مقدمة

الاختيار الحاسم

سيقدم لك هذا الكتاب يد العون لتحسين كفاءتك الشخصية في توظيف أفضل الأشخاص وترقيتهم.

لا شيء يفوق ذلك الأمر أهمية فعليًّا؛ ذلك أن النجاح الشخصي، بالنسبة إلى كل مدير تقريبًا، ينبثق مباشرةً من قدرته على اختيار الشخص المناسب للانضمام إلى فريقه.

لكن إجراء التعيينات الرئيسية لا يخلو من صعوبة؛ فقليلًا ما ينال المسئولون عن هذه العملية الحيوية أيَّ تدريب منهجي يُذكر، وليس ثمة أدوات متكاملة لتعويض هذا التدريب المفقود.

ما يقوم به هذا الكتاب هو ملء هذه الثغرة.

إن الأفراد — كما تبيَّن لك خلال مسيرتك المهنية — يمثلون قلب المؤسسات. لا يهم ما إذا كانت مؤسستك بدائية، أو تعتمد على التكنولوجيا العالية، أو تتبنى سياسة لا مركزية، أو تنفذ بعضًا من عملياتها في دول أجنبية، أو تؤدي خدمات لمؤسسات أخرى، أو تعتمد على التشغيل الآلي (أو هكذا «تعتبر» نفسها، على الأرجح)؛ فمؤسستك في نهاية المطاف ليست سوى موظفيها.

أمور كثيرة تؤرِّق المديرين: ضعف التدفقات النقدية، واحتمال مواجهة دعاوى قضائية، وفشل استراتيجيات، وإخفاق عمليات دمج وشراء، وتحركات مباشرة من المنافسين لتقويض خط إنتاج يدِرُّ أرباحًا، وما إلى ذلك. أما المديرون الناجحون فغالبًا ما يجافيهم النوم لسبب آخر؛ ألا وهو الموظفون؛ إذ لا ينفكُّون يسألون أنفسهم: «كيف لي أن أضع الشخص المناسب في الوظيفة المناسبة؟»

ومثلما يشكل الموظفون مشكلة، ففيهم يكمن الحل. كيف يتسنَّى لمدير ما أن يحلَّ مشكلة خطيرة؟ إنه عادةً ما ينبري للبحث عن موظفين أكْفاء، سواءٌ داخلَ جدران المؤسسة أو خارجَها.

عادةً ما تزدهر تلك المؤسسات التي تُجيد حل «معضلة الموظفين»؛ أي العثور على أنسب أشخاص لكل وظيفة، واستقطابهم، وتعيينهم، وترقيتهم، واستبقاءهم. (أخبرني جاك ويلش أنه، على مدار سنوات عمله في شركة جنرال إلكتريك، كان يُمضي ما يزيد على نصف وقته في تعيين الأشخاص المناسبين في الوظائف المناسبة.) أما المؤسسات التي لا تُحسن تلك المهمة فغالبًا ما يكون مصيرها الفشل على المدى الطويل.

لكن الحق هو أن الأشخاص هم الذين يحلُّون المعضلات فعليًّا، لا المؤسسات. تضم كل مؤسسة عددًا ضخمًا مثيرًا للدهشة من الأفراد — وربما تكون أنت واحدًا منهم — منوطًا بهم القيام بخيارات محورية فيما يتعلق بالموظفين.

قد تكون جزءًا من فريق الموارد البشرية المكلَّف رسميًّا باتخاذ هذا النوع من القرارات يوميًّا، أو ربما تكون عضوًا من أعضاء مجلس الإدارة الذي ستُطلب منه — مرةً أو مرتين خلال فترة عضويتك فيه — المشاركة في اختيار رئيس تنفيذي جديد أو غيره من كبار المسئولين التنفيذيين. لكنك على الأرجح جزء من فريق أكبر يقع في «المنتصف»؛ ألا وهو فريق المديرين المطلوب منهم أحيانًا اتخاذ قرار متعلق بالعاملين في أقسامهم أو مجالاتهم الوظيفية.

تُعتبر هذه القرارات ذات أهمية حيوية، وأعني بكلمة «أهمية» شيئين:

(١) أنها قرارات ذات أهمية حيوية بالنسبة إليك أنت

أولًا (وهذا هو السبب الأساسي وراء تأليفي لهذا الكتاب): قرارات اختيار الموظفين مهمة بالنسبة إليك أنت كصانع للقرار. ولو أثبتَّ كفاءتك في حل «معضلة الأشخاص»، فمن المؤكَّد أن ذلك سيفتح لك آفاقًا مهنية أكثر إشراقًا. وعلى النقيض، لو تكرر إخفاقك في اختيار الشخص المناسب للوظيفة، فإن ذلك سيضر بفرصك في حياتك المهنية. حاول أن تتأمَّل تجارِب من سبق وعملت معهم. أتتفق معي أن الناجحين في اختيار الأشخاص المناسبين يرتقون، بينما يرحل الآخرون؟

تكمن المشكلة في أنه نادرًا ما يتلقى الأشخاص المعنيُّون أيَّ تدريب منهجي يؤهلهم لإيجاد الموظفين المتميزين واختيارهم. عادةً ما تُقلِّص كليات إدارة الأعمال، خاصةً على مستوى الدراسات العليا، الموضوعات المندرجة تحت مادة إدارة الموارد البشرية في العموم، أو — في أحسن الأحوال — تركز على إدارة الموارد البشرية باعتبارها مجرد فرعٍ ثانوي من ستة مجالات وظيفية؛ إنهم نادرًا ما يُعِيرون اهتمامًا لبناء المهارات المطلوبة.

في سبيل توضيح هذه النقطة، أعمد أحيانًا إلى تشبيهها بالاستثمار. أتود أن تكون مستثمرًا ناجحًا مثل وارن بافت، على سبيل المثال؟ أنا أود ذلك أيضًا! أتحب أن تصير كذلك دون أية مهارات أو خبرات ملائمة؟ أتمنى ذلك أيضًا. لكن ذلك يبدو هدفًا مستبعدًا؛ فلكي تصبح ناجحًا في اختيار الأشخاص كنجاح وارن بافت في الاستثمار يلزمك أن تصير خبيرًا وأن تمتلك الأدوات الصحيحة.

يضع هذا الكتاب تلك الأدوات بين يديك. يعد هذا الكتاب دليلًا شاملًا للمديرين الذين يرغبون في تحسين كفاءتهم الشخصية في تعيين الموظفين وترقيتهم. تلك الكفاءة ليست فنًّا، بل مهارة بإمكانك — ويلزمك — أن تتعلمها.

(٢) أنها قرارات ذات أهمية حيوية بالنسبة إلى مؤسستك

النقطة الثانية التي أود الحديث عنها هي أن اتخاذ قرارات اختيار الموظفين تمثل أهمية حيوية لمؤسستك؛ فاختيار الرئيس التنفيذي المناسب — مثلًا — من الأهمية بمكان، وبرغم ذلك نجد أن حوالي ثلث الرؤساء التنفيذيين الذين يغادرون مواقعهم يغادرونها على إثر فصلهم أو إجبارهم على الاستقالة. ما الخطأ الذي نرتكبه؟ الأمر ذاته ينطبق على مستويات المؤسسة الأخرى. بحسب دراسة شاركت في إجرائها وتناولنا فيها بالبحث آلافًا من المسئولين التنفيذيين في شركات رائدة حول العالم، تبيَّن أن ما يقرب من ثلث المسئولين الذين شملتهم الدراسة يقعون في النصف الأدنى من منحنى الجدارة بالنسبة لنظرائهم من العاملين في شركات أخرى بنفس مجالاتهم.

هذا الأمر يعني، بعبارة أخرى، أنه حتى الشركات الكبرى لا تنجو من هذا المأزق؛ إسناد الوظائف غير المناسبة للأشخاص غير المناسبين. أمَا من مخرج لهذا المأزق؟

(٣) مؤهلاتي

قبل أن نمضي قدمًا في الكتاب، لعلك تتساءل عن مؤهلاتي. بمعنى آخر، من أنا كي أخبرك بما هو مهم بالنسبة لك؟

لقد أمضيتُ عَقدين من عمري في مجال إيجاد الأشخاص المتميزين وتنميتهم. بدأت مسيرتي في موطني الأرجنتين عندما تلقيت تدريبًا كمهندس صناعي في جامعة الأرجنتين الكاثوليكية وحللتُ في المركز الأول على فرقتي، ثم نلت ماجستير إدارة الأعمال مع مرتبة الشرف من جامعة ستانفورد. عملت في البداية بشركة ماكنزي آند كومباني في مدريد وميلان، والتحقت في عام ١٩٨٦ بشركة إيجون زندر إنترناشونال الرائدة في مجال البحث التنفيذي العالمي، واليوم أنا شريك في هذه الشركة وعضو بمجلسها التنفيذي. بالرغم من أني أعيش مع أسرتي في بوينوس أيريس، فإن دوري عالميُّ النطاق، ودائمًا ما أسافر حول العالم.

ربما تحتاج عبارة «البحث التنفيذي» إلى بعض التفصيل في هذه المرحلة. يشمل البحث التنفيذي ما يطلق عليه البعض «استقطاب الكفاءات»، وهو تعيين مرشحين خارجيين لشغل مناصب عليا في كلٍّ من المؤسسات الربحية وغير الربحية. وقد أدرتُ شخصيًّا مَهمة القيام بما يقرب من ٣٠٠ بحث كهذا، وشاركت بفاعلية في حوالي ١٥٠٠ بحث آخر. شملت عمليات البحث مناصب في أعلى المستويات الوظيفية (رؤساء مجالس الإدارة، ورؤساء الشركات، والرؤساء التنفيذيين) وصولًا إلى المديرين المبتدئين. وأديت هذا الدور لكثير من الشركات، بعضها كان يبلغ حجم إيراداتها السنوية مليارات الدولارات وبعضها كان متناهيًا في الصغر، ولعدد من الهيئات غير الحكومية، والمؤسسات، والجهات غير الربحية. كان معدل النجاح الذي أُحرزه في تعيين المرشحين الخارجيين يفوق دائمًا حاجز التسعين في المائة، وهو ما يعد نسبة عالية للغاية بالنظر إلى أن التعيينات الخارجية عادةً ما تتم في ظروف حرجة على نحو خاص.

غير أن البحث التنفيذي، في تعريفه الأوسع، يشمل أيضًا «تقييم الإدارة»، وهو عبارة عن تقييم المديرين العاملين في مؤسسة العميل. ولهذا النشاط أهمية محورية في ظروف معينة؛ ففي حالة الدمج أو الاستحواذ، مثلًا، يتوجب على الشركة أن تقرر كيفية توزيع مواردها الإدارية (وقد تصل هذه القرارات إلى حد الإبقاء على مَن والاستغناء عن مَن) أو في حال أراد رئيس تنفيذي جديد أن يقيِّم فريقه تقييمًا سريعًا ومهنيًّا يتميز بالدقة والاستقلالية، مثلما يُطلَب مني كثيرًا. بالإضافة إلى ذلك، تلعب تقييمات الإدارة دورًا مفيدًا حين تواجه الشركة وضعًا تنافسيًّا محتملًا جديدًا أو عندما تبرز فجأةً تغيرات تكنولوجية أو تنظيمية تعيد صياغة قواعد اللعبة. في جميع تلك الحالات، لا يقتصر عملي وعمل فريقي على تقييم الجدارة (القدرة الراهنة على أداء وظيفة راهنة)، بل يمتد العمل إلى تقييم إمكانية التطور لدى الأفراد، فنقدم الاستشارات المتعلقة بالترقيات، ونسند أدوارًا جديدة للأفراد، ونطرح خططًا للتطوير، إلى غير ذلك من المهامِّ التي تتعلق بمرشحين داخليين في الأساس.

كان نشاطنا الخاص بتقييم الإدارة حول العالم يجري تحت قيادتي لبعض الوقت، وعدنا مؤخرًا لعقد مقارنة بين ما أجريناه من تقييمات والأداء والتطور الفعليين للمديرين الذين خضعوا لتقييمنا، واكتشفنا مجددًا أن دقة توقعاتنا الخاصة بالأداء وإمكانية التطور على مستوى العالم ناهزت ٩٠ في المائة، بينما وجدنا أن التقييمات الداخلية في شركات بعض عملائنا لم تتجاوز دقتها ٣٠ في المائة.

لا أذكر كل ما سبق على سبيل المباهاة، ولكن لِأُبرز أمرين: أولهما هو أنني أملك خبرة واسعة في قرارات اختيار الموظفين ولديَّ معرفة وثيقة بهذه الميدان. وثانيهما هو أن الإرشادات التي تتضمنها دفَّتا هذا الكتاب تغطي سائر مراحل عمليتَي التعيين والترقية؛ من خارج نطاق الشركة وداخله.

يجدر بي أن أضيف أنني أحمل التزامًا فكريًّا قويًّا تجاه مجالي، ففي ١٩٩٤ — وعلاوةً على عملي في البحث التنفيذي — توليت مسئولية التطوير المهني للاستشاريين العاملين في شبكتنا العالمية، وأقود حاليًّا تنمية ما تملكه شركتنا من رأس مال فكري في شبكتنا المكونة من ٦٢ مكتبًا حول العالم. وخلال عَقد التسعينيات من القرن الماضي، اضْطَلَعْتُ بجهد بارز للارتقاء بمنهجية العمل المتبعة في نشاط البحث التنفيذي. وفي الآونة الأخيرة قُدت مرة أخرى جهدًا مماثلًا لتحسين ما نقدمه من عونٍ لعملائنا لتعيين أو ترقية أفضل أشخاص على مستوى العالم.

لا أبالغ إن قلت إنني قرأت آلافًا من الكتب والمقالات التي تتناول موضوع قرارات اختيار الموظفين بشكل أو بآخر، وكتبت مقالات نُشرت في مجلة «هارفارد بزنس ريفيو» ومجلة «إم آي تي سلون مانجمنت ريفيو»، وأسهمتُ في تأليف فصل من فصول كتاب «مقر العمل المُدار بذكاء عاطفيٍّ»، وهو الكتاب الذي حرره كلٌّ من دانيال جولمان وكاري تشيرنيس، كذلك شاركت كلًّا من جاك ويلش في تأليف كتابه «الفوز» وجيم كوزيس في آخر طبعة من كتابه «تحدي القيادة».

وأخيرًا فإن لديَّ شغفًا بمساعدة الآخرين في تحسين ما يتخذونه من قرارات تخص التعيين والترقية. إنني أومِن بصدقٍ أن العالم سيصير أفضل كثيرًا لو طَرأ تحسُّنٌ ملموس على قرارات التعيين والترقية على جميع المستويات، بدءًا من ورشة الإنتاج وانتهاءً بمجلس الإدارة، وأُومِن أن ذلك ممكن. إنني أرى أن لديَّ من المهارات — ومن ثَمَّ الالتزام — ما يؤهلني للمساهمة في تحقيق هذا التحسُّن.

(٤) ما ستجده هنا

في أول فصلين من هذا الكتاب، سأتعمق في بيان أسباب أهمية قرارات اختيار الأشخاص المناسبين لك ولمؤسستك.

بعدَها أقدِّم في الفصل الثالث شرحًا للأسباب التي تؤدي إلى صعوبة هذه القرارات. أجَلْ، يكمن جزءٌ من المشكلة في مجموعة الكوادر المتاحة، لكن الجزء الأكبر يقع في عين المسئولين عن الاختيار. في كثير من الأحيان، يرتكب القائمون على عملية البحث خطأً أو أكثر من سلسلة أخطاء تكتيكية تجتمع كلها لتجعل من إحراز أي نجاح أملًا صعب المنال.

تتناول الفصول من الرابع إلى السادس الإجابة على تساؤلات متى وماذا وأين: متى تبدأ البحث؟ وما الذي تبحث عنه؟ وأين تبحث؟ سوف أخبرك خلال هذه الفصول — وفي أجزاء أخرى من الكتاب — كيف ومتى تستعين بمساعدة الخارج، وسوف أوضح لك لماذا يعد القرار بحصر البحث في داخل شركتك فكرة غير سديدة (في معظم الشركات على الأقل).

بطبيعة الحال، يدور الكتاب في معظمه حول كيفية اتخاذ قرارات تعيين الموظفين المتميزين: كيفية تقييمهم، وجذبهم، وتحفيزهم، ودمجهم. يختص الفصل السابع بمناقشة التفاصيل الخاصة بتقييم الموظفين. يظن الكثيرون أن هذه العملية بديهية: تحضر المرشح للوظيفة، وتُجري معه مقابلة، ثم تتصل بالجهات المرجعية الخاصة به. لكن من واقع خبرتي، فإن كل واحدة من هذه المهام أعقد مما قد تبدو عليه في بداية الأمر. لنأخذ مثالًا: كيف تتصل بجهات مرجعية في بيئة يخشى الجميع فيها من الملاحقة القانونية إذا ما كشفوا لك الحقيقة السلبية بشأن موظف سابق؟ (الجواب: تعمَّق في البحث. سأبين لك كيفية ذلك.) أينبغي السماح للموظفين ذوي الدرجات الأدنى من تلك التي يتقدم إليها المرشحون بالمشاركة في تقييمهم؟ (الجواب: كقاعدة عامة، لا.)

وربما قد اكتشفت بنفسك أن إيجاد الشخص المناسب ليس كافيًا، فعليك أن تنجح في استقطابه، مقدمًا له الحوافز المناسبة، ثم دمجه في محيطه المؤسسي الجديد. بالرغم مما شهدناه مؤخرًا من إنتاج غزير للكتب والمقالات التي تتناول مسألة الدمج، فإن كثيرًا من الشركات لا تزال تتوقع خطأً أن يتحمل المرشح وحدَه مسئولية النجاح أو الإخفاق في وظيفته الجديدة.

في الفصل الأخير أعود مجددًا لأناقش أسباب أهمية هذه القرارات. إنني أعتقد أن المؤسسات ذات الأداء المتفوق لا تكتفي بنجاحها في توظيف الأكْفاء وإدرار الأرباح على مالكيها، بل تسعى للارتقاء بمجتمعنا؛ فالشركة العظيمة الغنية بالموظفين المتميزين ترفع من مستوى معيشتنا، وتُعلي من تطلعاتنا، وتوسع من آفاق رؤيتنا، وتمنحنا أملًا في المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤