الفصل الثالث

(١) صَوْتُ الهاتِفِ

وَمَرَّتِ الأَيَّامُ — كما تَمُرُّ السَّعادَةُ — سِرَاعًا. ولَمْ يَكُنْ يُنَغِّصُ عَلَى الأمِيرَةِ سَعادَتَها إِلَّا شَيْءٌ واحدٌ، هُوَ دُنُوُّ أجَلِ الأمِيرِ فكانَتْ تَتْرُكُهُ بَيْنَ حِينٍ وآخرَ، وتَجْلِسُ وَحْدَها — في الْغابَةِ — مُتَأَوِّهَةً باكِيةً حَظَّهُ الْعاثِرَ.

وَلَمَّا أَشْرَفَ الْعامُ عَلَى نِهايَتِهِ، سَمِعَتِ الْهاتِفَ يَهْمِسُ إِلَيْها قائِلًا: «بَعْدَ أَنْ يَنْقَضِيَ هذا الْيَوْمُ، لَنْ يَعِيشَ الأَمِيرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أيَّام.»

فاعْتَزَمَتْ أَلَّا تَتْرُكَ زَوْجَها لَحْظَةً واحِدَةً، لَعَلَّها تَرَى مَلَكَ الْمَوْتِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الهِنْدَوسِ: «ياما».

وقالَتْ في نَفْسِها: «مَنْ يَدْرِي، فَلَعَلّي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْطَعَ شَبَكَةَ الْمَوْتِ — حِينَ يَقْتَرِبُ «ياما» مِنَ الأمِيرِ — أوْ أُثْنِيَهُ عَنْ عَزْمِهِ بِالْحِيلَةِ، فإنَّ قَلْبِي يُحَدِّثنِي أَنَّ أمَلِي لَنْ يَخِيبَ.»

(٢) مَصْرَعُ الأمِيرِ

وَلَمَّا طَلَعَ فَجْرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ذَهَبَتِ الأَمِيرةُ إلَى النَّاسِكِ الضَّرِير، فاسْتَأْذَنَتْهُ أنْ تَصْحَبَ زَوْجَها إِلى الْغابَةِ في ذلِكَ الْيَوْمِ.

فَأَذِنَ لَها أَنْ تَصْحَبَهُ، عَلَى أَلَّا تُعَوِّقَهُ عَنْ قَطْعِ الأَشْجارِ.

وَقَدِ امْتَلَأَتْ نَفْسُ الأمِيرِ مَرَحًا وحُبُورًا — في ذلِكَ الْيَوْمِ — بِقَدْرِ ما حَزِنَتِ الأمِيرَةُ الَّتي كانَتْ قَلِقَةً عَلَى زَوْجِها، تُجِيلُ بَصَرَها (تُدِيرُ لِحاظَها) في كلِّ ما يَكْتَنِفُها مِنْ نَباتِ الْغابَةِ وشَجَرِها وقَصَبِها الْعالي، باحِثَةً عَنْ «ياما»، وقَدِ ارْتَجَفَتْ شَفَتاها مِنَ الرُّعْبِ. وَلَمَّا بَلَغا عِيدانَ الْقَصَبِ الضَّخْمَةَ حاوَلَ «سَتْياڨانُ» أَنْ يَرْفَعَ مِلْطَسَهُ (فَأَسَهُ) لِيَقْطَعَ واحدًا مِنْها، فَخَذَلَتْهُ قوَّتُه، وهَوَى الْمِلْطَسُ مِنْ يدِهِ إلَى الْأَرْضِ، فَصاحَ مَذعُورًا: «وَاهٍ وَاهٍ، يا «سَڨِتْرِي». أيُّ أَلَمٍ هذا الَّذِي يُمَزِّقُ رَأْسِي، ويُبَددُ قُوَّتِي! اجْلِسِي قَلِيلًا؛ فإِنِّي فِي حَاجَةٍ إلَى النَّوْمِ.»

(٣) شَبَكةُ المَوْتِ

وَحِينَئذٍ أَدْرَكَتْ «سَڨِتْرِي» أَنَّ ساعَة الْقضَاءِ قَدْ حانَتْ. ونَظَرَتْ فإذا بها تُبْصِرُ شَبَحًا أَخْضَرَ طَوِيلَ الْقامَةِ، نَحِيلَ الْجِسْمِ، مُتَوَهِّجَ الْعَيْنَيْنِ، وفي يَدِهِ حَبْلٌ طَوِيلٌ.

فَعَلِمَتْ أَنَّها تَرَى أَمامَها «ياما»، وأنَّ ذلِك الْحَبْلَ الطَّوِيلَ هُوَ شَبَكةُ الْمَوْتِ.

ولَمْ يَدِبَّ الْيأْسُ إلَى قَلْبِها، فوَقفَتْ مُتَباطِئَةً، وانْحَنَتْ أمامَهُ ضارِعَةً، وهِيَ تَقُولُ: «مَنْ أَنْتَ أَيُّها الْمَوْلَى الْعَظِيْمُ الْقَوِيُّ؟»

فَقالَ لَها: «لا تَسْألِي عَنِ اسْمِي، يا «سَڨِتْرِي». وَحَسْبُكِ أنْ تعْلَمِي أنَّنِي جِئْتُ لِزَوْجِكِ «سَتْياڨان» الَّذِي انْتَهَتْ حَياتُهُ.»

ثمَّ أَلْقَى شَبَكَتَهُ — لِلْحَالِ — عَلَى الأمِيرِ النَّائِمِ، فَأَمْسَكَتْ بِرُوحِهِ كما تُمْسِكُ بِالْكُرَةِ، وَجَذَبَها إِلَيْهِ. ثُمَّ أَدَارَ وَجْهَهُ صَوْبَ الْجَنُوبِ، وظَلَّ يَعْدُو في مِثْلِ سُرْعَةِ الْبَرْقِ.

(٤) في عالَمِ المَوْتَى

وَلَمْ تَقِفْ «سَڨِتْرِي» مَكْتُوفَةَ الْيَدَيْنِ، بَلْ جَرَتْ مُسْرِعَةً فِي أَثَرِهِ. وما زَالَتْ تَجْرِي حَتَّى اجْتازَتْ عالَمَ الْأَحْياءِ، ثُمَّ وَاصَلَتْ طَيَرَانَها خَلْفَهُ فِي عالَمِ الْأَمْوَاتِ. وَحِينَئِذٍ وَقَفَ «ياما» والْتَفَتَ إلَيْها قائِلًا: «ارْجعِي — يا بُنَيَّتِي — مِنْ حَيْثُ أَتَيْتِ، وَادْفِنِي جُثَّةَ زَوْجِكِ؛ فَقَدْ أَتْعَبْتِ نَفْسَكِ بِلا فائِدَةٍ.»

فَقالتْ لَهُ: «كلَّا أَيُّها الْمَوْلَى الْعَظِيمُ. لا سَبِيل إلى ذلِكَ؛ فَقَدْ عاهَدْتُ زَوْجِي عَلَى أَنْ أَتْبَعَهُ حَيْثُما حَلَّ. وَما أظُنُّكَ — يا مَوْلايَ — تَرْضَى لِي أَنْ أَخُونَ الْعَهْدَ!»

فَابْتَهَجَ «ياما» حِينَ رَأَى حِرْصَها عَلَى الْوَفاء بِعَهْدِها، وأُعْجَب بِحُسْنِ أَدَبِها فِي حَدِيثها، فقال لَها: «صَدَقْتِ — يا بُنَيَّتِي — وبِالْحَقِّ نَطَقْتِ. وسَأجْزِيكِ عَلَى وَفائِك أَحْسَن الْجَزَاءِ، فَتَمَنَّي شَيْئًا غَيْرَ عَوْدَةِ زَوْجِكِ إلى الْحَياةِ.»

(٥) الجائِزَةُ الأُولَى

فَأطْرَقَتْ لَحْظَةً، وَقَدْ رَأَتْ أَلَّا تُضيع الْفُرْصَةَ، فَقَالَتْ: «أُرِيدُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَلِكُ «شَلْوازَ» بَصَرَهُ وَقُوَّتَهُ.»

فَقالَ لَها «ياما»: «لَقَدْ أَجَبْتُكِ إلى طِلْبَتِكِ. فَعُودِي أَدْراجَكِ يا فَتاةُ، فَلَمْ يَعْبُرْ هذَا الْمَكانَ أَحَدٌ — مِنْ قَبْلُ — وَهُوَ حَيٌّ.»

فَلَمْ تَيْأَسْ مِنْ تَحْقِيقِ أَمَلِها، وقالتْ مُتَوَدِّدَةً: «إذا كانَ الْمَوْتَى ينْعَمُونَ برِعَايَةِ مِثْلِكَ، فَإِنَّ عالَمَ الْأَمْواتِ هُوَ — عِنْدِي — خَيْرٌ مِنْ عالَمِ الْأَحْياءِ؛ لِأَنَّ فِي الْبَقاءِ إِلى جِوارِكَ بَهْجَةً مُتَجَدِّدَةَ الرَّوْعَةِ.»

(٦) الْجَائِزَة الثَّانِيَةُ

فاشْتَدَّ إِعْجابُ «ياما» بلَباقَتِها، وحُسْنِ جَوابِها، وقالَ لَها: «لَكِ جائِزَةٌ أُخْرَى، فاطْلُبِيها تُجابِي إِلَيْها.»

فَقالتْ لَهُ: «أُرِيدُ أَنْ تُعيدَ لِوَالِدِ زَوْجِي عَرْشَهُ المسْلُوبَ مِنْهُ.»

فَقالَ لَها: «لَكِ ما تَطلُبينَ، فارْجِعِي إلى جُثَّةِ «سَتْياڨانَ» قَبْلَ أَنْ تَأْكُلَها بناتُ آوَى.»

فَقالتْ لَهُ: «لَسْتُ أُبالِي أَنْ تَأْكُلَ الْجِسْمَ بَناتُ آوَى؛ فَلَيْسَ لِلْجَسَدِ — مَتَى فارَقَتْهُ الرُّوحُ — فَضِيلَةٌ ولا خَطَر.

إِنَّ الْجِسْمَ يُعَوَّضُ، أَمَّا الرُّوحُ فَلا سَبِيلَ إلَى تَعْوِيضِها!»

(٧) الجائِزَةُ الثَّالثةُ

فَقالَ لها: «ما أَصْدَقَ ما تَقُولينَ! إِنَّ عَقْلَكِ — أَيَّتُها الْفَتاةُ — أَكْبَرُ مِنْ عُقُولِ الأَناسِيِّ أَبْناءِ الأَرْضِ.

وقَدْ أَمَرْتُ لَكِ بِجَائِزَةٍ ثالِثَةٍ، مُكافَأَةً لَكِ.»

فَقالتْ لَهُ: «أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لِي مائَةُ وَلَدٍ يا مَوْلايَ الْعَظِيم!»

فَقالَ لَها: «سَأُحَقِّقُ لَكِ ما تطْلُبِين.»

فابْتَهَجَتِ الأميرَةُ، وصَفَّقَتْ بِيَدَيْها مَحْبُورَةً (مَسْرُورَةً)، وقالتْ: «ما دُمْتَ قَدْ وَعَدْتَنِي بِذلِكَ، فَأرْجِعْ إليَّ زَوْجي «سَتياڨانَ». أَعِدْ رُوحَهُ إلَى جَسَدِه، فَلَنْ أَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ أَبَدًا!»

(٨) الْجَائِزَةُ الرَّابعةُ

فَأَدْرَكَ «ياما» أَنَّ قُوَّةً أَكْبَرَ مِنْ قُوَّتِهِ أَرادَتْ ذلِكَ.

ولَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنَ الْبِرِّ بِوَعْدِه، فَأَطْلَقَ الرُّوحَ مِنَ الشَّبَكَةِ، فَطارَتْ — فِي الْهَواء — وعادَتْ إِلى جُثَّةِ «سَتْياڨانَ» فِي الْغابةِ.

(٩) تَحَقُّقُ الرَّغَباتِ

وأَسْرَعَتْ «سَڨِتْرِي» إلى الْغابَةِ، فَبَلَغَتْها بَعْدَ سَفَرٍ طَويلٍ، فَرَأَتْ زَوْجَها غارِقًا فِي نَوْمِهِ، فَأَيْقَظَتْهُ مُتَلَطِّفةً.

فَمَدَّ جَسَدَهُ وَتَثاءَبَ، ثُمَّ الْتفَتَ إِلَيْها قائِلًا: «لَقَدْ طالَ نَوْمِي بِلا شَكٍّ، فَما بالُكَ لَمْ تُوقِظينِي قَبْلَ الآنَ؟»

فابْتَسَمَتْ «سَڨِتْري»، وَرَبَّتَتْ كَتِفَهُ قائِلةً: «هَلُمَّ، فَلْنُسرعْ بِالْعَوْدَةِ إلى الْبَيْتِ، فَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وخَيَّمَ الظَّلامُ عَلَى الأَرْضِ.»

ثُمَّ أَفْضَتْ إِلَيْهِ — وهِيَ عائِدَةٌ مَعَهُ — بِكُلِّ ما حَدَثَ.

وما كانَ أَشَدَّ دَهْشَتَهُ وابْتِهاجَهُ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ فَرَأَى أَباهُ مَسْرُورًا بِعَوْدَةِ بَصَرِهِ وصِحَّتِهِ فَجْأَةً. وقَدْ شارَكَتْهُ أُمُّ «سَتْياڨانَ» في فَرَحِهِ، وأَقْبَلَ نُسَّاكُ الْغابَةِ يُهنِّئُونَهُ بِعَودَةِ بَصَرِهِ إِلَيْهِ.

وحِينَئِذٍ قَدِمَ رَسُولٌ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ الَّذِي اغْتَصَبَ مُلْكَ «شَلْوازَ» قَدْ لَقِيَ مَصْرَعَهُ، وأَنَّ الشَّعْبَ لا يُرِيدُ بِمَليكهِ الْعادِلِ الرَّحِيمِ بَدِيلًا.

وَفِي الْيَوْمِ التَّالي عادَتِ الأُسْرَةُ كُلُّها إلى مَمْلكَةِ «شَلْوازَ»، حَيْثُ عَاشُوا جَمِيعًا فِي سُرُورٍ وابْتِهاجِ طَوالَ حَياتِهمْ.

(١٠) خاتِمَةُ الْقِصَّةِ

وقَدْ رُزِقَتْ «سَڨِتْرِي» مِائَةَ وَلَدٍ، كَما وَعَدَها «ياما».

وكانَتْ تَحْتَفِلُ بأَعْيادِ مِيلادِهِمْ — واحدًا بعْدَ آخَرَ — مَتى بَلَغَ الْعامَ الْعاشِرَ، احْتِفالًا عَظِيمًا. ثمَّ تَقُصُّ عَلَى ضُيُوفِها: نِسَاءً ورِجالًا — بَعْدَ أَنْ تَرْفَعَ الْمائِدَةَ — تَفاصِيلَ هذِهِ الْقِصَّةِ الْمُعْجِبَةِ، وَكَيْفَ كُوفِئَتْ عَلَى وَفَائِها خَيْرَ مُكافَأَةٍ. وجُوزِيَتْ عَلَى إِخْلاصِها خَيْرَ جَزَاءِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤