الفصل الثاني

السترة الخضراء المزركشة

عادةً ما تأخذ زيارات صديقنا القديم السيد برودريب الشكلَ الظاهري لزيارة ودية، حتى عندما تتعلق بالعمل كليًّا، ولكن في هذه المرة، تخلَّى في زيارته عن الطابع الودي. دخل المحامي الكبير إلى مسكننا حاملًا حقيبةَ ملابس صغيرة (لاحظتُ أن الأحرف الأولى المطبوعة على الحقيبة، وهي R.M أثارت الفضولَ لدى ثورندايك على الفور إذ بدا واضحًا أنها لا تخصُّ السيد برودريب). وضع السيد برودريب الحقيبة على الطاولة، وصافح ثورندايك وأصبح واضحًا أنها زيارة عمل.

برودريب بطريقة مباشرة غير معتادة منه: «ها قد أتيت يا ثورندايك أطلب مشورتك في مسألة تُؤرقني نوعًا ما. هل تعرف ريجينالد ميريل؟»

ثورندايك: «معرفة طفيفة، أقابله من وقت لآخر في المحكمة، وبالطبع أعرف أنه مؤلفُ كتابٍ مهمٍّ عن مناجم حجر الصوان في حقبة ما قبل التاريخ.»

برودريب: «حسنًا، لقد اختفى الرجل. إنه مفقود. لا أحب استخدام هذا التعبير، ولكن عندما يغيب رجلٌ مسئول من الأماكن التي اعتاد الترددَ عليها، في وقت لا يُتوقَّع فيه غيابُه، ولا يقدِّم أيَّ تنويه عن غيابه، فأعتقد أنه يمكن أن نعتبرَه اختفى بالمعنى المنصوص عليه في القانون. وغيابه يستدعي إجراء تحريات فعالة.»

ثورندايك موافقًا: «بلا شك، وأعتقد أنك الشخص الذي يقع على عاتقه هذا الواجب.»

«وأنا كذلك؛ فأنا محاميه ومنفذ وصيته — على الأقل أعتقد ذلك. ولا أعرف أحدًا من أقرب الناس إليه سوى ابن أخته ووريثه إثيلبرت كريك، لكن يبدو أن كريك اختفى هو الآخر في الوقت الذي اختفى فيه ميريل تقريبًا. إنها قضيةٌ غير عادية.»

«على حدِّ قولك، فأنت تعتقد أنك منفِّذ وصية ميريل. هل اطَّلعت على تلك الوصية؟»

«نعم اطلعتُ عليها. أنا أحفظها في خزانتي، ولكن أخبرني ميريل أنه سيكتب وصية أخرى، وربما يكون كتبَها، ولكن إذا كان قد كتبَها، فغالبًا سيُعيِّنني منفذًا لوصيته؛ وبالتالي سأتولَّى هذا التكليف وأتصرَّف بناءً على ذلك.»

سأل ثورندايك: «هل من أسباب خاصة لكتابة وصية جديدة؟»

ردَّ برودريب: «نعم، حقق الرجل ثروة كبيرة، وكانت صحته جيدة من قبل. وبموجب الوصية القديمة، فستنتقل كلُّ تركته تقريبًا إلى كريك. يوجد جزء صغير من التركة سينتقل إلى رجل يُدعى صامويل هوردر، ولد ابن عمه؛ وهوردر هو الوريث البديل إذا مات كريك قبل ميريل. الآن، فهمت ميريل وأقول إنه بعد زيادة ثروته، رغب في منْح هوردر جزءًا أكبر وتوصلتُ إلى أنه اقترح تقسيم التركة بالتساوي تقريبًا بين الرجلين. كانت التركة كلها أكبر مما اعتقد أنه يلزم كريك. والآن، بعد أن أوضحنا المقدمات، سأسرد لك ظروف الاختفاء.

يوم الخامس الأربعاء الماضي، تلقيتُ خطابًا منه يقول إن لديه بعضَ التقارير الجاهزة كي أتسلمها في اليوم التالي، ولكنه لن يكون في مكتبه من الساعة ١٠:٣٠ صباحًا حتى الساعة ٦:٣٠، ويقترح أن أذهب إليه في المساء إذا أردتُ الحصول على الأوراق على وجه الخصوص. وما حدث أن مُساعدي، السيد بيج، اضطر أن يذهب إلى مكان قريب من جسر لندن صباح يوم الخميس، والغريب أنه رأى السيد ميريل يخرج من ورشة صيانة السفن في إدجينتون مع رجل يحمل حقيبةَ يدٍ كبيرة نوعًا ما. كانت الحقيبة فارغة بالطبع، ولكنَّ بيج رجلٌ سريع الملاحظة ولفت نظرَه رفيقُ ميريل حتى إنه لاحظ أن الرجل يرتدي سُتْرة راعٍ ذات نقوش مائلة إلى اللون الأخضر يرتديها سكَّانُ مقاطعة نورفوك وقبعة رمادية من نسيج التويد. لاحظ أيضًا الوقت عندما نظر إلى الساعة الكبيرة في الشارع بالقرب من إدجينتون وكانت الساعة ١١:٤٦ وأن ميريل نظر إلى الساعة وأن الرجلَين انطلقَا بسرعة باتجاه المحطة. وفي المساء، أرسلت بيج في زيارة إلى منزل ميريل في فِيجتري كورت للحصول على الأوراق. وصل إلى المسكن حوالي الساعة ٦:٣٠ ولكنه وجد الباب مغلقًا، وعلى الرغم من قرْع الباب على أمل أن يكون السيد ميريل بالداخل — فهو يعيش في مسكن بجوار مكتبه — لم يتلقَّ أي إجابة؛ ومن ثَم ذهب في جولة إلى المعبد وقرر العودة بعد قليل.

ذهب بيج بعيدًا حتى الأديرة وأخذ يتسكع هناك وينظر في نافذة متجرٍ لبيع الشعر المستعار وعندها رأى رجلًا يرتدي سُتْرة راعٍ ذات نقوش مائلة إلى اللون الأخضر وقبعة رمادية من نسيج التويد يقترب من معبد بامب كورت. وبينما الرجل يقترب، اعتقد بيج أنه يعرفه؛ في الحقيقة، شعر أنه يعرفه حقًّا لدرجة أنه أوقف الرجل وسأله إن كان يعرف متى سيعود السيد ميريل إلى المنزل. ولكن الرجل نظر إليه في ذهول قائلًا: «ميريل؟ لا أعرف أحدًا بهذا الاسم.» وعليه اعتذر بيج وشرح أنه التبس عليه الأمر من نمط النقش على السُّتْرة ولونها.

بعد المشي لما يقرب من نصف ساعة، عاد بيج إلى مسكن ميريل، ولكن الباب كان مقفلًا ولم يردَّ عليه أحدٌ مع قرْع الباب بعصاه؛ وبالتالي كتب خطابًا وأسقطه في صندوق الخطابات وغادر. في الصباح التالي، أرسلتُه إلى المنزل مرة أخرى، ولكنه وجد المسكن لا يزال مغلقًا وهو مغلق منذ ذلك الحين، ولم يُرَ أو يُسمَع شيء عن ميريل مطلقًا.

في يوم السبت، ظننتُ أن كريك ربما لديه بعض الأخبار التي يعطيها لي عن عمِّه، اتصلتُ به على رقم مسكنه ولكن أصابني الذهول عندما علمت أنه مفقودٌ هو الآخر. غادر في وقت مبكر من صباح يوم الخميس، قائلًا إنه مضطر للذهاب في رحلة عمل إلى روتشستر، وربما لا يعود إلى المنزل لتناول العشاء، ولكنه لم يرجع إلى المنزل على الإطلاق. اتصلتُ مرة أخرى مساء يوم الأحد ولم يكن قد عاد بعدُ، وعندئذٍ قررت اتخاذ المزيد من الإجراءات الفعالة.

بعد ظهر اليوم وبعد الغداء مباشرةً، اتصلتُ بمكتب الاستعلامات وشرحت باختصار الظروف ومَن أكون، وطلبت من الموظف أن يُحضر نسخة من المفتاح — التي يحملها كي يعطيَها لعاملة غسل الملابس — وأن يصحبني إلى مسكن السيد ميريل لأعرف إن كان ميتًا بالداخل أو غائبًا عن الوعي. طمأنني الرجل وقال إن الأمر ليس كذلك لأنه يعطي المفتاح كلَّ صباح لعاملة غسل الملابس وأنها أرجعته إليه اليوم منذ أقل من ساعتين. وعلى الرغم من ذلك، أخذ المفتاح وبحث عن عاملة غسل الملابس وكان المسكن قريبًا من مكتب الاستعلامات، ولحسن الحظ وجدنا العاملة هناك وتبيَّن أنها امرأة مسنة غاية في الاحترام والفطنة، وذهبنَا معًا إلى مسكن السيد ميريل. فتح لنا موظف الاستعلامات وعندما تفحصنا المكان وتأكدنا أن السيد ميريل لم يكن موجودًا، سلَّم المفتاح إلى عاملة الغسيل السيدة باتلر وذهب هو.

عندما رحل، تحدثتُ إلى السيدة باتلر ومنها تكشَّفتْ بعضُ الوقائع المذهلة. يبدو أنه في يوم الخميس — اليوم الذي غاب فيه السيد ميريل طيلة النهار — انتهزَتِ الفرصة لعمل تنظيف شامل للمسكن وترتيب الردهة وإلقاء نظرة على الخزانات ذات الأدراج وخزانة الملابس وغسل الملابس وتنظيفها بالفرشاة حرصًا على خلوها من العُثِّ. قالت: «عندما انتهيت، أصبح المكان نظيفًا كما يحب أن يراه.»

قلت: «وبعد كل هذا يا سيدة باتلر، لم يرَ المكان مطلقًا.»

قالت: «بل رآه؛ لا أعرف متى دخل إلى المسكن، ولكن عندما دخلت في الصباح التالي، وجدت أنه كان هنا بعدما غادرت.»

سألتُ: «كيف عرفتِ ذلك؟»

قالت: «تركتُ مكنسة السجاد واقفة ومستندة على باب خزانة الملابس. تذكرتُها بعدما غادرت وفكَّرتُ أن أعود وأنقلها ولكني كنت سلمت المفتاح إلى مكتب الاستعلامات، ولكن عندما دخلت في الصباح التالي لم أجدها في مكانها. بل وجدتها منقولة في الزاوية بالقرب من المدفأة. ثم نُقلت المِرآة. يمكنني أن أقول ذلك لأنني قبل أن أغادر، مشطت شعري أمامها، ولأنني قصيرة، اضطررت إلى إمالة المِرآة كي أرى وجهي فيها. والآن، المِرآة أُميلت كي تناسب رجلًا طويلًا وأنا لا أرى نفسي فيها. ثم رأيت صابون الحلاقة في مكان غير مكانه وعندما أعدته وجدته رطبًا. ولا تستمر رطوبته لمدة أربع وعشرين ساعة في هذا الوقت من العام.» هذا صحيح تمامًا كما تعلم يا ثورندايك.»

ثورندايك موافقًا: «تمامًا، هذه المرأة محللة ممتازة.»

تابع برودريب: «بناءً على هذا، تفحصَت المرأة صابون الحلاقة والإسفنجة ووجدَتْهما رطبَين بشكلٍ ملحوظ. باتت متأكدة نوعًا ما أن ميريل دخل المسكن في الليلة السابقة وأنه حلق لحيته؛ ولكن من باب التأكد، اقترحت أن تنظر في ملابسه وترى هل غيَّر أيًّا منها أم لا. فعلَت ذلك، وبدأت بالملابس المعلقة في خزانة الملابس وأخذت تُنزلها قطعة تلو الأخرى، وفجأة صرخت من الذهول وبدأت أنذهل أنا الآخر عندما ناولتني سُتْرة راعٍ ذات نقوش مائلة إلى اللون الأخضر يرتديها سكان مقاطعة نورفوك.

قالت: «هذه السُّتْرة لم تكن هنا عندما نظفت هذه الملابس بالفرشاة.» كان واضحًا من الأتربة التي كانت عليها أنها لم تنظَّف بالفرشاة. أضافت: «لم أرها مطلقًا على حدِّ علمي، وإلا أعتقد أنني كنت سأتذكرها.» سألتها هل هناك أيُّ معطف مفقود؟ فأجابت أنها نظفت سُتْرة رمادية من نسيج التويد ويبدو أنها اختفت.

كانت هذه المسألة غريبة. وإذا أمكن، يجب أولًا التأكد هل تلك السترة تخص السيد ميريل أم لا؟ وبالتالي اعتقدت أنك أفضل مني كي تحكم في هذه المسألة؛ ولذا استعرتُ حقيبة ملابسه ووضعت السترة فيها، ووضعت معها سُتْرة أخرى تخصُّه بالتأكيد للمقارنة بينهما. وإليك حقيبة الملابس والسترتَين بداخلها.»

قال ثورندايك: «إنها مسألة شائكة حقًّا ومن الأفضل أن يقرر فيها خياط. الفرق في المقاس قد لا يكون كبيرًا إذا كان يرتدي السترتَين كلتيهما شخصٌ واحد، ولكننا سنرى.» أخذ بعض أوراق الجرائد وفرشها على طاولة، وفتح حقيبة الملابس وأخرج السترتَين، ووضع إحداهما بجانب الأخرى ثم أخرج شريط قياس زنبركي وشرع في قياس قطعتي الملابس بطريقة منهجية، ودوَّن كلَّ زوج من القياسات على ورقة مقسمة إلى عمودين. أخذتُ أشاهده أنا والسيد برودريب مترقبَين وأخذنا نقارن بين مجموعتَي الأرقام اللتين يدوِّنهما؛ وسرعان ما أصبح واضحًا أنهما غيرُ متطابقَتَين على الأقل. وبعد مدة، وضع ثورندايك شريط القياس وأخذ الورقة ودرسها بعناية.

قال: «أعتقد أنه يمكننا استخلاص أن هاتين السترتين لا يلبسهما شخصٌ واحد. أوجه الاختلاف ليست كبيرة ولكنها ثابتة. على سبيل المثال، تتوافق طيات الكوع مع طول الأكمام. صاحب السُّترة الخضراء ذراعاه أطول وأضخم من ميريل، ولكن قياس الصدر أكبر بمقدار بوصتين تقريبًا وله كتفان مائلان أكثر بكثير. ارتدى الرجل سُتْرة ميريل بصعوبة.»

قال برودريب: «إذن السؤال التالي هو: هل أتى ميريل إلى المنزل بمعطف شخص آخر أم دخل شخص آخر إلى مسكن السيد ميريل؟ وبناءً على ما أخبرنا به بيج، بات الأمر واضحًا ولا بد أن غريبًا دخل إلى مسكن ميريل، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فهناك أسئلة تطرح نفسها: ما هو الدافع الذي جعل هذا الشخص يغيِّر في ملابس ميريل ويحلق ذقنه؟ كيف دخل إلى مسكن ميريل؟ ماذا كان يفعل بالداخل؟ ما الذي حدث لميريل؟ وما المغزى من هذا كله؟»

ثورندايك: «الإجابات عن بعض هذه الأسئلة واضحة تمامًا. إذا افترضنا أن صاحب السترة الخضراء هو الرجل الذي رآه بيج على جسر لندن ثم في الأديرة، فسيتضح السبب وراء تغيير الملابس وضوحَ الشمس. بيج أخبر الرجل بأنه عَرَفه بهذه السترة المميزة بوصفه الرجل الذي شوهد معه ميريل حيًّا في آخر مرة. ومن الواضح أن السلامة تطلَّبَت ألَّا يتوانى في التخلص من هذه السترة التي يمكن أن تورطه. وفيما يخص الحلاقة: هل أعطاك بيج أيَّ وصف للرجل؟»

«نعم، كان رجلًا طويل القامة نوعًا ما، في الخامسة والثلاثين من عمره تقريبًا، له شارب أسود كبير ولحية كثة.»

ثورندايك: «جيد جدًّا، إذن يمكننا القول إن الرجل الذي دخل إلى مسكن ميريل كان له شارب ولحية ويرتدي سترة خضراء وأن الذي خرج كان حليقًا ويرتدي سترة رمادية، ومن الممكن أن يكون بيج نفسه مرَّ به دون أن يلمحه مرة أخرى. هذا واضح تمامًا. وبالنسبة إلى طريقة دخوله إلى المسكن، فمن الواضح أنه دخل باستخدام مفتاح ميريل؛ وإذا كان قد فعل، فإنني أخشى من تخمين ما حدث لميريل، فهذا لا يخفى عليكم ولا نأمل إلا أن يكون هذا التخمين خاطئًا. وبالنسبة إلى ما كان يفعله الرجل في المسكن والمغزى من المسألة برمَّتِها، فالإجابة عن هذا السؤال أصعب. إذا كان الرجل معه مفتاح مسكن ميريل، فيمكننا افتراض أن معه باقي مفاتيح ميريل؛ وبالتالي بإمكانه الوصول بسهولة إلى أيِّ خزانات مقفلة في المسكن. وتُشير الملابسات إلى أنه دخل إلى المسكن بغرض الحصول على بعض الأشياء الثمينة من هذه الخزانات. هل وصل إلى علمك أن ميريل يحتفظ بأي ممتلكات ذات قيمة كبيرة في منشآته؟»

برودريب: «لا أعلم. ميريل لديه خزنة، ولكني لا أعلم ما الذي يحفظه بداخلها. أعتقد أن المستندات هي المحفوظات الأساسية. بالتأكيد لا يحتفظ بمبالغ كبيرة من المال فيها. الشيء الوحيد الذي له قيمة وأعرفه حقًّا هو الوصية الجديدة، ولن تكون ذات قيمة إلا في ظروف معينة.»

الاستنتاج المفاجئ والغامض من كلام السيد برودريب لم يمرَّ على ثورندايك وعليَّ دون أن يلفت انتباه كلينا. فمن الواضح أن المحامي الكبير الحذر تنبَّه فجأة، كما تنبهتُ، أنه إذا حدث أيُّ شيء لميريل، فهذه «الظروف المؤكدة» قد وقعت بالفعل؛ وبناءً على ما أخبرنا به، اتضح أنه بموجب الوصية الجديدة، يرث كريك نصف ثروة السيد ميريل، ولكنه يرث جميع ثروته تقريبًا بموجب الوصية القديمة. التركة ضخمة. وفقدان الوصية الجديدة أو التخلص منها سيضمن ثروة عظيمة للسيد كريك.

برودريب بعد برهة: «إذن، ما الذي ينبغي فعله؟ أعتقد أنه ينبغي أن أبلغ الشرطة.»

ثورندايك: «سنبلغها عاجلًا أو آجلًا، ولكن اترك هاتين السترتين — أو على الأقل السترة الخضراء — معي الآن ودعني أفكر لَعلِّي أستطيع استخلاص معلوماتٍ أخرى منها.»

«لن تجد شيئًا في الجيوب سوى الأوساخ. لقد حاولت.»

ثورندايك: «أرجو أن تكون تركت الأوساخ.»

برودريب: «قد تركتها، ما عدا ما خرج على أصابعي. حسنًا إذن؛ سأترك المعطفين معك اليوم، وسأرى إن كان بإمكاني الحصول على مزيدٍ من الأخبار عن كريك من صاحبة مسكنه.»

بعد ذلك صافحَنا المحامي الكبير وغادر ووِجهتُه لا تخفى على أحد ثم قلت: «خرج برودريب للبحث عمَّا إذا كان السيد كريك هو صاحب سترة نورفوك ذات النقوش الخضراء أم لا.»

ابتسم ثورندايك. «بل من الطريف ملاحظة كيف قلَّ تحفُّظه في الحديث فجأة عندما انكشف له أصلُ المسألة، ولكن يجب ألَّا نبدأَ بنظرية ذات تصور مسبق. عملنا هو الوقوف على مزيد من الوقائع. ليس لدينا ما يكفي من الوقائع التي ننطلق منها في الوقت الحالي. لنبدأ بإلقاء نظرة فاحصة على السترة الخضراء.»

أخذ السترة وحملها إلى النافذة وأجرينا فحصًا ناقدًا لها.

علقت: «إنها مليئة بالغبار، خاصةً من الأمام وتوجد علامة بيضاء على الزر الأوسط.»

«نعم، واضح أنه طباشير؛ وإذا أمعنت النظر، فستجد آثارًا بيضاء على الأزرار الأخرى وعلى المعطف من الأمام. الظهر عليه غبار أقل بكثير.»

بينما ثورندايك يتحدث، أدار الملبس للجهة الأخرى ومن جانب ذيل السترة، التقط شيئًا صغيرًا يُشبه الشعر وتحسَّسه بين إصبعي السبابة والإبهام ونظر إليه نظرة مدققة وناولني إياه.

قلت: «جزء من حبة شعير، ويوجد جزءان على الجانب الآخر. لا بد أنه سار بطول ممر ضيق في حقل شعير؛ حالة المعطف من الأمام تقول إنه كان يزحف تقريبًا.»

«نعم، إنه غبار من الأرض، ولكن جهاز العزل الخاص ببولتون سيعطينا المزيد من المعلومات عن هذا الأمر. من الأفضل أن نسلمه هذا المعطف، ولكن سنفحص الجيوب أولًا على الرغم من عدم تشجيع برودريب على القيام بذلك.»

لما أدخلت يدي في أحد الجيوب الجانبية، قلت: «يا للعجب! إنه محق بشأن الأوساخ. انظر إلى هذا.» أخرجت يدي ملتصقة بقدر كبير من الأتربة الجافة وقطعة أو قطعتين صغيرتين من الطباشير. «يبدو أنه كان يزحف على أرض رخوة.»

أخذ ثورندايك يتفحص «القطعة التي أمسكها» — مقدارًا صغيرًا من تربةٍ حمراء وقطعة طباشير بحجم حبة بازلاء كبيرة. قال: «الأرض لها خصائص فريدة؛ فهذا طِفال ذو لون بُنِّيٍّ مائل إلى الأحمر فوق الطباشير. يبدو أن جميع الجيوب الخارجية وقع فيها قدرٌ كبير أو صغير من هذا الطفال، ولكن يمكننا أن ندع بولتون يجمعها ويجهزها للفحص. سآخذ المعطف إليه الآن. وبينما يعمل في هذه المهمة، أظن أنني سأذهب إلى إدجينتون وأحاول جمْعَ المزيد من التفاصيل.»

صَعِد إلى المختبر حيث يؤدي مساعدنا بولتون بعض الأنشطة الغريبة والمتنوعة ثم انطلقنا من فورنا مع بعضنا. في شارع فليت، أخذنا سيارة أجرة وانتقلنا بها إلى جسر بلاكفريارز ثم نزلنا عند زاوية شارع «تولي» بعد بضع دقائق. انطلقنا في طريقنا إلى مكتب متعهد تموين السفن؛ ومن ثَم شرع ثورندايك في طرح بعض الأسئلة السرية على المدير؛ إذ بدا تعاطفُه في اهتمامه وتأدُّبه أثناء الاستماع.

قال: «المشكلة أن يوم الخميس الماضي كان هناك العديد من العملاء. وأنت تقول إنهما أتيَا حوالي الساعة ١١:٤٥. إذا استطعتَ أن تُخبرنا بما اشترياه، فربما يساعدنا الاطلاع على دفتر نسخ الفواتير.»

ثورندايك: «لا أعرف حقًّا ما الذي اشترياه. ربما اشتريَا حبلًا بطول معين، أو لنَقُل: حبل بطول اثنتي عشرة أو أربع عشرة قامة أو أكثر، ولكن ربما لم يشتريَا هذا الحبل.»

حدَّقتُ في ذهول إلى ثورندايك. لطالما عرفته، فملَكة الاستقراء الفوري لديه دائمًا ما تفاجئني. افترضتُ أنه لا يوجد لدينا شيء على الإطلاق لنبدأ به، ولكنه بدأ على الأقل باقتراح مبدئي قبل أن نشرع في عملية التحقيق. وهذا الاقتراح دليل واضح على أنه توصَّل إلى افتراض حلٍّ للغز. ظللت أفكر في هذه الواقعة المذهلة عندما اقترب المدير ومعه دفتر مفتوح ويرافقه مساعدُه.

قال: «أرى أنه يوجد قيد، ومن الواضح أنه كان في منتصف يوم الخميس، وهو بيعُ حبل سلكي يُستخدم في قاع البحر بطول خمس عشرة قامة، ويتذكر صديقي هنا واقعة بيعه.»

المساعد مؤكدًا: «نعم، أتذكره لأن المشتري أراد أخذه في حقيبة يده، وجعل ثلاثتنا يحاول إدخاله. حبل السلك السميك يكون متيبسًا قليلًا عندما يكون جديدًا.»

«هل تتذكر هيئة هذين الرجلين والملابس التي كانَا يرتديانِها؟»

«أظنُّ أن أحدهما كان كبيرًا في السن وبدون لحية. أتذكر الآخر جيدًا؛ لأن لديه عينَين بمظهر غريب، عينَين رماديتَين وشاحبتَين جدًّا. كانت له لحية مدبَّبة ومعطف مزركش باللون المائل إلى الأخضر وقبعة من القماش. هذا كل ما أتذكره عنه.»

ثورندايك: «هذا أكثر مما يتذكره الآخرون. أنا أعتذر كثيرًا لك؛ وأحسب أني سأطلب منك خمس عشرة قامة من هذا الحبل السلكي ذاته.»

بحلول هذا الوقت، استنفدت قدرتي على الدهشة. ما الذي يمكن أن يفعله زميلي بحبل سلكي يُستخدم في قاع البحر؟ ولكن في النهاية، ولمَ لا؟ إذا اشترى في هذا الوقت من هناك مرساة من نوع ترومان وخطافًا لصيد أسماك القرش ومجموعة من إشارات الترميز الدولية، فيجب أن أقبل الإجراءات من دون تعليق. ثورندايك هو مَن يضع القوانين لنفسه.

ولكن لما كنت بجانبه في طريقنا إلى المنزل وأنا أحمل لفة الحبل، لم أنفكَّ عن وضع التكهنات بشأن هذه القضية الفريدة. توصل ثورندايك إلى افتراض حلٍّ لمسألة السيد برودريب؛ وقد ثبتت صحتُها كما تبيَّن من القيد في دفتر الفواتير، ولكن ما العلاقة بين سترة عليها غبار وحبل رفيع بطول معين؟ ولماذا هذا الطول تحديدًا؟ لا أفهم شيئًا من هذا، ولكن بمجرد أن وصلنا المنزل، قررت أن أرى الوقائع الجديدة التي كشفت عنها أعمال بولتون.

كانت النتائج محبطة. فجهاز عزل الأتربة لدى بولتون قيد التشغيل، وما أخرجه كان في شكل أكوام صغيرة من الغبار وكانت موضوعة بطريقة منهجية على ورقة بيضاء، وكل كومة صغيرة مغطاة بزجاجة ساعة ومكتوب معها التفاصيل عن جزء الثوب الذي أُخذت منه. فحصت عدة عينات تحت المجهر، وعلى الرغم من كونها غريبة ومثيرة للاهتمام — كباقي الغبار — فإنها لم تُظهر شيئًا مميزًا. ربما أتى الغبار من معطف أيِّ شخص. وبالطبع كانت هناك كمية كبيرة من التربة الرملية المائلة إلى اللون الأصفر وبعض جزيئات الطباشير وكمية من الرماد الناعم وخبث المعادن وجزيئات الفحم — غبار السكك الحديدية من القاطرة — وغبار عادي من المدينة والمنزل، بما في ذلك بعض الغبار من النباتات الشوكية والخُبَّازى والخشخاش والناردين، وفي إحدى العينات، وجدت قشرتين من جناح الفراشة الزرقاء التي تنتشر في المكان في ذلك الوقت. هذا كل شيء؛ ولم أستنتج منه سوى أن صاحب المعطف كان مؤخرًا في منطقة بها غبار طباشيري وأنه ذهب في رحلة بالقطار.

بينما كنت أعمل بالمجهر، انشغل بولتون بوظيفة لم أفهمها. ثبَّت قطع الطباشير الصغيرة التي وجدناها في الجيوب على لوح زجاجي باستخدام القار، وأخذ يمسحها تحت الماء بفرشاة ناعمة ومن وقت إلى آخر يصب الماء ذا القوام اللبني في زجاجة رواسب طويلة. كما يعلم معظم الناس، يتكون الطباشير من قشور مجهرية وهي المنخربات، وهذه المواد يمكن فصلها عن طريق مسح الطبشور بالفرشاة بلطف تحت الماء، لكن ما الهدف من هذا الاختبار؟ لا شك أن المادة من الطباشير، وعلمنا أن مادة المنخربات كانت فيها. فلماذا نتكبد عناء إثبات ما هو معروف؟ سألت بولتون، ولكنه لم يكن على علم بالغرض من دراسة تلك المادة. لم يفعل شيئًا سوى أن ابتسم لي مثل تمثال قديم منحوت به تجاعيد وواصل عمله بالفرشاة. غمستُ عينة من الرواسب البيضاء وفحصتُها تحت المجهر. وبالطبع كان بها مادة المنخربات، وكانت جميلة للغاية، ولكن ماذا عن تلك المادة؟ بدا الإجراء كله بلا هدف على الرغم من علمي بكونه غير ذلك. ثورندايك هو آخر رجل في العالم يبدد طاقته في شيء لا طائل منه.

أتى ثورندايك إلى المختبر، وعندما نظر إلى عينات الغبار وأكَّد رأيي فيها، انكب على عينة الطباشير. بعد تجهيز عدد من الشرائح، جلس على المجهر ومعه قلم رصاص مسنون ومجموعة من الورق الناعم إذ بات الهدف واضحًا وهو فهرسة مادة المنخربات وعمل رسومات لها. تركته في هذه المهمة وذهبت لأخذ بعض الكتب التي طلبتها من مكتبة في شارع تشارينج كروس رود.

عندما عدت بمشترياتي بعد ساعة تقريبًا، وجدته يعيد إلى المطبعة مجموعة من خرائط هيئة المساحة ذات مقياس الرسم الكبير في مقاطعة كِنت إذ بدا أنه كان يطلع عليها، ولاحظت على مكتبه ورقة الرسومات ودراسة عن مادة المنخربات الحفرية.

قلت مبتهجًا: «حسنًا يا ثورندايك، أظن هذه المرة أنك تعرف بالضبط ما حلَّ بميريل.»

رد: «يمكنني أن أخمِّن كما يمكنك أنت أيضًا، ولكن البيانات الفعلية بها غموض موحش. لدينا مؤشرات مؤكدة، كما ستلاحظ. ستكمن المشكلة في تسليط الضوء على تلك المؤشرات. تستدعي هذه القضية الخيال الاستقرائي من ناحية ومنهج الاستبعاد من ناحية أخرى. سأقوم بجولة تمهيدية في الغد.»

«ما الذي تعنيه؟»

«لديَّ فرضية، ولكن ربما تكون خطأ. وإذا كانت كذلك، فيجب أن نجرب فرضية أخرى، ثم أخرى. وفي كل مرة تفشل فيها الفرضية، سنضيق مجال الاستفسارات عن طريق استبعاد احتمال بعد الآخر، ونأمل أن نَصِل إلى الحل. محاولتي الأولى ستأخذني إلى مقاطعة كِنت.»

قلت: «لن تذهب إلى هذه المناطق البرية وحدك يا ثورندايك. ستحتاج إلى حمايتي ودعمي بالإضافة إلى مشورتي التي لا تقدَّر بثمن. أظن أنك تدرك هذا، أليس كذلك؟»

رد بجدية: «بلا شك؛ فقد كنت أرتب الأمور لرحلة تفقدية لرجلين. إضافة إلى هذا، أنت مهتمٌّ بهذه القضية مثلي تمامًا. لننطلق الآن كي نتناول العشاء ونحصن أنفسنا من مخاطر الغد.»

وفي أثناء تناول العشاء، بدأت المحادثة عن مخرجات أعمال بولتون وعلقت على عدم معرفة الكثير عنها، ولكن لا يزال الغموض يكتنف ثورندايك أكثر، كما هي عادته في القضايا التي تطغى فيها التكهنات.

قال مبتسمًا: «إنك تتوقع الكثير من بولتون. هذه ليست مسألة مادة المنخربات أو طبقة غبارية أو قشور الفراشة، ولكنها مجرد عناصر من الأدلة الظرفية. وما ينبغي لنا فعله هو دراسة مجموعة الوقائع التي بحوزتنا بكاملها؛ ما أخبرنا به برودريب وما نعرفه بأنفسنا وما تأكدنا منه من خلال التحقيقات. لا يزال الغموض يحوم حول القضية، ولكن ليس بالدرجة التي تُلمِّح لها.»

كان هذا جلَّ ما استخلصتُه منه؛ ولمَّا لم أستطع الخروج بأيِّ اقتراح من «مجموعة الوقائع بكاملها»، لم يسعني سوى التحلي بالصبر والأمل في انكشاف بعض الأمور في اليوم التالي.

حوالي الساعة الحادية عشرة إلا ربعًا من صباح اليوم التالي، وفي وسط إصدار التعليمات النهائية من ثورندايك إلى بولتون ولما أخذتُ أخمِّن محتويات حقيبة اليد التي سنأخذها معنا، سمعنا أصوات أقدام تصعد السلم. انتهى صوت تلك الأقدام مع الطرق على الباب بمطرقة نحاسية صغيرة وعرفت أن الطارق برودريب. فتحتُ الباب وأدخلت صديقنا المسن. وعلى الفور وقعت عينُه الزرقاء الحادة على ملابسنا غير الرسمية وحقيبة اليد ولمعت عيناه وكأنها تكشف عن الفضول الذي انتابه.

سأل: «هل تخرجون في رحلة تفقدية؟»

ثورندايك: «نعم، رحلة قصيرة إلى مقاطعة كِنت. بلدة جريفسيند في الحقيقة.»

برودريب مكررًا بمزيد من الاهتمام الغريب: «جريفسيند، كانت هذه الوجهة المفضلة لدى ميريل البائس. على أية حال، أظن أن رحلتكما ليست مرتبطة باختفائه، أليس كذلك؟»

ثورندايك: «في الحقيقة، إنها رحلة تفقدية غير محددة، كما تعلم.»

انذهل برودريب وقال: «أعلم، وأنا آتٍ معك. ليس لديَّ أعمال اليوم ولن يُقابَل طلبي بالرفض.»

ثورندايك متابعًا: «لا تتوقع أيَّ رفض. صحيح أنك ستهدر اليوم على الأرجح، ولكن لا بد أننا سنستفيد من صحبتك. سيُخبر بولتون موظفك أنك لم تختفِ، أو يمكنك أن تذهب إلى المكتب بنفسك. لدينا متسعٌ من الوقت.»

اختار برودريب الخطة الثانية؛ وبالتالي تمكَّن من تبديل قبعته الطويلة ومعطفه الصباحي وارتدى قبعة ناعمة وسترة، ثم انطلقنا في طريقنا إلى تشارينج كروس عبر لينكولنز إن، حيث يوجد مكتب برودريب. لاحظت أن برودريب لم يطرح أسئلة كعادته، على الرغم من أنه لاحظ بالتأكيد — كما لاحظت — الحقيقة المذهلة التي توصَّل إليها ثورندايك وتربط بين ميريل وجريفسيند؛ وباستثناء ما رواه برودريب بشأن فشله في الحصول على أيِّ أخبار عن السيد كريك، لم يُشَر إلى طبيعة الرحلة التفقدية حتى وصلنا إلى وجهتنا.

بعد الخروج من المحطة، انعطف ثورندايك إلى اليسار وأخذ طريقًا يؤدي إلى شارع، ويقبع على مدخل الشارع تمثال للملكة فيكتوريا بنظرته الشامخة غير أن السخام يعلوه. ومن هنا اتجهنا إلى الجنوب بطول شارع صاخب، ثم عبرنا طريقًا رئيسيًّا وتابعنا سيرنا في طريق مليء بالقاذورات إلى أن بدأت قذارة الحضر تتلاشى ويحلُّ محلها معالم الريف وانتقلنا من ضاحية إلى قرية. مررنا بنزُل لطيف المظهر وورشة حدادة تتضمن قسمًا خارجيًّا للعربات المتهالكة، ثم أتينا على جادة هادئة بها أشجار وأكواخ مبنية بالقرميد ومسقوفة بالقش وكانت حدائقها مزدانة بالزهور الصيفية. في الجهة المقابلة، أخذنا بعض الدرج الحجري الخشن إلى سُلَّم بجانب بوابة مفتوحة تؤدي إلى طريق ترابي عريض. توقف ثورندايك هنا وأخرج حافظة الخرائط من جيبه وطابق الأماكن المحيطة بالخريطة. أدخل الخريطة في جيبه على الفور واتجه إلى الطريق الترابي، قال: «سواء كانت النتيجة جيدة أو سيئة، فهذا طريقنا. وبعد بضع دقائق، ربما نعرف هل وجدنا مفتاح اللغز أم لغزًا آخر.»

سلكنا هذا الطريق إلى أن وصلنا إلى قمة التل، رأينا واديًا واسعًا وخصبًا يمتد من تحتنا، وتنبت الأشجار من خلفه ويطل على حافته برج مربع عرفنا أنه كنيسة القرية.

خلع برودريب قبعته للاستمتاع بالنسيم العليل وقال: «سواء وجدنا مفتاح اللغز أم لم نجده، فالجو ممتع للغاية ويستحق عناء الرحلة. انظر إلى تلك الفراشات الزرقاء الصغيرة الساحرة وهي ترفرف حول نبات الخباز. يا له من مشهد رائع لا يكون إلا في كِنت! أين ترى حقل شعير كهذا؟!»

كان مشهدًا جميلًا حقًّا، ولكن مع سفر عينيَّ عبر حقل الشعير الشاسع، والأمواج الذهبية التي يحركها نسيم الصيف، لم يكن هذا المشهد الجمالي الذي أسر عقلي؛ فقد انشغل عقلي بأطراف حسكات الشعير الثلاثة التي التقطناها من على أطراف السترة الخضراء. تقلص الطريق الترابي وأصبح مسارًا للسير بالأقدام، ولكنه كان مسارًا أوسع مما كان عليَّ أن أبحث عنه، المسار يمتد قاطعًا الحقل الشاسع وينتهي إلى سُلَّم بعيد، وفي المنتصف على الجانب الأيسر، يمكنني أن أرى قمة سياج خشن يرتفع فوق سنابل الشعير ويلتف حول حظيرة مربعة صغيرة تُشبه الحظيرة، لكننا وجدناها على حالة غير متوقعة.

تابعنا الطريق العريض قاطعين الحقل إلى أن اقتربنا من جانب الحظيرة، وأوشكت أن ألفت انتباه ثورندايك إليها، ولكني رأيت ممرًّا ضيقًا عبر الشعير — ليس طريقًا، ولكنه مسار سلكه بعض الأشخاص من بين أعواد الشعير للوصول إلى الحظيرة. سلك ثورندايك هذا المسار وكأنه كان يبحث عنه ومشى باتجاه الحظيرة وأخذ يُمعن النظر في الأرض وهو في طريقه. بالطبع تبعتُه أنا وبرودريب في صفٍّ واحد نتلمس الشعير في طريقنا؛ ولما أخذنا نقترب، رأينا فتحة في السياج حول الحظيرة بالإضافة إلى حفرة عميقة في الداخل وكانت أطرافها مهدبة بأجمة من نبات الناردين الوردي. وعند الفتحة في السياج، وقف ثورندايك ونظر خلفه.

برودريب: «يا تُرى هل سنجد أنفسنا أمام لغزٍ جديد؟»

ثورندايك: «لا، إنه مفتاح اللغز، بل هو أكثر من ذلك!»

أثناء الحديث، أشار إلى سفح إحدى الركائز الرئيسية في السياج مثبَّت فيها حبلٌ قصير تُشير أطرافه المهترئة إلى أنه تعرَّض للقطع بسبب الضغط الشديد. يمكنني الآن أن أرى الحالة التي كانت عليها الحظيرة. توجد حفرة عميقة بالداخل ويوجد في قاع الحفرة ثقب دائري من جانب واحد، وكان مظلمًا كالليل، ومن الواضح أنه يؤدي إلى باطن الأرض.

نظرت إلى التجويف الغائر وقلت: «لا بد أنه يؤدي إلى حفرة غائرة.»

ثورندايك: «نعم.»

برودريب: «إذن هذه حفرة غائرة، أليس كذلك؟ اللعنة على هذا المكان ذي المنظر البشع. الحفر الغائرة كانت من هوايات ميريل البائس. واعتاد النزول فيها من أجل الاستكشاف. أرجو ألَّا تقول إنه نزل في هذه الحفرة.»

ثورندايك: «يُؤسفني أن أخبرك بأن هذا ما حدث يا برودريب. طرف الحبل يشبه طرف الحبل الذي اشتراه. إنه عبارة عن حبل سلكي يستخدم في أعماق البحار. لديَّ حبل مثله اشتريته من المكان الذي اشترى منه حبله وربما قُطع من اللفة ذاتها.» فتح حقيبة يده وأخرج لفة الحبل التي اشتريناها، وطرحها أرضًا بجانب الركيزة على الأرض. اتضح أن الحبلين متطابقان من الطرف المقطوع. وأضاف: «ولكن سنرى.»

برودريب: «سننزل في الحفرة، أليس كذلك؟»

ثورندايك: «نحن؟ سأنزل الحفرة إذا أمكن ذلك. لا خلاف في ذلك. إذا كانت حفرة عمودية عادية بطول سبعين قدمًا وذات جوانب متعامدة، فسنحضر الأجهزة المناسبة، ولكن من الأفضل أن تبقى بالخارج تحسبًا لأي ظروف.»

برودريب متعجبًا: «هراء! أنا لست عجوزًا كما تظن. كنت أتسلق الجبال في شبابي ولست قلقًا. يمكنني أن أنزل على الفور إذا كان هناك أيُّ موطئ لقدم وطالما يوجد حبل أتشبث به. ويمكنك أن ترى بنفسك أن شخصًا نزل إلى الأسفل بالحبل فقط.»

ثورندايك: «نعم، ولكني أرى أن هذا الشخص لم يخرج مرة أخرى.»

برودريب: «لم يخرج، هذا صحيح. يبدو أن الحبل انقطع؛ وأنت تقول إن الحبل الذي معك من النوعية ذاتها، أليس كذلك؟»

نظر إليَّ ثورندايك متسائلًا وأنا أقف وأفحص الطرف المهترئ للحبل الغريب.

سأل: «ماذا تقول يا جيرفيس؟»

رَدَدْت: «هذا الحبل لا ينقطع. لقد تعرض للقطع بشيءٍ حادٍّ أو منشار. إنه مختلف تمامًا في مظهره عن الطرف المقطوع.»

ثورندايك: «هذا ما قررته بمجرد أن رأيته. إضافة إلى ذلك، حبل جديد بهذا الحجم والجودة لا يُحتمل أن ينقطع بسبب وزن رجل.»

حملق برودريب في الطرف المهترئ وظهر على وجهه الرعب.

قال متعجبًا: «يا له من شيء وحشي! تقصد أن خسيسًا قطع الحبل عن عمد وترك رجلًا آخر يقع في الحفرة! ولكن لا يمكن أن يحدث هذا. أظن حقًّا أنك مخطئ. لا بد أن الحبل معيب.»

ثورندايك: «ولكن هذا ظاهر الأمر.» صنع عقدة غير منزلقة في طرف الحبل وألبس الحلقة في كتفيه وأحكمها تحت ذراعيه. ثم اتجه إلى الحفرة. قال: «من الأفضل أن تلفَّ الحبل لفتين حول قاعدة الركيزة يا جيرفيس وأن ترخيَ الحبل بطولٍ كافٍ للحفاظ على الحبل مشدودًا.»

أخذ مصباح فحص كهربائي من حقيبته وأدخل البطارية في جيبه وشبك الكشاف في ثقب الزر وعندما أصبح كلُّ شيء جاهزًا، نزل إلى الحفرة وعبر الأرضية المنحدرة وانحنى إلى الأسفل وأطل في الثقب البغيض وسلط فيه شعاع ضوء من الكشاف. ثم وقف وجذب الحبل.

قال: «يمكن النزول بسهولة، العمق لا يتجاوز عشرين قدمًا وتوجد مواطئ للقدم بطول الحفرة.» في هذا الوقت، جثم مرة أخرى وعاد إلى الحفرة واختفى عن الأنظار. بدا أنه نزل بسرعة كبيرة؛ وذلك بناءً على سرعة إرخاء الحبل، وبعد فترة قصيرة شعرتُ بارتخاء في الحبل ومن ثَم بدأتُ في شدِّه. وكلما خرجت عقدة من الحفرة، أمسك بها السيد برودريب وثبتها تحت ذراعيه دون أن يباليَ باحتجاجاتي.

سألت: «ولكن يا تُرى كيف سأنزل إلى الحفرة؟»

رد بشكل مقنع: «كلُّ شيء على ما يرام يا جيرفيس. سأتفقد المكان ثم آتي كي تنزل.»

من الواضح أنه لا فائدة من الجدال، عدَّلت الحبل وجهزته من أجل إرخائه. نزل إلى الحفرة بمرونة مذهلة ودخل إلى التجويف واختفى؛ دل شد الحبل على أنه كان ينزل بسرعة. كاد أن يصل إلى القاع حينما سمعت أصداء جوفاء لصرخة وكأنها تحذير من شيء، لكن بدا أن كل شيء على ما يرام واستمر الحبل في السحب على نحوٍ ثابت، وعندما خف شده في النهاية، شعرتُ بهزة لا تحتمل معنى غير ضرورة سحب الحبل؛ وبالتالي سحبت الحبل على الفور.

لما دفعني فضولي إلى عدم الرغبة في البقاء دون حَراك منتظرًا عودة برودريب، ثبَّتُّ طرف الحبل في الركيزة باستخدام «عقدة الصياد» ونزلتُ إلى الحفرة. خلال نزولي إلى الحفرة، كنت أنحني وأطل برأسي من على الحافة. أتى بصيص ضوء من مصباح ثورندايك بطول النفق واكتشفتُ أننا لم نكن أول مَن نزل إلى الحفرة لأنه كانت هناك مواطئ أقدام في الطباشير بطول الحفرة ومن الواضح أنه مرَّ عليها وقت طويل. وبمساعدة هذه المواطئ والحبل، بدا النزول في غاية السهولة وقررت أن أنزل من فوري؛ ومن ثَم اندفعتُ إلى الحفرة وعثرت على مواطئ الأقدام الأولى وكنت أُمسك الحبل بيدٍ وأستخدم الأخرى للتشبث في التجاويف العلوية، واستطعتُ أن أنزل إلى الحفرة التي تُشبه البئر. ومع الاقتراب من القاع، كان ضوء المصباح يقع بالكامل على جدار الحفرة؛ جذبتني يدان وسمعتُ صوت ثورندايك يقول: «انظر أين تضع قدمك يا جيرفيس.» ومن ثَم نظرتُ تحتي وعلى الفور رأيت رجلًا يستلقي على وجهه بجوار لفة حبل غير منتظمة.

توخيتُ الحذر وأنا أنزل على الأرضية الطباشيرية وتفقدت المكان. وجدنا أنفسنا في غرفة صغيرة وفي أحد جوانبها فتحة مظلمة تؤدي إلى نفق منخفض. وقف ثورندايك وبرودريب عند أقدام الشخص المتمدد وشرعَا في فحص مسدس كان يحمله المحامي.

برودريب: «بالتأكيد قُتل رميًا بالرصاص، توجد رصاصة فارغة وفوهة المسدس متسخة.»

ثورندايك: «هذا محتمل، لكن لا يوجد جرح بسبب رصاصة. مات الرجل بطعنة سكين في الصدر.» سلط ثورندايك الضوء على الجثة وقلَّبتُها جزئيًّا للتحقق من كلامه، أضاف: «هذا السيد ميريل البائس. وجدنا المسدس قابعًا بجواره.»

قلت: «سبب الوفاة واضح جدًّا، وبالتأكيد لم يكن انتحارًا. السؤال هو …» في هذه اللحظة، توقف ثورندايك وسلَّط شعاع الضوء في النفق، وتفوهتُ أنا وبرودريب بكلمات اندهاش على الفور. في أقصى نهاية النفق على بُعد أربعين قدمًا تقريبًا، تقبع جثة رجل آخر. انطلق برودريب من فوره مسرعًا بطول النفق ومنحنيًا كي لا يتخبط في السقف المنخفض إذ كان على ارتفاع أربعة أقدام وست بوصات تقريبًا. كنت أنا وثورندايك في عقبه. لما وصلنا إلى الجثة المستلقية وبجوارها مصباح كهربائي ووقع ضوء مصباح ثورندايك على الوجه المقلوب، شهق برودريب: «نجِّنا يا رب! إنه كريك! وها هو السكين!» أوشك على التقاط السلاح عندما مدَّ ثورندايك يدَه.

قال: «يجب ألَّا تُمسكَ يدَ هذا السكين غير اليد التي أمسكتْها للضرب به لأنها قد تكون دليلًا بالغ الأهمية.»

برودريب: «دليل على ماذا؟ هناك ميريل مقتول بسكين في صدره ومسدس بجواره. وهنا كريك مقتول برصاصة في صدره وسكين بجواره وجراب السكين حول وسطه فارغ. ما الأدلة الإضافية التي تريدها؟»

ثورندايك: «يعتمد هذا على ما تسعى إلى إثباته، ما تفسيرك للوقائع التي ذكرتها؟»

برودريب: «الأمر واضح وضوح الشمس، ومع أخذ شخصية الرجلين في الاعتبار، فلا يمكن أن يحدث ما نراه. كريك طعن ميريل وميريل أطلق عليه الرصاص. ثم حاول ميريل الهرب ولكن الحبل انقطع؛ ومن ثم علق وظل ينزف حتى الموت في قاع الحفرة.»

ثورندايك: «ومن منهما مات أولًا في رأيك؟»

سؤال غريب ودفعني إلى أن أرمق زميلي بنظرة تملؤها التساؤلات، ولكن أجاب برودريب على الفور: «كريك بالطبع؛ فهو يقبع هنا في المكان الذي سقط فيه. وهناك آثار دماء بطول النفق كما ترى ويوجد ميريل عند المدخل وأرى أنه مات وهو يحاول الهرب.»

أومأ ثورندايك بطريقة غامضة وعمَّ الصمت لفترة قصيرة. ثم غامرتُ وعلَّقت: «يبدو أنك تغفل الرجل ذا السترة الخضراء.»

اندهش برودريب ونظر إليَّ مقطبًا جبينه من المفاجأة.

تعجب برودريب: «ليسامحني الرب! لقد غفلتُ عنه بالفعل. لقد نسيتُه في مشاهد الرعب التي نعيشها هنا، ولكن ما الذي ترمي إليه؟ هل هناك أيُّ دليل على أنه كان هنا؟»

قلت: «لا أعلم. لقد اشترى الحبل وشوهد مع ميريل عيانًا وهما ذاهبان إلى محطة جسر لندن. وأحسب أن السترة الخضراء هي التي قادت ثورندايك إلى هذا المكان.»

ثورندايك: «نعم، هذا ما حدث بالفعل، ولكن سنتحدث عن هذا فيما بعد. أما في الوقت الحالي، فتوجد واقعة أو اثنتان سألفتُ انتباهكما إليها. الأولى تتعلق بالجروح؛ فالجرحان في مكانين متطابقين تقريبًا. كلُّ جرح موجود في الجانب الأيسر تحت الحلمة؛ وهو موضع قاتل ويمكن أن يكون مكشوفًا بالكامل لرجل ينزل متشبثًا بحبل. وإذا نظرتما بطول الأرضية وأنا أسلط الضوء عليها، يمكن أن تريَا آثارًا واضحة لشيء تعرَّض للجرِّ على الرغم من أن هناك جهودًا واضحة لطمسها، كما أنه توجد علاماتُ دم تدل على جرِّ الجثة وهي أكثر من القطرات.» قلَّب الجثة بلطف وأشار إلى الظهر ووجدناه مغطًّى بالطباشير بدرجة كثيفة. تابع: «من الواضح أن هذه الجثة تعرضت للسحب بطول الأرضية، وما كان للطباشير أن يعلقَ بها بهذه الدرجة من مجرد السقوط. إضافة إلى ذلك، شوهد الحبل آخر مرة وهو يُوضع في حقيبة يد. الحبل هنا، ولكن أين الحقيبة؟ وأخيرًا، الحبل قطعه شخص ما بالخارج، ومن الواضح أنه قُطع بعد ارتكاب عملية الاغتيال.»

وبعدما أتمَّ استنتاجه، نشر منديله على السكين ولفَّه بعناية من دون أن يلمسه بأصابعه ووضعه في جيب صدره الخارجي. ثم عدنا إلى الحفرة العمودية، وهناك انحنى ثورندايك على جثة ميريل وأفرغ جيوبه بشكل منهجي.

برودريب: «ما الذي تبحث عنه؟»

ثورندايك: «المفاتيح، ولم أجدها. إنها عنصر بالغ الأهمية، أما ترى أن الرجل ذا السترة الخضراء دخل إلى مسكن ميريل في ذلك اليوم.»

أجاب برودريب وهو مقطب الجبين: «نعم، أوافقك الرأي، ولكن أخبرْنا يا ثورندايك، كيف تُعيد ترتيب وقائع هذه الجريمة.»

ثورندايك: «نظريتي هي أن الرجال الثلاثة كانوا هنا معًا. ثم ثبَّتوا الحبل في الركيزة. نزل الرجل الغريب ذو السترة الخضراء أولًا وانتظر في قاع النفق العمودي. نزل ميريل بعده وطعنه الرجل الغريب بمجرد أن وصل إلى القاع وهو لا يزال متشبثًا بذراعه في الحبل. تبعه كريك وأُطلق عليه الرصاص في المكان ذاته وبالطريقة ذاتها. ثم سحب الرجل الغريب جثة كريك بطول النفق وطمس الآثار بقدر استطاعته، ثم وضع السكين والمصباح بجانب الجثة وأسقط المسدس بجوار جثة ميريل وأخذ المفاتيح وصعد، بعد ذلك قطع الحبل بالمنشار — ربما بمنشار صغير — ورمى الطرف في الحفرة العمودية. ثم أخذ القطار التالي إلى لندن وذهب إلى مسكن ميريل مباشرة وفتح الخزنة أو الممتلكات الأخرى واستحوذ على ما يريد.»

أومأ برودريب وقال: «وكأن شيطانًا وضع هذا المخطط.»

ثورندايك: «كان المخطط ذكيًّا للغاية، ولكن التنفيذ لم يكن كذلك؛ فقد ترك آثارًا في كل مكان. بل ما كان ينبغي له أن يوجد هنا. تصرَّف على أساس أن العالَم لا يوجد به سوى الحمقى. ولكن هذا افتراض الأحمق.»

عندما صعدنا بترتيب معاكس لترتيب نزولنا، فكَّ ثورندايك حبلنا وكذلك الطرف المهترئ وأخذناهما معنا وعُدنا أدراجنا إلى المدينة. لاحظت عندما وقفنا بجانب الحفرة في الوادي أنه لا يوجد كائن بشري على مرأى البصر ولم نقابل أيَّ شخص إلى أن اقتربنا من القرية. كان موضعًا مثاليًّا لمن ارتكب جريمة الاغتيال.

برودريب: «أظن أنك ستبلغ الشرطة، أليس كذلك؟»

ثورندايك: «بلى، سأتصل بقائد الشرطة وأعطيه الوقائع وأنصحه بعدم الإفشاء عن بعضها في الوقت الحالي، كما سأرتب تأجيل التحقيق. يجب أن نجعل صاحبنا ذا السترة الخضراء يظن أنه لعب بالورقة الرابحة.»

من الواضح أن قائد الشرطة رجلٌ يعرف كلَّ تحركات التحقيقات الجنائية؛ وذلك لأنه في التحقيق نُسب الاكتشاف إلى الشرطة المحلية التي تعمل بناءً على معلومات تلقتْها من شخص كان قد «لاحظ الحبل المقطوع».

لم يُستدعَ أيٌّ منَّا للإدلاء بشهادته ولم تُذكَر أسماؤنا، ولكن تأجل التحقيق لمدة ثلاثة أسابيع لإجراء مزيد من عمليات الاستجواب.

في تلك الأسابيع الثلاثة، حدثت تطورات فريدة وكان المكان الذي وقعت فيه هذه التطورات هو مكتب المساعدين في مكتب السيد برودريب الواقع في لينكولنز إن. وفي منتهى فترة الضحى من يوم ما، وصلتُ أنا وثورندايك ومع كل واحد منا حقيبة وحزمة مستندات ورحَّب بنا السيد بيج ترحيبًا حارًّا.

ثورندايك: «الآن، هل أنت واثق تمام الثقة يا سيد بيج أنك ستتعرف على هذا الرجل حتى إذا حلق ذقنه وشاربه؟»

بيج: «واثق تمامًا. سأعرفه من عينيه. إنهما عينان غريبتان للغاية، كانتَا لامعتين وبلونٍ رمادي مائل إلى الأخضر. وأعرف صوته أيضًا.»

ثورندايك: «جيد.» وبعدما اختفى بيج في المكتب الخاص، جلسنا وتفحصنا المستندات التي معنا ونظرنا خلسة إلى الموظف الذي لا يزال تحت التدريب. بعد عشر دقائق تقريبًا، فُتح الباب ودخل رجل؛ وبمجرد أن رأيناه انتابني قلقٌ إزاء احتمال وقوع خطب ما. كان رجلًا ضخمَ الجثة مفتول العضلات وحليقَ اللحية وكان رجلًا غامضًا، ولكن انجذب انتباهي على الفور إلى عينَيه إذ كانتَا شاحبتين على نحوٍ غريب مما أعطى سمة غير آدمية لوجهه. ذكَّرني بفصيلة معينة من قرود الليمور كنت رأيتها ذات مرة.

تحدَّث الرجل إلى المساعد: «لديَّ موعد مع السيد برودريب. اسمي هوردر.»

نهض المساعد من كرسيه وتوجَّه إلى باب المكتب الخاص، ولكن خرج بيج في تلك اللحظة. ولما تقابلت عيناه مع عينَي هوردر، وقف من دون حَراك؛ وفجأة تصلب الرجلان وكأنهما كلبان تقابلَا في ركن من الشارع. راقبتُ هوردر عن كثب، وبدا أنه قد اصفرَّ لونه عندما دخل. ارتاع في هذه اللحظة ودل مظهرُه بالكامل على توتُّر أعصابه.

ظل بيج يحملق باهتمام في الرجل الآخر وسأله: «هل تريد مقابلة السيد برودريب؟»

ظهر انفعالُ الرجل في ردِّه: «نعم، وقلت اسمي مرة، اسمي هوردر.»

استدار السيد بيج ودخل إلى المكتب الخاص مرة أخرى وترك الباب مواربًا.

سمعتُه يقول: «السيد هوردر يريد رؤيتك يا سيدي.» خرج وأغلق الباب. جلب كرسيًّا للرجل وقال له: «إذا كنت ستجلس، فسيراك السيد برودريب خلال دقيقة أو دقيقتين.» عندئذٍ أخذ قبعته من الشماعة ونظر في ساعته وخرج.

مرت دقيقتان. وذات مرة، أظن أنني سمعتُ خُطًى تتسلَّل إلى المدخل بالخارج ولكن لم يدخل أحد ولم نسمع طرقًا على الباب. وفي هذه اللحظة، فُتح باب المكتب الخاص وخرج رجل نبيل طويل القامة. ومرة أخرى، وقفت منتبهًا. الرجل النبيل الطويل كان مديرَ قسم الشرطة والمحقق في قضية ميريل.

عبر مدير قسم الشرطة المكتب وفتح الباب وتفقَّد المكان ثم ترك الباب مواربًا وعاد إلى المكان الذي يجلس فيه السيد هوردر.

قال: «أظن أنك السيد صامويل هوردر.»

رد الرجل: «نعم، أنا. ما الأمر؟»

«أنا ضابط شرطة، وأقبض عليك بتهمة الدخول غير المشروع إلى مسكن الراحل ريجينالد ميريل، ومن واجبي أن أحذرك …»

وهنا، نهض هوردر على قدمَيه وانسلَّت يده اليمنى تحت ذيل سُترتِه وباغت الضابط بقفزة. ولكن في هذه اللحظة أمسك ثورندايك ذراعَه اليمنى من عند الكوع والمعصم وطرحه أرضًا؛ أمسك الضابط ذراعه اليسرى وانقضضتُ أنا على المسدس في يده اليمنى وأبقيتُ فوهته موجهة إلى الأرض. ولكن المسألة لم تكن سهلة. الأسير رجل قوي وقاتل وكأنه وحشٌ بريٌّ، كما أنه لم يرفع إصبعه عن زناد المسدس. وكنا نحن الأربعة — جملة واحدة — ندور حول المكتب ونتخبط في المقاعد والجدران، وكان المساعد الذي تحت التمرين يتنقَّل في أرجاء الغرفة ولم يرفع عينه عن المسدس، واندفع برودريب الكبير من معتكفه مشوحًا بمسطرة طويلة، ولكن لم يَدُم الأمر طويلًا. ففي خضمِّ هذه الضجة، انسلَّ رجلان ضخمان من رجال الشرطة إلى المعركة. صدر صراخٌ من الأسير وسقط المسدس على الأرض ومن ثَم سمعتُ نقرتين معدنيتين متتاليتين.

ألبس الشرطي الأصفاد للأسير وكأنه أعطاه دواءً مهدئًا وقال بصوت خافت: «سيكون بخير الآن.»

عندما أُخرج الأسير، قال ثورندايك: «لاحظت أنك لم تتهمه بغير الدخول غير القانوني.»

ميلر: «نعم، إلى أن تُؤخذ بصمات أصابعه. رفع السيد سينجلتون بصمات ثلاث أصابع وإصبع الإبهام من سطح السكين الذي أعطيتَه لنا، وكانت واضحة تمامًا. وبالطبع إذا ثبت أن البصمات هي بصمات هوردر، فهذا دليل واضح على أنه القاتل.»

ثبت بلا شك أن صاحب البصمات على السكين هو هوردر، ولكن لم تقف القضية عند هذا الحد؛ فعندما جرى تفتيش مسكنه، لم يُعثر على مفاتيح السيد ميريل فحسب، بل عُثر على وصيته الثانية التي لم تكن موجودةً وقت أن فتحها صانع الأقفال الخاصة بالخزنة؛ مما يبرهن من جديد على الغباء الشديد لدى المجرم.

ثورندايك: «قضية مرضية من حيث نتائجها، ولكن حالفنا قدرٌ كبير من الحظ وهذا أفادنا كثيرًا. في القصة التي قصها برودريب في البداية، اتضح تمامًا أن جريمةً ارتُكبت. ميريل مفقود وشخص ما استحوذ على مفاتيحه ودخل إلى منشآته. بات مؤكدًا تمامًا أن الشيء المسروق لا بد أن يكون الوصية الثانية لأنه لم يكن يوجد شيء ذو قيمة ويستحق السرقة غيرها، والوصية لها قيمة كبيرة لشخصين وهما كريك وهوردر حيث يبلغ نصيبُ كلٍّ منهما آلاف الجنيهات. وبالنسبة إلى كلٍّ منهما، كان استحقاق هذا المبلغ مشروطًا بموت ميريل العاجل، قبل كتابة وصية أخرى؛ وبالنسبة إلى هوردر، كان الأمر مشروطًا بموت كريك أيضًا؛ ومن ثم ينبغي أن يموت قبل ميريل، وإلا فقد تئول التركة إلى ورثة كريك أو أحد أقاربه من الدرجة الثانية؛ وعليه كان لا بد أن تحوم الشبهة حول هذين الرجلين، ولكن كريك مفقود، والسؤال هو: هل هرب أم مات؟

ننتقل الآن إلى التحقيق. ظهر على السترة الخضراء غبارٌ من الأرض وطباشير على السترة من الأمام وآثار طباشير على الأزرار. وهذا يدل على أن مرتدي السترة إما زحف على أرض طباشيرية أو تسلَّق سطحًا طباشيريًّا، ولكن الآثار على الأزرار تُشير إلى التسلق؛ لأن السطح الأفقي عادة ما تغطيه التربة، أما السطح الرأسي فتكسوه طبقة الطباشير، لكن عامل الوقت أظهر لنا أن هذا الرجل لا يمكن أن يكون قد سافر بعيدًا عن لندن. شوهد الرجل متجهًا إلى محطة جسر لندن في الوقت الذي يتحرك فيه القطار إلى كِنت. يذهب هذا القطار إلى ميدستون وجيلينجهام، ويتوقف في جريفسيند وسترود وسنودلاند وروتشستر وتشاتام وأماكنَ أخرى تكثر فيها التربة الطباشيرية وترتبط بصناعة الإسمنت. في هذه المنطقة، لا توجد منحدرات حقيقية، ولكن توجد العديد من المحاجر الطباشيرية وحواجز السكك الحديدية وعمليات الحفر الأخرى. أشارت الأدلة إلى واحدة من مناطق الحفر هذه. عُرف أن كريك توجه إلى روتشستر — في وقت مبكر من اليوم — مما جعل الإشارات تدور حول هذه المنطقة على الرغم من أنها أقل منطقة من حيث التربة الطباشيرية.

السؤال الذي طرح نفسه: ما نوع مكان الحفر الذي نزل فيه؟ ولأيِّ غرض كان تسلقه للنزول فيه؟ ولكن هنا أعطتنا شخصيةُ الرجل المفقود تلميحًا. كتب ميريل كتابًا لإثبات أن الحُفر الموجودة تحت سطح الأرض كانت تمثِّل مناجم لحجر الصوان في عصور ما قبل التاريخ. استكشف ميريل عددًا من تلك الحُفر ووصفها في كتابه. المنطقة التي يمرُّ بها القطار غنية على وجه الخصوص بالحُفر تحت سطح الأرض، ثم حدثت واقعة أخرى تشير إلى هذه المنطقة، وهي أن ميريل شوهد آخر مرة وهو يخرج من محل لبيع الحبال. حظيت هذه الواقعة الأخيرة بأهمية بالغة مما دفعني إلى المتابعة على الفور بالتوجه إلى إدجينتون. وهناك، تأكدت من أن ميريل أو رفيقه اشترى حبلًا بطول خمس عشرة قامة من الأحبال السلكية التي تُستخدم في أعماق البحار. باتت هذه الواقعة ذات أهمية بالغة. يبلغ الحد الأقصى لعمق الحفرة تحت سطح الأرض حوالي سبعين قدمًا؛ ومن ثمَّ خمس عشرة قامة — تسعون قدمًا — هي الطول المطلوب، مع وضع الحلقات وعُقد التثبيت في الحسبان. هذه الواقعة الجديدة أكَّدت فرضية وجود حفرة تحت سطح الأرض التي كانت شبه مؤكدة، لا سيما عندما يفكر المرء في مدى سهولة أن تكون هذه الحُفر الخطيرة مكانًا للحوادث المميتة أو لعمليات الاغتيال؛ وعليه تبنَّيتُ اقتراح وجود حفرة تحت سطح الأرض على أنه فرضية صحيحة.

السؤال الثاني: أين هذه الحفرة؟ كان هذا السؤال صعبًا على نحو استثنائي. بدأت أخشى ألا توجد إجابة عن هذا السؤال بسبب استحالة حلِّه، ولكن في هذا الوقت ظهرت بعض الأدلة المساعدة من هذه البقعة. أعطيت المعطف لبولتون لاستخراج الغبار وأخبرته أن يغسل كُتَل الطباشير الصغيرة بحثًا عن مادة المنخربات.»

سأل برودريب: «ما هي مادة المنخربات؟»

«إنها عبارة عن أصداف بحرية متناهية الصغر. يتكون الطباشير بدرجة كبيرة من هذه الأصداف، وعلى الرغم من أن الطباشير ليس من الصخور المحلية على الإطلاق، كان هناك قدرٌ كبير من التباين في المنخربات الموجودة في الأماكن المختلفة؛ ومن ثَمَّ طلبت غسل الطباشير باعتبار ذلك مسألة روتينية. كان الغبار تأكيدًا على الفرضية ولكن لم يكشف كل شيء؛ فقد كان هناك غبار من السكك الحديدية، من نوع الطباشير في المنطقة الجنوبية الشرقية — أظن أنك تعرفها — وغبار الطفال، وحبوب لقاح نباتات الخباز، والناردين التي تنبت في مناجم الطباشير، وبعض قشور من أجنحة فراشات زرقاء منتشرة، وهذه الفراشات تتردد على التربة الطباشيرية، وأظن أنه لمس فراشة ميتة، ولكن كل هذا سيُجيب عن قدرٍ كبيرٍ من الأسئلة بشأن مقاطعة كِنت. ثم فحصت مادة المنخربات وحددتُ الأنواع بناءً على الألواح في التمثيل البياني الأحادي لورنفورد. زادتني النتائج حماسًا. اشتملت جميع العينات على تسعة أنواع، وتم تحديد خمسة منها بأنها توجد في التربة الطباشيرية في جريفسيند، واثنين من التربة الطباشيرية في كِنت. أذهلتني النتيجة كثيرًا؛ فأكثر من نصف مادة المنخربات المتضمنة وُجد في طباشير جريفسيند.

المشكلة الآن في تحديد المعنى الجيولوجي لكلمة جريفسيند. استبعدتُ روتشستر لأنني سمعت أنها لا توجد بها حفر تحت سطح الأرض واطلعت على كتاب ميلر وخريطة هيئة المساحة ذات مقياس الرسم الكبير. عمل ميريل في منطقة جريفسيند والجزء المتاخم لها في إسكس وكتب قائمة بالحفر تحت سطح الأرض التي استكشفها ومنها حفرة كلابر نابر في سوانسكومب وود، ولكن بالاطلاع على خرائط هيئة المساحة لديه، وجدتُ حفرة تحت الأرض محددة في الخريطة ولم تكن ضمن قائمة الحفر. ولما اتضحت ضرورة البحث في جميع الحفر في المنطقة، قررت البدء بالحفرة التي بدا أنها مفقودة. وهناك، حالفنا الحظُّ. وتبين أنها الحفرة المقصودة.»

برودريب: «لا أرى أنه حالفنا الحظُّ كثيرًا. أنت حسبت الاحتمالات واعتمدت أكثرها أرجحية.»

ثورندايك: «على أية حال، وجدنا ميريل ووجدنا كريك وبمجرد أن رأيتهما عرفت أن هوردر هو القاتل. وحتى تكمل الصورة، من الواضح أنه اتخذ الترتيبات بحيث يظهر أن كريك قد مات قبل ميريل وإظهار هوردر على أنه وريث ميريل.»

برودريب معلقًا: «مؤامرة شيطانية وبارعة للغاية أيضًا. على أية حال، أيٌّ منهما مات أولًا في رأيك؟»

ثورندايك: «ميريل بلا شك.»

برودريب: «ستكون هذه أخبارًا سارة لأقرب أقرباء كريك. وأنت لم تنتهِ من هذه القضية بعد يا ثورندايك. وسأعود إليك في مسألة انتقال التركة إلى الورثة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤