الأندلسيون

وضع انتصار شارل مارتل سنة ٧٣٣م/٥١١ﻫ سدًّا أمام غزو المسلمين لأوربا، فلم يعودوا يفكرون في دفع فتوحهم إلى الأمام، واتجهوا إلى توحيد المملكة التي افتتحوها وجمع أطرافها، وبعد أن وقعت الواقعة بجيش شارلمان عاشوا في بلادهم آمنين لا ينازعهم منازع مدة ثلاثمائة سنة، نعم إن أبناء القوط المنهزمين تمسكوا باستقلالهم في المقاطعات الجبلية الشمالية، وأخذوا من آن لآن يستردون أجزاءً من مملكتهم القديمة، ولكن هذه الغارات — وإن ضاقت بها صدور العرب — لم تكن إلى الآن خطرًا عليهم؛ لأنهم كانوا يقطُنون القسم الأعظم من إسبانيا في رخاء وبُلَهْنِيةٍ، ولم يتحقق خطر المقاطعات إلا في القرن الحادي عشر.

وقَبِل الفاتحون أول الأمر الاعتراف باستقلال هذه المقاطعات، وعدُّوا ذلك شرًّا لا بد منه؛ لأن انتزاعها من أيدي الإسبان كان يكلفهم دماء أغلى ما تستحق، فتركوا للمسيحيين جلِّيقِيَّة (غاليسية)، وليون، وقَشْتالة، ومقاطعات غَسقونية، وقنعوا بأحسن قسم في إسبانيا، وأرغموا المسيحيين على التمتع بمفاوز الشمال الموحشة الباردة، وصخوره القاسية الجافية على ألا يطمحوا أو يمُدُّوا أعينهم إلى ما ينعَم به العرب من الولايات الجنوبية والشرقية الدفيئة الخصيبة.

ومنذ نهاية القرن الثامن — حينما وقفت حدود مملكة العرب عند غاية، إلى أن زحف المسيحيون على ممالك الإسلام في القرن الحادي عشر — كان الحد بين المسلمين والمسيحيين على التقريب عند امتداد شارات وادي الرمل١ التي تمتد في اتجاه شماليٍّ شرقيٍّ من قُلُمْرِيَّة في البرتقال إلى سرقسطة، ويمكن أن يُعَدَّ نهر إبْرَه حدًّا تقريبيًّا، فكان المسلمون ينعمون بالسهول الخصيبة لأنهار تاجُه، ووادي يانه، والوادي الكبير، وهو الاسم الذي سمَّى به العرب هذا النهر لعظمه، وكانوا يملكون إلى جانب مدن الأندلس الشهيرة مزايا الثروة، ورواج التجارة، واعتدال الجو إلى غير ذلك مما اشتهر به هذا القسم من عهود الرومان.

وهذا التقسيم طبيعي، فقد تميز القسمان تميزًا جغرافيًّا منذ القدم لاختلاف أجوائهما، فالشمال موحش معرض للرياح الهُوج والأمطار الهاطلة والبرد الشديد، وهو على جودة بعض المروج والمراعي به لا يصلح كثير من أراضيه للزراعة، أما الجنوب وإن كان مهددًا بالرياح الحارة التي تهُب من إفريقية، فمزدهر كثير المياه صالح للزراعة، وبين القسمين مساحة واسعة كان المسلمون ينتفعون بها على الرغم من أن ملكيتها كانت موضع شك وجدال، وأبغض العرب — وهم عشاق الشمس المتألقة — هذه المساحة الباردة، فتركوها لقبائل البربر أصحاب طارق، وكان هؤلاء دائمًا موضع زراية العرب الخُلَّص الذين جنوا ثمرات الفتوح.

ملك المسلمون ثلثي شبه الجزيرة وسمَّوْها بالأندلس، وأنشأوا بها مملكة قرطبة العظيمة التي كانت أعجوبة العصور الوسطى، والتي حملت وحدها في الغرب شعلة الثقافة والمدنية مؤتلقة وهَّاجة وقت أن كانت أوربا غارقة في الجهالة البربرية، فريسة للشقاق والحروب.

ويجب ألَّا يجول ببال أحد أن العرب عاثوا في البلاد أو خرَّبوها بصنوف الإرهاق والظلم كما فعل قُطعان المتوحشين قبلهم، فإن الأندلس لم تحكم في عهد من عهودها بسماحة، وعدل، وحكمة كما حكمت في عهد العرب الفاتحين.

وقد يسأل المرء نفسه دهِشًا: من أين جاء لهؤلاء العرب كلُّ هذه المواهب السامية في الإدارة والحكم؟ فقد جاءوا مباشرة من صحرائهم العربية ولم تترك لهم فتوحهم المتوالية من الزمن إلا قليلًا لدراسة فنون سياسة الأمم المغلوبة، نعم، إن بعض رجال دولتهم كانوا من اليونان والإسبان، ولكن هذا لا يبطل العجب؛ لأن هؤلاء لو تُرِكُوا وحدَهم أو عملوا في ميدان آخر بعيد عن العرب لعجزوا عن أن يكون لهم أمثال هذه النتائج الباهرة، وكل ما هُيِّئ للعقول الإسبانية من القدرة الإدارية لم يكفِ لجعل الحياة أيام دولة القوط محتملة هنيئة، ولكن الأمة الإسبانية على النقيض من ذلك كانت في ظلال حكم العرب راضية هانئة كما يمكن أن يرضى ويهنأ شعب مغلوب يحكمه غاصب، بل إنها كانت أسعد حالًا وأرخى بالًا مما كانت عليه حين كان حكامها القوط يدينون بدينها الذي تراءَوْا باسمه دون حقيقته، فإن اختلاف الدين كان في الحق أقل المصاعب التي لاقاها العرب في أول حكمهم، وإن أصبح بعد ذلك مثار عنت واضطراب؛ لأن ميول الإسبانيين للمسيحية كانت لا تقل عن ميولهم للوثنية، فقد فرض عليهم قسطنطينُ المسيحيةَ فرضًا، فبقي الناس متشبثين برومانيتهم، ولم يترك الدين في نفوسهم إلا أثرًا ضئيلًا، وهم في الواقع لم يكونوا في حاجة إلى دين جديد، بل كانوا في أشد الحاجة إلى القدرة على أن يعيشوا حياتهم في أمن ورغد، وقد منحهم ساداتهم المسلمون هذين.

وفي بُداءة الفتح، مر بالأندلس وقت قصير مضطرب، شوهته حوادث الإحراق والقتل والمصادرة، غير أن حكام العرب أسرعوا إلى وقف كل ذلك، ورأت الرعية بعد أن استقرت الأمور في نصابها أن حياتها على كل حال لم تكن أسوأ مما كانت عليه من قبل، ثم أخذ الناس بعد قليل يشعرون بأنهم أفادوا من تغيُّر الحكم، فقد كان للإسبانيين أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعُيِّن لهم حكام من أنفسهم يديرون المقاطعات ويجمعون الضرائب ويفصلون فيما شجر بينهم من خلاف، وأصبح سكان المدن لا يُكلَّفون إلا الجزية والخراج — إن كانت لهم أرض تزرع — بعد أن كانوا في عهد القوط يحملون وحدهم عبء الضرائب والأموال التي تُنفَق على الدولة، وكانت الجزية متدرجة على حسب منزلة المطالبين بها، فكانت تبتدئ من اثني عشر درهمًا إلى ثمانية وأربعين في العام، أو من نحو ثلاثة جنيهات إلى اثني عشر، وقد قُسمت اثني عشر قسطًا، يُجبَى قسط في كل شهر للتخفيف عن الرعية، وقُصِرَت الجزية على المخالفين في الدين من النصارى واليهود، أما ضريبة الأراضي التي كانت تتفاوت على حسب قدرة إنتاج الأرض، فإنها فرضت بعدل ومساواة على النصارى واليهود والمسلمين جميعًا، ولم تمتدَّ يد المسلمين في الغالب إلى أملاك المدن والأهلين التي كانت لهم قبل الفتح، نعم، إن أملاك الكنائس صودرت، وكذلك الأملاك التي فر أصحابها إلى جبال الشمال، ولكن العرب تركوا عبيد هذه الأراضي يعملون بها على أن يؤدوا إلى ساداتهم المسلمين نسبة من الحاصل تتفاوت بين الثلث وأربعة الأخماس، وعومل بعض المدن كماردة وأُريولة معاملة خاصة، وفازت من الفاتحين بخير الشروط، فاحتفظ السكان فيها ببضائعهم وأراضيهم على أن تؤدَّى إلى الحاكم إتاوة في كل عام، ولم يكن المسيحيون على أسوأ الفروض ملزمين دفع ضرائب أكثر مما كان يدفع جيرانهم المسلمون، على أنهم قد ظفِروا بحق لم يكن لهم أيام ملوك القوط، فأصبحوا في عهد الإسلام قادرين على نقل ملكية أراضيهم لغيرهم، أما التسامح الديني فلم يدع للإسبانيين سببًا للشكوى، فقد تركهم العرب يعبدون كما يشاءون من غير أن يضطهدوهم أو يلزموهم اعتناق عقيدة خاصة كما كان يفعل القوط باليهود، وكانت الجزية كبيرة الفائدة لخزانة الدولة، حتى إن بعض أمراء قرطبة كانوا يميلون لتثبيط عزائم المتحمسين من المسلمين الذين أخذوا يدعون إلى الإسلام؛ لأن هذه الدعوة كانت تحرم الدول منبعًا غزيرًا من موارد جبايتها.

وكان من أثر هذه المعاملة وذلك التسامح أن رضي المسيحيون بالنظام الجديد، واعترفوا في صراحة أنهم يؤثرون حكم العرب على حكم الإفرنج أو القوط، حتى إن القساوسة أنفسهم لم يكونوا شديدي التألم لحكم العرب كما يدل على ذلك التاريخ المنسوب إلى (إيزيدور) الباجي٢ الذي كُتِبَ بقرطبة سنة ٧٥٤م/١٣٧ﻫ فإن هذا الراهب الصالح لم يتحرج من تدوين تلك الصلة غير الجائزة من زواج أرملة لذريق بابن موسى ابن نصير،٣ وأسطع الأدلة على رضا المسيحيين عن حكامهم الجدد أن ثورة دينية واحدة لم تحدث في خلال القرن الثامن.

أما فرح العبيد بما طرأ على نظام الحكم من التغير فقد كان عظيمًا حقًّا بعد أن لاقوا من ضروب العسف والقسوة من القوط والرومان ما تقشعر له الأبدان، فإن الرق في رأي المسلمين الأخيار نظام إنساني رفيق، حتى إن النبي حينما لم يجد بدًّا من الإبقاء على هذا النظام العتيق الذي يعارض مبادئ الإسلام بذل كل جهد في تخفيف ويلاته في كثير من الوصايا والأحاديث، فهو يقول في الأرقاء: «إخوانُكم خَوَلكُم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطْعِمْه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبَس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإذا كلفتوهم فأعينوهم.» وعن أبي مسعود الأنصاري قال: «كنت أضرب غلامًا لي فسمعت من خلفي صوتًا يقول: اعلم أبا مسعود: لله أقدرُ عليك منك عليه، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله فقلت: يا رسول الله، هو حر لوجه الله، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار.»

ولم يكن بين القُرَب التي يتقرب بها المسلمون إلى الله أجل من إعتاق العبيد، وكثيرًا ما حض النبي على تحريرهم، وقد جعل الإسلام إعتاقهم كفارة لبعض ما يُجترح من الذنوب.

سعِد العبيد بدخول العرب، وأصبحوا في رق المسلمين بمنزلة صغار الزُّرَّاع، فتركهم سادتهم أحرارًا يزرعون الأرض كما يشاءون على أن يؤدوا إليهم نصيبًا من الغلة؛ لأنهم كانوا مشتغلين بالحروب، ولأنهم كانوا بطبيعتهم يأنفون من أعمال الفلاحة، أما عبيد المسيحيين الذين ظلوا يائسين من التخلص من الرق طول حياتهم، فقد مُهِّد أمامهم اليوم طريق إلى الحرية من أسهل الطرق وأهونها، فليس عليهم إلا أن يذهبوا إلى أقرب محتسب أو قاضٍ وينطقوا أمامه بالشهادتين، فيصبحوا في التو أحرارًا فإن الحرية تتبع الإسلام، فليس عجيبًا إذًا أن نجد العبيد الإسبانيين مسرعين إلى إعلان دينهم الجديد ليتخلصوا من ربقة العبودية، ولم يبذل القساوسة في الماضي إلا جهدًا ضئيلًا لغرس المسيحية في قلوب هؤلاء الأرقاء، فقد كان لديهم من العمل والإشراف على ضيعاتهم ثم من العناية الدينية بالنبلاء ما صرفهم عن الاهتمام بهؤلاء الجهلاء، ثم إن الانتقال من مزيج الوثنية والمسيحية إلى إدراك ضعيف للإسلام لم يكن صدمة شديدة للعقل المقلد.

ولم يكن العبيد وحدهم هم الذين تسابقوا إلى الدين الجديد؛ فقد أسلم كثير من كبار المُلَّاك والسراة؛ إما للفرار من الجزية، وإما للمحافظة على ضياعهم، وإما لأن نفوسهم مالت مخلصة إلى الإسلام وأحبت ما في التوحيد من جلال ويسر، وكان هؤلاء الداخلون في الإسلام أو المتسلمون٤ سببًا لإثارة القلاقل في الدولة كما سيتلى عليك بعدُ، فإن إسلامهم وإن تضمن مساواتهم بالمسلمين لم يصل بهم إلى التمتع بحقوق المسلمين وميزاتهم كاملة؛ فقد حيل بينهم وبين مناصب الدولة، ونُظِر إليهم نظرة اشتباه وحذر كما ينظر إلى من يبيع نفسه رخيصة يريد عرض الحياة الدنيا. وقد زالت هذه الفروق في النهاية، ولكن بعد أن أحدثت نزاعًا خطيرًا وثورات متعاقبة.

كان فتح العرب للأندلس في جملته نعمة ورخاء على الأندلسيين المحكومين؛ لأنه أبطل ما كان يملكه كبار النبلاء ورجال الكنيسة من الضِّياع الواسعة، وحوَّلها ملكياتٍ صغيرةً، ثم رفع عبء الضرائب عن الطبقة الوسطى، واقتصر منها على الجزية على غير المسلمين، والخراج على المسلمين وسواهم، ثم حث على تحرير العبيد والرفق بهم، وإصلاح أحوالهم فأصبحوا زراعًا مستقلين في خدمة ساداتهم المسلمين.

وكان الفتح على النقيض من ذلك شرًّا وبلاءً على الحاكمين، فليس هناك أبعد شططًا من أن تتخيل أن العرب الذين انتشروا بهذه السرعة فوق نصف العالم المتمدين كانوا متحدين على أي معنى مقبول من معاني الاتحاد، فإن ذلك لم يكن صحيحًا، وقد بذل محمد جهده، وكدَّ بكل ما أوتي من حكمة وحزم وشخصية مهيبة عجيبة ليحافظ جهد المستطيع على صورة للوحدة العربية؛ لأن العرب كانوا شعوبًا وقبائلَ، وكان بين هذه القبائل حروب وترات دامية استمرت طويلًا، وكان للنُعَرة القبلية التي لم تنطفئ شعلتها بعد الإسلام أكبر سلطان على نفوسهم، ولو بقيت دولة الإسلام في حدود بلاد العرب ولم تتجاوزها، ما بقي شك في سرعة انتقاضها وزوالها؛ لكثرة ما كان يقع بين القبائل من التنافس والتحاسد، وقد تبع وفاة النبي خروج عام من القبائل.

والحق أن الإسلام لم تثبت أركانه ولم يصبح دين الدنيا إلا حينما سلَّح نفسه وأصبح دينًا محاربًا، فنجا من الانتكاس بتوالي انتصاراته؛ لأن العرب إذ ذاك ألقوا إلى حين تحاسدَهم المدمر القاتل جانبًا ليتعاونوا في اقتناص الغنائم، على أنه من المحقق أن تحمسهم للفتوح كان يؤججه عنصر قوي من التعصب للدين والرغبة في نشره؛ فقد حاربوا لأنهم يقاتلون أعداء الله ورسوله، وحاربوا لأن مثوبة الشهداء وكئوس السعادة والنعيم كانت تنتظر من يُقتَلون في سبيل الله، غير أننا لا نستطيع أن ننكر أن ثروة القياصرة والأكاسرة، والأراضي الخصبة، والمدن العامرة في الممالك المجاورة — كانت عاملًا كبيرًا في تحمس المسلمين لنشر الإسلام.

وحينما استقر لهم الملك وهدأت موجة الفتوح، عادت إليهم الشحناء، وتحركت فيهم عقارب الحسد والغيرة والتفريق التي كانت استلتها جَلَبة الحروب وغنائم الفاتحين، فانطلقت بعد احتباسها منذرة بالشر والدمار، فإن روح العنصرية القبلية انتشر في كل جزء من أجزاء المملكة التي أخضعوها، وتأثر به الخلفاء بدمشق، فكان تعيين الأمراء في الولايات يتبع هذه النزعة القبلية، وكان اختلاف القبائل وتعصبها بالأندلس داعية لكثير من الفوضى واضطراب الأمن والنظام في أثناء الخمسين سنة الأولى من حكم العرب حينما كان حاكم إفريقية أو الخليفة نفسه يعين أمير الأندلس، فكان هؤلاء الأمراء يبقون في مناصبهم، أو يعزلون، أو يقتلون تبعًا لميول بعض العشائر والقبائل الذين كانوا يعارضون مرة أن يكون الأمير مدنيًّا، ومرة في أن يكون قيسيًّا، وثالثة في أن يكون يمنيًّا، واستمرت هذه النعرة تقذف سمومها طول مدة حكم العرب بالأندلس.

يضاف إلى ذلك، أن الأندلس كان بها إلى جانب العشائر العربية المختلفة حزب آخر عظيم الخطر يجب أن يحسب له حساب، فإن طارقًا لم يتم له فتح الجزيرة إلا بجيش جمهرته من البربر؛ لذلك أصبح هؤلاء عنصرًا عظيم الشأن في الحياة الجديدة، ولم تكن أمة البربر ضعيفة خائرة كالإسبان الذين اصطبغوا بصبغة الرومان، ولكنهم كانوا ممتلئين حياة وعزمًا وإقدامًا، وحينما غزا العرب بلادهم، قاومهم عديد من قبائلهم الباسلة في معاقلهم الجبلية وفي السهول الممتدة من مصر إلى المحيط الأطلنطي مقاومة عنيدة كانت أشد عنفًا من مقاومة الفرس وجنود رومة المدربين، وكانوا يُشْبهون العرب في كثير من الوجوه، فكان لهم قبائل كما كان لهؤلاء، وكانت ميولهم السياسية ديمقراطية كالعرب، غير أنهم كانوا يُجِلُّون الأسر الشريفة إجلالًا ذهب بخطر الديمقراطية بين قوم جاهلين، وكانت صفاتهم الحربية عربية في أكثر مظاهرها، واستمر القتال بين هذين الفريقين من الرعاة المنتجعين سبعين سنة، حتى إذا تغلب عليهم العرب في النهاية كان هذا الفوز عن رضًا من البربر أكثر من أن يكون هزيمة محققة، فسمح البربر للأمير العربي أن يجعل دار حكمه قريبة من الساحل، ولكنهم حتموا إبقاء حكومتهم القبلية للفصل في شئونهم كما كانت، وطلبوا أن يكونوا إخوانًا لا خَوَلًا ولا عبيدًا للفاتحين.

واستمر هذا النظام الأجوف قائمًا مدة من الزمن، وتسابق البربر إلى الإسلام، وتحمسوا له حماسة تفوق تحمس العرب أنفسهم، وبعد قليل أصبحت بلادهم عُشًّا للمذاهب الدينية المبتدَعة التي بدلت بالأصول الإسلامية الفطرية عناصر وهمية مثيرة للعواطف، يدسها أصحاب العقول البعيدة الخيال في كل دين، ووجد المبتدِعون — بعد أن طُردوا من حظيرة الدين الحقِّ — في عقول السذج من البربر أرضًا خصبة لإنماء مذاهبهم، وقديمًا عرف البربر بسرعة قبولهم لما يلقى عليهم من المذاهب الدينية، وبشدة تأثرهم بها وتحمسهم لها، ذلك التأثر الذي ذهب بهم أفواجًا إلى اعتناق الإسلام، والذي مكَّن طارقًا واثني عشر ألفًا منهم من فتح الأندلس.

وقد استغل هذه السذاجة في حركته السياسية الدينية زعيمُ المرابطين الذي قدم إلى المغرب ليبث في نفوس القوم نفوذًا أقوى من نفوذ رؤساء قبائلهم، ويخضعهم بسطوة فوق سطوة حاكمهم، ولم يكن يحتاج هذا الزعيم إلى أكثر من كرامات زائفة ليسوق قطيعًا من المصدقين الدهشين إلى حظيرته.

وتحقق أحد حكام العرب من رواج هذا الدَّجْل بين قبائل البربر حين رآهم يخضعون لامرأة تدَّعي الولاية وتؤيد دعواها بألاعيب من الشعوذة، فأخذ يدرِّب نفسه على مثل هذه الألاعيب حتى برع في أساليب الحواة، فنال من طاعة القوم واستسلامهم فوق ما كان يبتغي، ومثل هؤلاء يتبعون كل صائح، ويستمعون لكل داعٍ، ويسرعون خفافًا إلى الثورات العنيفة التي يشعلها زعيمهم بكلمة واحدة، وكان البربر سببًا لكل التطورات التي حدثت في شمال إفريقية، فإنهم أقاموا دولة الفاطميين، ثم لحقوا بجيوش المرابطين فسارت منتصرة الأعلام حتى ملكت بلاد البربر وإسبانيا، ثم أسقطوا المرابطين وأحلوا محلهم الموحدين.

وشرع البربر في الأندلس — منذ حكم العرب — يناصبون الحكام العداء، وحدث أن أحد هؤلاء بالغ في إرضاء ميوله بالتمتع والإغراق في النعيم، مرهقًا في سبيل ذلك رعيته، فأغضب ذلك العلماء والفقهاء فأثاروا البربر عليه، فما كانت إلا لحظة حتى هبَّ للسلاح جميع سكان نصف الساحل الغربي لبحر الروم، وحتى دُهِي العربُ بالأندلس بهزيمة نكراء، وأقبل من الشام ثلاثون ألفًا من الجنود لاستعادة الولايات التي احتلها البربر، فحيل بين معظم هؤلاء ومن انضم إليهم من العرب بإفريقية والذهاب إلى الأندلس، وأعمل فيهم البربر السيف ذبحًا وتقتيلًا، وفرت فلولهم إلى سبتة بأرواحهم، فكان يهددهم في كل لحظة عدوَّان من الجوع والقتل.

وتأثر بربر الأندلس بوثيق اتصالهم بإخوانهم في الساحل الإفريقي بهذه الثورة التي قامت بإفريقية سنة ٧٤١م/١٢٤ﻫ وكان يتغلغل في نفوسهم حسد قديم للعرب؛ لأنهم نالوا نصيب الأسد من غنائم إسبانيا التي لم تدن قطوفها إلا بقسي البربر ورماحهم، ورأوا أن العرب الذين لم يدخلوا البلاد إلا وقت اجتناء ثمرات الفتح اختصوا أنفسهم بكل الولايات الخصبة الباسمة من شبه الجزيرة، وتركوا لهم أبغض الأجزاء إلى النفس من سهول إسترامادور العُفْر، وجبال ليون الثلجية، فأقاموا بها مرغمين في جو قارس لا يحتمله من عاش في حر إفريقية، ثم إنهم رأوا أنفسهم في وضع يجعلهم دائمًا حامية دفاع بين حلفائهم العرب ونصارى الشمال.

تأثر البربر بكل هذا، وقام مونوسا البربري — أحد قواد طارق الذي تزوج بنت يوديس دوق أقيتانية — فأشعل نار الثورة لما أصاب إخوانه بإفريقية من الظلم، وبعد أن فاز بربر إفريقية بمطالبهم هبَّت ثورة عامة في الولايات الشمالية بإسبانيا، وحمل السلاح بربر غاليسية، وماردة، وقُورِيَة، وتقدموا للهجوم على طليطلة، وقرطبة، والجزيرة الخضراء، وصمموا على أن يبحروا منها إلى إفريقية للاتصال بأبناء وطنهم.

وكان الموقف شديد الخطر عصيبًا، وجد فيه عبد الملك بن قَطَن الفهري٥ أمير الأندلس نفسه أمام مشكلة تكاد تستعصي على الحل؛ لأنه كان قد أبى أن يمد يد المساعدة لجنود الشام بسبتة، فأصبح الآن أمام أمرين أحلاهما مر وخيرهما شر: إما أن يخضع للبربر العصاة، وإما أن يستجدي معونة جنود الشام الذين رفض معاونتهم، والذين قد يكونون إذا أذِن لهم بنزول الأندلس أشدَّ بلاءً وشرًّا من هؤلاء الذين جاءوا لطردهم، ولكنه صمم آخر على إرسال سفن لنقل جنود الشام بعد أن أخذ عليهم عهدًا أن يعودوا من حيث أتوا بعد التغلب على البربر، وبعد أن قوي جيش العرب بهذا المدد، كرَّ على البربر فاستأصل شأفتهم، ثم تعقبهم في كل مكان وبين معاقلهم الجبلية، كما يتعقب الصائد الوحوش الضارية، حتى شفى نفسه بنيل الثأر منهم.
غير أن الخطر الذي أراد عبد الملك أن يتوقاه ظهر وأبدى ناجذيه؛ فقد أبى جنود الشام أن يستبدلوا بالمروج الخضر والحدائق الفيح بالأندلس، صحراءَ إفريقية القاحلة؛ حيث تنوشهم رماح البربر المتغلبين، فتحدَّوْا عبد الملك وقتلوه، واختاروا للأندلس أميرًا منهم،٦ وكان من نتائج ذلك أن شبَّ بين العرب القدماء والجنود الداخلين صراع عنيف طويل المدى، كثرت فيه المذابح، وعم الدمار، ولم ينتهِ هذا الصراع إلا بعد أن أرسل الخليفة بدمَشْق أميرًا٧ قديرًا فرَّق بين القبائل المتطاحنة بإعطاء كل من الفريقين مدنًا تبعد عن مدن الآخر، ثم بنفي أكثر زعماء الفريقين عنادًا وشغبًا، فنزل المصريون الذين كانوا بجند الشام مرسية وسموها مصر، ونزل الفلسطينيون شَذونة، وحل أهل الأردن بمالَقة، وأقام الدمشقيون بغَرناطة، واستقر أهل قنسرين بجَيَّان، وبهذا الوضع زال سبب من أسباب النزاع الحزبي بالأندلس، ولكن الروح القبلية لم تضعف سيطرتها بعد، وبقيت الثورات تتغلب على الحكومات وتستبد بها، واستمرت الحال على هذا حتى نزل الأندلسَ حاكمٌ من طابَع جديد، سلاحُه الجلال والمهابة، يحمل بين جنبيه عزة الخلفاء الأمويين، وتجري في عروقه دماؤهم، قدم إلى الأندلس ليحمل صولجان الحكم في مملكة مضطربة منحلة الأواصر، وليجمع في حِقبة من الزمن كل القبائل والعشائر تحت لواء أمير قرطبة … هذا الشاب هو الأمير الجديد الذي جاء شارلمان لقتاله فآب بالخيبة، هذا الشاب هو عبد الرحمن الأموي!!

هوامش

(١) الشارات: الجبال.
(٢) يقال إنه من قرطبة، ذكره دوزي فقال إنه كان قسيسًا، ولكن كتابته لا تدل على سخط شديد؛ فهو يروي مثلًا: أن امرأة الملك لذريق تزوجت بعبد العزيز بن موسى بن نصير، ولا يجد في ذلك إثمًا كما كان يفعل غيره من القسيسين، ثم قال دوزي: إن كراهية إيزيدور للعرب إنما كانت لأنهم شعب غريب لا من أجل أعمالهم.
(٣) أغرته زوجه أن يلبس تاجًا فثار عليه العرب، وقالوا إنه تنصر فقتلوه سنة ٩٨ﻫ.
(٤) تسلم: دخل في الإسلام، يقال كان كافرًا فتسلم، ومؤلفو تاريخ الأندلس يسمون من دخل في الإسلام إسلاميًّا.
(٥) ولي الأندلس سنة ١١٤ﻫ/٧٣٢م، ثم عزل عنها ذميمًا وقتل وصلب سنة ١٢٣ﻫ/٧٤١م.
(٦) هو بلج بن بشر الذي قتله عبد الرحمن بن علقمة سنة ١٢٤ﻫ/٧٤٢م بعد أن حكم أحد عشر شهرًا.
(٧) هو أبو الخطار حسام، قدم الأندلس سنة ١٢٥ﻫ/٧٤٣م من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤