِّعه ويعنفه على مجاوزة أوامره معلنًا أنه لن يستطيع أن يضمن سلامة المسلمين في يد قائد مخاطر مثله، ثم زج به في غيابة السجن.١ ولما علم الخليفة الوليد بما وقع لطارق وما أصابه من الظلم الذي أثارته الغيرة وصبَّه الحسد استدعى موسى إلى دمشق، وأعاد طارقًا إلى القيادة بإسبانيا.
وقبل أن يعود موسى إلى الشام، كان قد بلغ جبال البُرت (البرانس)٢ وأطلَّ منها، فجالت بخياله صورة لفتح أوربا كلها، ولكنَّ دعوة الخليفة عاقته عن الاستمرار في تقدمه، فقام بهذا الأمر غيره.٣
ذلك أن حاكمًا٤ عربيًّا تملك في سنة ٧١٩م/١٠١ﻫ القسم الجنوبي من الغال المُسمَّى «سِبْتِمانيا» بما فيه من مدينة قرْقَشونة، وأرْبونة … وأخذ من هذين المركزين يغير بجيشه على برغاندي، وأقيتانية، غير أن يوديس دوق أقيتانية استطاع قهر العرب عند أسوار طَلُّوشة (تولوز) سنة ٧٢١م/١٠٣ﻫ، فلم يَفُتَّ هذا الغلب في عضدهم، بل حفزهم إلى الاتجاه نحو الغرب، فنهبوا بونة وفرضوا الضرائب والإتاوات على سان، واستولوا على أفينون سنة ٧٣٠م/١١٢ﻫ وتوالت غاراتهم على الولايات المجاورة.

وقد وطد العزمَ عبدُ الرحمن حاكم أربونة الجديد على التغلب على كل بلاد الغال، فإنه بعد أن وقف تقدمَ يوديس الذي حاول بعد انتصاره في طلوشة أن يغزو أرض المسلمين، هجم على طَرَّكونه وفتح أقيتانية، وهزم يوديس عند شواطئ الجارون.

واستولى على بُرْدِيل (بوردو) عَنْوة عندما سمع بالكنوز المذخورة بدير القديس مارتن، وقابل شارل بن بيبين الذي كان في الواقع ملكَ فرنسا الفعلي؛ لأن ملكها كان ضعيف العزم يكاد يكون محجورًا عليه من رئيس القصر.

وتقدم المسلمون إلى الغزو فرحين مستبشرين ظانين أنهم سيلاقون من النصر ما لاقوه في موقعة وادي لكة، وتوقعوا أن يروا فرنسا الجميلة من كاليه إلى مرسيليا وقد سقطت فريسة في أيديهم، وفي الحق إن مصير أوربا كان في الميزان، حتى لقد عُدَّت هذه الموقعة من المواقع الخمس عشرة الفاصلة في حياة البشر، وكان السؤال العظيم الذي كان جوابه في شفار السيوف وأسنة الرماح هو: «أتصبح أوربا مسيحية أم مسلمة؟ أتكون نوتردام التي لم تُبْنَ بعدُ كنيسةً أم مسجدًا؟ أتردِّد كنيسة سنت بول تراتيل المسيحية، أم تدوي بها أصوات المصلين من المسلمين؟» ذلك أنه لم يكن هناك من سبب يدعو مطلقًا إلى وقوف الفاتحين عند ساحل المنش إذا لم تصد جيوشهم عند تور، ولكن قضت الأقدار بأن مد الغزو الإسلامي قد بلغ غايته، وأن الجَزْر أخذت تبدو مظاهره للعيان.

لم يكن شارل والإفرنج من أتباعه من الصنف الخائر العزيمة الضعيف المخنث كبقايا الإسبان والرومانيين والقوط، بل كانوا في الشجاعة والشدة أكفاء للعرب أنفسهم وأمثالًا، وكان لهم من بسطة الجسم وعنفوان القوة ما كان له أكبر الأثر في أعدائهم.

وقد قضى الجيشان ستة أيام في المناوشة، واشتد الالتحام في السابع وحمي الصِّدام، فاخترق شارل صفوف العرب بصولة لا تقاوم، ثم أخذ يرسل يمينًا وشمالًا ضرباته القوية التي سُمِّي من أجلها: بشارل مارتل، أو إن شئت «شارل المرْزَبة أو المطرقة»، وسرت روحه في جنوده فانقضوا على المسلمين بقوة ساحقة، فتمزق جيشهم ولاذوا بالفرار، ودعي بين الحزن والذعر مكان هذه الموقعة ببلاط الشهداء حينًا من الدهر طويلًا.

زال الخطر عن غرب أوربا لأن كارثة العرب كانت فادحة حتى إنهم لم يفكروا طوال القرون التي حكموا فيها في الجنوب أن يغزوا فرنسا، نعم إنهم احتفظوا بأربونة والجهات المشارفة للسفوح الشمالية لجبال البرت (البرانس) حتى سنة ٧٩٧م/١٨١ﻫ، ثم خاطروا بإرسال غزوات على بروفانس، ولكن طموحهم لم يصل بهم إلى أبعد من هذا، فإن موقعة «تور» حققت استقلال فرنسا، ووقفت سدًّا أمام الفتوح العربية.

لقد غمرت حشودُ العربِ الأرضَ كما يغمرها مد البحر، وكانت جيوشهم تملأ كل مكان، ولكنهم الآن بعد هزيمتهم الساحقة أصبحوا يسمعون صوتًا غريبًا يرنُّ في آذانهم صائحًا: «هنا ستقفون، وهنا ستستقر أمواجكم المزهوَّة المغرورة».

وكان ملوك فرنسا مع كل هذا يثقون بشجاعة جيرانهم العرب ويخشون بأسهم، حتى إنهم — وإن فرحوا أحيانًا بانتصارهم عليهم في وقائع صغيرة — لم يحاولوا إخضاع إسبانيا إلا مرة واحدة، ذلك حينما فقد قارله (شارلمان) — الذي شبهوه بالإسكندر — راحتَه وأحس بقلقه لشدة مناعة العرب في الجانب الآخر من جبال البُرت، وظن أن من واجب المسيحي أن يستأصل شأفة الملحدين، ورأى أنه — وهو الملك العظيم المظفَّر — لا يجمُل به أن يحتمل إلى جانبه دولةً مستقلةً بالأندلس، وقد سنحت له الفرصة في النهاية حينما ثار بإسبانيا بعض القبائل لتولية أول أمير أموي، وقد دأبت القبائل طيلة أيام العرب بالأندلس على السخط والهياج، فدُعي شارلمان للتدخل في الأمر وطرد الأمير الغاصب.

ويزعم مؤرخو الإسبان أن ألفونسو ملك أشتورِش (أستورياس) هو الذي استنجد بملك فرنسا، ولكن الأرجح أن الدعوة جاءت من بعض زعماء المسلمين الذين خابت آمالهم وانعكست مطامعهم في عبد الرحمن الداخل الأموي،٥ حتى أصبحوا يؤثرون الخضوع لعدو الإسلام اللدود على قبول هذا الأمير الجديد.

وكان ما طلبوه من شارلمان محبوبًا إلى نفسه، ملائمًا للفرصة التي كان يتوقعها، وكان الدهر في هذا الحين مبتسمًا لشارلمان؛ لأنه أتم إخضاع السكسون ونفى زعيمهم «وتكند» وأقبلت الألوف من أصحابه إلى بادربون للدخول في المسيحية زُمَرًا، وأصبحت يد الفاتح حرة طليقة تتجه أنى شاءت للغلَب والانتصار.

فتم الاتفاق بين المتآمرين على أن يغزو شارلمان إسبانيا، بينما يعمل الزعماء الساخطون على توجيه الجيش العربي إلى ثلاث جهات متباعدة، وكان من حسن طالع أمير قرطبة أن هذا الاتفاق الخطر لم يتم منه شيء، فإن حلفاء شارلمان أخطئوا في حُسبان الزمن، ثم تنازعوا وصاحت صائحة الحرب بينهم، فلما اخترق شارلمان البرت سنة ٧٧٧م/١٦١ﻫ لم يجد ناصرًا ولا معينًا، فأخذ يحاصر سَرَقُسْطَةَ، وبينما هو عند أسوارها إذ وصلت إليه الأخبار بأن «وتكند» عاد وأثار السكسون وتقدم بهم حتى وصل إلى كولون، فلم يجد شارلمان بدًّا من أن يعود أدراجه لحماية مملكته، فاقتحم بجيشه شِعاب الجبال، وفي شِعْب رونْسسْفال٦ نزلت بمؤخرته كارثة فادحة قضت عليها، فإن البشكنش — وقد أحرقت صدورهم العداوة القديمة الدائمة للإفرنج — وضعوا لهم كمينًا في أغوار صخور البرت، وانتظروا حتى إذا مرت مقدمة الجيش من الشعب انقضوا على المؤخرة وكانت بطيئة السير محملة بالأثقال، فاستأصلوا رجالها حتى لم يكد يفر منهم أحد من يد الموت.

ويقص علينا المؤرخون المسيحيون ما تقشعر له الأبدان من مذابح هذا اليوم، وذكروا أن المسلمين وفرسان ليون تعاونوا على تحطيم جيش الإفرنج، وتصور لنا أنشودة إسبانية كيف أن البطل برناردو كان يقود فرسان ليون في مذبحة جيش الإفرنج فتقول:

مشى برنارد في جيش خضم
يسوق إلى الفرنج به أسودا
ليحمي أرض إسبانيا ويُعلي
شعارَ «بلاي» والشرفَ التليدا
وإنَّا سادةُ الأحرار لكن
رضينا أن نكون له عبيدا
نتابع ريشَ خوذته ونمضي
قريبًا كان يقصد أو بعيدا
وعاهدناه أن نفنى جميعًا
وإنَّا خيرُ من حفظ العهودا
أنلقي بالبنين لمستبد
يُطيح بهم ويرهقهم صَعودا
وبين ضلوعنا قلب جريء
يمد إلى العدا زندًا شديدا؟!
أيطمع شارل أن يبقى مليكًا
لعرش ليون جبارًا عنيدا؟!
لقد كذبت أمانيه فإنَّا
سنحصد جمعَه حتى يبيدا
ويبقى شعب ألفونسو شريفًا
ويبقى مُلْكُ ألفونسو مجيدا

حارب العرب كتفًا إلى كتف لاستئصال الإفرنج مع أبطال ليون الذين أَبَوْا أن ينضموا إلى أمير أستورياس في خضوعه لشارلمان، ويحدثنا أبسيدو تِرْبِن في تاريخه القصصي لشارلمان وأرلاندو «بهجوم ثلاثين ألفًا من العرب على جيش المسيحيين، وقد امتلئوا غضبًا وحقدًا، وكان المسيحيون مجهدين يترنحون للسقوط لطول ما قاتلوا من قبل، فحصد المسلمون رجالهم، ولم يُبْقوا منهم على أحد، فمنهم من نفذت الرماح من أحشائه، ومنهم من هشمته القضبان، ومنهم من طاح رأسه بالسيف، ومنهم من سلخ حيًّا، ومنهم من شنق فتدلى من الأشجار».

كانت المذبحة مفجعة، ولم تمَّحِ ذكرى هذا اليوم من أخيلة سكان هذه الجهة على طول الدهر حتى إن الجيش الإنجليزي حينما تعقب قواد نابليون في شعب رونسسفال سمع الناس يتغنون بالأنشودة القديمة التي قيلت في هذه المعركة الطاحنة، وأخذ شعراء إسبانيا الجوَّالون يضيفون إليها كثيرًا من الحوادث إن صدقًا وإن كذبًا، ومن أشهر الأناشيد أنشودة أمير البحر جارينو التي سمعها الدون كيشوت، وشانكو بانزا تُغَنَّى بتوبوسو، وهي:

يا فرنسا قد كان يومك حقًّا
عند رونسسفال يومًا عصيبا
كان بِرْناردُ فيه سيفًا فولَّى
وسِنانًا لشارلمان صليبا
وجرينو قد كبَّلته قيود
فهو يدعو فلا يلاقي مجيبا
حوله سبعة من العُرْب أبطا
لٌ يُرَى بينهم أسيرًا غريبا

وهكذا تمضي الأنشودة فتقصُّ علينا قصة أسر جارينو، ثم انتقامه بذبح آسره في المبارزة، ثم فراره إلى فرنسا.

وكان ممن ذُبحوا في هذا اليوم الأيوم رولَنْد الشجاع، وهو من قواد شارلمان الاثني عشر وقائد حدود بريتاني، وقد صوَّره خيال الشعراء بطلًا في قصة شارلمان، ونسب إليه من أعمال الفروسية والشجاعة ما يتردَّد العقل في قبوله.

فقد قيل إنه حارب طول اليوم وقذف بنفسه في أشد مواقع المعركة التحامًا ضاربًا بسيفه «ديورِندا» إلى اليمين وإلى الشمال، ولكن شجاعته لم تغنِ عنه شيئًا ولم تكسبه المعركة، فارتمى إلى الأرض جريحًا محاطًا برجاله وأخذ يجود بنفسه، ويقولون إنه قبل أن يسلم الروح استل سيفه الأمين من قرابه وكان به ضنينًا، يؤثر أن يفقد الذراع التي جردته على أن يفقده وشرع يقول:

أيها الحسام الذي لم يماثله سيف في بريقه وصفاء مائه وعظمته ولينه، ثم في قبضته العاجية البيضاء المزينة بصليب ذهبي فاخر، فوقه تفاحة زبرجدية، حُفِرَ بها اسم الله الأقدس، لقد مُنِحْتَ مَضَاءً، واستأثرت بمزايا ليست في سواك، من ذا الذي سيشهرك في المعارك بعدي؟! ومن هذا الذي سيكون لك صاحبًا؟ فإن مالكك لا يُغلب ولا ترهبه الأعداء ولا تخيفه الأوهام، فإذا صحبك وصحبته معونة الله حطَّم المسلمين، وأَعلَى كلمة المسيح، وبلغ قمة المجد.

يا أيها السيف السعيد، يا أمضى المواضي، لقد عز لك النديد والنظير، فإن القَيْنَ الذي طبعك لم يطبع لك أخًا، وإذا ضربتَ لم يستطع الفرارَ من ضربتك أحد.

ثم ضرب به صخرة قسمته نصفين مخافةَ أن يسقط في يد جبان أو مسلم، ثم نفخ بجُمْع قوته في بوقه الذي كان صوته يحطم الأبواق، حتى انفجرت أوداجه.

وأرسل بوقه المحزون صوتًا
فردد فونْترابيان صداه
ووصل الصوت إلى أذن شارلمان وهو في معسكره على ثمانية أميال غير عالم بالمصيبة التي حلت بمؤخرة جيشه، وكاد الملك يهم بنجدة صاحب البوق المستصرخ، لولا أن أحد الخونة أخبره بأن رولند ينفخ في بوقه للصيد، وهكذا لم يسعف شارلمان قائده الأمين الذي فاظ بعد أن رتل صلاته وأدى اعترافه، ثم أسرع بولْدوين إلى شارلمان — وكان من نبلاء فرنسا — وأخبره بما حاق بمؤخرة الجيش وبموت رولند وأوليفر، عندئذ حوَّل الملك عنان فرسه وعاد بجيشه إلى رونسسفال، فرأى الجثث مبعثرة في الميدان، ورأى جثة البطل ممددة على هيئة الصليب وبوقه وسيفه المحطم إلى جانبه، فوقف يندبه في حزن وأسى، وهو يردد الزفرات، ويُعْوِل إعوال الثكالى، ويضرب كفًّا بكف، وينتف لحيته، ويقول:

يا يدي اليمنى، يا فخر الإفرنج، ويا سيف العدل، ويا رمحًا لا يلين ودرعًا لا تحطم، يا تُرْس الطمأنينة والسلام، يا حامي المسيحية وسوط عذاب الإسلام، يا حائط القساوسة، وصديق الأرامل واليتامى، يا أمين الرأي، ويا صادق الحكم، ويا أشرف قومك، ويا أشجع قائد لجيش، لِمَ تركتك هنا لتموت؟ كيف أراك ميتًا ولا أموت بعدك؟! لماذا تركتني حزينًا وحيدًا، وخلفتني ملكًا بائسًا مسكينًا؟ ولكنك رفعت إلى السماء، وأصبحت تسعد بصحبة الملائكة والشهداء.

وهكذا ظل شارلمان يبكي رولند ويندبه طيلة حياته، ثم أقام الجنود في البقعة التي مات بها، وضمَّخوا جسده بالبلسم والطيب، وسهِر الجيش على حراسته يرتل الأدعية ويتلو الأناشيد ويوقد النيران على قمم الجبال حوله، ثم حمله الجنود معهم واحتفلوا لدفنه كما يُحْتَفَل للملوك، وهكذا انتهى هذا اليوم الأسود …

حيث رُونْسِسفالُ كانت
لِلفَرَنْجِ الحُمْسِ لَحدَا
أُلِيفرْ لاقى بها الحَتْـ
ـفَ ورُولندُ تردَّى
ولم يُشِد التاريخ بعمل قليل الشأن كما أشاد بهذه الحركة، حتى لقد جعلها منبعًا لأساطير البطولة وأناشيد الشعراء، فهي ثِرْموبيلى٧ جبال البرت (البرانس) في التغني بها وطول الحديث عنها، وإن لم يكن لها ذلك المجد ولا هذا المغزى.

هوامش

(١) أعتقد أن هذه الحادثة غير صحيحة وإن تواترت كتب التاريخ على نقلها، وأغلب الظن أنها من وضع العباسيين.
(٢) ويقال لها البرينات أيضًا.
(٣) توفي موسى مغضوبًا عليه من الخليفة سنة ٩٧ﻫ.
(٤) هو عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، استشهد في سنة ١١٤ﻫ/٧٣٢م بموقعة بلاط الشهداء.
(٥) هم: سليمان بن يقظان الأعرابي الكلبي حاكم برشلونة، وعبد الرحمن بن حبيب الفهري، وأبو الأسود بن يوسف.
(٦) يسميه العرب باب الشزري.
(٧) ثرموبيلى: شعب ضيق في بلاد اليونان بين جبل أوتا والبحر، اشتهر بالدفاع اليائس الذي قام به ملك الاسبرطيين ليونيداس ومعه ثلاثمائة جندي حينما وثب جيش الفرس على اليونان في سنة ٤٨٠ق.م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤