الفصل الثامن

بعد مرور عامَيْن على الأحداث التي أوردتها للتو، وبينما كان تي إكس متوجهًا إلى لندن من باث، لفتت انتباهه فقرةٌ في جريدة «ذا مورنينج بوست». وقد علِم منها بإيجاز أن السيد رمينجتون كارا، الزعيم المؤثِّر للطائفة اليونانية، كان ضيف الشرف في عشاءٍ أقامته الجمعية اليونانية.

لم يلتقِ تي إكس بكارا إلا لوقت قصير بعد ذلك الصباح المأساوي، حين اكتشف أن صديقه المقرَّب لم يهرب فحسب من سجن دارتمور واختفى من العالم، إن جاز التعبير، في لحظةِ توقيع أمر العفو عنه، بل اكتشف أيضًا أن زوجة صديقه قد اختفت هي الأخرى من على وجه الأرض.

في الوقت ذاته، ربما كانت المصادفة الأوقع، مثلما أقرَّ تي إكس نفسه، هي اختفاء كارا من لندن، ليعود للظهور مجددًا بعد ستة أشهر. كان أي سؤال يوجه إليه بشأن مكان الزوجَيْن التعيسَيْن، يُقابَل من جانبه بتصريحٍ غير مبالٍ عن عدم معرفته بمكانهما.

كان جون لكسمان في مكانٍ ما في العالم، مختبئًا من العدالة كما كان يعتقد، وبرفقته زوجته. لم يكن تي إكس يراوده أدنى شكٍّ في قرارة نفسه في أن هذا هو حلُّ اللغز. وخطَّط لنشر قصة العفو والظروف التي جرى فيها الحصول على هذا العفو، وفوق ذلك رتَّب لنشر إعلان في الصحف الرئيسية في كل دول أوروبا.

كانت مسألةُ ما إذا كان جون لكسمان ليس مدانًا بجريمةٍ ذاتِ توصيفٍ قانوني وتستحق العقاب لهروبه من السجن مثارَ جدل بين المحامين الحكوميين، ولكن هذا الاحتمال لم يكن يؤرِّق تي إكس. فقد أُجري تحقيقٌ دقيق في ملابسات الهروب. وفُصل الحارس المسئول من الخدمة، وبعدها مباشرةً اشترى لنفسه حانةً لبيع الخمور في فالموث، مقابل مبلغ كبير لم يترك في عقل المسئول الشرطي أدنى شك في أنه قد تلقى رشوة ضخمة.

مَن كانت الروح الملهمة التي قادت ذلك الهروب … السيدة لكسمان، أم كارا؟

كان من المستحيل إيجادُ صلةٍ لكارا بتلك الواقعة. لقد تُتبِّع أثرُ السيارة إلى إكسيتر، حيث استأجرها رجل «ذو ملامح أجنبية»، لكن السائق، أيًّا كانت هويته، نجح في الهروب. وعند تفتيش مرأب طائرات كارا، الكائن في ويمبلي، تبيَّن أن طائرتيه الأحاديتَي السطح لم تتحركا، وفشل تي إكس فشلًا ذريعًا في تتبُّع مالك الطائرة التي شاهدها تطير فوق دارتمور في ذلك الصباح المشئوم.

كان تي إكس حائرًا إلى حدٍّ ما، وكان مستمتعًا قليلًا برفض السلطات تصديقَ أن عملية الهروب قد تمَّت على هذا النحو من الأساس. وتبادرت إلى ذهنه وقائعُ المحاكمة كاملة، وهو يشاهد المناظر الطبيعية تتحرك سريعًا أمامه.

أنزل الجريدةَ بتنهيدة خفيفة، ووضع قدميه على وسائد المقعد المقابل له واستسلم لأحلامِ اليقظة. بعد قليلٍ عاد إلى صُحُفه وأخذ يبحث فيها بفتور وكسل عن شيءٍ يثير اهتمامه، وذلك خلال المحطة الأخيرة من الرحلة بين نيوبري وبادينجتون.

بعد قليلٍ وجد مبتغاه في مقالٍ من عمودَيْن بعنوانٍ خلا من أي جاذبية، وهو «الثروة المعدنية في تييرا ديل فويجو». كان المقال مكتوبًا ببراعة وبأسلوب سهل وغني بالمعلومات في آنٍ واحد. كان يتحدَّث عن مغامراتٍ في المستنقعات الواقعة خلف خليج سان سبستيان، والرحلات عبر نهر جواريز سيلمان، وعن ليالٍ أُمضيت في الغابات البدائية، وانتهت بمسحٍ جيولوجي، حيث دُرست بدقة القيمةُ التجارية للسيانيت، والصخر السماقي، والتراكيت، والدياليت، كلٌّ على حدة.

كان المقال موقعًا باسم «جي جي». يُقال إن الفضول كان أعظمَ مناقب تي إكس. كان تحت يده أسماءُ جميع كبار المستكشفين والرحالة الكُتاب، ولسببٍ ما لم يستطِع وضع اسم «جي جي» على النحو الذي يرضيه؛ فقد كانت لديه رغبة غير منطقية لترجمة هذين الحرفين الأولين إلى «جورج جروسميث». كان عجزه عن التعرُّف على هوية الكاتب يؤرِّقه، وكان أول ما فعله فور وصوله إلى مكتبه الاتصال هاتفيًّا بأحد المحررين الأدبيين بجريدة «ذا تايمز» الذي كان على معرفة به.

كان الرد الفاتر الذي تلقَّاه من المحرِّر هو: «هذا ليس من اختصاص قسمي، كما أننا لا نفشي أسماء مساهمينا مطلقًا. أما بصفتي غير المهنية، فأستطيع القول إن «جي جي» هو «جورج جاذركول»، ذلك المستكشف الذي، كما تعلم، التهم ذراعه أسدٌ أو شيء من هذا القبيل.»

كرَّر تي إكس الاسم: «جورج جاذركول!» وأردف: «كم أنا أحمق!»

قال الصوت القادم من الطرف الآخر من الخط: «أجل»، ثم أغلق الهاتف قبل أن يتمكَّن تي إكس من التفكير في ردٍّ مناسب على ما قال.

بعد أن اتضح هذا الجانب الهامشي الصغير من اللغز، تلاشى الأمر من ذهن مفوَّض الشرطة الشاب. وتصادف أن كان من بين مهامه في صباح ذلك اليوم التصرُّف في ممتلكات لكسمان.

مع اختفاء الزوجين، أصبح هو المتصرِّف في متعلقاتهما. لم يشعر بالحرج حين اكتشف أنه مدرَج في وصية لكسمان بوصفه منفِّذًا للوصية؛ إذ كان بالفعل يتصرَّف كقيم على تركة الزوجة الشابة الصغيرة، وكان واحدًا من أطراف العقد الخاص بالتزامات ما قبل الزواج الذي أبرمه لكسمان قبل زواجه.

ازدادَت عوائدُ التركة على نحوٍ هائل. فقد كانت كتبُ المؤلف المختفي تُباع كما لم تُبع من قبل، وصارت مهمَّة منفِّذ الوصية أثقلَ وطأة جرَّاء حقيقة أن جريس لكسمان كان لها عمَّة تُوفيت إثر حادث سيارة بسبب القيادة المتهورة، تاركةً ثروةً كبيرة «لابنة أخيها التعيسة».

قال للمحامي الذي جاء للتشاور معه في صباح ذلك اليوم: «سوف أحتفظ بالوصاية عامًا آخر.» وأضاف: «وفي نهاية تلك الفترة سوف أتخذ الإجراءات القانونية كي ألقي عن كاهلي هذا العبء.»

سأله المحامي، وكان رجلًا مسنًّا ضيِّق الأفق: «أتظن أنهما سيظهران من جديد؟»

قال تي إكس في نفادِ صبر: «بالطبع سيظهران! — كل أبطال كتُب لكسمان يظهرون إن آجلًا أو عاجلًا. سوف يظهر لنا في الوقت المناسب، وسوف نرتجف من الإثارة.»

كان تي إكس واثقًا من عودة لكسمان. وكانت تلك قناعةً لم يتزحزح عنها.

كان بداخله ثقةٌ بأن كارا العظيم، سوف يقع تحت يده يومًا ما.

كانت ثمَّة قصصٌ غريبة متداولة بشأن اليوناني، ولكنها في العموم كانت قصصًا وشائعات من الصعب فصلها عن النميمة الخبيثة التي دائمًا ما ترتبط بالأثرياء والناجحين.

كان من بين هذه القصص أن كارا كان يرغب فيما هو أكثر من زعامة الطائفة الألبانية، التي كان ينعم بها بلا شك. فكانت ثمَّة همساتٌ حول طموحاتٍ أوسعَ وأكبر. فعلى الرغم من أن والده كان يوناني المولد، فقد كان ينتمي انتماءً مباشرًا لا يشوبه أي شك إلى نسل واحد من أولئك الملوك الألبان القدامى الذين بسطوا سيطرتهم التي لم تدُم طويلًا على تلك الأرض المضطربة.

كان شغف الرجل موجهًا للسلطة والنفوذ. ولم يألُ جهدًا في سبيل بلوغ هذه الغاية. ودارت أقاويل عن استثماره لثروته الضخمة في هذا الأمر، ولا شيء سواه، وأنه بصرف النظر عن التجاوزات التي ربما يكون قد ارتكبها في شبابه — وكانت هناك أمثلةٌ مادية دامغة على ذلك — فقد كان يعمل نحو تحقيقِ غايةٍ ما بإصرار هائل، من الصعب ألا ينال الاستحسان والإعجاب.

كان تي إكس يحتفظ في مكتبه الموصد بمفكرة صغيرة حمراء، ذات سلك معدني وقفل ثلاثي، كان يُطلق عليها اسم «دفتر الفضائح». وكان يدوِّن في هذه المفكرة بخطه غير المنتظم المعلومات الصغيرة المثيرة التي ربما لم تُنشر، والتي غالبًا ما كانت تساعد أيَّ محقِّق في العثور على الخيوط المفقودة لقضيةٍ ما. في الواقع لم يكن يستنكف عن أي مصدر للمعلومات، وكان ضميره غائبًا في تجميع هذا السجل الذي تعمه الفوضى إلى حدٍّ ما.

أعادت قضية جون لكسمان كارا إلى ذهنه، وحفل الاستقبال الرائع الذي أقامه كارا. كان مانسوس قد أعد ترتيباته للحصول على تقريرٍ نصي بالخُطب التي أُلقيت، ومن المفترض أن تكون بين يديه بحلول الليل. لم يخبره مانسوس أن كارا كان يقدِّم دعمًا ماليًّا لبعض الشخصيات ذاتِ النفوذ الضخم، وأن هناك وكيلَ وزارة بعينه يحظى بعدد كبير من العلاقات المؤثرة للغاية أفلت من شبح الإفلاس بفضل القروض التي قدَّمها له كارا في الوقت المناسب. وقد حصل تي إكس على هذا من مصادرَ ربما يمكن التسرُّع في وصفها بأنها مصادر سيئة السمعة. كان مانسوس يعرف صالة القمار الكائنة في شارع البمارل، لكنه لم يكن يعرف أن زوجة أحد كبار رجالات الدولة، ربما يكون وزير العدل على أقل تقدير، وهي سيدة مصابة بالعصاب، دائمة التردُّد على تلك الصالة، وأنها خسرت في إحدى الليالي نحو ٦ آلاف جنيه. فكَّر تي إكس أن من الغريب في مثل هذه الظروف أن تتقدم ببلاغٍ إلى الشرطة بشأن واقعة سرقة تافهة للغاية من قِبل الخدم. غير أنها فعلت ذلك، وبينما كان ضباط سكوتلاند يارد الأقل رتبة عاكفين على استجواب مرابي الرهونات، كان المسئولون الكبار يساورهم قلق بالغ بشأن التصرفات المشينة للسيدة.

كان الأمر كله بذيئًا ومنحطًّا، ولكنه للأسف كان مألوفًا ومعتادًا؛ لأن أصحاب السلطة والنفوذ دائمًا ما يرتكبون أفعالًا مشينة، تتعلق بالمال أو النساء، وكان من الضروري الاحتفاظُ بملفاتٍ لتلك الأخطاء التي ارتكبها أعاظم الأرض، مهما كانت منحطة ومهما كانت مألوفة، للرجوع إليها لاحقًا، اتباعًا للإجراءات والقواعد المعمول بها بالإدارة التي يديرها تي إكس.

كان شعار تي إكس في حياته هو «لا أحد يعلم ماذا سيحدث».

كان وزير العدل رجلًا غايةً في الأهمية؛ إذ كان صديقًا شخصيًّا لنصف ملوك أوروبا. كان رجلًا مسكينًا، لا يتقاضى سوى ألفين أو ثلاثة آلاف سنويًّا، وليس له آراء سياسية محدَّدة ولا يدعم السياسات العنيفة لأيٍّ من الحزبين الحاكمين، ونجح في إسداء خدمات لكليهما، مع تحقيق استفادة شخصية، ودون أن يتعرَّض لانتقادات من أيٍّ منهما. ومع أنه لم يتَّبع سياسةَ تغيير المبادئ والولاءات الوقحة، فإن الواقع الذي قد يكون مدعومًا بمعلومات القارئ ومعرفته، أنه قد عمل في أربع حكومات، وتقاضى راتبه ومكافآته من منصبه من كل حكومة منها، بالرغم من أن السياسات الأساسية لتلك الحكومات الأربع كانت مختلفة.

كانت الليدي بارثولوميو، زوجةُ هذا الوزير القادر على التكيُّف مع كل الظروف، قد غادرت مؤخرًا إلى سان ريمو. وقد أفصحت الصحف عن الحقيقةِ وتحدَّثت على نحوٍ غيرِ صريح عن معاناتها من انهيار عصبي حالَ دون وفاء السيدة بارتباطاتها الاجتماعية.

لم يتمكَّن تي إكس، الذي طالما كان نزَّاعًا للشك، من تتبُّع أثرِ أيِّ زيارة لطبيب أعصاب، ولا حتى طبيب العائلة، للمقر الرسمي للعائلة الواقع في شارع داونينج؛ ومن ثَم بدأ في استخلاص الاستنتاجات. كان تي إكس يدوِّن في سجل المشاهير الخاص به هوايات ضحاياه، التي بالمناسبة لم تكن دائمًا تتسق مع المناصب البريئة التي تُوضع أمام أسمائهم في سجل البيانات الأكثر تنميقًا. كما وجدت حماقاتُهم ونقاطُ ضعفهم مكانًا به، ودُوِّنت بإسهاب وتفصيل (مثلما قد يبدو لغير المطلع) يتجاوز حدود قواعد الرفق.

لم يظهر اسم الليدي بارثولوميو مرةً واحدة، بل مراتٍ عديدة في السجلات الغريبة الأطوار التي كان تي إكس يحتفظ بها. كانت توجد هناك معلوماتٌ عاديةٌ ومؤكدة على نحوٍ تامٍّ عن كونها وُلدت في عام ١٨٧٤، وأنها الابنة السابعة لإيرل بالموري، وأن لديها ابنة تنعم باسم بليندا ماري، الذي لا يدعو إلى التفاؤل، وغيرها من تلك المعلومات التي يمكن للمرء الحصول عليها دون الكثير من العناء.

تساءل تي إكس وهو ينعش ذاكرته من مفكرته الحمراء الصغيرة، عن المأساة غير المتوقَّعة التي دفعت الليدي بارثولوميو إلى مغادرةِ لندن في منتصف الموسم. كانت المعلومات التي لديه تشير إلى أن الليدي كانت على ما يُرام إلى حدٍّ كبير في هذا الوقت، ما جعل الأمور تبدو مربكةً للغاية ودفعته إلى الاعتقاد بأن القصة، في النهاية، حقيقيةٌ، وأن انهيارًا عصبيًّا كان حقًّا السبب وراء رحيلها المفاجئ. وأرسل في طلب مانسوس.

«أظنك قد ودَّعت الليدي بارثولوميو في محطة تشارينج كروس، أليس كذلك؟»

أومأ مانسوس إيجابًا.

«هل ذهبتْ بمفردها؟»

«أخذت خادمتَها، ولكن بخلاف ذلك كانت بمفردها. أظنها كانت تبدو مريضة.»

قال تي إكس دون أي تعبير ظاهر يوحي بالتعاطف: «كانت تبدو مريضة منذ شهور مضت.»

«هل اصطحبت معها بليندا ماري؟»

تملَّكت مانسوس الحيرة. وكرَّر الاسم ببطء: «بليندا ماري؟» وتابع: «أوه، أنت تقصد الابنة. كلا، إنها في مدرسةٍ بمكانٍ ما في فرنسا.»

أخذ تي إكس يُصفر بجزءٍ من أغنية شهيرة، وأغلق المفكرة الحمراء الصغيرة بقوة وأعادها إلى مكانها في مكتبه.

وقال متأملًا: «تُرى في أي مكان على سطح الأرض يستخدم الناس أسماءً مثل بليندا ماري؟» وأضاف: «لا بد أن بليندا ماري هو اسم حيوان صغير غريب، ليغفر لي الربُّ حديثي هكذا عن سادتي! فلو كان للوراثة أيُّ تأثير، لوجب أن تكون هذه الفتاة شيئًا ما بين رئيسة خدم ومجموعة من أوراق اللعب. هل ضاع منك شيء؟»

كان مانسوس يفتِّش في جيوبه.

«كتبت بعض الملاحظات؛ بعض الأسئلة التي أردتُ أن أوجهها إليك وكانت الليدي بارثولوميو موضوعَ أحدها. لقد وضعتها تحت المراقبة على مدى ستة أشهر، فهل ترغب في استمرار المراقبة؟»

فكَّر تي إكس وهلةً، ثم هزَّ رأسه بالرفض.

«إن اهتمامي باليدي بارثولوميو يرجع لاهتمام كارا بها.» ثم أضاف بنبرةِ إعجاب: «لدي مجرم لك، يا صديقي!»

انهمك مانسوس في النظر إلى حُزَم الرسائل، وقصاصات الورق، والمفكرات الصغيرة التي أخرجها من جيبه، ثم تنشق بصوت مسموع.

تساءل تي إكس بتأدُّب: «هل أُصبتَ بالبرد؟»

كان الرد: «لا يا سيدي، أنا فقط لا أرى كارا مجرمًا. وفوق ذلك، ما الذي يدفعه إلى أن يكون مجرمًا؟ إن لديه كلَّ ما يحتاج إليه فيما يتعلق بالمال، وهو واحد من مشاهير لندن، ولا شكَّ أنه واحد من أوسم مَن رأيت من الرجال في حياتي. إنه لا يحتاج إلى شيء.»

رمقه تي إكس بنظرة ازدراء.

ثم قال وهو يهز رأسه: «أنت وغد مسكين أعمى؛ ألا تعرف أن أعتى المجرمين لا يتأثرون أبدًا بالرغبات المادية، أو فرص الحصول على مكاسب مادية؟ إن الرجل الذي يسطو على خزينةِ ربِّ عمله كي يمنح معشوقته دبوسَ الزينة المطعم بحبات الياقوت واللؤلؤ الذي تصبو إليه روحها، لا يجني من وراء ذلك شيئًا سوى زهوة الرضا التي تنتاب الرجل الذي يحظى بإعجاب الآخرين. إن غالبية الجرائم التي تحدث في العالم يرتكبها أشخاصٌ للسبب نفسه؛ رغبةً في نيل الإعجاب والاستحسان. فها هو الدكتور «س» الذي قتل زوجته؛ لأنها كانت سكِّيرة وفاسقة، ولم يكن يجرؤ على تركها خوفًا من الشكوك التي ستساور الجيران حينها بشأن جدارته بالاحترام. وهذا رجلٌ آخر يغتال زوجاته في أحواض استحمامهن كي يحتفظ بمكانةٍ ما ويكسب احترام أصدقائه وزملائه. لا شيء جعله يستنفر من أجل إشباع نوبة شغف محمومة أسرعُ من الإيحاء بأنه لم يكن محترمًا. وها هو ذا رجل المال العظيم، الذي اختلس مليونًا وربع المليون، ليس لأنه بحاجة إلى المال، ولكن لأن الناس يحترمونه ويُجلُّونه. لذلك، لا بد أن يشيِّد قصورًا منيفة، وملاعب للرياضات المائية، ولا بد أن يصمِّم حدائق وضَيْعات ضخمة؛ لأنه يريد أن يكون محطَّ إعجاب.»

تنشَّق مانسوس ثانية.

ثم تساءل بمسحةٍ من السخرية في نبرته: «ماذا عن الرجل الذي يعتدي على زوجته، هل يفعل ذلك لكي يكون محطَّ إعجاب الآخرين أيضًا؟»

نظر إليه تي إكس بنظرةٍ ملؤُها الشفقة.

ثم قال: «إن ذلك التافه الذي يضرب زوجته، يا صديقي المسكين، إنما يفعل ذلك؛ لأنها لا تحترمه. ذاك هو شغفنا الذي يحكمنا، وسِمَتنا القومية، والسبب الأساسي وراء غالبية الجرائم، كبُرت أم صغُرت. هذا هو ما يجعل من كارا مجرمًا دنيئًا، وسوف ينهي حياته، كما أرى، نهايةً عنيفةً للغاية.»

وأخذ قبَّعته الحريرية اللامعة من فوق المشجب ودسَّها داخل معطفه.

ثم قال: «سوف أذهب لمقابلة صديقي كارا.» وأضاف: «لديَّ شعور بأنني أود التحدث معه. لعله يخبرني بشيء.»

كانت معرفته بمنزل كارا مجرَّد شائعة. فلم يقابل اليوناني سوى مرة واحدة بعد عودته، ولكن لمَّا كانت كل جهوده للحصول على معلومات بشأن مكان جون لكسمان وزوجته — وهو السبب الأساسي وراء زيارته — قد ذهبت سدًى، لم يكرِّر الزيارة.

كان المنزل الكائن في كادوجان سكوير كبيرًا؛ إذ كان يشغل ناصيةً كاملة. كان إنجليزي الشكل على نحوٍ مميز، بما يحويه من أصص النوافذ، وستائره الأنيقة البسيطة، ومدخله المصقول المصنوع من النحاس والمينا. كان فيما سبق المنزل الحضري لِلُّورد هنري جراثام، ذلك الخبير الضليع بالخمور ذو الأطوار الغريبة، الذي كان يسعى وراء الملذات الحمقاء. كان تشييده «قائمًا على زجاجة من الخمر المعتَّق» على حد تعبير أحد أصدقائه، قاصدًا بذلك أن الاعتبار الأول لديه كان لأقبية المنزل، وأنه حين بُنيت تلك الأقبية واتُخذت الاحتياطات من أجل ضمانِ تخزينٍ آمنٍ لخموره التي لا تقدَّر بثَمن، شُيد المنزل دون كثير من المضايقات من قِبل سموِّه للمهندس المعماري القائم على بنائه. كانت الأقبية المزدوجة لمنزل جراثام، في زمانها، واحدةً من معالم لندن. وحين مات هنري جراثام ورقد على عمقِ ثماني أقدام أسفل تراب دولة الكونغو (إذ لقي مصرعه على يد فيل أثناء رحلة صيد)، كان الحظ حليفًا لمنفِّذي وصيته على نحوٍ كبير؛ إذ وجدوا مشتريًا في الحال. وسرت شائعةٌ مفادُها أن كارا، الذي لم يكن من محبي الخمور، قد أغلق الأقبية بالطوب، وتحوَّل وجودها إلى أسطورة محلية.

فتح البابَ خادمٌ وقورٌ أنيقُ الثياب واقتِيد تي إكس إلى الرَّدهة. كانت ثمَّة مدفأة برونزية متوهِّجة بنيرانٍ تبعث على البهجة، ولمح تي إكس لوحةً كبيرة بألوان الزيت لكارا فوق رف المدفأة الرخامي.

قال الخادم: «السيد كارا مشغول جدًّا، يا سيدي.»

قال تي إكس: «فقط أدخِل له بطاقتي.» وأضاف: «أعتقد أنه قد يهتم بمقابلتي.»

انحنى الخادم له، وأخرج من ركنٍ سريٍّ صينيةَ تقديم فضية وصعد إلى الطابق العلوي برشاقةٍ على طريقةِ الخدم المدربين جيدًا، التي تبدو أنها لا تستدعي أيَّ جهد بدني. ثم عاد في غضون دقيقة.

قال: «تفضَّل من هنا، يا سيدي»، واقتاده عَبْر سلَّم عريض.

في قمة السُّلم كان يوجد ممرٌّ يمتد إلى اليسار وإلى اليمين. وتشعَّب من هذا الممر أربعُ غرف. كانت إحداها تقع في أقصى الممر إلى اليمين، وأخرى إلى اليسار، واثنتان على مسافتين متساويتين إلى حدٍّ كبير في المنتصف.

حين وضع الرجل يده على أحد الأبواب، تساءل تي إكس في هدوء: «أظنني قد رأيتك من قبلُ في مكانٍ ما، يا صديقي.»

ابتسم الرجل.

«هذا أمرٌ وارد للغاية، يا سيدي. فقد عمِلتُ نادلًا فترةً في النادي الدستوري.»

فأومأ تي إكس.

ثم قال: «لا بد أن هذا هو المكان الذي رأيتك فيه.»

فتح الخادم البابَ وأعلن عن قدوم الضيف.

وجد تي إكس نفسه في غرفةٍ كبيرة، مؤثَّثة على نحوٍ غاية في الأناقة، لكنها فقط تفتقر إلى ذلك الشعور بالدفء والراحة الذي يميز بيوت الإنجليز.

نهض كارا من خلفِ طاولةِ كتابةٍ كبيرة، وأقبل يسرع الخطى نحو ضيفه مبتسمًا للترحيب به.

قال: «هذه مفاجأة سعيدة وغير متوقعة تمامًا»، وصافحه بحرارة.

لم يكن تي إكس قد رآه منذ عام ولم يجد أيَّ تغيُّر ملحوظ في ذلك الشاب الغريب. فلم يكن من الممكن أن يكون أكثرَ ثقةً في نفسه عما كان من قبل، أو أكثرَ خفةً ورشاقةً في مِشيته. فلم يفسده أيُّ نجاح اجتماعي حقَّقه، أيما كان؛ إذ كان أسلوبه ودودًا وعفويًّا كما كان دومًا.

قال ملتفتًا إلى الفتاة التي وقفت بجوار المكتب وبيدها دفتر: «أعتقد أن ذلك يكفي، يا آنسة هولاند.»

قال تي إكس في نفسه: «من الواضح أن صديقنا اليوناني لديه ذوقٌ رائعٌ في السكرتيرات.»

استطاع من خلال تلك النظرة الخاطفة أن يتفحَّصها كاملة، من شعرها البني المائل إلى البرونزي إلى قدميها الناعمتين الجميلتين.

لم يكن تي إكس ينجذب بسهولةٍ إلى الجنس الآخر. فقد كان يعترف علانيةً بأن العزوبية هي قدَره المحتوم؛ إذ كان يرى أن الحياة وحوادثها تستغرقه بشدةٍ حتى إنه لا يستطيع أن يكرِّس عقله بالكامل لمسألةٍ خطيرةٍ كالزواج، أو الالتزام بمسئولياتٍ واهتماماتٍ قد تصرف انتباهه عما يراه اللعبة الأكبر. لكن لا بد أنه كان رجلًا من حجرٍ كي يقاوم عذوبةَ وجمالَ وشبابَ هذه الفتاة الرشيقة ذاتِ القوام الممشوق، وبَشَرتها البيضاء الممزوجة باللون الوردي، وحضورها الذي يطغى عليه ذلك الإحساس الأخَّاذ بالحيوية.

تساءل كارا ضاحكًا: «ما أغرب اسم سمعته على الإطلاق؟» وأضاف: «إنني أسألك؛ لأنني والآنسة هولاند كنا نناقش معًا رسالة استجداء أرسلتها إلينا امرأةٌ تُدعى ماجي جومر.»

ابتسمت الفتاة قليلًا، ورأى تي إكس الجنَّة في تلك الابتسامة.

كرَّر تي إكس السؤال: «أغرب اسم؟ — أعتقد أن أغرب اسم سمعته على الإطلاق منذ فترة طويلة هو بليندا ماري.»

قال كارا: «ذاك اسم ذو رنين مألوف.»

كان تي إكس ينظر إلى الفتاة.

كانت تحدِّق فيه بتغطرس مشوب بالفتور جعله يتقوقع بداخله. ثم بنظرةٍ سريعةٍ إلى رئيسها خرجت من الغرفة.

قال كارا: «كان ينبغي أن أقدِّمك لها.» وتابع: «تلك سكرتيرتي، الآنسة هولاند. إنها فتاة جميلة نوعًا ما، أليس كذلك؟»

قال تي إكس وقد التقط أنفاسه: «إنها جميلة جدًّا.»

قال كارا: «أحب أن تكون هناك أشياءُ جميلة من حولي»، وانزعج المحقِّق بطريقةٍ ما من الغطرسة التي بدت في تلك الملاحظة أكثر من أيِّ شيء آخرَ قاله له كارا على الإطلاق.

اتَّجه اليوناني إلى رفِّ المدفأة وسحب علبة سجائر فضية، وفتحها وقدَّمها لضيفه. كان كارا يرتدي حُلَّة رمادية من قطعتين، ورغم أن اللون الرمادي لونٌ يصعُب على الأجنبي تحمُّل ارتدائه، كانت هذه الحُلَّة تناسب هيئته الرائعة وأضْفت عليه تلك الضخامة التي كان يحتاج إليها تمامًا.

ابتسم قائلًا: «أنت رجل شكَّاك للغاية، يا سيد ميرديث.»

تساءل تي إكس في براءة: «شكاك؟!»

أومأ كارا إيجابًا.

«أنا واثق من أنك ترغب في التحقيق في شخصيةِ كلِّ العاملين الحاليين لدي. ومقتنع تمامًا بأنك لن تهدأ أبدًا حتى تعلم سوابق الطباخ، والخادم، والسكرتيرة …»

اعترف تي إكس بصحةِ ذلك ضاحكًا.

قال: «التمسْ لي العذر.» وأردف: «أعترف أنها واحدة من مثالبي، لكني لم أتوغَّل إلى هذا الحد في شئون أفراد منزلك بقدْر ما خُضتُ في سوابقِ سائقكَ المثيرِ للاهتمام جدًّا.»

اكفهرَّ وجه كارا قليلًا، ولكن ذلك لم يدُم إلا لحظات.

وقال بابتهاج ومرح: «أوه، براون»، ونطق الكلمتين بوقفةٍ ملحوظةٍ بين الاثنتين.

قال تي إكس: «كان يُدعى سميث، ولكن هذا لا يهم. فاسمه في الحقيقة هو بوروبولوس.»

قال كارا بجدية: «أوه، بوروبولوس.» وتابع: «لقد طردته منذ فترة طويلة.»

قال تي إكس: «أعرف أيضًا أنك تعطيه معاشًا.»

نظر إليه الآخرُ برهةً، ثم قال ببطء: «أنا في غاية الكرم والإحسان مع خدمي القدامى»، ثم قال مغيرًا مجرى الحديث: «أي فرصة سعيدة جعلتني أحظى بهذه الزيارة؟»

التقط تي إكس سيجارةً قبل أن يجيب.

ثم قال وقد بدا أنه يكرِّس كلَّ انتباهه للسيجارة: «فكرتُ أنك قد تسديني خدمة.»

قال كارا بشيء من اللهفة: «لا شيء يسعدني أكثر من ذلك.» وتابع مبتسمًا: «يؤسفني أنك لم تكن حريصًا للغاية على استكمال ما تمنيت أن يتحوَّل إلى صداقةٍ غالية، ولعلها كانت أغلى لدي منك.»

قال تي إكس بغير استحياء: «أنا رجل خجول جدًّا، وصعب المراس إلى أقصى الحدود، ولدي نزعةٌ نوعًا ما إلى التقليل من مزاياي الاجتماعية. لقد جئتك الآن لأنك تعرف الجميع …» ثم سأل فجأة: «بالمناسبة، منذ متى التحقتْ سكرتيرتك بالعمل لديك؟»

نظر كارا إلى السقف ليستلهم الرد.

قال: «أربعة، لا بل ثلاثة أشهر؛ إنها شابة غاية في الكفاءة جاءتني من إحدى المؤسسات التدريبية. إنها متحفظة وكتومة إلى حدٍّ ما، وأفضل تعليمًا وثقافةً من معظم الفتيات ممن يعملن في نفس منصبها؛ فهي، على سبيل المثال، تجيد التحدُّث باللغة اليونانية الحديثة والكتابة بها إلى حدٍّ كبير.»

قال تي إكس: «إنها كنز!»

قال كارا: «إنها كذلك وعلى نحوٍ استثنائي.» وأضاف: «إنها تسكن في ٨٦ إيه طريق ماريليبون. إنها ليس لها أصدقاء، وتقضي معظم أمسياتها في غرفتها، وغاية في الاحترام والوقار، وفاترة قليلًا في أسلوب تعاملها مع رب عملها.»

سدَّد تي إكس نظرةً خاطفة إلى الآخر.

وتساءل: «لمَ تخبرني بكل هذا؟»

أجاب الآخر ببرود: «كي أوفِّر عليك عناء التقصي والاستكشاف.» وأضاف: «أنا على يقين من أن ذلك الفضول الذي لا يُشبع، الذي هو أحد أدوات مهنتك، سوف يدفعك إلى إجراء تحريات على النحو الذي يرضيك.»

ضحك تي إكس.

ثم قال: «هل تسمح لي بالجلوس؟»

جرَّ الآخر كرسيًّا ذا ذراعين عبر الغرفة وهوى فيه تي إكس. اتكأ إلى الوراء ووضع ساقًا فوق الأخرى، وفي لحظةٍ صار في حالة من الراحة والاسترخاء التام.

قال: «أرى أنك رجل في غاية الذكاء يا سيد كارا.»

نظر إليه الآخر هذه المرة دون تفكير.

ثم قال بلطف شديد: «لست بالذكاء الذي يمكِّنني من اكتشاف المغزى من زيارتك.»

قال تي إكس: «هذا أمر يسهل توضيحه.» وتابع: «أنت تعرف جميع مَن في المدينة. وتعرف، من بين آخرين، الليدي بارثولوميو.»

قال كارا سريعًا: «بالفعل أعرف الليدي معرفة وثيقة»، وكان الرد أسرعَ مما ينبغي في الواقع؛ إذ أوحت السرعة التي أعقبت بها الإجابة السؤال إلى تي إكس بأن كارا قد توقَّع سبب الزيارة.

سأله تي إكس متحدثًا بتروٍّ: «هل لديك أي فكرة عن سبب مغادرة الليدي للمدينة في تلك اللحظة تحديدًا؟»

ضحك كارا.

وأجاب: «يا له من سؤال استثنائي لتسأله لي … وكأن الليدي بارثولوميو قد أسرَّت بخططها إلى شخصٍ لا تربطه بها سوى معرفة عابرة!»

قال تي إكس متأملًا الطرَف المحترق من سيجارته: «ولكنك تعرفها جيدًا بما يكفي لتحوز دفتر كمبيالاتها.»

تساءل الآخر: «دفتر كمبيالاتها؟»

كانت نبرتُه تنمُّ عن دهشةٍ لا إرادية، وأخذ تي إكس يسبُّ في نفسه بصوتٍ خفيض؛ إذ رأى الارتياح وقد تلاشى من على وجه كارا في تلك اللحظة. وأدرك مفوَّض الشرطة أنه ارتكب خطأً؛ إذ كان واضحًا في كلامه إلى أقصى الحدود.

مضى في حديثه بهدوء، وكأنه لم يلحظ شيئًا: «حين أقول دفتر كمبيالات، أعني بالطبع سندات الديون التي دائمًا ما يمنحها المدين لشخصٍ اقترض منه مبالغَ ماليةً ضخمة.»

لم يُجِب كارا، ولكنه فتح أحد أدراج مكتبه وأخرج منه مفتاحًا وحمله إلى حيث كان تي إكس جالسًا.

قال بهدوء: «ها هو ذا مفتاح خزنتي.» وأردف: «لك مطلق الحرية في تفتيش محتوياتها بدقة بنفسك للعثور على أي دفتر كمبيالات أحوزه من الليدي بارثولوميو»، ثم أضاف بنبرة الجريح المظلوم: «أنت لا تتصور أنني مرابٍ، أليس كذلك؟»

قال تي إكس على غير الحقيقة: «أنا لم أتصوَّر ذلك على الإطلاق.»

لكن الآخر أصرَّ على إعطائه المفتاح.

وقال بنبرة جادة: «سأكون في غاية السرور لو بحثت بنفسك.» وتابع: «فأنا أشعر أنك بطريقةٍ ما تربط مرض الليدي بارثولوميو بفعلةِ ربًا شنعاء من جانبي؛ هلا تُرضي نفسك ومن ثَم ترضيني؟»

في هذه اللحظة كان أيُّ شخص عادي، وربما أي محقِّق عادي، سيجيب الإجابة التقليدية. كان سيحتج بأنه لا يضمر أيَّ نيةٍ لفعلِ أيِّ شيء من هذا القبيل، وكان سيُدلي بالعبارة التقليدية، لو كان رجلًا في المنصب الذي كان يشغله تي إكس، بأنه لا يملك أي سلطة لتفتيش الأوراق الشخصية، وأنه بالطبع لم يكن ليستغل طيبةَ قلب الآخر لمصلحته الشخصية. ولكن تي إكس لم يكن شخصًا عاديًّا. فأخذ المفتاح وأرجحه برفقٍ في راحةِ يده.

قال ممازحًا إياه: «هل هذا مفتاح خزنة غرفة النوم الشهيرة؟»

كان كارا ينظر إليه بابتسامةٍ ساخرة. ثم قال: «إنها ليست الخزنة التي فتحتها في غيابي، في واقعةٍ لن تُنسى، يا سيد ميرديث.» وأردف: «لقد غيَّرت تلك الخزنة، كما قد تعلم، ولكن ربما أنت لا تشعر بأنك أهلٌ للمهمة؟»

قال تي إكس بهدوءٍ وهو ينهض من فوق الكرسي: «على العكس، سوف أختبر حسن نواياك.»

وردًّا على ذلك، اتَّجه كارا إلى الباب وفتحه.

قال بأسلوبٍ مهذَّب: «دعني أريك الطريق.»

اجتاز الممر ودخل الجناح القابع في نهايته. كانت الغرفة كبيرةً ومضاءة بنافذةٍ كبيرة مربَّعة الشكل، كانت محميةً بقضبانٍ فولاذية. وفي الموقد العريض المرتفع اشتعلت نيرانٌ ضخمة وكانت درجة حرارة الغرفة دافئةً على نحوٍ لا يَسُر على الرغم من برودة الجو في ذلك اليوم.

قال كارا: «هذه واحدة من الغرائب الشاذة التي لن تجد لي عذرًا فيها باعتبارك إنجليزيًّا.»

بالقرب من حافة السرير السفلى، كان هناك بابٌ أخضر كبير للخزنة، مدمج داخل الجدار ومحاذيًا له.

قال كارا: «تفضَّل يا سيد ميرديث.» وأضاف: «كلُّ أسرار رمينجتون كارا الثمينة مِلْك يديك للبحث فيها.»

قال تي إكس دون أي محاولة منه لاستخدام المفتاح: «أخشى أن أكون قد تكبدتُ هذا العناء بلا جدوى.»

قال كارا مبتسمًا: «ذاك رأيٌ أوافقك فيه.»

قال تي إكس: «من الغريب أنني أقصد ما تقصده أنت تمامًا.»

وناول المفتاح إلى كارا.

تساءل اليوناني: «ألن تفتحها؟»

هزَّ تي إكس رأسه بالنفي.

«الخزنة حسبما أرى من طراز ماجنوس، والمفتاح الذي تفضَّلت بإعطائه لي منقوشٌ على مقبضه بوضوح «تشاب». وخبرتي كضابط شرطة علَّمتني أن مفاتيح تشاب نادرًا جدًّا ما تفتح خزنات ماجنوس.»

أطلق كارا صيحةَ ضيقٍ.

ثم قال: «يا لغبائي! — تذكَّرتُ الآن، لقد أرسلتُ المفتاح إلى موظفي البنك، قبل أن أغادر المدينة، وأنا، كما تعلم، لم أعد إلا هذا الصباح. سوف أرسل في طلبه في الحال.»

تمتم تي إكس بتهذيب قائلًا: «أرجوك لا تزعج نفسك.» وأخرج من جيبه عُلبةً جلديةً مسطحةً صغيرةً وفتحها. كانت تحوي عددًا من الأدوات المصنوعة من الصلب لها أشكال غريبة، مثبتة بواسطة حلقة جلدية في منتصف العلبة. استل من إحدى هذه الحلقات ذراعًا، وببراعة ثبَّت شيئًا بدا كمثقاب من الصلب بتجويف الذراع. وبينما كان كارا يراقب ما يحدث في دهشة، وقدْرٍ كبير من الخوف، رأى المثقاب وقد انثنى من عند الرأس.

تساءل بشيءٍ من الانزعاج: «ماذا ستفعل؟»

قال بمرح ولطف: «سأريك.»

وبحذرٍ شديدٍ وضع الأداةَ داخل ثقب المفتاح الصغير وأداره بحذرٍ في أحد الاتجاهين أولًا، ثم في الاتجاه الآخر. صدر صوتُ طقطقة تبعه صوت طقطقة آخر. فأدار الذراع وانفتح باب الخزنة.

تساءل في تهذيب: «أمر بسيط، أليس كذلك؟!»

في تلك اللحظة تحوَّل وجه كارا. كانت العينان اللتان كانتا في مواجهةِ عينَي ميرديث تشتعلان بغضب جنوني. وبخطوة سريعة وواسعة وقف كارا أمام الخزنة المفتوحة.

قال بفظاظة: «أعتقد أن الأمر قد جاوز المدى يا سيد ميرديث.» وأردف: «إذا أردت تفتيش خزنتي، فلا بد أن تحضر إذنًا بالتفتيش.»

هزَّ تي إكس كتفَيْه، وراح يَحُل الأداة التي استخدمها بحرص، وأعادها إلى العلبة، ثم أعاد العلبة إلى جيبه الداخلي.

قال بأسلوب لبق ولطيف: «كان هذا بناءً على دعوة منك، يا عزيزي السيد كارا.» وتابع: «كنت أعرف بالطبع أنك تضللني بالمفتاح وأنك ليس لديك أيُّ نية لتدعني أرى ما بداخل خزنتك مثلما لم تكن تنوي أن تخبرني بالضبط بما حدث لجون لكسمان.»

أصابته كلماته في مقتل.

تجعَّد وجه كارا الذي كان مواجهًا لوجه مفوَّض الشرطة، وبرزت أوردتُه من فرط الانفعال. كانت شفتاه مرتدتَين إلى الخلف، كاشفتين عن أسنانه البيضاء الكبيرة المتناسقة، وضاقت عيناه بشدة، وبرز فكاه، وتلاشى من وجهه كل مظهر من مظاهر الآدميين.

أخذ يردد بهمس عالٍ: «أنت … أنت …» بينما كانت يداه المِخْلبيتان تتحركان إلى الخلف على نحوٍ مريب.

قال تي إكس بنبرة حادة: «ارفع يدَيْك، وأسرِع في ذلك!»

وفي لمح البصر ارتفعت اليدان؛ إذ كان المسدس الذي كان تي إكس يحمله يضغط على الزر الثالث في صدرية اليوناني على نحوٍ مزعج.

قال تي إكس بلطف: «تلك ليست أول مرة تُطالَب فيها برفع يديك، حسبما أظن.»

استدارت يده اليسرى إلى جيب كارا الخلفي. فوجد به شيئًا يتخذ شكلًا أسطوانيًّا فجذبه من الجيب. لم يكن هذا الشيء، لدهشته، مسدسًا، ولا حتى سكينًا، كان يبدو كمصباح كهربائي صغير، ولكن كان يوجد بأحد طرفيه ثقوب أشبه بثقوب ملاحة الفلفل، بدلًا من المصباح والعدسة السحرية.

أمسك به بحرصٍ وكان على وشك الضغط على المقبض الصغير المصنوع من النيكل، حين انطلقت من كارا صيحةُ هلعٍ مكتومة.

قال وهو يلهث: «كن حذرًا لأجل الرب!» وتابع: «أنت تصوِّبه نحوي! لا تضغط على هذا الذراع، أتوسَّل إليك!»

تساءل تي إكس في فضول: «هل سينفجر؟»

«لا، لا!»

وجَّه تي إكس ذلك الشيء نحو السجادة إلى أسفل وضغط على المقبض بحذر. وحين فعل ذلك انطلق صوتُ هسيسٍ حاد وتلطخت الأرضية بالسائل الذي كانت تلك الأداة تحويه. لم تخرج سوى دفقة واحدة من السائل لا أكثر. فنظر تي إكس إلى أسفل. كان لون السجادة الزاهي قد تغيَّر بالفعل، وانبعث منها دخان. وامتلأت الغرفة برائحةٍ نفَّاذة وغير مستساغة. فتحوَّل تي إكس ببصره من السجادة إلى الرجل الشاحب الوجه.

قال وهو يهز رأسه في إعجاب: «أظنه زيت الزاج.» وتابع: «يا لك من صديق عزيز!»

كان الرجل، على ضخامته، على شفا الانهيار وراح يتمتم بشيء عن الدفاع عن النفس، وأنصت دون أن ينطق بكلمةٍ بينما مضى تي إكس، الذي كان يرزح تحت وطأة انفعالٍ له ما يبرِّره تمامًا، يصف كارا، وأسلافه، واحتمالات مستقبله.

استعاد اليوناني توازنه وهدوءه ببطء شديد.

قال مدافعًا ومتوسلًا: «لم أكن أنوي استخدامه لإيذائك، وأقسم على ذلك.» وأردف: «أنا محاطٌ بالأعداء، يا ميرديث. وعليَّ أن أحمل وسيلةً ما من أجل الحماية. إن أعدائي لا يحاولون مواجهتي لأنهم يعلمون أنني أحمل هذا الشيء. أقسم على أنني لم أكن أنتوي استخدامه لإيذائك. إنها فكرةٌ مستحيلة تمامًا. وأنا أعتذر عن خداعي لك بشأن الخزنة.»

قال تي إكس: «لا تقلق بشأن ذلك.» وتابع: «أخشى أنني أنا مَن قام بالخداع كله.» وأضاف حين مدَّ اليوناني يده ليأخذ الأداة الصغيرة اللعينة: «لا، لا أستطيع أن أدعك تستعيدها مجددًا.» وأردف: «لا بد أن آخذها إلى سكوتلاند يارد، مرَّ وقت طويل جدًّا منذ وقع في أيدينا أيُّ شيء جديد بهذا الشكل. أظنه هواءً مضغوطًا.»

أومأ كارا بجدية بالإيجاب.

قال تي إكس: «أنت مبدع جدًّا حقًّا.» وتابع: «لو كنت بمثل ذكائك …» ثم توقَّف برهةً وأضاف وهو يغادر الغرفة: «لفعلت به شيئًا … بواسطة مسدس.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤