الفصل الأول

القفل العجيب

لا أتذكر أيُّ مناسبة تلك التي دعتْني إلى تناوُل العشاء مع ثورندايك في مطعم جيامبوريني في تلك الليلة تحديدًا التي لم تنمحِ بعدُ من ذاكرتي. مما لا شك فيه أن بعض الأعمال المنجَزة كانت قد استدعت حضورَ هذا الاحتفال المتواضع على ما يبدو. على أية حال، دخلنا إلى المطعم وجلسنا على طاولة اختارها ثورندايك في مكان منعزل بعضَ الشيء، جلسنا أمام نافذة كبيرة تتدفق من خلالها أشعةُ الشمس في شهر يونيو. حضرت الترتيبات الأولية وهي زجاجة من نبيذ البارساك، وكنا مترددين بين مجموعة من أطباق المقبلات نصف المطهوة، وعندئذٍ دخل رجل وجلس على طاولة أمام طاولتنا، من الواضح أنها كانت محجوزةً له؛ لأنه سار إليها مباشرةً وسحب الكرسيَّ الوحيد الذي كان موضوعًا بزاوية تجاه الطاولة.

تملَّكني الاهتمامُ بمراقبة أسلوبه المنمق؛ فقد كان واضحًا أن الرجل يتناول عشاءه باهتمام. ومن أسلوب النادل والطاولة المحجوزة بكرسي واحد، خمَّنتُ أنه عميل منتظم أيضًا، ولكن الرجل نفسه أثار فضولي؛ فقد كان رجلًا غير عادي وكان مظهره ينمُّ عن شخصية ربما تشوبها مسحةٌ من الغرابة. بدا عليه أنه يقارب الستين من عمره، وله جسم صغير ونحيل، ووجه تكسوه التجاعيد ومتقلب التعابير وغريب الأطوار، وتعلو رأسَه خصلاتٌ من الشعر الأبيض المنتصب. ومن جيب صدريته تبرز أطرافُ قلم حبر وقلم رصاص وكشاف كهربائي صغير يُشبه ذلك الذي يستخدمه الجراحون؛ رأيت عدسة كودينجتون مكبرة محاطة بإطار فضي معلقة في سلسلة الساعة، ويرتدي في إصبعه الأوسط بيده اليسرى أكبرَ خاتم رأيتُه في حياتي.

قال ثورندايك وهو يتابع نظراتي: «حسنًا، ما تقول في الرجل؟»

أجبته: «لا أعرف حقًّا، تُوحي عدسةُ كودينجتون المكبِّرة أنه من أنصار المذهب الطبيعي أو عالم في مجال ما، ولكن هذا الخاتم الكبير يستبعد هذا التخمين. لعله يعمل في جَمْع الأشياء القديمة أو القِطَع النقدية أو حتى الطوابع البريدية. إنه يتعامل مع الأشياء الصغيرة من نوع ما.»

في تلك اللحظة، دخل رجل وهو يمشي بخُطًى واسعة باتجاه طاولة صديقنا ومدَّ يده للمصافحة وصافحه الرجل الآخر ولكن ليس بحماس كبير حسبما رأيت. أحضر الوافد الجديد كرسيًّا ووضعه بجانب الطاولة وجلس وأمسك القائمة، وفي ذلك الوقت أخذ الآخر ينظر مستنكرًا. خمَّنت أنه كان يفضِّل تناول العشاء وحده، وأنه لم تَرُق له شخصية الرجل الذي دخل لتوِّه؛ إذ كان ذا مظهر مبهرج وصارخ ولافت للأنظار.

ومن هذين الرجلين، انجذبت عيناي إلى رجل طويل القامة توقَّف بقرب الباب ووقف يتفحص الردهة وكأنه يبحث عن شخص ما. وقعت عيناه فجأةً على طاولة فارغة ذات مقعد واحد، توجَّه الرجل إليها مباشرةً وجلس وأخذ يقرأ قائمة الطعام متوجسًا والنادل يقف ينتظر أوامره. استرقتُ النظر إليه بشيء من الازدراء. يأخذ المرء عنفوان الشباب بعين الاعتبار، ولكن عندما يتحلى رجل في منتصف العمر بمظهر يجمع بين الشعر الكثيف الدهان المفروق من المنتصف، وشارب مدهون بكمية كبيرة من الكريم المثبت بحيث يُثير الاستغراب من كثافة لونه الأسود، ونظارة محدبة بعين واحدة من النوع الفخم يبدو أنها لمجرد الزينة، فهذا يدفع المرء إلى أن ينظر إليه بقدر ضئيل من القبول. لم أُعِر مظهرَه الغريب انتباهًا، ولكني كنت مهتمًّا بوجبة العشاء ولم أنتبه لشيء آخر مع العشاء لبعض الوقت إلى أن سمعتُ ثورندايك يُصدر ضحكةً مكتومة خفيفة.

بينما يضع كأسه، علَّق بقوله: «ليس سيئًا.»

وافقتُه الرأي: «لا بأس إطلاقًا بالنسبة إلى نبيذٍ من المطعم.»

قال: «لم أقصد النبيذ، ولكني أقصد صديقنا بادجر.»

قلت متعجبًا: «المفتش! إنه ليس هنا، أليس كذلك؟ فأنا لا أراه.»

قال: «يسرُّني أن أسمعك تقول ذلك يا جيرفيس. بذل الرجل جهدًا أفضل مما توقعت، ولكن بإمكانه التعامل مع متعلقاته بطريقة أفضل قليلًا. فهذه المرة الثانية التي تقع فيها نظارته في الحساء.»

بينما أتتبع نظراته، لاحظت أن الرجل ذا الشارب المدهون بالكريم المثبت يمسح نظارته خِلسةً؛ وبفضل الانقشاع المؤقت لغيمة العبوس من إحدى عينيه، تمكنتُ من ملاحظة أوجه التشابه مع الملامح المعتادة لضابط المباحث.

قلت: «إذا كنت تقول إن هذا هو بادجر، فأنا أخمِّن أنه هو. إنه يشبه صديقنا قليلًا، ولكن ما كنت لأتعرَّف عليه.»

قال ثورندايك: «لا أعرف إن كان هناك ما يجعلني أتعرف عليه، ولكني تعرفت عليه من بعض سقطات الحركات اللاإرادية. تعرف طريقته في التمسيد على مؤخرة رأسه وفتح فمه والحك في ذقنه من الجانب. رأيته يفعل ذلك لتوِّه. فقد نسي مظهر الملوك الذي يظهر به حتى نسي ذقنه، ثم التوقف المفاجئ في حركته جذب الانتباه كثيرًا. فما كان عليه أن ينسى أنها لحية مزيفة.»

قلت: «لا أعرف ما اللعبة التي يحيكها. يُوحي تنكُّرُه بأنه في مهمة تحرٍّ عن شخص ما ربما يعرفه، ولكن من الواضح أنه لم يعثر على أحد حتى الآن. على أية حال، يبدو أنه لا يراقب شخصًا بعينه.»

قال ثورندايك: «لا، ولكن يبدو أنه يوجد أشخاص يتحاشى النظر إليهم. هذان الرجلان الجالسان على الطاولة التي أمامنا يقعان في مجال رؤيته مباشرةً، ولكنه لم يركز نظرَه معهما ولو مرة واحدة منذ أن جلس على الرغم أني لاحظته يرمقهما بنظرة سريعة قبل أن يختار طاولته. لا أعرف هل رآنا أم لا. ربما لم يرَنا لأن ضوء النافذة شديد السطوع من خلفنا كما أن انتباهه مشغول بشيء آخر.»

نظرتُ إلى الرجلين ثم إلى المحقق وعلمتُ أن صديقي على حق. كان يوجد على طاولة المفتش نبات سرخس بحجم كبير موضوع في إناء زينة، بعد ذلك حرَّكه بحيث يصبح بينه وبين الغريبين؛ ومن ثَم لا بد أنه أصبح غير مرئي جزئيًّا لهما. في الحقيقة، يمكنني أن أرى الآن أنه بالفعل يسترق النظر إليهما من وقت لآخر عبر حافة بطاقة قائمة المأكولات. وحينما أوشكَا على الانتهاء من وجبتَيْهما، أنهى وجبته بسرعةٍ وأشار إلى النادل ليُحضر له الفاتورة.

قال ثورندايك بعدما دفع حسابنا: «يمكننا الانتظار نحن أيضًا ونراهم وهم يغادرون. دائمًا ما يُثير بادجر اهتمامي. إنه شديد الذكاء ولكنَّ حظَّه سيئٌ بدرجة صادمة.»

لم ننتظر طويلًا. نهض الرجلان عن طاولتهما ومشيَا على مهلٍ باتجاه الباب، وتوقفَا لإشعال السجائر قبل الخروج. ثم نهض بادجر وأولاهما ظهرَه وجعل وجهه باتجاه المِرآة المقابلة لهما؛ وبينما خرج الرجلان، تناول قبعته وعصاه وتَبِعهما. نظر ثورندايك إليَّ نظرةَ تساؤل.

سألني ثورندايك قائلًا: «هل ندخل في مغامرات هذه المطاردة؟» ومع موافقتي لرأيه، انطلقنا في أثر المفتش.

بينما نتبع بادجر على مسافة قريبة، كنا من وقتٍ لآخر نرصد الرجلين اللذين يراقبهما المفتش من أمامه؛ إذ تسببت تصرفاتُهما في إرباك المفتش، حيث كانَا يتوقَّفان فجأةً لتوضيح بعض النقاط التي يتناقشان فيها، واضطر المحقق أن يبعد بمسافة أكبر من المسافة الآمنة؛ وذلك نظرًا لازدحام الرصيف. وفي إحدى هذه المناقشات عندما كان الرجل الأكبر يقول بنفسه بعضَ النكات المضحكة، نظر كلاهما إلى الخلف فجأة، وكان صاحب النكتة يشير إلى شيءٍ ما في الجهة المقابلة من الطريق. التفت العديد من الأشخاص ليروا الشيء الذي يشير إليه وبالطبع اضطر المفتش إلى الالتفاف أيضًا كي لا يُكشَف أمره. وفي هذه اللحظة، دخل الرجلان إلى مدخل وعندما التفت المفتش مرة أخرى لم يجدهما.

بمجرد أن فقد بادجر أثرَهما، بدأ في الركض وتوجه على الفور إلى المدخل الكبير لمبنى سيلستشيال بنك تشامبرز، وبدأ في البحث الحثيث عنهما. ثم بدا أنه رأى طريدتَه ومن ثَم اندفع إليهما ونحن أسرعنا الخُطى وتبعناه. وفي منتصف الردهة الطويلة رأيناه يقف عند باب مصعد ويضغط على زر الاستدعاء والعجلة تبدو عليه.

قال ثورندايك ضاحكًا في نفسه ونحن نتجاوزه دون أن يلاحظنا: «بادجر البائس! حظه المعتاد! لن يجد طريدته الآن إلا بصعوبة في هذا المبنى الضخم. قد نذهب أيضًا إلى مدخل شارع بلينهايم.»

تابعنا طريقنا عبر الممر المتعرج واقتربنا من المدخل وحينها لاحظنا رجلَين ينزلان من على الدرج المؤدي إلى الصحن.

قلت: «يا للعجب! إنهما هنا! هل نعود ونخبر بادجر؟»

تردَّد ثورندايك، ولكن بعد فوات الأوان. وصلت سيارة أجرة وكان السائق يأخذ أجرته. أسرع الشاب، وهو يشير للسائق، وأمسك مَقْبِض الباب؛ وعندما دخل صاحبه إلى الكابينة، أعطى العنوان للسائق ودخل إلى السيارة بسرعةٍ وأغلق الباب. عندما انطلقت سيارة الأجرة، سحب ثورندايك دفتر ملاحظاته وكتب رقم السيارة. استدرنا وعُدْنا أدراجنا، ولكن عندما وصلنا إلى باب المصعد، وجدنا أن المحقق اختفى. من المؤكد أنه صعِد إلى الطوابق العليا، وكأنه حلَّق مع ألحان توم بولينج الساحرة.

ثورندايك: «يجب أن نترك الأمر يا جيرفيس. سأرسل له رقم سيارة الأجرة من دون تحديد هوية المرسل، وهذا جلُّ ما يمكننا فعله، ولكني آسف على بادجر.»

بذلك نحينا الحادث جانبًا عن تفكيرنا، وعلى الأقل، فإنني أزعم بالفعل أني رأيت الرجل الأخير من هذين الغريبين. لم أكن أظن أنني سألتقي بهما مرة أخرى قريبًا تحت أي ظرف!

بعد أسبوع، زارنا صديقُنا القديم وهو المشرف ميلر من إدارة التحقيقات الجنائية. السنوات التي مضت أسست بيننا تبادل الثقة والاحترام، وكان ضابط التحقيقات المخضرم والأمين زائرًا مرحَّبًا به على الدوام.

قال ميلر وهو يقطع طرف سيجاره الذي لا يفارق يده: «أتيت للتوِّ لأخبركما عن قضية غريبة وقعت تحت أيدينا. أعلم أنكما تهتمان دائمًا بالقضايا الغريبة.»

ابتسم ثورندايك ابتسامةً لطيفة. سمع ثورندايك مثل هذه الديباجة من قبل، وعلم — كما أعلم أنا — أنه عندما يصبح ميلر واضحًا، يمكننا أن نستنتج بثقة أن حديث ميلر سطحي.

تابع المشرف: «إنها قضية من نوع خاص للغاية من طرق الاحتيال. إنها عصابة في حقيقة الأمر، ولكننا نضع أعيننا على زعيم هذه العصابة على وجه الخصوص.»

ثورندايك: «إذن، هل الاحتيال هو عمله المعتاد؟»

ميلر: «لا أستطيع أن أجزم بذلك. الحقيقة أننا لم نرَ الرجل حتى نتأكد منه.»

ثورندايك بابتسامةٍ مصطنعة: «فهمت. تقصد أنك وضعت عينك على مكانٍ ليس موجودًا فيه.»

اعترف ميلر: «في الوقت الحالي، هذه هي الحقيقة بعينها. فقدنا أثر الرجل الذي نشتبه به، ولكننا نأمل أن نمسك به مرة أخرى عاجلًا. إننا نريد الوصول إليه هو ومن معه في أقرب وقت. من المحتمل أن تكون عصابة صغيرة جدًّا ولكنهم ثعالب ماكرة؛ إنهم يتمتعون بذكاءٍ كبيرٍ مما يُبقيهم طلقاء. وسيستغرق الإمساك بهم وقتًا؛ فهم لديهم شخص يُدير هذا الأمر بقدرٍ كبير من الدهاء أكثر من المحتالين العاديين.»

سألت: «ما تخصصهم؟»

أجاب ميلر: «السطو، سرقة الحلي والسبائك، ولكنهم يركزون على الحلي، ومن السمات المميزة في جرائمهم أن المسروقات تختفي تمامًا في كل مرة. ولم نتمكَّن من تعقُّبِ أيٍّ من هذه الحلي. وهذا ما لفت انتباهنا لهم. وبعد كل سرقة، نبحث في جميع أرجاء المدينة ولكن من دون أن نجد لهم أثرًا. وكأن الأرض انشقَّت وابتلعت المسروقات. وهذا أمرٌ مثير للغرابة. إذا لم ترَ أفراد العصابة مطلقًا ولا تستطيع أن تتعقَّب المسروقات، فإلى أين تذهب؟ فأنت ليس لديك طرفُ خيط تبدأ منه.»

قلت: «ولكن أعتقد أنك أمسكتَ طرف خيط.»

«نعم، لم أحصل على معلومات كثيرة، ولكنْ بدا الأمر جديرًا بالمتابعة. سافر أحد رجالنا إلى كولشيستر مع رجل معين، وعندما عاد بعد يومين، رأى هذا الرجل نفسه على الرصيف في كولشيستر ورآه يخرج من محطة ليفربول ستريت. في هذه الفترة، وقعت جريمة سرقة حلي في كولشيستر. ثم وقعت جريمة سرقة في ساوثامبتون، وعلى الفور ذهب رجلنا إلى ووترلو ورأى جميع القطارات التي دخلت إلى المدينة. وللمفاجأة في اليوم الثاني، ظهر رياضي كولشيستر عند الحاجز؛ وبالتالي تمكَّن رجلنا الذي طلب من سيارة أجرة أن تنتظره أن يتبعه حتى منزله وحصل على بعض المعلومات الشخصية عنه. إنه رجل يدعى شيموندس، كما أنه يعمل لدى شركة وساطة بالخارج، ولكن يبدو أن لا أحد يعرف الكثير عنه كما أنه لا يقضي وقتًا طويلًا في المكتب.

بعد ذلك، تولَّى بادجر مهمة مراقبته وتَبِعه مثل ظلِّه لمدة يوم أو يومين، ولكن لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن، فقدَ بادجر أثرَ الرجل؛ حيث تَبِعه بادجر إلى مطعم، ثم رآه من خلال الباب الزجاجي وهو يصعد إلى رجل كبير في السن يجلس إلى طاولة وتصافحَا. ثم جذب مقعدًا إلى الطاولة بنفسه؛ ومن ثَم دخل بادجر وجلس بالقرب منهما في مكان يستطيع رؤيتهما منه. خرج الرجلان معًا وتبعهما بادجر ولكنه فقدَ أثرهما في مبنى سيلستشيال بنك تشامبرز. فقدْ صَعِدا في المصعد قبل أن يتمكن من الوصول إلى الباب وكانت هذه آخرَ مرة رآهما فيها، ولكننا تأكَّدْنا من أنهما غادرَا المبنى في سيارة أجرة وأوصلتهما هذه السيارة إلى شارع جريت تيرنستايل.»

علَّق ثورندايك: «إنها فكرة ذكية أن تتبعت سيارة الأجرة.»

ميلر: «يجب أن تُبقيَ عينك على خط سير طريدتك، ولكننا وصلنا إلى الدوامة الحقيقية. فمنذ ذلك الوقت، لم تقع عينُ أحدٍ على هذين الرجلين منذ أن دخلَا إلى شارع جريت تيرنستايل وكأن الأرض انشقَّت وابتلعتهم.»

قلتُ: «عرفتَ مَن يكون الرجل الآخر، أليس كذلك؟»

«بلى، مدير المطعم يعرفه؛ إنه رجل يُدعَى لاتريل. إننا أيضًا نعرفه لأن لديه تأمينًا ضد السطو بمبلغ ضخم، وعندما يخرج من المدينة يُخطر شركتَه والشركة بدورها ترتب معنا لحراسة منشآته.»

سألت: «مَن هو لاتريل؟»

«حسنًا، إنه رجل ساذَج، وأنا أتفق مع كون هذه شخصيتَه على الأقل في التجارة. إنه يستمتع بأن يكون تاجرًا في الحلي والتُّحَف، ولكنه سيشتري أيَّ شيء؛ الأثاث، الصور، السبائك، وأيَّ شيء له مظهر جذاب. يقول التجار الذين يعرفونه إن هذه هوايته. فتروق له المشاركة في المزايدات، لكنه كان مكروهًا بين المشاركين في المزاد؛ فهم لا يمكنهم أن يتوقعوا ما سيفعله. لا بد أن لديه مصادرَه الخاصة لتحقيق دخلِه؛ لأنه على الرغم من عدم إنفاقه الكثيرَ من المال، فهو لا يكسب الكثير من المال. إنه ليس رجلَ مبيعات. يبدو أنه يحب الشراء فقط، لكنَّ شخصيته تحمل الكثير من السمات الغريبة. والجناح الذي استأجره في فندق «ثافيس إن» أشبه بالمتحف البريطاني لو عمَّته الفوضى. فلديه أجهزة إنذار كهربائية تبدأ من عند الباب وحتى غرفة نومه كما توجد غرفةٌ منيعة في مكتبه مجهزة بقُفْلٍ يفتح بأحجية بدلًا من المفاتيح.»

علقتُ قائلًا: «لا تتوفَّر درجةٌ كبيرة من الأمان فيما يبدو.»

ميلر: «إنه كذلك، يحتوي هذا القُفْل على خمسة عشر حرفًا هجائيًّا. وبناءً على قول أحد رجالنا، هذا القُفْل يحتوي على ما يقرب من أربعين مليار تغيير. لا أحدَ سيحاول حلَّ هذه الأحجية، ولا توجد مفاتيح يُخشى فقدُها، ولكن ما يُقلقنا هو هذه الغرفة المنيعة والمهرج الكبير نفسه. الله أعلم بمقدار الأشياء القيمة داخل هذه الغرفة. ما يُخيفنا هو أن شيموندس ربما ابتكر طريقة مع الرجل الكبير من أجل أن يختفيَ عن الأنظار وينتظرَ أن ينقض على هذه الغرفة المنيعة.»

قلت: «ولكنك قلت إن لاتريل يخرج من المدينة في بعض الأحيان.»

«نعم، ولكنه دائمًا ما يُخطر شركة التأمين وقتها ويُحكم غلق الغرفة المنيعة بشريط حول مَقْبِض الباب وقُفْلٍ كبير على عِضَادة الباب. وهذه المرة لم يُخطر الشركة ولم يُغلق الباب. هناك قفل على عِضَادة الباب — متروك من المرة الأخيرة على ما أتوقع — ولم يتبقَّ سوى الأطراف المقطوعة من الشريط. ذهبت إلى الحارس كي يُتيحَ لي رؤية المكان في هذا الصباح، وبالمناسبة يا دكتور، حذوتُ حذوك؛ فدائمًا ما أحمل قطعة من قوالب الشمع في جيبي كما أحمل الآن علبةً صغيرة من الطبشور الفرنسي. هذه الأشياء مفيدة جدًّا أيضًا. وبما أنني كنتُ أحملها معي هذا الصباح، طبعت الخاتم عليها. فقد أحتاجها لاحقًا من أجل التحقق.»

أخرج من جيبه صندوقًا صغيرًا من القصدير وبحذرٍ أخرج منه شيئًا ملفوفًا في منديل ورقي. وعندما أُزيل المنديل بلطف، انكشفت كتلةٌ من الشمع المقولب وكان أحدُ جوانبه بتصميم مسطح وبه غَور.

قال ميلر وهو يعطي الشمع لثورندايك: «إنه قالب جيد للغاية، كما أنني دهنت القفل بالطبشور الفرنسي حتى لا يلتصقَ الشمع به.»

فحص زميلي كتلة الشمع باستخدام العدسة وناولها هي والعدسة لي وسأل: «هل التُقطت صورة فوتوغرافية لهذا يا ميلر؟»

أتاه الردُّ: «لا، ولكن ينبغي تصويرها قبل أن تتلف.»

ثورندايك: «بالتأكيد يجب ذلك إذا كنت تُقدِّرها. هل أتصل ببولتون لتصويرها الآن؟»

قَبِل المُراقب العرض بامتنانٍ وبالتالي أخذ ثورندايك كتلةَ الشمع الصغيرة إلى المختبر وتركها للمساعد ليتولى أمرها. عندما عاد، قال ميلر: «إنها قضية محيرة. والآن، اختفى شيموندس عن الأنظار، ولا يوجد مكان نذهب إليه أو شيءٌ نفعله سوى الانتظار حتى يحدث شيء ما، كأن تحدثَ عملية سطو أو محاولة لدخول الغرفة المنيعة.»

ثورندايك: «هل هو واضح أن الغرفة المنيعة لم تُفتح؟»

ردَّ ميلر: «لا، ليس واضحًا. وهذا جزء من المشكلة. اختفى لاتريل ومن المحتمل أنه مات. وإذا كان ميتًا، فمن المحتمل أن يكون شيموندس أصبح تحت رحمته. بالطبع لا يوجد مفتاح للغرفة المنيعة، وهذه من ميزات الأقفال التي تعمل بأحجية، ولكن لا نستبعد أن لاتريل ربما احتفظ بورقة مكتوب عليها حلُّ الأحجية وحملها معه. سيكون الاعتماد الكامل على الذاكرة ضربًا من المخاطرة. وربما يحمل مفاتيح المكتب معه. وأيُّ شخص معه المفاتيح وحلُّ الأحجية لا يصعب عليه التسلُّل إلى الغرفة في ساعات العمل. منشآت لاتريل فارغة، ولكن هناك مَن يدخل ويخرج طوال اليوم أثناء التنقُّل إلى المكاتب الأخرى. ولا يستطيع رجلُنا مراقبةَ كلِّ الداخلين. وأعتقد أنك لا تستطيع تقديمَ أيِّ اقتراح يا دكتور؟»

أجابه ثورندايك: «للأسف لا أستطيع؛ فالقضية باتت على ألسنة الكثيرين. ولا يوجد شيء يُدين شيموندس سوى اشتباه عارٍ من الأدلة. ولا يُعرف اختفاؤه إلا بمعنى غيابه عن الأنظار وهذا هو الوضع بالنسبة إلى لاتريل على الرغم من وجود عنصر غير عادي في هذه القضية. ومع ذلك، يصعب الحصول على أمر تفتيشٍ بناءً على الوقائع المعروفة في الوقت الحالي.»

ميلر: «لا، بالتأكيد لن يمنحونا الإذن كي نفتحَ الغرفة المنيعة ولن تُجديَ الإجراءات الأخرى نفعًا.»

ها هو بولتون قد ظهر وأحضر قطعة الشمع في صندوق صغير أنيق مثل الصناديق التي يستخدمها أصحاب محلات الحلي.

قال بولتون: «حصلتُ على صورتين فوتوغرافيَّتَين سالبتَين مُكبَّرتَين؛ ستكونان واضحتَين وجيدتَين. كم عدد الصور التي ينبغي أن أطبَعها للسيد ميلر؟»

قال المراقب: «يا إلهي، سيقوم أحدٌ ما بالمهمة يا سيد بولتون. وإذا احتجت إلى المزيد، فسأطلب منك.» أخذ الصندوق ووضعه في جيبه ونهض كي يغادر. «سأُخبرك يا دكتور بمجريات القضية وربما لا تُمانع إسناد القضية لشخص آخر في هذه الفترة. فربما يحدث شيءٌ لك.»

وعد ثورندايك أن يفكر في القضية، وعندما رأينا المشرف ينزل من على الدرج، تَبِعنا بولتون إلى المعمل في الطابق العلوي، وهناك أخذ كلٌّ منا صورة من الصورتين السالبتين وفحصها بتعريضها للضوء. تعرفتُ على القُفْل من شكله — كان على شكلٍ بيضاوي مدبَّب أو شكل قارب — وقارنتُه بالخاتم الذي رأيتُه في إصبع السيد لاتريل. والآن، بعد تكبير الصورة إلى ثلاثة أضعاف، يمكنني أن أرى التفاصيل بوضوح. كان التصميم مميزًا وغريبًا ولا يهتمُّ بالاتساق. شُغلت المساحتان المثلثتان في الطرفين بتذكار «ممنتو موري» (وهو تذكار بحتمية الموت) وساعة رملية على الجوانب وكان الجزء المركزي ممتلئًا بنقش طويل بحروف رومانية كبيرة لم أفهم منها شيئًا في البداية.

سألتُ: «هل تظن أن هذه شفرة سرية؟»

ثورندايك: «لا، أعتقد أن الكلمات مرصوصة بجانب بعضها لشغل المساحة ليس إلا. هذا ما فهمته.»

أمسك الصورة السلبية في يده اليسرى وكتب بيده اليمنى بقلم رصاص على قطعة ورق الأربعة سطور التالية من الشعر الهزلي:

Eheu alas how fast the dam fugaces
Labuntur anni especially in the cases
Of poor old blokes like you and me Posthumus
Who only wait for vermes to consume us.

قلت متعجبًا: «هذه عينة وقع عليها الاختيار؛ أعتبرُها واحدة من دعابات لاتريل المرحة والقديمة، ولكن الدعابة بالكاد تستحق جهدَ النقش على الخاتم.»

ثورندايك معترفًا: «بالتأكيد إنها دعابة لطيفة، ولكن قد تنطوي على شيء أكثر مما تراه العين.»

نظر إلى النقش متأملًا وبدا أنه قرأه مرة أو مرتين. ثم استبدل الصورة السالبة في رفِّ التجفيف، والتقط الورقة، ووضعها في دفتر الملاحظات.

قلت: «لا أعرف تمامًا لماذا أحضر ميلر هذه القضية لنا أو ما الذي يريد منك التفكير فيه. في الحقيقة، لا أرى أن هناك قضيةً على الإطلاق.»

ثورندايك معترفًا: «إنها قضية غامضة للغاية. قطع ميلر شوطًا كبيرًا في التخمين، وبادجر أيضًا؛ وبالتالي قد نستنتج بسهولة أنهما وصلَا إلى نقطة محيرة. ومع ذلك، هناك شيء يجب التفكير فيه.»

«مثل ماذا؟»

«حسنًا يا جيرفيس، أنت رأيت الرجلين، ورأيت كيف كان تصرفهما؛ وسمعت قصة ميلر ورأيت خاتم السيد لاتريل. ضع كلَّ هذه المعلومات مع بعضها وستكون لديك مادة لوضع تكهنات مثيرة للاهتمام على أقل تقدير. وربما يتعدى الأمر مجرد التخمين.»

لم أتابع الموضوع لأنني أعرف أنه عندما يستخدم ثورندايك كلمة «تكهنات»، فلا شيءَ سيحفزه لتبنِّي رأيٍ معين، ولكن في وقتٍ لاحق، ومع الأخذ في الاعتبار الاهتمام الذي بدا أنه يُوليه لأبيات الشعر التي كتبها تلميذ السيد لاتريل، طبعتُ الصورة السالبة ودرستُ السطور التافهة دراسة شاملة، ولكن إذا كانت تنطوي على أيِّ معنًى خفيٍّ — وأعتقد أنه لا يوجد سببٌ يدعم أن لها معانيَ خفية — فسيظل هذا المعنى خفيًّا؛ وكان الاستنتاج الوحيد الذي توصلتُ إليه هو أن رجلًا في سنِّ لاتريل ربما لديه معرفة أفضل من كتابة هذا الهراء.

لم يترك المشرف الأمر في حالة تشويق لفترة طويلة؛ ومن ثَم زارنا بعد ثلاثة أيام. وأعاد فتح الموضوع باعتذارٍ بسيط.

قال: «إنني خجلٌ من إزعاجكما هكذا، ولكني لا أستطيع أن أتوقف عن التفكير في هذه القضية. لديَّ إحساس بأنه يجب أن نتحرك. وعلى أية حال، نسختُ النقوش التي على الخاتم ولكني لم أستطع أن أفهمها، على الرغم من عدم وجود رابط بين النقوش والخاتم. يا ترى ما معنى كلمة fugaces؟ أفترض أن كلمة vermes تعني الديدان، على الرغم من أنني لا أفهم لماذا كتبها بتلك الطريقة.»

ثورندايك: «من الواضح أن الأبيات عبارة عن محاكاة لقصيدة لاتينية؛ واحدة من قصائد هوراس التي مطلعها:

Eheu fugaces, Postume, Postume, Labuntur anni.

التي تعني حرفيًّا، يا أسفَا على هذه السنين ما أسرعها.»

ميلر: «على أية حال، أي شخص يعرف هذا؛ أي شخص في منتصف العمر. لا داعيَ أن نعرضها باللاتينية إذ لا جدوى من ذلك. لنرجع إلى القضية، حصلتُ على إذنٍ بتفتيش مباني لاتريل، وليس لقلب أغراض المنشآت رأسًا على عقب، الإذن لمجرد البحث كما تعرف. أجريتُ مكالمة وأنا في طريقي إلى هنا كي أُخبرَ الحارس بأنني سآتي لاحقًا. فكَّرتُ أنه ربما تودُّ المجيءَ معي. أتمنى أن تأتيَ معي يا دكتور. فأنت تتمتع بموهبة ملاحظة الأشياء التي قد يغفل عنها الآخرون.»

رمق ميلر ثورندايك نظرةَ أسًى وبينما هو يفكر في العرض، قال: «لقد ذكر الحارس أحداثًا غريبة أخرى. يبدو أنه لا ينفك عن مراقبة عدادات الكهرباء في المبنى ولاحظ تسريبًا في التيار بمنزل السيد لاتريل، ولكنه تسريبٌ بسيط؛ حوالي ثلاثين واط في الساعة، ولكنه لا يستطيع الاعتماد عليه بأيِّ طريقة. وأخذ يمرُّ في المبنى ليرى هل هناك مصابيح متروكة قيد التشغيل في أيِّ غرفة من غُرَف المبنى أم لا، ولكنَّ جميع المفاتيح قيد إيقاف التشغيل في كل مكان، ولا يمكن أن يكون هذا بسبب انقطاعٍ للتيار الكهربائي. الأمر مضحك، أليس كذلك؟»

بالتأكيد كان الأمرُ غريبًا، ولكن لم يبدُ لي أنَّ هناك ما يفسِّر تعبيرَ الاهتمام الذي ظهر فجأة على وجه ثورندايك، ولكن من الواضح أنه ذو أهمية خاصة لديه حيث إنه طرح سؤالًا: «متى ستُجري التحريات؟»

أجابه ميلر وسأل متودِّدًا: «أنا ذاهب إلى هناك الآن، فهل ستتمكن من المجيء معي؟»

وقف ثورندايك وقال: «حسنًا، لنذهب معًا الآن. يمكنك أنت أيضًا أن تأتيَ معنا يا جيرفيس إذا لم تكن مشغولًا لمدة ساعة.»

وافقتُ على الفور لأن زميلي لم يستطِع أن يخفي اهتمامه بالتفتيش ما أوحى لي أن ثمة مسألةً ما تشغل تفكيره؛ ومن ثَم انطلقنا من فورنا ومررنا بميتري كورت وفيتر لين قاصدين مسكن التاجر المفقود، ذلك المسكن العتيق الطراز الواقع على مقربة من نهاية فندق «ثافيس إن».

قال ميلر حينما أتى الحارس بالمفاتيح: «أتيت إلى هنا مرة وأعتقد أنه من الأفضل أن نبدأ بمكان البحث المعتاد وهو المكاتب. يمكننا تفتيشُ الطوابق وغُرَف المعيشة فيما بعد.»

ومن ثَم دخلنا إلى المكتب الخارجي، وحيث إنه كان أشبهَ بغرفة انتظار، مررنا إلى المكتب الخاص وعلى ما يبدو أنه كان يُستخدم باعتباره غرفةَ جلوس أو حجرة دراسة. يتألف أثاثُ المكتب من مقعد مريح ومجموعة من أرفف الكتب وخزانة كتب أنيقة، وفي الجدار الأخير كان الباب الحديد الضخم للغرفة المنيعة. ومن هنا، وبما أن هذا المكان هو محطُّ اهتمامنا الرئيسي، فقد بذلنا ما بوسعنا وشرَح المراقب تفاصيل هذا المكان.

قال: «إنها فكرة جيدة حقًّا، هذا القفل المكون من الحروف. لا يوجد ثقب لمفتاح، ولا مفاتيح يُخشى فقدانها. انظروا إليه وخمِّنوا كلمة السر، كأنها مغارة علي بابا. يمكن أن تقضيَ عمرك لحلِّ اللغز من دون أيِّ تقدُّم.»

كان القُفْل الغامض مثبتًا في عِضَادة الباب الحديدي الصلب، وعلى الرغم من وجود فتحة بها صفٌّ مكوَّن من خمسة عشر حرف A، إلا أنه بدا وكأنه يبتسم متحدِّيًا السارق المحتمل. وضعتُ إصبعي على الحواف المصقولة لحرفٍ أو حرفين ولففتُ الأقراص، ولاحظتُ مدى سهولتها وسلاستها في اللف.

قال ميلر: «لا فائدة من تحسُّس تلك الحروف. سأُلقي نظرةً على دفتر حساباته لأعرف مَن هم عملاؤه؛ فحافظة الكتب غيرُ مقفلة، وقد تأكدت من ذلك في المرة الأخيرة التي حاولتُ فيها فتْحَها. من الأفضل لنا أن نترك هذا على الحال التي وجدناه عليها.»

أعاد الحروف التي حركتُها وذهب لاستكشاف حافظة الكتب؛ وبما أن القُفْل المكوَّن من الحروف بدا أنه لا يمثل شيئًا سوى لغز لا حلَّ له، تبعت ميلر وتركت ثورندايك يُمعن النظر بجدية في صفِّ الحروف التي لا معنى لها.

نظر إليه المراقب مرة أخرى بابتسامة لطيفة.

قال بصوت خفيض مبتسمًا: «سيحاول الدكتور حلَّ لغز الحروف. حسنًا إذن. فلا يوجد سوى أربعين مليار تغيير وهو لا يزال في مرحلة الشباب.»

بعد هذا التعليق المشجع، فتح الباب الزجاجي لحافظة الكتب ووصل إلى دفتر الحسابات ووضعه على ناحيةٍ منحدرة من المكتب.

قال ميلر وهو يفتح دفتر الحسابات على الفهرس: «رغم أن الاحتمال ضعيف، فقد يتمكن أحدُ هؤلاء العملاء من إعطائنا دليلًا عن الأماكن التي يمكن أن نبحث فيها عن السيد لاتريل، ومن المفيد معرفة مجال أعماله.»

مرَّر إصبعه على قائمة الأسماء وانتقل إلى حساب أحد العملاء عندما أذهلتْنا نقرةٌ عالية آتية من اتجاه الغرفة المنيعة. استدار كلانا ورأينا ثورندايك يُمسك مَقْبِض باب الغرفة المنيعة وأصابتنا دهشةٌ شديدة عندما رأينا أن الباب أصبح مفتوحًا بعضَ الشيء.

تعجَّب ميلر وهو يُغلق دفتر الحسابات وبدأ يتقدم إلى الأمام: «يا إلهي! لقد فتحه!» مشى نحو الباب ورمق نظرةً متلهفة على مؤشر القفل وانطلق ضاحكًا. قال متعجبًا: «اللعنة! ظلَّ الباب مفتوحًا طوال الوقت! لقد ظنَّ أن جميعنا لن يفكر في سحب المقبض! ولكن هذا لا يختلف أبدًا عن تفكير العجوز لاتريل في أن تكون هناك إجابة حمقاء كهذه لهذه الأحجية المباركة!»

نظرتُ إلى المؤشر واندهشتُ كثيرًا عندما لاحظتُ صفَّ حروف A الخمسة عشر الذي بدا واضحًا أنه يُشكِّل حلَّ لغز المفتاح. ربما كانت مزحة مسلية للغاية من السيد لاتريل، ولكن لم يبدُ القفل آمنًا بما يكفي. رمقنا ثورندايك بنظرة غامضة وهو لا يزال ممسكًا بمقبض الباب وممسكًا بالباب مفتوحًا بمقدار نصف بوصة.

قال: «هناك شيء يدفع الباب، هل أفتحه؟»

ردَّ ميلر: «ولنلقِ نظرة بالداخل أيضًا.» بناءً على ذلك، أطلق ثورندايك مَقْبِض الباب وتنحَّى جانبًا بسرعة. فتح الباب ببطء وسقطت جثة رجل في الغرفة وانقلبت على ظهرها.

لهث ميلر، وأسرع بالرجوع إلى الوراء وهو يحدق مرعوبًا ومذهولًا من المشهد الكئيب: «لطفًا يا رب! هذا ليس لاتريل.» ثم بدأ فجأة في التقدم إلى الأمام وتخطَّى الجثة وقال متعجبًا: «ويحي، إنه شيموندس. ألهذا السبب اختفى هو أيضًا؟ أتساءل كيف أصبح حال لاتريل.»

قال ثورندايك: «يوجد شخص آخر في الغرفة المنيعة.» نظرتُ من خلال المدخل ورأيتُ إضاءةً خافتة بدت أنها تأتي من تجويفٍ خفيٍّ ومنه رأيت قدمَين تظهران من الزاوية. انطلق ميلر في لحظة إلى المكان وتبعتُه. صُمِّمت الغرفة المنيعة على شكل حرف L، وكان الجانب الطويل منها مكوَّنًا من ممرٍّ ضيق بزوايا قائمة ويؤدي إلى الغرفة الرئيسة. وفي نهاية هذه الغرفة كان يوجد مصباح كهربائي صغير مضاء. كشف ضوءُ المصباح جثةَ رجل كبير مطروحة على أرض الممر. تعرَّفتُ على الشخص فورًا على الرغم من إعتام الضوء والتشوه الناجم عن جُرحٍ شوَّه جبهته.

تفوَّه ميلر بنبرةٍ مرتبكةٍ بسبب الصدمة التي انتابَتْه بفعل الاكتشاف المرعب من ناحيةٍ وبشاعة المنظر من ناحيةٍ أخرى؛ قال: «من الأفضل أن نُخرجَه من هنا ثم نقوم بتفتيش المكان، فهذه لم تكن مجرد عملية سطو. سوف نكشف حقيقة ما جرى.»

رفع جثة لاتريل بمساعدة مني وحملناها معًا ووضعناها على أرضية الغرفة في الطرف البعيد وسحبنا إليه جثة شيموندس أيضًا.

بعد إجراءِ فحصٍ بسيط للجثتَين، قلت: «لا يوجد لغزٌ حول كيفية قتلهما. من الواضح أن شيموندس أطلق رصاصة على الرجل الكبير من الخلف بمسدس بالقرب من مؤخرة الرأس؛ فجميع الشعر حول جُرحِ دخول الرصاصة وخروجها من الجبهة تعرَّض للسفع.»

وافقني ميلر: «نعم، هذا واضح تمامًا، ولكن اللغز هو لماذا لم يُخرج شيموندس نفسه من الغرفة. لا بد أنه كان يعرف أن الباب مفتوح، ولكن بدلًا من لفِّ المقبض، لا بد أنه وقف مثل المجنون يضرب الباب بقبضتَيه. انظر إلى يديه.»

ظلَّ ثورندايك يفحص القُفْل فحصًا دقيقًا من الداخل والخارج، قال: «اللغز الآخر هو كيف انغلق الباب. هذه مسألة غريبة للغاية.»

ميلر: «أوافق تمامًا، ولكن هذا ليس شيئًا ملحًّا الآن. فلا يزال هناك المزيد من الأمور الغريبة بالداخل. ربما يوجد جميع المسروقات من عملية سطو كولشيستر. يبدو أن لاتريل كان متورطًا فيها.»

دخل الغرفة المنيعة مرة أخرى على مضض وتبعتُه أنا وثورندايك. وعلى مقربة من زاوية الممر، توقَّف والتقط مسدسًا أوتوماتيكيًّا وكتابًا جلديًّا صغيرًا فتَحه ونظر فيه على ضوء المصباح. وفي أول وهلة تلفَّظ بكلمات متعجبًا وأغلق الكتاب على الفور.

وجَّه الكتاب إلينا وقال: «هل تعرفانِ ما هذا؟ إنه يضمُّ قائمةَ الأسماء وسجلَّ العناوين ودفتر أفراد العصابة. لقد وقعوا في أيدينا؛ وبدأت أُدرك أن لاتريل العجوز هو رئيس العصابة الذي أبحث عنه منذ وقت طويل. مرِّرْ عينَيك سريعًا على هذه الأرفف. هذه هي المسروقات كلها، لا ينقص منها شيء. يمكنني التعرُّف على المسروقات من القوائم التي أعددتُها.»

وقف ينظر شامتًا إلى الأرفف المحمَّلة بالحلي والسبائك والأشياء الثمينة. ثم برقت عيناه برؤية درج في الجدار الأخير أسفل المصباح مباشرة؛ درجٍ حديدي بمقبض كبير غير متناسب مع حجم الدرج وعليه عبارة يمكن قراءتُها بسهولة وهي «أحجار غير مركَّبة».

قال ميلر: «سنُلقي نظرة على هذا المخزون من الأحجار الكريمة غير المركبة.» وبذلك انطلق مسرعًا إلى الدرج وأمسك المقبض وسحبه بقوة. «شيء ظريف، إنه غير مُقفل، ولكن يبدو أن هناك شيئًا يسحبه مرة أخرى.»

ثبَّت قدمه على الجدار وأمسك المقبض مرة أخرى. قال ثورندايك: «انتظر يا ميلر.» ولكن بينما هو يتحدث، سحب المشرف الدرج بقوة ووجد فيه قدمَين؛ سمعنا نقرةً ذات صوت عالٍ، وبعد لحظات انغلق باب الغرفة المنيعة بقوة.

تعجَّب ميلر: «يا إلهي! ما هذا؟» ترك الدرج يعود إلى وضعه ومن ثَم انزلق على الفور بنقرة أخرى.

ردَّ ثورندايك: «لقد انغلق الباب. ترتيب بالغ الدهاء؛ مثل الآلية التي تعمل بها ساعات مكرر الدقائق. ينغلق الباب بسحب الدرج حتى النهاية وإطلاق الزنبرك. غاية الدهاء.»

نظر ميلر بوجه شاحب إلى زميلي وقال: «ولكننا حُبسنا بالداخل.»

يجب أن أعترف بأنني كنت عصبيًّا قليلًا وقلت: «لقد نسيتَ أن القفل تركناه على حاله الأول.»

انطلق المشرف في ضحك شبه هيستيري وقال: «يا لَغبائي! وما أسوأ شيموندس. ما زال بإمكاننا الخروج من هنا …» ومن هنا انطلق بطول الممر وسمعتُه يتلمَّس طريقه إلى الباب، وبعدها سمعتُ لفة المقبض. وفجأة، غيَّم صمت مُطبق على الحجرة التي تُشبه القبر بصرخة ذعر.

«لن يتحرك الباب! لقد انغلق بسرعة!»

هُرعتُ في هذا الممر بقلبٍ يعتريه الخوف. حتى وأنا أجري، بزغ أمام عيني المنظر المروع للجثة التي جُرحت يداها والتي سقطت أمامنا عندما فتحنا باب هذا الفخِّ المروع. لقد علِق كما علقنا. يا ترى متى قد يأتي شخصٌ غريب ليكتشف جثثنا.

في الشفق القاتم بالقرب من الباب، وجدتُ ميلر يُمسك بالمقبض ويهزُّه كالمجنون. تبددت سيطرتُه على نفسه بالكامل. ولم يكن حالي أفضلَ منه. اندفعتُ بكامل قوتي نحو الباب وبي أملٌ ضعيف أن القُفْل ليس مغلقًا، ولكن الباب الحديدي الضخم لم يتحرك وكأنه جدارٌ مبنيٌّ من الحجارة. ومع ذلك، كنت أستجمع قواي لمحاولة ثانية عندما سمعتُ صوت ثورندايك على مقربة مني من الخلف.

«لا فائدة من ذلك يا جيرفيس. انغلق الباب، لكن ليس هناك ما يُقلق.»

وبينما هو يتحدَّث، ظهرت طاقة نور فجأةً من مصباح كهربائي صغير يحمله في جيبه دائمًا. وفي وسط دائرة الضوء، أصبح واضحًا أن هناك مؤشرًا آخر لأحجية القفل في عِضَادة الباب من الداخل. كان مظهره مطمئنًا من دون شيء، خاصة مع انبعاث صوت هادئ من ثورندايك، ومن الواضح أن الأمر بدا كذلك لميلر، ويمكن ملاحظة ذلك في نبرة صوته الطبيعية نوعًا ما:

«ولكن يبدو أنه لا يزال مفتوحًا. توجد الحروف AAAAAA نفسها التي رأيناها عندما دخلنا.»
الأمر صحيح تمامًا. فتحةُ قفلِ الحروف لا تزال تعرض مجموعة من حروف اﻟ A الخمسة عشر، تمامًا مثلما رأينا عندما كان الباب مفتوحًا. هل يمكن أن يكون هذا القُفْل مجردَ خدعة وأنه كانت هناك وسائل أخرى لفتح الباب؟ كنت على وشك طرح هذا السؤال على ثورندايك عندما وضع المصباح في يدي ونحَّاني جانبًا برفق وصعِد إلى المؤشر.
قال: «ثبِّت هذا الضوء يا جيرفيس.» ومن ثَم بدأ يتحسس الحواف المصقولة لأقراص الحروف، وبدأ — كما لاحظت — من جهة اليمين أو الجهة المعاكسة في الفتحة وانتهى إلى الجهة اليسرى. أخذنا نراقبه أنا وميلر باهتمام وفضول بالغَين وننظر لنرى بعض الكلمات المكونة من خمسة عشر حرفًا في الفتحة. وبينما أنا في دهشة وحيرة، رأيت إصبع زميلي يحول صفَّ الحروف A إلى سلسلة متتالية من حرف M ولكن تبعها على الفور حرف L وبعض حروف X. عندما اكتمل الصف، بدا وكأنه تاريخ بعيد يعود لما قبل الطوفان مكتوب بالأرقام اللاتينية.

قال ثورندايك: «جرِّب فتح المَقْبِض الآن يا ميلر.»

لم يتوانَ المشرف وأمسك المقبض ولفَّه ودفع الباب بقوة. وعلى الفور انقشع خيطُ نورٍ من حافة الباب؛ وسمعنا صوت نقرة حادة وانفتح الباب جهة اليمين. اندفعنا، على الأقل أنا والمراقب، إلى الخارج على الفور. لهثتْ ألسنتُنا بالحمد لأننا وجدنا أنفسنا أحياء بالخارج، ولكن بمجرد خروجنا، رأينا رجلًا ذا وجه أبيض ومروع ينحني فوق الجثتين في الطرف الآخر من الغرفة. ظهورنا كان مفاجأةً وغير متوقع تمامًا — وذلك بسبب أن الصلابة الضخمة لباب الغرفة المنيعة جعلت حركتَنا غير مسموعة بالخارج — ووقف الرجل لمدة دقيقة أو دقيقتين من دون حَراك وهو يحدق فينا بعينَين واسعتين فاغرًا فاه. ثم قفز فجأةً واندفع نحو الباب وفتحه وانطلق بالخارج وكان ميلر في عقبه.

لم يبعد كثيرًا. كما أنني تبعتُ المراقب ورأيت رجلًا يحاول التملص من حضن رجل طويل على الرصيف وبمساعدة ميلر تمكن الرجلان من وضع الأصفاد في معصمَي الرجل الهارب ثم غادرَا ومعهما الأسير بحثًا عن سيارة أجرة.

وفي طريقنا إلى الغرفة مرة أخرى، قال ميلر: «أتوقع أن يكون هذا واحدًا منهم.» وبمجرد أن وقعت عينُه على باب الغرفة المنيعة، أخذ يمسح وجهه بمنديله. قال: «النظر إلى هذا الباب يُصيبني بالذعر، يا إلهي ما أبشع هذا الرعب! لم أتعرض لمثل هذا الذعر في حياتي. عندما سمعتُ الباب يُغلق، تذكَّرتُ كيف تعثَّر هذا الشيطان المسكين شيموندس — قاتله الله!» مسح ذقنه مرة أخرى وفي طريقه إلى باب الغرفة المنيعة، سأل: «على أية حال، ما هي كلمة السر بعد كل هذا؟» صعِد إلى المؤشر وبعد نظرة سريعة، استدار ونظر إليَّ متفاجئًا وقال متعجبًا: «يا لَدهشتي إذا لم تكن الحروف AAAA على حالها! ولكن الدكتور غيَّرها، أليس كذلك؟»

في هذه اللحظة، ظهر ثورندايك من الغرفة المنيعة وبدا أنه كان يُجري بعض الاستكشافات، واستدار إليه المراقبُ يطلب تفسيرًا.

قال: «إنه جهاز عبقري. في الحقيقة، تعتبر الغرفة المنيعة بكاملها مثالًا حيًّا على البراعة، هناك بعض السقطات ولكن الغرفة تمتاز بفاعلية أمان مثالية، وهذا ما تشهد عليه جثةُ السيد شيموندس. مجموعة المفاتيح عبارة عن عدد تعبِّر عنه الأرقام اللاتينية، ولكن القفل يحتوي على آلية ارتداد تعمل بمجرد أن يُفتح الباب. هذه هي الطريقة التي عَلِق بها شيموندس. لا شك أنه تعمَّد تجنُّبَ مشاهدة لاتريل وهو يعيِّن كلمة السر للقفل — أو ربما لم يدعْه لاتريل يشاهده — ولكن عندما دخل مع ضحيته المقصودة، نظر إلى المؤشر ورأى صفَّ الحروف A وبالتالي افترض أن يكون هو المفتاح. وعندما أراد الخروج، بالطبع لم يفتح القفل.»

قلت: «من الغريب أنه لم يجرِّب بعض الكلمات الأخرى.»

ثورندايك: «ربما جرَّب، ولكن عندما أخفق، ربما أعاده إلى الحروف A، وهو ما رأيناه عندما انفتح الباب. هذه هي الآلية التي يعمل بها القفل.»
أغلق الباب وراقبتُه أنا والمراقب عن كثَب ثم أدار الإطارات المصقولة لأقراص الحروف حتى أظهر المؤشرُ صفًّا من الأرقام وهو MMMMMMMCCCLXXXV. أمسك المقبض وأداره ودفع الباب دفعًا خفيفًا وعندها بدأ الباب يفتح، ولكن بمجرد أن بدأ الباب يتحرك من مكانه، سمعنا صوتَ نقرة عالية وعادت جميعُ حروف المؤشر إلى الحرف A.
ميلر: «يا لها من مفاجأة! لا بد أنك مررت بساعات مروعة في هذا السجن البائس يا شيموندس. خذني إلى الداخل أنا أيضًا. رأيت الحروف A تلك والباب مفتوح، وظننت أنني عرفت كلَّ شيء عنه، ولكن ما لا أعرفه يا دكتور هو كيف تمكَّنت من حل اللغز. لا أستطيع أن أفهم كيف حللته. هل لي أن أسأل كيف حللت اللغز؟»

ثورندايك: «بالتأكيد، ولكن من الأفضل أن نؤجل الشرح. لديك جثتان يجب رفعهما وبعض الأمور الأخرى، كما أنه يجب أن نعود إلى بيوتنا. سأكتب حلَّ مفتاح القفل إذا كنت تريده، ثم لا بد أن تأتيَ لرؤيتنا كي نعلمَ أيُّ حظٍّ حالفك.»

كتب الأرقام على قصاصة ورق ثم غادرنا بعدما سلَّمها للمراقب.

في طريقنا إلى المنزل، قلت: «أجد نفسي واقعًا في الحيرة نفسها التي يقع فيها ميلر. بمعنى أنني لا أستطيع أن أفهم كيف حللتَ اللغز. من الواضح أنك لم تتمكن من فكِّ كلمة سرِّ القفل فحسب — من نقش الخاتم حسب اعتقادي — بل إنك عرفت أن لاتريل هو رئيس العصابة. لا أفهم على الأقل كيف توصلتَ إلى هذا.»

قال: «على الرغم من ذلك يا جيرفيس، كانت قضيةً غايةً في البساطة. وإذا راجعتها وجمَّعت عناصر الأدلة، فسترى أننا حصلنا على جميع الوقائع بالفعل. المشكلة لم تكن إلا في إعادة تنسيقها واستخلاص مدلولاتها. رأينا الرجل بصحبة رجلٍ آخر ومن الواضح أنه من معارفه الحميمة. وُضع الرجلان تحت مراقبة محقق وبات واضحًا أنهما اكتشفَا أمره ومن ثَم تخلصَا منه بهدوء تام. بعد ذلك، علمنا من ميلر أن واحدًا من هذين الرجلين من المحتمل أن يكون عضوًا في مجموعة لصوص محترفين وأن الآخر رجلٌ ثريٌّ؛ إذ كان تاجرًا غريبَ الأطوار ويتاجر في العديد من الأشياء ولديه غرفة منيعة مغلقة بقفل يُفتح بأحجية. إنني مندهش من أن ميلر الذي عادةً ما يكون حادَّ الذكاء لم يسترعِ انتباهَه مدى ملاءمة لاتريل لدور رئيس العصابة الذي يبحث عنه. أصبح لدينا تاجرٌ يشتري ويبيع جميع الأشياء الغريبة القيِّمة، ولا بد أنه كان لديه سُبُل لا حصر لها للتخلص من الأحجار والسبائك والفضة، ويستخدم أيضًا قفلًا يفتح بأحجية. الآن، مَن يستخدم هذا القفل؟ بالتأكيد لا أحدَ يمكنه استخدام المفتاح بسهولة، ولكن بالنسبة إلى رئيس عصابة من اللصوص، قد يكون هذا القفل وسيلةَ أمان قيِّمة؛ لأن المفاتيح قد تُسرق منه في أية لحظة ويهرب بها اللص. بل على العكس من ذلك، لا يمكن سرقة كلمات سرية منه وربما كان امتلاكه لهذه الكلمات أمانًا له من القتل؛ وبالتالي ترى أن هذه الاحتمالات البسيطة تُشير إلى أن لاتريل هو رئيس العصابة.

والآن فكِّر في مسألة القفل. بدايةً رأينا أن لاتريل يرتدي في يده اليسرى خاتمًا كبيرًا وأنه يحمل عدسة مكبرة من نوع كودينجتون في سلسلة الساعة ومصباحًا كهربائيًّا صغيرًا في جيبه. هذه الدلائل تُخبرنا بالقليل جدًّا، ولكن عندما أخبرنا ميلر عن القفل وأرانا قطعة شمع منسوخة بالضغط على الخاتم وعندما رأينا أن هذا الخاتم يحمل نقشًا طويلًا بكتابة صغيرة الحجم، من هنا بدأت تتجلى العلاقة. وكما أشار ميلر وهو محقٌّ فيما أشار إليه، فلا يمكن لرجل — خاصةً إذا كان كبيرًا في السن — أن يثق في ذاكرته كي يتذكَّرَ شفرة المفتاح. سيحمل معه مذكرة يمكن أن يرجع إليها إذا خانته ذاكرتُه، ولكن ستُكتب هذه المذكرة بطريقة يصعب على أيِّ أحد قراءتُها، وإلا فلن تكون هناك جدوى من سرية القفل وأمانه. ربما كان المفتاح نوعًا من الشفرات السرية؛ وعندما رأينا هذا النقش وفكَّرنا فيه بالربط مع العدسة والمصباح، بدا أنه من المحتمل أن تكون كلمة السر موجودة في النقش؛ وزاد هذا الاحتمال عندما رأينا هذا الشعر الهزلي الذي لا معنى له ويتألف منه النقش. وكان الاقتراح أن هذه الأبيات نُقشت لغرض آخر مختلف عن معناها الحقيقي. وعليه، أوليت النقش تفكيرًا متأنِّيًا للغاية.

والآن، علمنا من ميلر أن أحجية القفل مكونة من خمسة عشر حرفًا. وربما يكون المفتاح كلمة واحدة طويلة مثل superlativeness أو عددًا من الكلمات القصيرة أو صيغة كيميائية أو غير ذلك. أو ربما تتألف من شفرة سرية. لم أسمع مطلقًا عن استخدام الشفرات السرية في السجلات أو الرسائل السرية، ولكن كثيرًا ما جال بتفكيري لأنها يمكن أن تكون مناسبة للغاية. وكانت هذه حالة ملائمة بدرجة استثنائية.»

قلت: «شفرة سرية، أليست هذه الشفرات تُستخدم مع الميداليات؟»

أجابني بقوله: «غالبًا ما تُستخدم على الميداليات. في الواقع، الشفرة السرية عبارة عن نقش بعض الحروف التي يتألف منها تاريخ مرتبط بموضوع النقش. وغالبًا ما تُنقش حروف التاريخ بحجم أكبر من الحروف الأخرى تسهيلًا لقراءتها، ولكن بالطبع هذا ليس جوهريًّا. فالمبدأ في الشفرات السرية كالتالي: الحروف في الأبجدية الرومانية تنقسم إلى نوعين؛ الأول هو الحروف العادية البسيطة ولا شيء غير ذلك، والنوع الآخر يُستخدم للتعبير عن الأرقام والحروف معًا. حروف الأرقام هي M = ألف وD = خمسمائة وC = مائة وL = خمسين وX = عشرة وV = خمسة وI = واحد. وفي حلِّ الشفرة السرية، تأخذ جميع حروف الأرقام وتجمعها دون اعتداد بترتيبها. ومجموع الأعداد يعطيك التاريخ.

حسنًا، كما قلت، ما خمنته أنه قد يكون النقش له طبيعة الشفرة السرية، ولكن بما أن القفل يحتوي على حروف وليس أرقامًا، فالعدد — إذا كان موجودًا — لا بد أنه تم التعبير عنه بالحروف الرومانية ومن المفترض أنها تشكِّل عددًا من خمسة عشر حرفًا؛ ومن ثَم بات من السهل للغاية أن أضع فرضيتي تحت الاختبار، بدأتُ بالتعامُل مع النقش على أنه شفرة سرية؛ وكانت المفاجأة! فقد أدَّت إلى عدد مكوَّن من خمسة عشر حرفًا؛ وبالتالي أصبحت النتيجة شبه مؤكدة، ولا ينقصها سوى التجربة العملية.»

قلت: «لنرَ كيف حللت الشفرة.» وما إن دخلنا الغرفة وأغلقنا الباب، اشتريت كتلة كبيرة من ورق الملاحظات وقلم رصاص ووضعتهما على الطاولة وأحضرت مقعدين.

قلت: «لنبدأ الآن.»

قال: «حسنًا، سنبدأ بكتابة النقش بطريقة شفرة سرية مناسبة مع مضاعفة حجم الحروف العددية والتعامل مع الحروف U على أنها V والحروف W على أنها V مضاعفة حسب القواعد.»
ومن هنا كتب النقش بالحروف الرومانية الكبيرة بالشكل التالي:
eheV aLas hoVV fast the DaM fVgaCes LabVntVr annI espeCIaLLy In the Cases of poor oLD bLokes LIke yoV anD Me posthVMVs VVho onLy VVaIt for VerMes to ConsVMe Vs.
[ملاحظة المؤلف: استُبدلت الحروف الكبيرة المكتوبة بحجم صغير في النص الأصلي بحروف صغيرة.]
قال: «لنرسم عمودًا بكل سطر ونجمعه، ليصبح بالشكل التالي:
  • (1)
    V = 5, L = 50, VV = 10, D = 500, M = 1000, V = 5, C = 100—Total 1670.
  • (2)
    L = 50, V = 5, V = 5, I = 1, C = 100, I = 1, L = 50, L = 50, I = 1, C = 100—Total 363.
  • (3)
    L = 50, D = 500, L = 50, L = 50, I = 1, V = 5, D = 500, M = 1000, V = 5, M = 1000, V = 5—Total 3166.
  • (4)
    VV = 10, L = 50, VV = 10, I = 1, V = 5, M = 1000, C = 100, V = 5, M = 1000, V = 5—Total 2186.»

أردف: «الآن، نأخذ المجاميع الأربعة ونجمعها مع بعضها، لتصبح:

1670 + 363 + 3166 + 2186 = 7385
وبذلك يكون الناتج الإجمالي سبعة آلاف وثلاثمائة وخمسة وثمانين، ويمكن التعبير عن هذا الرقم بالحروف الرومانية بالشكل التالي: MMMMMMMCCCLXXXV. وبذلك أصبح لدينا عددٌ مكوَّن من خمسة عشر حرفًا، وهو العدد المطابق لعدد المساحات في مؤشر القفل الأحجية؛ وأكرر أن هذه الملاحظة اللافتة للنظر بالإضافة إلى، أو بالأحرى تجميعها إلى جانب الاحتمالات الأخرى، أكَّدت عمليًّا أن هذه الحروف هي حلُّ الشفرة؛ وبالتالي لم يتبقَّ سوى اختبارها بتجربة عملية.»

قلت: «على أية حال، لاحظتُ أنك تنبهت فجأة عندما ذكر ميلر عداد الكهرباء.»

ردَّ قائلًا: «هذا طبيعي، بدا أنه لا بد من وجود مصباح كهربائي صغير مضاء في مكان ما بالمبنى، والمكان الوحيد الذي لم يخضع للتفتيش هو الغرفة المنيعة، ولكن إذا كان هناك مصباح مضاء، فمن المؤكد أن شخصًا ما دخل إلى الغرفة المنيعة. وبما أن الشخص الوحيد المعروف أن بإمكانه الدخولَ إليها مفقودٌ، فبدا مُرجحًا أن يكون موجودًا في الغرفة، ولكن إذا كان في الغرفة، فمن المؤكد أنه ميت، وهناك احتمال كبير أن شخصًا آخر دخل معه الغرفة لأن صاحبه مفقود أيضًا واختفى كلاهما في الوقت نفسه، ولكن يجب أن أعترف بأن الدرج المزود بزنبرك كان بعيدًا عن توقعاتي، على الرغم أنني شككت في أمره بمجرد أن رأيت ميلر يسحبه. كان لاتريل نذلًا كبيرًا وذكيًّا؛ ربما استحق مصيرًا أفضل، ولكني أتوقع أن يوصل موته العصابة إلى أيدي الشرطة.»

وقعت الأحداث بالترتيب الذي لخصه ثورندايك. وبفضل دفتر الحسابات الصغير للسيد لاتريل بالإضافة إلى اعتراف الجاسوس الذي قُبض عليه في المبنى، تمكَّنتِ الشرطة من الانقضاض على العصابة المضطربة قبل أن تتسلَّلَ ذرةُ شكٍّ إلى قلوبهم؛ ومن ثَم باتوا قابعين في غُرَف منيعة من نوع آخر تمتاز بأبواب مقفلة بأجهزة فعالة مثل أحجية قفل السيد لاتريل، وإن كانت أقلَّ براعةً منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤