الفصل الثاني

(١) عَوْدَةُ الأَميرةِ

وَاعْتزَمَتِ الأَميرةُ أَنْ تَعُودَ إلى بَلَدِها، لتُخْبِرَ أَباها بِما وُفِّقَتْ إِلَيْهِ في سَفَرِها، مِنَ التَّعَرُّفِ بِتِلكَ الْأُسْرَةِ الْمُلوكِيِّةِ الْكَرِيمَةِ.

وَقَدْ أَسَرَّتْ إلى وَلَدِ النَّاسِكِ قِصَّتَها، وَطَلَبَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَكتُمَ هذا السِّرَّ، حَتَّى تَسْتَأْذِنَ أَبَاهَا في الزَّواجِ بِهِ. فَإِذا أَقَرَّها عَلَى رَأْيِها كاشَفَ الأميرُ أباهُ، وَأَفْضَى إِلَيْهِ بِسِرِّهِ (أَخْبَرَهُ بِهِ).

وقَدْ فَرِحَ الْأَميرُ بهذا التَّوْفيقِ فَرَحًا لا يُوصَفُ.

وَلما عادَتِ الْأَميرةُ إلى قَصْرِ أبيها رَأتْهُ جالِسًا معَ الْحَكِيمِ «نارادا»، وكانا يَتَشَاوَرانِ — حِينَئِذٍ — في أَمْرِها.

وَأقْبَلَتْ «سَڨِتْرِي» عَلَى أبيها — فِي احْتِرَامٍ وَخُشُوعٍ — وَمثَلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، راكِعَةً أمامَهُ، إِجْلالًا لهُ وتعْظِيمًا، ثمَّ أَفْضَتْ إِلَيْهِ بِقِصَّتِها، وخَتَمَتْها قائِلةً: «إِنَّهُ يَرْتَدِي ثَوْبَ صُعْلُوكٍ، ولكِنَّ لَهُ هِمَّةَ الْمُلُوْكِ. وَهُوَ فِي مَوْلِدِهِ أَمِيرٌ، مَعَ أَنَّ أَباهُ — الْيَوْمَ — ناسِكٌ فقير وقَلْبُه مِثْلُ قَلْبِ الفلَّاحِ طُهْرًا وَنَقَاءً، وَطِيبَةً وَوَفاءً. وهُوَ شاعِرٌ حَسَنُ الْمَعانِي والأداءِ، وَمُوسِيقيٌّ رائعُ الإِنشادِ والغِناءِ.

(٢) اسمُهُ «سَتْياڨانُ»

فَقال الْمَلِكُ: «إِنِّي أُهَنِّئُكِ بِما ظَفِرْتِ بِهِ مِنْ تَوْفِيقٍ. ولكِنَّكِ نسِيتِ أَنْ تَذْكرِي لَنا اسْمَ هذا الْأمِيرِ!»

فَقالَتْ لَهُ: «اسْمُهُ سَتْياڨانُ!»

فَقَفَزَ الْحَكيمُ «نارادا» حِينَ سَمِعَ هذا الِاسمَ، ورَفَع إِحْدَى يَدَيْهِ مُرْتاعًا، وَقالَ مُتَأَلِّمًا مَحْزُونًا: «أَرْجُو أَلَّا يَكُونَ اسْمُهُ، كما قُلْتِ، سَتْياڨانَ؟»

فأَجابتْه باسِمَةً: «إِنَّهُ سَتْياڨانُ بِعَيْنِهِ، يا سيِّدِي النَّاصِحَ الْحَكيمَ.»

فَسَألهُ الْمَلِكُ مُتَعَجِّبًا: «ماذا فَزَّعَكَ مِنِ اسْمِهِ؟ أَلَيْسَ كما وَصَفَتْهُ بِنْتِي: شَجاعَةَ قَلْبٍ ونُبْلًا، ورَجاحَةَ عَقْلٍ وَفَضْلًا؟»

فَقالَ: «نارادا»: «بَلَى. وَهُوَ أَعْظمُ مِمَّا وصَفَتْهُ الْأَميرَةُ. وَلكِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ: «ياما»، قَدْ أَلْقَى شَبَكَتَهُ عَلَى هذا الأَمِيرِ، وَكتَبَهُ في دَفْتَرِ الْهالِكِين، ولَنْ يَسْمَحَ لَهُ بالْحَياةِ أَكثَرَ منْ سَنَةٍ واحِدَةٍ!»

(٣) صَوْتٌ كَرِيمٌ

فَارْتاعَ الْمَلِكُ، وَامْتُقِعَ وَجْهُ الْأَميرَةِ (تَغَيَّرَ لَوْنُهُ مِنَ الْحُزْنِ وَالْفَزَعِ)، وكادَ يُغْمَى عَلَيْها. ولكنْ سُرْعانَ ما أفاقَتْ مِنْ ذُهُولِها واسْتَمْسَكَتْ، حِينَ هَمَسَ فِي أُذُنها صَوتُ هاتِفٍ كَرِيمٍ: «الْوَفاءُ مِنْ شِيمَةِ الأَحْرارِ، والْغَدْرُ مِنْ خُلُقِ الأَشْرارِ، ورَحْمَةُ اللهِ واسِعَةٌ.»

فَوَقَفَتَ قائلةً، وقَدِ اسْتَرَدَّتْ شَجاعَتَها: «إِنَّ ما تَقُولُهُ حَقٌّ. ولكنّنِي لَنْ أُخْلِفَ وَعْدِي، وسَأَبَرُّ بِعَهْدِي، ولوْ تَرمَّلْتُ (بَقِيتُ أَرْمَلةً بلا زَوْجٍ) خَمْسِينَ عامًا!»

(٤) قَرارُ «نارادا»

وَحِينَئذٍ وَقفَ الْحَكِيمُ النَّاصِحُ، وأطْرَقَ لَحَظاتٍ، وَقَدِ اسْتَنَدَ رَأْسُهُ إلى صَدْرِهِ حَتَّى كادَ يَسْتَخْفِي فيه، وانْسَدَلَتْ على وَجْهِهِ عَباءَتُه الطَّوِيلةُ. فَكَتَمَ الْمَلكُ والأَمِيرةُ أنْفاسَهُما حَتَّى لا يَقْطَعا تَفْكيرَهُ.

ثُمَّ أفاقَ الْحَكيمُ مِنْ أَحْلامِهِ، فَدَفَعَ إلى الْأمامِ عَباءتَهُ، ورَفعَ نَحْوَ الْأَمِيرَةِ يَدَيْهِ مُسْتَعْطِفًا، كأنَّما يَعْتَذِرُ عَمَّا فاهَ (نَطَقَ) بِهِ، ثُمَّ قال: «السَّلَامُ لَنْ يَغُفْلَ عَنْكِ يا بِنْتَ مَلِكِ الْجيادِ!» ثُمَّ تَرَكَهُما وَانْصَرَفَ.

(٥) إلى الْغابةِ

سَأَلتِ الْأَميرَةُ أباها عَمَّا يَعْنِيهِ «نارادا» فَقالَ لَها: «لَمْ أَفْهَمْ ما عَناهُ. ولكن حَسْبُنَا أَنهُ كَفَّ عَنْ مُعَارَضَتِهِ.

وَلوْ رَأَى شَرًّا لأصَرَّ عَلَى اعْتِرَاضِهِ. والرَّأْيُ لكِ — يا بُنَيَّتي — بَعْدَ أَنْ عَرَفْتِ ما كانَ خافِيًا عَنْكِ مِنْ قَبْلُ. فإِنْ شِئْتَ وَفَيْتِ بِوَعْدِكِ، وإِنْ شِئْتِ اعْتَذَرْتِ لهُ.»

فَقالَتْ: «لا سَبِيلَ إِلَى الْغَدْرِ وَنَقْضِ العهْدِ.»

فَلَمَّا رَآها مُصِرةً عَلَى الْوَفاءِ بِوَعْدِها، أَعْلَنَ عَزْمَهُ عَلَى تَزْوِيجِها بالْأَمِيرِ «سَتْياڨانَ». واسْتَقَلَّ الْمَلكُ وبِنْتُهُ مَرْكَبَتَهُما الْمُلوكِيَّةَ الَّتي يَجُرُّها الثَّوْرانِ الأَبْيضانِ، بَعْدَ أَنْ حمَلا فِيها — مَعهُما — كَثِيرًا مِنَ النَّفائِسِ، هَدِيَّةً لوالِدَيِ الأمِيرِ «سَتْياڨانَ».

(٦) عِند ملك «شَلْوَازَ»

وَلَمَّا عَلِمَ مَلِكُ «شَلْوَازَ» بِما قَدِم مِنْ أَجْلِهِ «مَلِكُ الجِيادِ» وَبِنْتُهُ «سَڨِتْرِي»، تَمَلَّكهُ الدَّهَشُ، وسَأَلَهُما مُتَعَجِّبًا: «كَيْفَ تَرْضَى «بِنْتُ السَّماءِ» أنْ تَعيشَ — بَيْنَ ظَهْرَانَيْنا — في هذهِ الْغابةِ الْمُوحِشَةِ؟ وَكَيْفَ تَسْتَسِيغُ طَعَامَنا، وتَأْلَفُ عاداتِنا، ونَحْنُ نَفْتَرِشُ الْأَرْضَ، ونَطْعَمُ الطُّحْلُبَ وثِمارَ الْغابَةِ، ونَلْبَسُ جُلُودَ الْوُحُوشِ، وَقِشْرَ الشَّجَرِ، ولا نَأْلَفُ الْحُلِيِّ والْوَسَائِدَ (الْمِخَدَّاتِ)، ولا يَقُومُ بِخِدْمَتِنا أحَدٌ غَيْرَ أَنْفُسِنا، ولا حَظَّ لنا إِلَا التَّقَشُّفُ والْعِبادَةُ، والزُّهْدُ فِيما تَحْوِيهِ الدُّنْيا مِنْ لَذائِذَ فانيَةٍ؟»

فَلمَّا سَمِعَتِ الْأَمِيرَةُ قَوْلَ شَيْخِ النُّسَّاكِ أَسَرَّتْ إِلَيْهِ حَقِيقةَ أَمْرِها، فَاقْتَنَعَ بِما قالَتْهُ. ثُمَّ أَدْخَلَ ضَيْفَيْهِ صَوْمَعَتَهُ، وهِيَ — كما أخْبَرْتُكَ — مُشَيَّدَةٌ بِأَغْصانِ الشَّجَرِ وأوْراقِها، وأفْضَى النَّاسِكُ إلى زَوْجَتِهِ (أَخْبَرها) بِقِصَّةِ ضيْفَيْهِ الْعَظِيمَيْنِ؛ فَرَحَّبَتْ بِهما أَحْسَنَ تَرْحِيبٍ.

(٧) حفْلةُ العُرْسِ

ثُمَّ عادَ الْأَمِيرُ «سَتْياڨانُ» — مِنْ صَيْدِهِ — بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيل، وتَمَّ زَوَاجُهُ بِالْأَميرَةِ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ. وحَضَرَ جيرَانُهُمْ — مِنَ النُّسَّاكِ — فَهنَّئُوا الْعَرُوسَيْنِ، وابْتَهَجُوا بِما مَيَّزَ اللهُ بِهِ الأَمِيرَةَ مِنْ جَمالِ الْخَلْقِ والْخُلُقِ، وأثْنَوْا عَلَيْها أَطْيَبَ الثَّناءِ.

•••

وزادَ إعْجابُهُمْ بِها حِينَ خَلَعَتْ جَوَاهِرَها وحُلِيَّها وَثِيابَها الْفاخِرَةَ، واسْتَبْدَلَتْ بِها ثَوْبًا مِنْ قِشْرِ الشَّجَرِ البُنِّيِّ اللَّوْنِ، الَّذِي يَرْتَدِيهِ أَهْلُ الْغابَةِ.

وقَدِ ارْتَدَتْ هذَا الثَّوْبَ الْحَقِيرَ، وهِيَ تَقُولُ: «لَسْتُ الآنَ أَمِيرَةً، بَلْ نَاسِكَةٌ فَقِيرَةٌ.»

•••

وفي الْيَوْمِ التَّالي وَدَّعَها الْمَلِكُ، واثِقًا مِنْ عَوْدَتِها إِلَيْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعامِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤