الفصل الثاني

وكان الآذنُ بذلك الخروجِ نزولُ جيش فرنسي يقوده الجنرال بونابرت بأرض مصر في صيف سنة ١٧٩٨، وتصميم الدولة العثمانية على إجلائهم عنها.

ولم يكن ذلك الغزوُ أول إغارة للفرنسيين عليها؛ فقد حاولوا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر امتلاكَها، وتلاقتْ صفوة فرسانهم بمماليك مصر في أكثر من موقعة.

ولكن شتان ما بين مصر بيبرس ومصر مراد وإبراهيم، وشتان ما بين فرنسيي الملك القديس لويس وفرنسيي الثورة الفرنسية وبونابرت!

مصر بيبرس محور ذلك العالم العربي الذي اكتسب مقوماته وانفرد بشخصيته على أثر انهيار الخلافة العباسية، وهو اجتماعٌ يتركب من طوائفَ وجماعاتٍ لها شخصيتها وقانونها وعُرفها ووظيفتُها، فمن أصحاب السيوف إلى أصحاب الأقلام، ومن أهل الفلاحة للأصناف (أصحاب الصناعات)، ومن أرباب السجاجيد إلى هيئات التدريس وهَلُمَّ جَرًّا، ويكتسب ذلك الاجتماع الصاخب حيويتَه من حكم الجماعات نفسها بنفسها، كما يكتسب لونًا من التنسيق والانسجام من شخصية السلطان، يدفع الناس بعضهم ببعض ويحاول أن يخضع الأهواء والمصالح لجهود عامة في تحقيق مثل عليا تهم الناس جميعًا.

ولكن كانت آفة ذلك الاجتماع ما صحبه من سرف وتبديد كان من شأنهما — على توالي الزمن — وضع أعباء على الطوائف المنتجة من أهل الفلاحة والصناعة والتجارة، أنهكتْ قُواها الحسية والمعنوية، وكانت آفته الأخرى — من أول الأمر — انصراف الناس نحو شئونهم الخاصة بأشخاصهم وجماعاتهم وابتعادهم عن الشئون العامة واعتبارهم إياها «سياسة عليا» كما نقول الآن، هي مما ينبغي النظر فيه للسلطان والأمراء، وليست مما ينبغي للرعية، وقد وجدوا في تعليم أئمتهم ما يبرر إيثارهم العافية.

هذا حجة الإسلام نفسه «الإمام الغزالي» يقول في رده المشهود على الباطنية: «إنا لسنا نقدم إلا مَن قَدَّمَه الله تعالى، فإن الإمامة عندنا تنعقد بالشوكة، والشوكة تقوم بالمبايعة، والمبايعة لا تحصل إلا بصرف الله تعالى القلوبَ قهرًا إلى الطاعة والمُوالاة، وهذا لا يقدر عليه البشر، ويدلُّك عليه أنه لو أجمع خلقٌ كثيرٌ لا يُحصى عددهم على أن يصرفوا وجه الخلق عن الموالاة للإمامة العباسية عمومًا وعن المشايعة للدولة المستظهرية — أيدها الله على الدوام — خصوصًا لأفنوا أعمارهم في الحيل والوسائل وتهيئة الأسباب والوصائل ولم يحصلوا بالآخرة إلا على الخيبة والحرمان.»

وهاك في موضع آخر من الرسالة نفسها وصف الإمام لاغتصاب الترك سلطان الخلافة، قال: «قد سخر الله رجال العالم وأبطالهم لموالاة هذه الحضرة وطاعتها حتى تبددوا في أقطار الدنيا — كما نشاهد ونرى»، إن ثمن الحرية — كما يقول الإنجليز — هو الكدح والدأب والمراقبة، ولما كانوا يكرهون النصب أكثر مما يحبون الحرية؛ فقد عاشوا يستبد بأمرهم كل ذي همة وعزيمة.

وبينما كان العالم العربي على هذه الحالة، حدث تحول التجارة الكبرى إلى الطرق البحرية، كما حدث أيضًا انقسامُ العالم الإيراني على نفسه واستيلاء الدولة العثمانية على مصر وسوريا والجزيرة العربية والعراق والمغرب، والأمران لهما أسوأُ الآثار في الأقطار العربية وأهليها، فالأول: أدى إلى نقصان الموارد، وأسوأ من هذا: أدى إلى ضيق الأُفق — وهو شر من ضيق ذات اليد — إلى اعتزال الغير، إلى الركود، أما الثاني: فإن أهل مصر وسائر العرب لم يجدوا في الملك العثماني ما يعوضهم عما فاتهم: السلطان المستقل والمساهمة في الحياة الاقتصادية العامة، فلم يفتح لهم هذا الملك بابًا لأي جديد نظير ما أضافه الفتح العثماني من أعباء إلى أعبائهم السابقة، وإن شقاء أهل الأقطار العربية بعد ذلك الفتح لا يرجع إلى أن سلاطين الدولة وأمراءها لم يرغبوا رغبة صادقة في إحقاق الحق وفعل الخير وتثبيت العدل.

وهذا مؤرخ النظم العثمانية في مصر — وهو حسين أفندي من رجال الروزنامة، وقد كتب في أثناء الاحتلال الفرنسي لمصر — يقول عندما سُئل عن انتفاع السلطان بملك مصر: إن هذه المملكة جميعها ملكة وإنه لا ينظر إلى الانتفاع منها، بل رتب مصرفها على قدر جبايتها، وقرر أن ما فاض من الجباية يبقى لينفق منه في عمارتها وما ينعم به على الناس، إنما يرجع سوء الحال إلى الركود وانعدام الحوافز، وهما مما اقتضتْه طبيعة الحكم العثماني، هذا إلى ما جره تراخي قبضة الحكومة السلطانية من نمو العصبيات المختلفة في مصر، وقد عاثتْ هذه العصبيات في البلاد فسادًا، وزادتْ في فقر الأهلين، ونزلت بالمستويات الثقافية والفنية والمعنوية إلى أضعف ما عرفت مصر في تاريخها الطويل.

ولم تكن تلك العصبيات مما قصد السلطان سليم إلى خلقه بعد أن فتح مصر، كما يتوهم البعض عندما يزعمون أن ذلك السلطان أنشأ هيئة تسمى هيئة المماليك توازن باشا مصر العثماني من جهة، والحامية العثمانية من جهة أخرى، ولعل من يزعم ذلك اختلط عليه أمر عفو السلطان وإبقائه على بقايا مماليك السلطنة المصرية، وظن أن السلطان سليم وضع بذلك أساس هيئة المماليك.

والواقع أن النُّظُم العثمانية لا تعرف شيئًا عن هذا، إنما تعرف أن اختلال أمر الجند العثماني أتاح لكل من يملك مالًا أن يجمع حوله عصابة من رجال الحرب، ولم يكونوا دائمًا مماليك يشتريهم بماله، بل ربما كان أكثرهم من مرتزقة بربر المغرب أو بدو الصحراء أو السودان أو اليونان أو البشناق، وما إلى ذلك، كما أن «المملوكية» لم تكن خاصة بالأمراء وعصاباتهم فهي سارية أيضًا على رجال المناصب الحربية والإدارية الذين احتفظت السلطنة بحق إرسالهم من القسطنطينية نفسها، ويُماثل هذا النوع من العصبيات العصبيات العربية القبلية المنبعثة في الصعيد والدلتا.

وقد توهم الأستاذ الشيخ محمد عبده في مقالة ظالمة عن محمد علي نشرها الشيخ في مجلة المنار في سنة ١٩٠٢، وهي مقالةٌ سياسية صرفة، يود كل مقدر له أن لو لم يخطها؛ توهم الأُستاذ أن العصبيات السائدة في مصر عند الاحتلال الفرنسي تقابل بالضبط أمراء الإقطاعات الأوربية، وأن الأمراء المصريين اضطروا إلى أن يتخذوا من الأهلين أنصارًا، وأن ذلك «أحدث بطبعه في النفوس شممًا وفي العزائم قوة، وأكسب القوى البدنية والمعنوية حياةً حقيقية مهما احتقرت نوعها، فكانت العناصر جميعها في استعداد لأن يتكون منها جسمٌ حيٌّ واحد يحفظ كونه، ويعرف العالم بمكانته لولا محمد علي!»

هذا كله لا أصل له، لا في أوربا ولا في مصر، وقد غفل الأستاذ عن حقيقة مهمة: أن فعال تلك العصبات وفسادها في الأرض وقلة حيلتها في الحرب الجدية هي التي أغرت الفرنسيين بغزو مصر في ١٧٩٨، وأن الذي أخرج الفرنسيين من مصر لم تكن العصابات بل الأُسطول الإنجليزي والجيش الإنجليزي، وأن الذي خلق من مصر الجسم الحي هو محمد علي، وأن مصر محمد علي — لا مصر أبي الذهب ومراد وإبراهيم والشيخ همام والشيخ سويلم بن حبيب — هي التي بطل التفكير الأوروبي في امتلاكها بل وفي استغلالها في ظلال السلم!

•••

اصطدم أمراءُ مصر في صيف ١٧٩٨ بغربيين غير الغربيين الذين عرفهم السلاطين أيام الحروب الصليبية؛ ففي القرون الخمسة التالية لتلك الحروب تحول فارس العصور الوسطى — كما عرفه سان لويس وبيبرس — إلى الرجل الغربي الذي عرفه مراد والألفي والبرديسي في ١٧٩٨، خمسة قرون زال فيها النظام الإقطاعي وما ترتب عليه من طرق الحكم والحرب وعلاقات طبقات الأمة بعضها ببعض، خمسة قرون رأت انفصام وحدة الغرب الدينية والسياسية وظهور مناهج العلم الحديثة وطرق التنظيم السياسي والاقتصادي الجديدة، ولم يبلغ أهل مصر عن انقلابات الغرب إلا أضعف الأنباء، ولكن سرعان ما رأى الأمراء أن لا أساس لما زعموه: من أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم، وتمكن الفرنسيون من احتلال مصر.

وقد حكم الفرنسيون مصر مدة تزيد قليلًا على ثلاثة أعوام، وقد تخللت هذه المدة محاولة من جانبهم لفتح الولايات السورية، وضيق عليهم أثناءها حصارٌ بحري إنجليزي، وقام المصريون ضدهم كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأباد منهم الطاعون وغيره من الأمراض الوبائية عددًا لا يستهان به، وظل مراد ومماليكه ومن انضم إليه من عرب مصر والجزيرة شهورًا عديدة ينازعونهم ملك الصعيد شبرًا شبرًا، وأخدت تبطل التجارة البحرية ويقلُّ ورود قوافل دارفور وسنار وفزان وبرقة وغيرهما من بلاد الغرب.

ولم تَطِبْ للفرنسيين الإقامة بمصر؛ فقد وجدوها دون ما توقعوا وشق عليهم البعد عن وطنهم وبخاصة بعدما بلغهم من تألُّب الدول الأوروبية — من جديد — ضد فرنسا وإرغامها على التخلي عن فتوحها في إيطاليا وغيرها، وحتى مصر نفسها عرفوا معرفةً أكيدةً أن السلطان قد اعتزم ألا يتخلى عنها، وأرسل نحوها من ناحيتي البحر والشام جُموعًا من جنده قد لا تكون قيمتها الحربية مما يأبه له الغربيون، ولكنها — ولا بُدَّ — لها مع الزمن أثر.

لا بد من تذكُّر هذه الظروف عند الحكم على الاحتلال الفرنسي، ولا بد إذن من الفصل بين أمرين مختلفين تمامًا: الحكم الفرنسي كما كان، والحكم الفرنسي كما يُمكن أن يكون لو خلص مما انتابه من ظروف الحرب والفتن، واتسع له الزمن ليجري على أُسس الاستعمار الحديث.

ولا يُمكن الشكُّ في أن الفرنسيين لو خلص لهم ملك مصر لَحكموها كما ينتظر من حكومة جمهورية قائمة على قواعد الثورة الفرنسية، أُتيح لها — في عصر بدأ فيه الانقلاب الاقتصادي الكبير — أن تحكم قطرًا زراعيًّا خصبًا ذا مركز جغرافي فذ، كوادي النيل، وأمة عربية إسلامية ذات تاريخ مفعَم بعِبَر الدهر كالأمة المصرية، لو خلص لهم حكم مصر لَبذلوا جهدًا كبيرًا في تنمية الموارد بتنظيم الرى وضبط النيل، وقد كتب بونابرت في مذكراته فصلًا رائعًا عن ضبط النيل بإنشاء قناطر على فرعَيْه عند رأس الدلتا، ولو دامت مدتهم لعملوا كل ما يستطيعون للاستفادة من مركز مصر الجغرافي، ولَوصلوا بين البحرين الأحمر والمتوسط.

واستعمار مصر كان لا بد له أن يؤدي إلى اتساع النفوذ الفرنسي إلى ساحلَي البحر الأحمر وإلى ما وراء سيناء من ناحية فلسطين والشام، وأن يؤدي أيضًا إلى التقدم نحو منابع النيل، وجَعْل مصر المدخل والمخرج لتلك الأرجاء الأفريقية الواسعة وحل اللغز الجغرافي القديم: أين ينبع النيل؟ وقد سجل التاريخ تحقيق الكثير من هذا على يد محمد علي وخلفائه؛ مما يدل على أن الكثير من خطط الحكومات إنما هي مما يُمليه الواقع الجغرافي ويكرره التاريخ في أدواره المتباينة.

ولو دام الاحتلالُ الفرنسي لَسلك نحو المصريين مسلكًا يكون مِنْ أثره تحسينُ كثير من أحوالهم، ثم يعمد بعد هذا التحسين إلى إبطالِ النمو، أو إلى إبطاله في بعض النواحي وتوجيهه في الاتجاه الذي يُريد، ولم يكن بد من اهتمام الفرنسيين بهذا التحسين الأبتر بحكم الإنسانية المشتركة وبحكم منفعتهم: يقاوم الأوبئة بإنشاء المستشفيات وما تستلزمه من مدارس الطب والمحاجر الصحية؛ حفظًا للقوَى العاملة في الإنتاج الزراعي الذي يغذي الخزانة العامة ويمون التجارة، ومنعا لانتقال المرض إلى الفرنسيين، يصلح الأداة الحكومية وينوِّع الإدارات صيانة للأمن وضبطًا للأموال العامة.

ويستلزم هذا إصلاح نظام الضرائب والجباية، ويتبعه إلغاء الالتزام واستقرار ملكية الزارع للأرض، يفتح الأبواب لرءوس الأموال الفرنسية ولِنُظُم التجارة والمعاملات الغربية، ويؤدي هذا لِتنظيم القضاء على أُسس غربية ولِدُخُول القوانين الغربية، ويعنَى بإعداد طائفة من أبناء البلاد تسد حاجة الإدارة من صغار الموظفين.

ولو دام الاحتلالُ الفرنسيُّ لاعتمد بعضَ الاعتماد في الدفاع عن البلاد على جيش وطني من أبنائها.

ولو دام الاحتلالُ الفرنسيُّ لاحتاط أشدَّ الحيطة في كل ما له علاقةٌ بالدين من المسائل الاجتماعية وموضوعات البحث العلمي، فالحاكمُ الغربيُّ يُحبُّ أن تكون قواعدُ الإنتاج المادي غربية صرفة؛ لأن هذه القواعد تزيد الإنتاج والزيادة مما يهمه، ولكنه يكره من المحكومية الشرقيين الانقلاب الاجتماعي والبحث العلمي الحر، وذلك لأسباب: منها حرصُه على أن لا يَظهر للعامة في مظهر الهادم للعادات المشجِّع على التحرُّر من قواعد الدين، ومنها ظَنُّه أن تلك الانقلابات لا بد وأن تؤدي في النهاية إلى الرغبة في الاستقلال، ومنها الميل إلى المحافظة على المظاهر الشرقية من قبيل الاحتفاظ باللطائف والتحف.

أما عن نظام الحُكم فالمنتظرُ من الاحتلال الفرنسي — لو أن أيامه دامتْ — أن يبقي حكم القرى على ما عرفتْه مصر في عصورها المختلفة في أيدي العُمَد والمشايخ، وأن يعهد لفرنسيين في إدارة الأقاليم، وأن تسود المركزية الشديدة، وأن يُبقي الفرنسيون الدواوين التي أنشأها فعلًا بونابرت، ولم يرم بها إلى خلق النظام البرلماني — كما توهم البعض — فبونابرت لم يكن ممن يُعجبون به أو يرتضيه لفرنسا، دع عنك مصر، بل رمى بها إلى إنشاء وسائل تُمكِّنه من الاتصال بأعيان المصريين وتفهم ما يجري في أنفسهم وتفهيمهم حقيقة مشروعاته ونواياه حتى لا يَبقى مجال لدَسِّ الدسائس وسوء الفهم.

هذا بعضُ ما نتصوره عن تطوُّر الحُكم الفرنسي في مصر لو استقام للفرنسيين أمرُها، وليس هذا التصور مما لا يقوم على أساسٍ من الواقع؛ فأكثرُه مستمد مما كتبه بونابرت وغيره عن نواياهم، ومما شرعوا في تحقيقه فعلا، ومما رأيناه من طرق الحكم الفرنسي في غير مصر من الأقطار الإسلامية، وليس هذا التصور مما يخلو من الفائدة التاريخية، فمن النافع حقًّا أنْ نضع في كفتي الموازنة معالجة الحاكم الفرنسي لمسائل مصر الداخلية والخارجية، ومعالجة الحاكم العثماني المسلم محمد علي لنفس المسائل.

ولكنَّ الزمن لم يتسع للفرنسيين لتحقيق ما كانوا يأملون، ووجد القُوَّاد الثلاثةُ الذين تعاقبوا على حكم مصر — بونابرت وكليبر ومينو — أنفسَهم مضطرين لتوجيه كل جهدهم للتغلُّب على الأخطار الداخلية والخارجية المحدقة بجيشهم وحُكمهم، ولم يكن ما قام به أولهم بونابرت وثالثهم مينو من التجارب الإدراية الأداة الحقيقية لحكم البلاد، ولم تتغير — في أيامهم كلها — طرقُ الجباية ولا الضرائب ولا العمال، بل ظلت كما كانت قبل قدومهم.

ولذلك لم تكن الأعوامُ الثلاثة التي قضاها الفرنسيون في حكم مصر عهدًا سعيدًا لسُكَّانها، حقيقة أن المصريين اعتادوا — قبل قدومهم — الانقلابات والاضطراب: اعتادها أهل الريف في بعض المناطق وأهل الحواضر، وعرفها — بصفةٍ خاصة — أهل القاهرة، وكانت الانقلابات التي عرفوها مما يصحبه الشيء الكثير من اختلال الأمن وضروب العنف والتعسف وإعادة الطلب عليهم فيما أَدَّوْهُ من الضرائب والمغارم.

إلا أن هذه الانقلابات كلها كانت على نمط واحد، لا يأتي واحدٌ منها بجديدٍ ولا يصطدم بمألوف لديهم: فمثلا يتغلب علي بك الكبير على خصومه ويحكم البلاد كما حكمها خصومُه، ثم يتغلب عليه أبو الذهب ويحكم كما حكم عليٌّ، وهكذا دواليك، ولم يكن للمصريين من نصيب في هذه الانقلابات إلا عمال الإدارة المالية من الأقباط ورؤساء العصابات العربية والشيوخ من العلماء. فالفريق الأول — بحكم اضطرار الأمراء جميعًا لاستخدامه — يعمل للمنتصرين كما عمل للمنهزمين، ورؤساء العربان بسبب قوتهم الحربية قد يرجحون كفة طائفة من الأمراء على كفة خصومها، والشيوخ العلماء — بحكم تصدُّرهم ونفوذهم في الناس وتحلِّي بعضهم بصفات الفضل والاعتدال — يلجأ إليهم الناس للوساطة في رفع الحيف إذا ضاقوا به ذرعًا، وقد يحتكم إليهم المتخاصمون من الأمراء، وكان تدخل الشيوخ عادة لرفع الضيم وإحلال الوئام محل الخصام أو للتخفيف من عنف الانقلابات.

أما الحكم الفرنسي فكان انقلابًا من نوع لم يعرفه المصريون؛ إذ لما زال حكمُ مراد وإبراهيم حَلَّ محلهما بونابرت ولم يكن مسلمًا ولا عثمانيًّا، كذلك ترك الباشا العثماني مصر عند قُدوم الفرنسيين، وزال بغيابه مظهرُ التبعية للسلطان خليفة المسلمين وسمع المصريون عن تبعية بلادهم لدولة غربية فرنجية، سُمِّيَ لهم نظامها السياسي بأسماء شتى لا تدلهم تجاربهم على معانيها … فنشر عليهم منشور «من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية»، وأرخت لهم الحوادث بشهور غربية من سنة تبدأ «من انتشار الجمهور الفرنساوي.»

وكانت للفرنسيين طرقُهم في مخالطة النساء، وكانت هذه الطرق مما كرهتْه الخاصة كرهًا شديدًا، وأدى انتشار العسكر في أنحاء المدن والأقاليم، وتشتُّت شمل أسرات الأمراء وانطلاق جواريهم عقب تركهم القاهرة إلى ضروب غير مألوفة من الفساد والرذيلة، وفي أيام الاحتلال الفرنسي حرر غير المسلمين من وطنيين وأجانب أنفسهم من قيود مختلفة كان المسلمون — إذْ ذاك — يعدونها شروطا من شروط بقاء الإسلام، وهذا التحرُّر كان مما يقتضيه حكم غربي جمهوريٌّ شعارُهُ المساواة والحرية الدينية، هذا إلى حاجة الاحتلال الفرنسي لغير المسلمين: لأموالهم ودرايتهم بأحوال البلاد ونُظُمها وعادات أهلها ولإمكان الوثوق بهم بفضل اتفاق المنافع.

ولم يكن للحكم الفرنسي، في مدته القصيرة، وفي ظروف الحرب والفتن المُلابِسة له من المآثر ما يَحمل الخاصة والعامة من أهل مصر على الإغضاء عما صَحِبَه من الانقلاب الاجتماعيِّ، فقد كان حُكْمًا عسكريًّا شديدًا عنيفًا، ولم يكن الإصلاح الذي فَكَّرَ فيه الفرنسيون، وما استحدثوه من الدواوين وغيرها، والبحث العلمي الذي شرعوا في إقامة قواعده؛ مما يجتذب إليهم المحكومين إلا بعد زمان طويل؛ ذلك لأن النظم الحُكومية التي اعتادها المصريون وغيرهم إذ ذاك كانت ترمي لأغراض ثلاثة أساسية: جَمْع الأموال المفروضة، والأيدي العاملة اللازمة لصيانة الأعمال العامة، واستتباب الأمن، وفيما عدا هذه الأمور الثلاثة لا تتدخل الحكومة في أحوال الرعية؛ بل تَدَعُ كُلَّ ما يتعلق من هذه الأحوال بأغراضها تنظمه الجماعات أو لا تنظمه كما جرت به العادات.

وإذا شئنا إجمال وصف ما اختص به نظام الحكم القائم قبل الاحتلال الفرنسي قلنا: إنه يمتاز بقِلَّة التدخُّل الحكومي — كما نفهمه الآن — وبالعنف والتعسُّف، ويجب ألا يحملنا ما نراه من جُنُوح الحكام لهذا العنف والتعسف إلى تصوُّر نُظُم الحكم على غير ما صَوَّرْنَاها مِن ترك الرعية وشأنها في كل ما يتعلق بأغراض الحكومة الأساسية.

ويجب كذلك ألا يحملنا ما نسمع عنه من الظلم على الظن بأنه لم تكن أمام المحكومين وسائلُ مختلفةٌ لِتَجَنُّبِهِ أو لتخفيفه، فإن ارتباك الإدارة الذي نجم عن الانقلابات المتتابعة وسوء ذمة العمال وفوضى السجلات، وما إلى ذلك؛ فتح للرعية أبواب الخلاص من الفرض شرعية وغير شرعية.

فلا ينبغي إذن أن ننتظر أن يُرحِّب المصريون في سنة ١٧٩٨ بالتدخُّل الحكومي وبما يصحبه من النُّظُم الدقيقة، ولا أن يعدوها — كما نعدها الآن — ضمانًا لحقوقهم، فكَرِهوا ضَبْط الدفاتر واعتبروه اشتطاطًا في الطلب، ولم يَرَوْا فيما اتخذته الحكومة من الوسائل لمنع الأمراض إلا استبدادًا لا يُطاق، وفضولًا لا يُفهم.

كره المصريون الحُكم الفرنسي وقاوموه؛ ثار أهل القاهرة ثورتين عنيفتين، وقام الفلاحون في الريف كلما أتيحت لهم فرصة، وقد ذكرنا من الأسباب ما يكفي لتفسير هذا الكُرْه دون أن نلجأ إلى تعليله بانتحال تعبيرات من استعمال أيامنا، والتاريخ الصحيحُ لا يجد في الفتن الشعبية بالقاهرة والأقاليم إلا باعثًا إيجابيًّا واحدًا، هو: العودةُ لِمَا أَلِفَهُ الناس. إن مصر أكرم على بَنيها من أن يلتمسوا سندًا لحقوقها في «الدفاتر القديمة».

•••

وابتهج أهلُ مصر لَمَّا أخرج العثمانيون والإنجليز الجيوشَ الفرنسية من بلادهم، وسمى الجبرتيُّ مؤلَّفه في حوادث الاحتلال الفرنسي وما سبقه: «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس»، بل وسجل اعتقاده: «وإذا تأمل العاقل في هذه القضية يرى فيها أعظمَ الاعتبارات والكرامة لدين الإسلام، حيث سخر الطائفة الذين هم أعداءٌ للملة هذه لدفع تلك الطائفة، ومساعدة المسلمين عليهم، وذلك مصداق الحديث الشريف وقوله : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»، فسبحان القادر الفعال!»

ولكن عينَي «الرجل الفاجر» انفتحتا واسعتين صوب مصر وما يجري في مصر، فلن يكون الأمرُ بعد ١٧٩٨ ما كان قبلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤