غَزوَةُ الْحُدَيبِيَة

ويقال لها عمرة الحديبية، بئر قريبة من مكة، خرج إليها النبي في ألف وأربع مئة — على أصح الروايات — من أصحابه يوم الاثنين مستهل ذي القعدة من السنة السادسة، وكان قد رأى أنه دخل مكة وأصحابه آمنين، محلقين رءوسهم ومقصرين، وأنهم دخلوا البيت وطافوا به، وأخذ هو مفتاحه، ووقف على عرفات مع الواقفين.

قص هذه الرؤيا على أصحابه ففرحوا، وخرجوا معه معتمرين محرمين من ذي الحليفة والهدي يساق بين أيديهم، ولم يكن معهم من السلاح سوى السيوف، وكانوا يخافون أن تصدهم قريش عن البيت، وعلم النبي أنهم خرجوا في نسائهم وصبيانهم متأهبين للقتال، فصف الجيش ومضى بعد أن استشار أصحابه، واختلفت الرسل بين الفريقين، فعقد الصلح على وضع الحرب مدة اختلف الرواة في تقديرها، فقال بعضهم عشر سنين، وقال بعضهم أربع، وقيل سنتان، وأن من جاء إلى النبي من المسلمين بغير إذن وليه رده إليه، ومن أتى المشركين بمكة مرتدًّا من المسلمين احتسبوه عندهم، وأن يرجع النبي وأصحابه، ثم يعودون للطواف بالبيت في العام التالي، لا يحملون سوى سلاح الراكب، فتخلي لهم قريش مكة ثلاثة أيام يعودون بعدها إلى المدينة، وقد ثارت نفوس المسلمين لهذا الصلح، ولكن الله ثبَّت قلوبهم ببركة رسوله الكريم وحكمته التي تجلت آثارها بعد ذلك، وكانت بيعة الرضوان من بركات هذه الغزوة الميمونة.

منك الحنين ومن ما هو أعظم
لو يستطيع أتاك لا يتلوَّم
البيت أنت به أحق وإن أبى
من أهل مكة جاهل لا يعلم
ما أصدق الرؤيا وأقرب حينها
فاصبر على ثقة وربك أكرم
إن يخل منها اليومُ فالغد بعده
بالخير والرضوان منها مفعَم
سر يا رسول الله جندك باسل
وقواك محصدة ورأيك محكم
آثرت ربك وحده لا تشتكي
فيه من الأهوال ما تتجشم
ومضيت معتمرًا بصحبك محرمًا
والهَدْيُ حال بالقلائد معلم
والمؤمناتُ الصالحاتُ كأنما
فيهن سارة والرضية مريم
من كل أمٍّ برة لم يلهها
بَعْلٌ ولم يَغلب نوازعَها ابْنَم

•••

يا طيب ما لبيت ربك إنه
للحق يزلفه فؤادك والفم
أين الشريك لمن تصرف وحده
في مُلكه أمَّنْ سواه المنعم؟
لبيك ربي إن قضيت لنا الهدى
فكتابك الهادي وأنت الملهم

•••

تلكم قريش أقبلت في غضبة
مشبوبة وحميَّة تتضرم
قالت أيدخلها علينا عنوة؟
السيف أولى أن يُحكَّم والدم
وروى ابن سفيان الحديث فلو درى
لغة السيوف لخالها تتكلم
أصغت إليه فلم يقرَّ بغمده
منها على طول التحلُّم مخذم
يجد التقاةُ المحرمون ولا كما
يجد التقيُّ من السيوف المحرم
أبدتْ تباريح الهموم شديدة
وأشدُّ منها ما تُجنُّ وتكتم
ودَّت لو أن الله قال لها اضربي
فمضت تظللها النسور الحوَّم

•••

قال النبي أنَتَّقيها خطَّةً
هي ما علمتم أم نجدُّ ونقدم؟
فأجابه الصِّدِّيق بلى نمضي إلى
ما كنت تنوي بالخروج وتعزم
ورمى بها المقداد خطبة مؤمن
يرمي الخطوبَ بنفسه لا يُحجم
ومضوا يرون المشركين بذي طوى
والخيل شتى والخميس عرمرم

•••

أبلال أذِّنْ للصلاة فإنها
أسنى وأشرفُ ما يحبُّ المسلم
نهض النبي يُقيمها في صحبه
لله تُبدأُ بالخشوع وتُختمُ
وأعدَّ طائفة تقوم فتتَّقي
كيد العدو إذا يكر ويهجم
حتى إذا سجد الرفاق تخلَّفوا
عنهم فضوعف أجرهم والمغنم

•••

جيش الهدى واليُمنِ عند جلاله
بيمين قائده يُصفُّ ويُنظم
جعل ابن بشر في الجهاد لخالد
يلقاه إن جَمعَ الفوارسَ مأزم

•••

سلكوا الطريق الوعر يسطع نوره
وأضلَّ غيرَهم الطريقُ المظلمُ
يمضي الدليل بهم ويذهب موقنًا
ثبتًا فما يرتاب أو يتوهم
بوركت ناجيةَ بن جندب من فتى
جلد على الضراء لا يتبرم
وجب الثناء لأسلميٍّ ماجد
شرفت به نسبًا وعزت أسلم

•••

تلك الحديبية المحبَّب ذكرها
للحق فيها منزل ومخيَّم
نزل الهداة بأرضها فكأنما
طلعت لأهل الأرض فيها الأنجم
يا مبرك القصوى أتلك رسالة
جاءتك أم هي من كلال ترزم؟
أبت المضي ولم يكن ليعوقها
لو شاء ربك مبرك أو مجثم
لو شاء أرسلها فزلزل مكة
خطبٌ يضجُّ له الحطيم وزمزم

•••

أبديل أقبل في رجالك والتمس
علم اليقين لمن يظن ويزعم
قال النبيُّ أتيتُ غير مُحاربٍ
وانظر فإن الحرب لا تتلثم
الهديُ حولك والسيوف كما ترى
مقروبةٌ وكأنما هي نوَّم
ما جئت إلا للبنِيَّة زائرًا
أقضي لربي حقها وأعظِّم
إرجع إلى القوم الغضاب وقل لهم
ردُّوا النفوس إلى التي هي أقوم
إن تمنعوا البيت العتيق يكن لكم
يوم من الحدثان أربد أقتم
البيت بيت الله جل جلاله
ولَنحن أولى بالمناسك منهم

•••

نصح ابن ورقاءَ الرجال فيا له
من ذي مناصحة يُسَبُّ ويُشتم
قالوا أنذعن صاغرين؟ وأقسموا
أن ينبذوا المثلى فبئس المقسم
وتتابعت رسلٌ فمنهم غادر
يبغي الفساد وحاذر يتأثم
ومقَسَّم الأخلاق يحسن مرة
ويسيء أخرى في الحوار فيعرم
أهوى على يده المغيرة ضاربًا
لولا الأناة لطار منه المعصم
ما انفكَّ يضربه بمقبض سيفه
والسيف يُغضي والمنية تحلم
أسرفت عروة فاقتصد واقبض يدًا
ريع السماكُ لها وغيظ المرزم
كيف ارتقيت إلى محلٍّ ما له
راقٍ ولو أن الكواكب سلم؟
أبلحية المختار تمسك؟ إنها
لتُصان في حرم الجلال وتعصم
أحسنت قولك في الذين ذممتهم
وأبى الذين طغوا فأنت مذمم
عابوك إذ قلت الصواب جهالة
أيعاب من يأبى النفاق ويوصم؟
صدق الحُليس فأوجعوه ملامة
والقوم لليقظ المسدد لوَّم
بعث الهداة الهَدْي ثمت أقبلوا
يلقونه فعناه همٌّ مؤلم
جاءوه شعثًا يرفعون لربهم
صوتًا يردده الأصم الأبكم
فهفت جوانحه وقال على أسًى
سبحان ربي ما لنا نتجرم؟
سبحانه أنصدُّهم عن بيته؟
إنَّا إذًا قوم نجور ونظلم
مولى الأحابيش الذين تألهوا
لا يتبعون سبيل أقوام عموا
نبذتْ قريش رأيه واستكبرت
والغيُّ أنكد ما علمت وأشأم

•••

اذهب خراشُ إلى قريش ناصحًا
فلعلها تبغي الصواب فتفهم
عقروا بعيرك ناقمين وأوشكوا
أن يقتلوك فليتهم لم ينقموا
لولا الأحابيش استُحلَّ بظلمهم
منه دم ما يُستحلُّ محرم

•••

ذهب ابن عفان إليهم يبتغي
أن يؤثروا الرأي الذي هو أحزم
فأبوا وقالوا لا فكاك لكم وما
نحن الألى نأبى الهوان فنرغم
هم أمسكوه ثلاثة في صحبه
ورموا بها ملمومة تتقحم
أفلا رعوا رسل النبي وصهرَهُ؟
إن العقول على المراس لتعقم

•••

دبَّ ابن حصن في الظلام فراعه
يقظان مثل الصلِّ ليس يُهوِّم
حمل ابن مسلمة فغادر صحبه
ومضى فلا رجع الجبانُ الأيهم
جاءوا المعسكر أربعين يقودهم
أسرى عليهم للمذلة ميسم
وأتى الرماة فجال في أحشائهم
سهم تظل به السهام تحطم
منع الأسى وشفى كلوم قتيلهم
شكوى قلوب من قريش تكلم
أشقى الأذى والغدر جدَّ رجالهم
وجرى لهم بالسر طَيْرٌ أسحم
سقطوا فحسب القوم ما يجدونه
وكفى شهيد الحق ما يتسنم

•••

بعثت قريش أطلقوا أصحابنا
وخذوا الرهائن والأسارى منكم
صُدموا بقارعة تفاقم صدعها
لولا سفاهة رأيهم لم يصدموا
لولا الضراعة من سهيل هَدَّهُمْ
بأس تُهدُّ به الجنود وتهدم
بئس المآب لعصبة تأبى الهدى
بيضًا معالمه ونعم المقدم
يا تارك الطغيان يعبس جده
أقبل فجدك مقبل يتبسَّم
من حق ذي النورين أن يدَع الدجى
خزيان يُطعم وجهه المتجهم
أإليك مد ذوو العمى أظفارهم؟
فانظر إلى الأظفار كيف تُقلَّم

•••

هي بيعة الرضوان لم تترك لهم
ليلًا ينام ولا صباحًا ينعم
سهد يشق على العيون مبرح
وأسى يعَضُّ على القلوب مسمَّم
فكأنما في كل عين مِبرد
وكأنما في كل قلب أرقم
المسلمون يبايعون نبيهم
يستمسكون بعروة ما تُفصم
لا يحسبون دم المجاهد مَغرمًا
هو عندهم إن لم يُرِقه المغرم
إن ضمَّهم عند الشهادة موردٌ
لذَّ المذاق لهم وطاب المطعم
الله مولاهم ونصر رسوله
حقٌّ عليهم في الكتاب محتَّم
نهضوا خِفافًا لو رأيت جموعهم
لعلمت أن الناس إيمانًا هُمُ
ما منهمُ إلا على يَدِهِ يَدٌ
لله ينظر نورها المتوسم
لُثِمَتْ بإيمان القلوب وإنها
لَتُرَى على مرِّ الزَّمان فتُلثَم
نعم العطاء لمعشر ما بينهم
نكِد يُردُّ ولا شَقِيٌّ يُحرم
ما جلَّ مدَّخر فخيم شأنه
إلا الذي اذخروا أجلُّ وأفخم

•••

هذا سهيل جاء يحمل سؤلهم
ويعيب ما صنع الرماة ويندم
ويقول دعها يا محمد خطة
يُرمى بها الشرف الرفيع فيُثلم
إنا نخافُ العارَ فَلْيَكُ بيننا
صلح ندين به وعهد مبرم
الحرب تُوضَع بيننا أوزارها
وتعود إن جمع الحجيجَ الموسمُ
لكَ من سلاحك ما تقلَّدَ مُنجد
يبغي السلامة أو تزوَّدُ مُتْهِمُ
واجعل سيوفك في الغمود ولا تضق
بالشر يُدرأ والمضرة تحسم
حدُّ المقام ثلاثة فإذا انقضت
فدعوا منازلنا ويثربَ يمِّموا
من جاء منكم لا يُردُّ ومن يجئ
منا فمردود إلينا مسْلَم
هذا الذي نرضى فهل من كاتب
يشفي الصدور بما يخطُّ ويرقم؟

•••

رَضِي النبيُّ يريد رحمة ربه
هو عبده وهو الأبرُّ الأرحم
صاح الرجال وراح فاروق الهدى
يهتاج في برديه فحل مُقرِمُ
ويقول للصدِّيق من هو يا أبا
بكر؟ وأية ملة نترسم؟
أهو الرسول ونحن نتبع دينه؟
فلمَ الهوان؟ وما لنا نستسلم؟
اللين من خلق الضعيف ودأبه
ومن العجائب أن يلين الضيغم
مهلًا هداك الله والزم غرزه
إن كنت تطلبُ خير غرزٍ يُلزم
إهنأ أبا بكرٍ قضيت بحُجَّةٍ
صدَع اليقين بها وأنت مترجم
وأبو عبيدة إذ يعوذ بربه
يخشى بوادرَ صدعُها لا يُلأم
يرقى من الفاروق نفسًا صعبة
تأبى عوارمها إذا ما تُعجم
قال النبيُّ كفاك يا عمر اتَّئد
فالحق في سلطانه لا يهزم
أرضى وتأبى أنت؟ إن وراءنا
لو كنت تعلم ما نحبُّ ونرأم
إني رسول الله ليس بخاذلي
والله يقدر ما يشاء ويقسم
الأمر غيب ما لمثلك مطمع
في علمه والغيب باب مبهم

•••

اكتب عليُّ فلن ترى من جامح
إلا يُزمُّ على الزمان ويُخطم
وأبى سهيل أن يكون كتابه
سمحًا عليه من النبوة روشم
قال امح باسم الله وامح رسوله
أتريدها صابًا بسمٍّ تؤدم؟
الدين مختلف وليس لنا سوى
ما كان أورثنا الزمان الأقدم
فأبى عليٌّ ما أراد وهاجه
حرد الأبيِّ فغيظه ما يكظم
قال النبيُّ افعلْ وسوف بمثلها
تسقى فتغضي الطرف وهي العلقم

•••

نظر ابن عمرو نظرة فرأى ابنه
يبغي الخطى عجلى ويأبى الأدهم
قال ارجعوه فذاك أول عهدكم
فلئن أبيتم لَهْوَ عهد أجذم
وانقضَّ يضربه فيا لك مسلمًا
في الله يُضرب من أبيه ويلطم
رقَّتْ قلوب المسلمين لخطبه
فجوانحٌ تهفو ودمع يسجم
أخذ النبيُّ بثوبه فأعاده
يبني لأمته البناء ويدعم
قال انقلب وكفى بربك حافظًا
إنَّ التوكُّل للسلامة توأم
فمضى يقول ألا ذمامٌ لامرئٍ
يبغي الفرار بدينه يستعصم؟
عُدْ في قيودك واصطبر إن الأذى
لأضرُّ ما انتجع الرجال وأوخم
كم للألى اتَّبعوا الهدى من مغنم
في حرمة تُلغَى وحقٍّ يهضم
خير على خير يضمُّ ركامه
شرٌّ على شرٍّ يضم ويركم
يترنَّم الباكي وإن بلغ الأسى
منه ويبكي الناعم المترنم
أخذوا الصحيفة فَهْيَ في أوهامهم
كالكنز يأخذه الفقير المعدم
طاروا بها فرحًا وبين سطورها
دهياءُ بارزةُ النَّواجِذِ صَيْلَم
نصرٌ مضى لمظفَّرينَ أعزَّةٍ
لم يمضِ منهم مخذم أو لهذم
ليس التصرف للقواضب إنها
بالرأي تحكم في الرقاب وتُحكم
للبغي حينٌ ثم يقصم صلبه
والعدلُ صلبٌ قائمٌ ما يُقصم
ولقد يُقامُ العرسُ من سفه الألى
فرحوا وأولى أن يُقام المأتم
مِنْ مكرمات الحق أن وليَّه
بأشدِّ ما يرمى يُعانُ ويخدم
وأحق من حمل اللواء مجاهد
ماضٍ على هول الخطوب مصمِّم
وَفِّ المطالب حقَّها واصبر تَفزْ
ما خاب إلا من يملُّ ويسأم
هذا نظام للشعوب ومنهج
حق يراه فصيحها والأعجم
نزل الكتاب به فأيقن مهتد
وارتاب ضلِّيل ولجَّ مرجِّم
طبُّ الهدى الشافي وأعجب ما أرى
طبُّ تصحُّ به النفوس وتسقم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤