الحكاية رقم «٥٠»

في زمن مضى لم أدرك منه إلا ذيله كانت الفتْوَنة هي القوة الجوهرية في حارتنا، هي السلطة، هي النظام، هي الدفاع، هي الهجوم، هي الكرامة، هي الذل، هي السعادة، وهي العذاب!

جعلص الدنانيري فتوَّة خطير، ومن أشد الفتوات تأثيرًا في حياة حارتنا، يجلس في المقهى كالطود أو يتقدَّم موكبه مثل بنيان ضخم، وأنظر إليه بانبهار فيشدني أبي من يدي قائلًا: سِر في حالك يا مجنون.

وأسأل أبي: أهو أقوى من عنترة؟

فيقول باسمًا: عنترة حكاية، أما هذا فحقيقة والله المستعان.

وهو عملاق مترامي الأطراف طولًا وعرضًا، ذو كرش مثل قبة جامع، ووجه في حجم عجيزة ست أم زكي، يتمايل فوق صهوة حصانه كالمحمل، ولكنه سريع الانقضاض كالريح، ويلعب بالنَّبُّوت في رشاقة الحواة، وعند القتال يقاتل بنَبُّوته ورأسِه وقدمَيه وأتباعه.

لا يُسمَع صوته إلا مزمجرًا أو هادرًا أو صارخًا، ودائمًا قاذفًا سيلًا من الشتائم، يخاطب أحباءه بيا ابن كذا وكذا، يسبُّ الدين وهو ذاهب للصلاة أو راجع منها، لا يُرى باسمًا أو هاشًّا حتى وهو يتلقَّى الإتاوات ويُصغي إلى الملَق، يستوي في ذلك عنده صاحب الوكالة وحمودة القوَّاد، وعلى مسمع ومرأى من وجهاء الحارة وأعيانها يضرط أو يكشف عن عورته!

يعجز مرةً أحد التجار عن دفع الإتاوة فيستمهله أسبوعًا، ولكنه لا يقبل فيُضطَّر الرجل إلى البقاء في بيته مع الحريم حتى يجيئه الفرج.

ويعاقب ناظرُ المدرسة ابنَ أحد أتباعه فيعترضه لدى مغادرته المدرسة، ويأمره بأن يخلع ملابسه ليذهب إلى بيته عاريًا، يتوسل إليه الناظر أن يعفو عنه ويستحلفه بالحسين وقبر الرسول، وجعلص متجهِّم متوثِّب ينتظر تنفيذ أمره، ويُضطَّر الناظر إلى أن ينزع ملابسه قطعةً فقطعة وهو يبكي، يتوقَّف عندما لم يبقَ إلا السروال، فيزمجر الدنانيري، فيرتعد الرجل ويخلع سرواله ثم يستر عورته بيدَيه ويجري نحو مسكنه مُشيَّعًا بقهقهات العصابة.

وهو يهزأ من التقاليد الراسخة، فلا يتردد عن إجبار شخص على تطليق زوجته ليتزوَّجها، وهو كثير الزواج والطلاق، ولا يجرؤ أحد على الزواج من إحدى مُطلَّقاته فيلقين الحياة وحيدات يتسوَّلن أو ينحرفن.

ويمرض يومًا، فيلازم الفراش أسبوعًا، ويخبره أحدُ قُرَّاء الغيب بأن ما أصابه إنما أصابه نتيجة لدعاء بعض أهل الحارة عليه، فلما يبرأ من مرضه يأمر بألا يحتفل أحد بعيد الفطر المبارك، حتى زيارة المقابر حُرِّمَت علينا، وتمُرُّ أيام العيد والحارة خالية والدكاكين مُغلَقة والبيوت صامتة ويغشانا ما يشبه الحِداد.

أيامه أيام رُعب وجُبن وذُل ونفاق، أيام الأشباح والأنَّات المكتومة، أيام الشياطين والأساطير المخزية، أيام التعاسة واليأس والطرق المسدودة.

ولكنه يرعب أيضًا الحارات المجاورة، ويسحق فتوَّات الحسينية والعطوف والدرَّاسة، فتمضي زفة العريس من حارتنا بلا حراسة، ويتجنَّب الناس وَقْع خطانا اتقاءً لتجهُّم المقادر.

•••

ويُقدَّر لهذا الجبل الشامخ أن ينهار فيما يشبه اللعبة.

يُدعى إلى فرح في الدرب الأحمر، وعند مدخل البيت يتقدَّم منه غلام ويقول له: يا عم.

فينظر إليه من علٍ باستغراب ويسأله: ماذا تريد يا ولد؟

وبسرعة البرق.

أجل بسرعة البرق يُخرج من جلبابه سكينًا فيطعنه في أعلى الكرش، ثم يشد السكين وكأنه يتعلَّق بها حتى المثانة!

بسرعة البرق وقعَ ذلك.

ويتجمَّد جعلص الدنانيري كأنما دهمه نوم، وتنحطُّ معدته خارج جسمه، ثم يتهاوى كعمارة بكل ما يتضمَّن من قوة وإقدام ووحشية وثقة في النفس والدنيا.

ويُتبَيَّن أن الغلام ابن أحد ضحاياه من كفر الزغاري، درَّبَته أمه وأعَدَّته لتلك اللحظة.

•••

ويجتاح الخبر حارتنا كالنار المستطيرة، نذهل ونفزع ونبكي ونصرخ.

ونتمعَّن الخبر ونتبادل النظر فيتسلل إلى جوانحنا استرخاء وأمان وامتنان وفرح.

ويستقر بنا الحال، فنؤمن بأن علينا أن نحزن رغم أننا فرحون، وأن علينا أن نغضب رغم أننا راضون، وأن علينا أن ننتقم رغم أننا شاكرون.

ويضرُّ بنا موته كما أضرَّتْ بنا حياته، وتكفهِرُّ الحياة بلعنات الشياطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤