سَرِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ

وتسمى سرية الخبط، وذلك لما أصابها من الجوع فألجأها إلى أكل الخبط، وهو ورق السلم؛ فإنها خرجت للجهاد، ولم يكن معها من الزاد سوى جراب تمر زوَّدها النبي إياه، وسماها البخاريُّ سرية سيف البحر؛ أي ساحله، بعث أبو عبيدة في رجب من السنة الثامنة بعد أن نقضت قريش عهد الرسول الكريم، وقبل فتح مكة، ومعه ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا من المسلمين، فيهم عمر بن الخطاب، إلى أرض جهينة ليلقى عيرًا لقريش، ويحارب حيًّا من هذه القبيلة، فلما اشتد بهم الجهد ابتاع قيس بن سعد بن عبادة من أحد رجال جهينة خمس جزائر بخمسة أوسق من التمر يؤديها أبوه عنه بالمدينة، فنحر لهم ثلاثًا، وبقي اثنان عاد بهما إلى المدينة يتعاقب المسلمون عليهما.

هم سادة الحرب من شيب وشبان
ساروا سراعًا فما في القوم من وان
حيدي جهينة أو بيدي مذمَّمة
حُمَّ القضاء وخفت أسد خفان
سرية الله ترمي عن يدي بطل
عالي اللواء رفيع القدر والشان
أبا عبيدة أوردها مظفرة
موارد النصر تشفي كل حران
ما للحفيظة إن جاشت مراجلها
إلا القواضب تُسقَى بالدم القاني
خانت قريش وأمسى عهدها كذبًا
فبادر العير واضرب كل خوان
لا يعجبن جناة الشر إن حصدوا
ما يزرع الشؤم من بغي وعدوان
لا تبتئس بجراب التمر يحمله
أولو الحمية من صحب وإخوان
أعجوبة ما لها في الدهر من مثل
لكن ربك ذو فضل وإحسان
إن ينفد الزاد أغناكم وزودكم
ما ليس ينفد من تقوى وإيمان
كلوا من الخبط نعم الخبط من أكل
لكل ذي سغب في الله طيَّان
حيَّاكم الله من صيد غطارفة
يلقون في البؤس عيش الناعم الهاني
هي النفوس بناها الله من شمم
نعم البناء وجلت قدرة الباني
وأنت يا قيس فانحرها مباركة
تجني بها الحمد يستعلي به الجاني
أسديتها يا ابن سعد خير عارفة
جاءت على قدر في خير إبان
ما في صنيعك من بدع ولا عجب
قيس ووالده في الجود سيَّان
كلاكما وسيوف الله شاهدة
غوث اللهيف وروح البائس العاني
ما أقرب الحق مما يبتغي عمر
لو لم تكن لأب للحق صوان
يقضيه عنك وإن أربيت تجعله
ما تحمل الأرض من إبل ومن ضان
ما مثل ما قدمتْ لله منك يدٌ
ما قدم الناس من هدْيٍ وقربان

•••

أبا عبيدة لولا أن عزمت على
قيس لأمعن قيس أيَّ إمعان
يقول إذ رحت تنهاه وتمنعه
أبا عبيدة مهلًا كيف تنهاني؟
أنا ابن سعد وسعد أنت تعرفه
مولى العشيرة من قاص ومن دان
يكفي المهمَّ إذا ضاق الكفاة به
ويطعم الناس من مثنى ووحدان
أأصنع الصنع محمودًا فيخذلني
أب أراه لغيري خير معوان؟
لا يُبعد الله منه والدًا حدبًا
سمح الخلائق أرعاه ويرعاني
يا قيس إن رسول الله شاهده
فعَدِّ نفسك عن وصف وتبيان

•••

رمت جهينة بالأبصار من فزع
فلم تجد غير أبطال وفرسان
لاذات بأكنانها القصوى ولو قدرت
لاذت من الزاخر الطامي بأكنان
وولت العير يخشى أن يحاط بها
من الألى هم ذووها كل شيطان
ماذا على القوم يرضى البأس إن غضبوا
أن لا يفوزوا بأكفاء وأقران؟
آبوا بخير وآبت كل طائفة
من الألى كرهوا الحسنى بخسران

•••

للحق سلطانه فليأت منكره
إن استطاع له ردًّا بسلطان
ما حجة الشرك والأكوان شاهدة
بواحد سرمديِّ الملك ديَّان؟
سبحانه لن يصيب الجاهلون على
طول التوهم من ربٍّ لهم ثان
طاحت بهم غمرة ما تنجلي وطغت
على عقول لهم مرضى وأذهان
تلك البراهين تترى كل آونة
لو كان ينتفع الأعمى ببرهان

•••

أخا جهينة عُدْ في منظر بهج
عود امرئ مرح الأعطاف جذلان
تمرٌ وكسوة معطاء وراحلة
بشرى الصديق وبؤس الحاسد الشاني
عرفت قيسًا فتى مجدٍ ومكرمة
صدقت إنك ذو علم وعرفان
نبئ جهينة واذكرها يدًا عظمت
فليس في الحق أن يجزى بنسيان

•••

إذا تدفق دين المرء في دمه
سرت معانيه في روح وجثمان
ما الدين يشرع من صدق ومن ورع
كالدين يشرع من زور وبهتان

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤