الفصل السادس

وقد قبل محمد على الأخذ بفكرة «الحركة» لا على أن رسالة الإسلام قد قضيت، بل تحقيقًا لقانون قديم من قوانين تطور الأمة الإسلامية، وهو وجوب بعث حافز من دعوة أو عصبية يُخرج الأُمَّة من طور سكون إلى طور حركة، وقد يكون مصدر الحافز داخليًّا وقد يكون خارجيًّا، ولكن أثره دائمًا أشبهُ ما يكون بأثر الخميرة في العجينة تكسبها سرًّا من أسرار الحركة.

وقد عبر هو نفسه عن الأخذ بفكرة الحركة، وعن كونها تتم على يد صفوة القوم يقودون ولا يقادون يعرفون وجهتهم ويتجهون نحو الوجهة؛ أحسن تعبير، قال في خطبة له في آخر أيامه: «إن الذي أذكره من أحوال العالم لا بُدَّ من أنْ يكون معلومًا لديكم إجمالًا، وذلك أن أهل الملل الموصوفين بالقدرة والقوة لم يكونوا في الأصل من أصحاب الاقتدار واليسار الذي هم عليه الآن، بل كان كل منهم جاريًا على طراز قديم، ثم ظهر فيهم بعد ذلك ذوات من أصحاب الانتباه فأخذوا يجهدونهم بوسائل حتى إنهم بسبب ما أثمر من سعيهم واجتهادهم في حقهم علموا قيمة محبة الوطن فكان ذلك سببًا في تقدمه.»

وعلى هذا فما يعمل له من اصطناع قوة الحديد والعلم والمال لتأسيس ما سميناه «قاعدة الارتكاز» في العالم العثماني له شروط: أولها؛ الاستعداد لقبول ما يلائم المصلحة من مناهج الغير، ويتأتى ذلك بالمخالطة على نحو ما والاستعداد — داخل حدود طبعًا — لدفع ثمن تلك المخالطة «فالغير» لا يخدم حُبًّا في سواد العيون فقط. وثانيها: العمل على خلق «الصفوة» بمختلف وسائل التربية والتكوين. وثالثها: ابتكار «أدوات التثبيت» أو اتخاذ كل ما يُمكن اتخاذُه لجعل المستحدثات جزءًا لا يتجزأ من كيان المجتمع معاونة لفعل الزمن.

و«المخالطة» شرطٌ أساسي للنقل عن الغير، عَدَّها رفاعة «مفلسف النهضة» من أكبر ما أقدم عليه محمد علي، قال: فلو لم يكن للمرحوم محمد علي من المحاسن إلا تجديد المخالطات المصرية مع الدول الأجنبية بعد أن ضعفت الأمة المصرية بانقطاعها المُدد المديدة والسنين العديدة؛ لَكَفاه ذلك؛ فقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد وآنسها بوصال أبناء الممالك الأُخرى والبلاد لنشر المنافع العلمية واكتساب السبق في ميدان «التقدمية»، وأكسبت المخالطة وضعًا جديدًا للجاليات الأجنبية ورثتْه مصر فيما ورثت عن عصر محمد علي.

سكن الأوروبيون مصر قبل عصر محمد علي لأغراض محدودة وفي ظل نظم معينة، وكانت بيوتهم التجارية قبل ذلك العصر مهمتها الأصلية الوكالة عن الشركات والهيئات الأوروبية المختلفة المرخَّص لها وحدها من جانب الدول الكبرى بالتصدير إلى مصر والاستيراد منها، وقد خضعت إقامة هؤلاء الأوروبيين لمجموعتين من النظم، أما المجموعة الأولى: فتشتمل على اللوائح المختلفة التي أصدرتْها الشركات والهيئات المحتكرة للتجارة الشرقية، وتتناول هذه اللوائح تنظيم شئون المعيشة والعمل لمن رخصت لهم من الأوربيين بسكنى مصر وتمثيلها فيها تنظيمًا مفصلًا، وعهد إلى القناصل — وهم لسنواتٍ عديدة من حكم محمد علي تجارٌ تحت إشراف الشركات والهيئات المحتكرة — تنفيذُ تلك اللوائح.

أما المجموعة الثانية: فتتكون من منطوق العهود الصادرة من السلطان، المتخِذة شكل معاهدات بين حكومة الدولة والدول الأوروبية الخاصة بالامتيازات التي منحها السلطان لرعايا تلك الدول عندما ينزلون أرضه ويتاجرون مع رعاياه. ومما طرأ عليها فعلًا في اتجاهَي التعطيل الكلي أو الجزئي أو التنفيذ في الأيام السابقة لعهد محمد علي (وكان التعطيل هو الأغلب).

وكلتا المجموعتين أصابهما تعديلٌ جوهري في أيام محمد علي، فالمجموعة الأولى هَدَمَتْها الثورة الفرنسية والانقلاب الاقتصادي الكبير؛ فقد ترتب على الانقلابين إلغاء الشركات والهيئات المحتكرة للتجارة الشرقية (وأهمها شركة الليفانت الإنجليزية وغرفة مرسيليا التجارية) وجعل تلك التجارة حرة للأفراد يشتغلون بها ويسكنون مصر وغيرها من أقطار الدولة العثمانية بلا قيود سوى ما تُصدره الحكوماتُ من جانبها أو بالاتفاق مع السلطات العثمانية لأغراض الأمن العام في أُوروبا وفي مصر.

وترتب على ذلك أن اكتسب قناصل الدول الكبرى على الأخص صفة الممثلين الرسميين لحكوماتهم وحرم عليهم مزاولةُ التجارة، وفتحت بذلك الأبواب للتشجيع على الهجرة لمصر والاستيطان بها وكسب الرزق واستثمار الأموال بها، وصار للجاليات الأجنبية في حياة مصر وأهلها شأنٌ جديد تمامًا.

أما المجموعة الأخرى من النظم فأمرها غير أمر الأولى، لم تمتد يدٌ لنصوصها بالحذف أو الإضافة أو التعديل، ولكنها أصبحت تطبق في ظروف تختلف تمامًا عما وُضعت له، فقد وُضعت في ظروف لا تعرف فيها هجرة الألوف من الأجانب لمصر، ولا يعرف فيها الاستيطانُ الدائم وطلب الرزق من كل الوجوه، ولا يعرف فيها قدوم المهندس والطبيب والصحفي والمعلم للعمل الحر أو في خدمة الحكومة المصرية، ولا يعرف فيها «اللاجئ السياسي» أو صاحب الدعوة لمذهب سان سيمون وما إليه، ولا يعرف صاحب الحانوت الصغير أو الكبير أو المصنع الصغير أو الكبير ولا المصارف ولا «الأعمال» الكبرى، ولا يعرف فيها انتشار الأجانب في ريف مصر وحواضرها ولا الأجنبي الذي يفلح الأرض أو يقتني العزب أو العمارات، ولا تعرف فيها المطبعة أو المدرسة أو الملجأ أو المستشفى الأجنبي.

بهذا كله أصبح للجاليات شأنٌ في حياة مصر لم تعرفْه قبل محمد علي، وقد أدرك محمد علي ما في هذه المخالطة من نفع لخططه في اصطناع الحديد والمال والعلم، بل أدرك أنها ضروريةٌ كل الضرورة، واعتقد أن سطوته الشخصية تغني عن وضع اتفاقات دولية جديدة، تنطبق على الظروف الجديدة وتَقِي أمته وخلفاءه الأضرار البالغة التي نجمتْ عن تطبيق معاهَدات القرن السادس عشر في ظروف القرن التاسع عشر.

كما أن نظام الاحتكار الذي سار عليه طول مدة حكمه تقريبًا كان قيدًا شديدًا للنشاط الأجنبي في مصر، إلا أن عصره شهد البوادر الدالة على المستقبل، وقد قاومها بسطوته الشخصية، مثلًا عندما اعتدى قنصل سردينيا (مملكة بيدمنت: نواة الوحدة الإيطالية) على أرسلان أغا أمين جمرك بولاق كتب محمد علي: «إن أرسلان أغا صبر وتحمل هذا الأحمقُ ضَرْبَ القنصل وعدم مقابلته بالمثل في محل الواقعة، فأوجب ذلك اضطراب ضميري، وحيث إني قد نبهت أكيدًا على القنصل الجنرال بعزل المذكور وإبعاده عن مصر فإذا استعلم من الديوان عن أشغال تتعلق بالميري قبل مخابرة القنصل الجنرال فلا يلتفت إلى ما يرد منه، وإنه لا تعطى إليه أية إجابة من الديوان، وأن ينبه على المعاون الأول بالقبض على الياساقجي خارج منزل القنصلاتو وإحضاره إلى الديوان وضربه خمسمائة نَبُّوت أدبًا له على ما وقع منه في ديوان جمرك بولاق، وإفهامه أن الغرض من إعطاء الياسقجية للقناصل هو لصيانتها والمحافظة عليها وليس لمساعدتهم في فعل أعمال مغايِرة كهذه، وإن أمكن إيجادُ مَنْ يليق لأمانة جمرك بولاق بدل أرسلان أغا فيرفع عن وظيفته جزاءً على عدم محافظتِهِ على شرف وناموس الحكومة لقبوله الضرب وعدم مقابلة القنصل المذكور بالمثل.»

وإنا نحمدُ لمحمد علي أنه لم يفكر في تقييد حرية أفراد شعبه في الانتفاع أو عدم الانتفاع من تلك المخالَطة الأوروبية، وامتنع عنهم بسماحته بذلك اللون الممقوت من ألوان الاستبداد الذي يأبى إلا أن يصب حياة الأمة الروحية في القالب الذي تشاؤه الدولة لها، وبقى المصريون إلى يومنا أحرارًا يتجهون نحو ما يرتضون لأنفسهم من شتى المُثل العليا، كما بقى الباب مفتوحًا يَلِجُه من يريد العمل على خَلْق ثقافة غنية بتبايُن أصولها وتنوُّع عناصرها.

ذلك لأنه أحب لشعبه ما أحب لنفسه، فكما أنه لا يرفض النظر في شيء ما لمجرد أجنبيته، وكما أنه دءوب على التعلُّم، شغوفٌ بالاستعلام من كل من يعلم شيئًا ما، كذلك أحب أن يكون شعبه عمومًا و«الصفوة» التي عمل على تكوينها خصوصًا.

«تلك الصفوة» هي «الأرستقراطية المتكلمة بالتركية» من أصحاب المناصب الحربية والإدارية والفنية، وهي مِن خَلْق محمد علي، عرفنا تحديده لمهمتها في مشروعه، وعلينا الآن أن نلم بأشياء أُخرى عنها، كَوَّنَها محمد علي من شتى العناصر، فمِنْ رجالها من جمعهم أحداثًا من المماليك والأحرار من أبناء العالم العثماني ومن مصر وأقاليمها السودانية أو من سبي المورة أو اللاجئين منها، كفلهم محمد علي منذ نعومة أظفارهم ورباهم وعلمهم في مدارسه في مصر وبعث منهم من بعث إلى أوروبا، كما أن من هذه الأرستقراطية من لحقوا بها كبارًا، تعلقوا به وتعلق بهم وأئتمنهم على أعز ما لديه: قيادة أمته سواء السبيل.

وعلى ذلك فلم تكن تلك الصفوة تركية لحمًا ودمًا، بل كان لسانها التركية إما طبعًا وإما اكتسابًا، وانطبع أعضاؤها على تبايُن الأُصول بالطابع العثماني — أو، كما عرفناه، العثمانلي — في آداب السلوك وتنظيم المنزل وما إليه من طرق المعيشة، وذلك أن محمد علي فتح مصر للغة الترك وآدابهم مفنونهم وعاداتهم، وانتشرت التركية في مصر انتشارًا جديدًا تبعًا لأنها لغة وليِّ الأمر ولغة الحكومة ولغة «الصفوة» من القوم، إلا أن تأثير ذلك في الثقافة المصرية كان ضئيلًا؛ فلم تتأثر العربية بالنماذج التركية تأثرًا يعتد به، اللهم إلا في «الرسائل».

واستمر الكتاب على اتصالهم القديم بالنماذج العربية الأصيلة، ولَمَّا ابتدءوا التطلُّع إلى غيرها من المناهل اتجه نظرُهم إلى باريس لا إلى القسطنطينية، ولم يكن رجال الصفوة أيضًا كلهم من المسلمين، فمنهم من كان قبطيًّا أو من نصارى السوريين والأرمن، إلا أنهم كانوا جميعًا يتفقون في شيءٍ واحدٍ، في أَنَّ محمد علي بالنسبة لهم جميعًا هو «ولي النعم»، تعهدهم بالتعليم وقَلَّدَهم مناصبَ الدولة وأنعم عليهم بالأرزاق السخية من مال وأرض وشَرَّفَهم ورفع قدرهم بين الناس، بل وكان يختار لهم من بنات القَصْر وجواريه زوجاتٍ نشأن في ظل الحشمة والكمال والعز، لا غرو إذن أنه وحده «ولي النعم».

استفسر يومًا السياسي الفرنسي بوالكمت من بوغوص بك الأرمني المشهور عن صحته فأجابه: «إنني بخير لأن ولي النعم بخير»، إن صحته لا يمكن أن تكون إلا بخير ما دامت صحة سيده جيدة، ولكن محمد علي وضع علاقته بهم لا على أساس السيد والمسود بل على أساس آخر: علاقة الأب بأبنائه، وما أجمل تعبيره هو عن ذلك، جمع مرة مأموري الحكومة للمباحثة في شئون الدولة، وكان ذلك في سنة ١٢٦٣، في السنوات الأخيرة من حكمه، ولَمَّا أتموا عملهم دعاهم للطعام، وجمعهم بعد ذلك بأيامٍ وخطب فيهم خطبة يصح أن نعتبرها «عهده السياسي» — ولنا لها عودة — جاء فيها:

فلْتعلموا أني قد ناهزتُ سن الثمانين ولست في تمني شيء لنفسي، بل كان تركي للنوم والراحة وبذلي لاجتهادي ليلًا ونهارًا إنما هو من أجل سعادتكم وإصلاح حالكم، وحيث إني قد ربيتُكم جميعًا من صِغَر سنكم وعلمتكم القراءة والكتابة في المكاتب وأوصلتكم إلى ما أنتم فيه من الدرجات وقَبِلْتُكم أولادًا لي وصرتُ لكم أبًا بحق؛ وجب أنكم لا تمتنعون من قبولي أبًا لكم، بل تقبلونني.

يرجو لهم ومنهم كل ما يرجوه الأب لأبنائه ومن أبنائه، ويأخذهم باللين أحيانًا وبالغلظة أحيانًا كما يأخذ الأب أبناءه باللين وبالغلظة، وكان عندما يحسن أحد رجاله يبتهج لهذا الإحسان ابتهاج الأب لإحسان ابنه لا ابتهاج الرئيس لإحسان المرءوس فحسب، كما كان عندما يقصِّر أحدهم يقع هذا التقصير في نفسه وقع تألُّم الأب وأَساهُ لقصور ابنه عن أمله، ولنسمعْ تعبيره عما ينتظره منهم: «إنه لترادف تقلبات الأحوال وتنوع تيار صعوباتها وشدائدها من زمن بعيد بعكس وجهة آمالي، وكلما أتأمل لها بإمعان النظر، ولِما يحصل من وخامة عواقبها بالنسبة لجسامة تلك الخطوب كُنتُ أتجلد بعزم ونيات خيرية لمُقابلة شدائد تلك الصعوبات، ومضت عَلَيَّ الأوقاتُ العديدةُ وأنا متحمل المشاق تاركًا للراحة.

وبديهيٌّ أنه لا يتأتي لشخص بمفرده مصادمةُ تلك الخطوب وإذلالها، بل يحتاج لأعوان ومساعدين ذوي عزيمة حتى ينجح في نياته وأعماله، وإنه من الأُمور المسلَّمة أن أصحاب الفتوحات وواضعي القوانين في الأعصر الماضية مع ما كان لديهم من الثروة كانت الشدائدُ تلجئهم إلى أعوان لبث قوانينهم وتوطيد دعائمهم حالة كونهم محفوفين بنفوذ الكلمة، ومما لا ارتياب فيه أنكم لو اتحدتم كشخص واحد وبذلتم الهمم بساعد الجد وتعودتم على ترك الراحة وأبرزتُم الغيرة بالنشاط وتحمل المشاق بالتجلد لِبَثِّ العدل وتشييد العمران للأعقاب والأخلاف ليكون سببًا للفوز والنجاح ونيل السعادة.»

وماذا يحدث عند التقصير؟ قال: «ولْتعلموا أنكم إذا لم تحولوا من خصالكم القديمة من الآن فصاعدًا، ولم ترجعوا من طرق المُداراة والمماشاة، ولم تقولوا الحق في كل شيء، ولم تجتهدوا في طريق الاستواء، ولم تسلكوا سبيل الصواب لصيانة ذات المصلحة؛ فلا بد لي من أن أغتاظ منكم جميعًا. وإذا كنت موقنًا بتقدُّم هذا الوطن العزيز على أيِّ صورة كانت وملتزمًا فريضته علي صرت مجبورًا على قهر كل من لم يسلك هذا الطريق المستقيم اضطرارًا مع حرقه كبدي وسيل الدموع من عيني، فالذي أرجوه من الخالق — سبحانه وتعالى — أن يجعل نصيحتي هذه مؤثرة في قلوبكم؛ حتى أُشاهد منكم حسن الحركة آنًا فآنًا، وأعاين ما تستحقونه من الخير، وتقر عيناي بامتياز كل منكم حسب أقصى أملي.»

فلم يكن محمد علي في علاقاته برجاله الحاكمَ المطلق، بل كان الأبَ الخير الحازم، يسعى لأنْ يجعل منهم رجالًا يستطيعون فهم مقاصده ومعاونته على تحقيق آماله، وهذه أوامره الحكومية قَلَّ أنْ تجد لها شبيهًا في أوامر الحكومات، فكانتْ في جمعها للنصح والترغيب والترهيب وضرب الأمثال والإشارة إلى أن منفعة الرعية أو مجد الوطن متوقفٌ على ما نِيطَ بعمال الحكومة أداؤه؛ صورةً صادقةً لشخصية هذا العاهل الكريم. وهذه أيضًا طريقته الإدارية، جعل لكل شأن من الشئون العامة ديوانًا وكان لا يتخذ قرارًا في مسألة ما إلا بعد أن يستمع لآراء المجلس المختص بها؛ ذلك لأنه لم يكن حاكمًا فحسب، بل كان طوال مدته مربيًا ومكونًا للرجال، وأن مجالس الإدارة لم تكن في نظره هيئاتٍ إدارية فحسب، بل كان لها غرضٌ آخرُ هو تكوينُ الصفوة من الرجال، وتشجيعهم على التفكير المستقلِّ.

وقد بدأ محمد علي بتأليف هذه الأرستقراطية طورًا جديدًا من أطوار تنظيم الحكومة الإسلامية، بدأتْ تلك الحكومة — كما نعرف — باستعانة وليِّ الأمر برفقائه من صحابة رسول الله ، ثم دخلتْ في طور إنشاء الدواوين وظهور طائفة الكتاب، يتلوه طور التوحيد بين الرياسات المختلفة وبين خدمة وليِّ الأمر الشخصية، وتأكدتْ هذه الصفة في الدول التركية بصفة خاصة.

ثم جاءت الدولُ العثمانية ونَمَا فيها نظامٌ دقيق مفصَّلٌ لتكوين الأداة التي استخدمها السلطانُ لحُكم رعاياه، أو بعبارة أصحَّ: لقيادة الرعية. فكان رجالُ الحرب والحكم في تلك الدولة عبيدَ السلطان، اشتراهم بماله أو سَبَاهُم في حروبه وغزواته أو جَمَعَهم قسرًا من أبناء الذميين، وفرض عليهم جميعًا أنواعًا من التدريب والإعداد، كلٌّ منهم بحسب ما يؤهله له استعدادُه العقليُّ والبدنيُّ. وحاول أن يضع كُلًّا منهم فيما يصلح له، كما حاول أن يُحيط كُلًّا منهم — طول حياته — بما اخترع من القيود؛ ليبقى كل منهم في نوع الحياة ونوع العمل الذي رسم السلطان.

وقد شبهه أُستاذنا أرنولد توينبي بالكلاب التي يدقِّق الراعي — كل التدقيق — في اختيارها وإعدادها وتَنَاسُلِها وهي (…) الأيمن في قيادة القطيع، في حفظه من التردي في المهالك وفي منع الضواري عنه، وبالجملة في منع القطيع من الشرود عن جادة الطاعة والانقياد. والمطلعون على تاريخ النُّظُم العثمانية يعرفون كيف خرج «الكلاب» على راعيهم وأبوا — على توالي الزمن — إلا أن يُمْلوا هُمْ شروطهم وأن يعيشوا عيشتهم على النحو الذي يُرضيهم، فكان فساد الحكومة العثمانية، وكان بحثُ السلاطين ابتداءً من القرن الثامن عشر عن أُسس جديدة لتنظيم الحكومة العثمانية.

أخذ محمد علي عن النظم العثمانية الأولى ضرورة خَلْق الصفوة الفعالة، كما أخذ عنها أيضًا ضرورةَ ربطها بولي الأمر بأقوى الروابط، ولكن الشبه يقف عند هذين الحدين، فالصفوةُ المحمدية العلوية لا تتكون إلا لحدٍّ محدود من المماليك والعتقاء والسبي، وحتى هذا كان في أوائل عهده فقط، وفيما بعدُ جَرَى محمد علي على طريقة الاختيار — أو الفرز، في اصطلاح ذلك الوقت — من بين تلاميذ معاهده الدراسية.

أما عن الروابط بين الأرستقراطية وولي الأمر فقد رأينا كيف وضعها محمد علي على أساس علاقة المحبة والتضامُن في اكتساب المجد وفِعْل الخير والإصلاح المعمر، وكان أملُه أن يبقى هذا بعد موته بين أبنائه وأبناء رجاله، وعلى هذا الأمل بنى عهده السياسي، واكتفى — في أمر الناحية التنظيمية بمعناها الضيق — بما سَنَّهُ من لوائح تنظيم الإدارة متعلقًا بواجبات الرؤساء والمرءوسين وما إليها — ونظر إليهم — كما رأينا — نظرةً تُغاير نظرة السلطان إلى أعوانه — أو بعبارةٍ أصحَّ إلى أداته — فلم يعتبرهم مجرد آلات للتنفيذ، بل أَشْرَكَهم في وضع الخطة وفي تنفيذها على اعتبار أن الخطة خُطَّتَهم وأن النجاح أو الفشل مما يهمهم مباشرة.

قال في الخطبة التي سبق أن أشرنا إليها واعتبرناها عهده السياسي: «المحاشاة والموافقة في الأمور المضرة بالمصلحة والأصول الموضوعة من أعظم الجرائم، فيجب الاجتناب عن ذلك حتى إذا كنت آمرًا أحدكم شفاهًا أو تحريرًا بقولي له: أجر المادة الفلانية بهذه الصورة وحصل منه اعتراضٌ عليَّ وذكرني وأفادني شفاهًا أو تحريرًا بأن المادة المذكورة مضرةٌ فهذا يكون منه عين ممنونيتي الزائدة، وقد أثبت لكم مرارًا كسب محظوظيتي من الإخطارات الواقعة حتى الآن التي يترتب عليها ممنونيتي في أعلى درجة وها أنا مرخص لكم في ذلك الرخصةَ التامة، المرة بعد المرة.»

ولم تتكون الأرستقراطية المحمدية العلوية — كما كان الحال في الهيئات الحاكمة الإسلامية القديمة — من رجال السيف ورجال القلم فقط بل هي أرستقراطية الفنيين، وذلك بحكم ما أخذتْه الدولة المحمدية العلوية على نفسها من الشئون التي لم تر الدولة الإسلامية — أو الدولة الأوروبية حتى عصر الانقلاب الاقتصادي الكبير — أنها من شأنها، وبحكم القاعدة التي أخذتْ تسودُ في القرن التاسع عشر وقضتْ بوجوب إسناد تلك الشئون الجديدة إلى فنيين قد أُعِدُّوا إعدادًا خاصًا لمواجهة التطورات الجديدة وتعقيداتها، وهذا فن القيادة العسكرية مثلًا، كان حتى ذلك العهد يكفي للإعداد له حسن الاستعداد الطبيعي وإتقان ركوب الخيل واللعب بالسيف، فقد أصبح فنًّا معقدًا، يقتضي من أصحابه دراساتٍ علمية نظرية تقوم عليها أخرى تطبيقية بالإضافة إلى ما كان يقتضيه من التدريب الجسمانيِّ والخلقي. وقِسْ على ذلك ما اقتضتْه دائمًا خطة محمد علي الشاملة من اصطناع قوة الحديد والمال والعلم.

وإذ قد أصبح «للفنية» هذا الشأن في تكوين رجال الصفوة، فلم يبقَ محل لاشتراط الإسلام فيهم. والواقع أن استخدام محمد علي لغير المسلمين يختلف تمامًا عما جرى من استخدام الكثير من الحكام المسلمين القدماء لهم، فظروفُ هؤلاء الحكام لا تقتضيه، بل تقتضي ألا يكون، والدواعي التي دَعَتْهم إليه حقيقية بالاستنكار، ما هي تلك الدواعي؟ سلطان يشتط في جمع المال فيسلط على رعاياه «من لا يخشى الله ولا يرحمهم» من أهل الذمة ثم يجزيه في النهاية جزاء سنمار، أو سلطان يخشى اغتيال أقرب الناس إليه من أهله فلا يركن إلا إلى طبيب نصراني وهلم جرًّا.

فما جرى من استخدام أهل الذمة إذ ذاك كان في الواقع مما بعثه فساد المجتمع وأدى إليه، والأمر على عكس ذلك تمامًا في دولة محمد علي ومجتمعه، من شئون الدولة ما هو فنيٌّ صرف لا معنى لأن تشترط في من يقوم به سوى الكفاية الفنية، واشتراط غيرها من الشروط تضييق وضيق لا يتفقان مع مصلحة المسلمين ولا تستسيغهما نفسه السمحة، ولا ترفعه عن هذا اللون من التعصب، ولم يكن محمد علي بالرجل الذي يسترد باليسرى ما يعطيه باليمنى، فكان إذا أحسن غير المسلم الخدمة وأخلص لولي النعم وخدمة مصر أحسن إليه محمد علي جزاء إحسانه وأعطاه كل حقه حيًّا وميتًا، علم أن محافظ الإسكندرية لم يقم بواجبه في الاحتفال بتشييع جنازة بوغوص بك، مدير الأُمور الخارجية والتجارية الأمين فساءه ذلك وكتب إليه موبخًا «لعدم إرسال العساكر وخلافه: ولا أدري ما الداعي لذلك ولا يخفى عليكم الخدم المبرورة التي أداها بوغوص بك في نحو ٤١ سنة» ونبه عليه بتدارُك ما فاته.

وإذا كان هذا شأنه في تقدير الكفاية — على الرغم من اختلاف الدين — أفيُعقل أن تتأثر خططه بالتعصب لجنس على جنس؟ كان أرجح حلمًا من أن يعتدَّ بما ليس في الواقع من اجتهاد أو فضل أي إنسان، كأن يكون مولده في الموطن الفلاني لا في غيره، ومثل هذا التعصب يؤدي إلى حرمان العمل ممن يصلحون له، وهذا إسراف، والرجل يمقته، وهذا التعصب أيضًا مما يصرف الناس عن الجد ويصرفهم إلى السفاسف، ويُثير فيما بينهم البغضاء والحزازات والوقت وقت الجد وفي خدمة الوطن متسع للجميع، فلا تعصب على المصريين ولا إيثار لغيرهم عليهم، وأبواب «الأرستقراطية» مفتوحةٌ لهم — وولجوا إليها فعلًا — وما ذاع عن حرمانهم من مناصب القيادة في الجيش والأسطول لمصريتهم وَهْمٌ يحتاج أمره إلى تبديد، لم يعرف جيش من جيوش العالم في ذلك الوقت حتى جيوش الثورة الفرنسية — على عكس ما يتوهم الناس — شيوعَ خطة الترقية من تحت السلاح إلى رتب القيادة ولا تعرفها جيوش وقتنا الحاضر إلا في حدود ضيقة جدًّا نسبيًّا، وهذا على الرغم من شيوع التعليم والاستنارة في جيوش المعسكرين.

والحال أن ضباط الجيوش الأوروبية في وقت محمد علي وفي وقتنا الحاضر ينتمون للطبقة الوسطى أو لطبقة الأشراف، من شباب الطبقتين — كما هو الحال في مصرنا الآن — مَنْ يختار العسكرية ويلحق بمعاهدها اختارها ليعد لوظائف القيادة، وهذا صحيح على الأمم التي اختارت سياسة الجندية الإجبارية لتكوين قوتها العسكرية؛ كفرنسا مثلًا، وعلى الأمم التي اختارت سياسة التطوع لتأليف قواتها الحربية كإنجلترة في معظم أدوار تاريخها العسكري. إذا تحققنا ذلك وعرفنا أن ذوي اليسار الكبير أو الصغير من أهل مصر، الذين يصح أن نقابلهم بالطبقة الوسطى في الأمم الأوروبية، لم يُقبِلوا بعدُ في عهد محمد علي على اختيار العسكرية لأبنائهم لابتعادهم عنها قرونًا عديدة.

كما أننا إذا تحققنا أن جيوش العالم كلها لا تعرف الترقية من تحت السلاح أساسًا لتكوين الضباط؛ إذا تحققنا هذا كله أدركنا لِمَ خَلَتْ وظائفُ القيادة في الجيش المصري في عهده من المصريين — وأن لا أساس لم زعموه من تعصبه للترك عليهم — بل إن كبار رجال العسكرية الأوروبيين كثيرًا ما عبروا له ولإبراهيم عن رأيهم بأن أضعف ما في جيشه ضُبَّاطه غير المصريين، وشاركهم في هذا الرأي مؤرخُ الجيش المصري الجنرال فيجان المشهور، ونسب ضعف الضباط إلى عدم إقبال أبناء الطبقة الوسطى في مصر إذ ذاك على احتراف العسكرية، وهذا النفور مما لا يُمكن علاجُهُ بالإجبار.

أما التعصب الضيق فلا ظل له، نقرأ في أمر من أوامره، أصدره إلى محافظ دمياط «بأنه علم بالاحتفالات التي قوبل بها الآي حسين بك من الأهالي والقناصل وبما تَفَوَّهَ به علي أغا ناظر السلخانة، وقوله في محفل الاستقبال: صار الفلاحون العمي عساكر! مهما كانوا لا يكونون مثل عساكرنا الترك. وعليه فاضربوه ١٠٠ نبوت على أليته ويُنفى وإن عاد يُصلب»، هذا ما حدث لعلي أغا عندما أخذتْه النعرة القومية، وعندما تحرج الأمر بين مصر والدول العظمى، وتحمس الناس في حاضرتيها — القاهرة والإسكندرية — لدفع العدوان عن وطنهم وأَلَّفُوا «حرسًا وطنيًّا» أسند محمد علي لرؤسائهم — وهم من أبناء البلد — رُتَبًا عسكريةً نظامية؛ فالرجلُ لا يتردد في إعطاء من يُقبل على العسكرية أو غيرها حقه كاملًا.

•••

وكيف يغمط محمد علي للمصريين حقًّا أو يطوي لهم فضلًا وقد عز عليه أن يرى العقول المصرية تضيع هباءً، كما عز عليه أن يرى الموارد المصرية يُبددها الجهلُ والفوضى، فعَوَّل على أن ينقذ لمصر تلك الثروة العقلية التي لا تَعْدِلُها ثروةٌ.

«ابتكر حسين جلبي عجوة — من أهل رشيد — بفكره صورة دائرة، وهي التي يَدُقُّون بها الأرز، وعمل لها مثالًا من الصفيح، تدور بأسهل طريقة بحيث إن الآلة المعتادة إذا كانت تدور بأربعة أثوار فيدير هذه ثوران، وقدم ذلك المثال للباشا فأعجبه وأنعم عليه بدراهم»، ثم استمر الجبرتي في روايته، قال: «ولما رأى الباشا هذه النكتة من حسين جلبي قال: إن في أولاد مصر نجابةٌ وقابليةٌ للمعارف، فأمر ببناء مكتبٍ بحوش السراية ورَتَّبَ فيه جُملةً من أولاد البلد ومماليك الباشا، وجعل عليهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي يقرر لهم قواعد الحساب»، أي أن إنشاء المدارس بدأ لِمَا رآه محمد علي من نجابة المصريين وقابليتهم للمعارف.

ولم يكن العلم غريبًا عن مصر؛ فقد كان طلبه فريضة على المسلمين.

وكان لعلماء الأزهر — كما قال رفاعة — «اليد البيضاء في إتقان الأحكام الشرعية العملية والاعتقادية، وما يجب من العلوم الآلية كعلوم العربية الاثني عشر وكالمنطق والوضع وآداب البحث والمقولات وعلم الأصول المعتبر، ولمثل هذا فليعمل العاملون»، وقد أثمرت أعمالهم في ذلك العصر وما سبقه بقليل ثمرتين عظيمتين: «تاج العروس» و«تاريخ الجبرتي».

ولكن من الباحثين مَنْ يرى أن الحملة الفرنسية أثرت أثرًا سيئًا في الحركة العلمية، لا لأن الفرنسيين عارضوها أو مَسُّوها بأذًى، ولكن لِمَا أحدثه قدومُهم وخروجُهم من الاضطراب الفكريِّ، والثابتُ على كل حال أن النصف الأول من القرن التاسع عشر قل — أو انعدم — فيه التصنيفُ المبتكر في علوم اللغة والدين، ولكن فرق بين هذا وبين ما زعمه المستشرق الطبيب «برون» من أن علماء القاهرة في زمنه — منتصف القرن التاسع عشر — لا يعرفون حتى أسماء أمهات الكتب العربية، وإن كانوا يظنون أنهم يعرفون كل شيء، وأن ليس فيهم عشرة يستطيعون استخدام معجم لغوي، وليس من شك في أن علماء ذلك الزمان ضَيَّقوا على أنفسهم دائرة المعرفة.

علم بذلك رفاعة وقرر وجوب «معرفة سائر المعارف البشرية المدنية التي لها مدخلٌ في تقدم الوطنية … لا سيما وأن هذه العلوم الحكمية العملية التي يظهر الآن أنها أجنبيةٌ هي علومٌ إسلاميةٌ نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية»، ثم أضاف إلى هذا «أن من اطلع على سند شيخ الجامع الأزهر الشيخ أحمد الدمنهوري — ولم يكن العهد به إذ ذاك بعيدًا، فقد أدركه الجبرتي وكانت وفاته في عام ١١٩٢ هجرية — رأى أنه قد أحاط من دوائر هذه العلوم بكثير»، وهذا رفاعة نفسه نعلم كيف اصطفاه الشيخ حسن العطار، وكيف رسم له خطة الدرس في أُوروبا، وقد تحدث رفاعةُ في رسالة للعلامة الفرنسي جومير بعد عودته من فرنسا عن حسن استقبال العلماء له، وعن قراءة شيخ الإسلام لرسالته في وصف رحلته، وعن عزم الشيخ علي رجاء الوالي أن يطبع الرسالة ليحبب للمسلمين التغرب في طلب العلم من أجل منفعة مواطنيهم.

الحق أن من علماء ذلك الزمان من أوجس خيفة من ذلك الاتصال بعلم الغرب؛ لا استنكارًا لذلك العلم في حد ذاته ولكن إشفاقًا مما يؤدي إليه الاتصال من النتائج الوخيمة، فاتخذوا خطة سلبية وَسَمَها مَنْ درسها من الأوروبيين باسم «الخطة الوهابية».

وقد روى مؤرخ الحرب الصليبية «ميشو» في رسائله من مصر في سنة ١٨٣١م حديثه مع عالم من من هذا الطراز وهو مفتي المنصورة، قال المفتي: «إن مثل الشرقيين في محاكاتهم الغربيين والنقل عنهم مثل الرجل الكفيف الذي ارتطم في وهدة يدعو المارة إلى مده بقبس من النار، وماذا ينفعه القبس؟ أنتم معشر الغربيين تتهمون الشرقيين بأنهم جامدون وأنهم دائمًا حيث كانوا، ولكنكم أنتم لا تعرفون متى وأين تقفون، وبذلك تذهبون إلى أبعد مما تقصدون، وعندي أن مجاوزة الهدف أسوأُ من العجز عن بلوغه، هذه مثلًا نظرياتكم السياسية الجديدة، هل نفعت عامتكم حقًّا؟ أَنَشرت النور حقًّا؟ لا، لم تؤد — فيما سمعت — إلا إلى الثوران والاضطراب، فما أشبه مدينتكم بتلك الوسائل المتخمرة التي تحطم الإناء الذي نَصُبُّها فيه.»

وهذا المستشرق «لين» يصور لنا سوء ظن العامة بمن عاشر الأوروبيين من المسلمين، قال: «كنت جالسًا يومًا عند أحد باعة الكتب فأتى رجلٌ يطلب نسخة من رحلة رفاعة، فسأل أحد الحاضرين عما في هذا الكتاب، فتطوع رجل لإجابته بطريقة تهكمية تبين رأي العامة فيه، قال ذلك المتطوع: أنا أقص عليك نبأ هذه الرحلة بالحق، إنها تحتوي على وصف سفر رفاعة من الإسكندرية لمرسيليا وعلى ما جرى له في أثناء هذا السفر عندما سكر وعربد، عند ذلك أمر الربان بشد وثاقه إلى صاري السفينة وجلده، ثم نزل بلاد الإفرنج حيث طاب له لحم الخنزير ومعاشرة النساء الإفرنجيات، ثم بعد أن ارتكب من الموبقات كل ما يعد له مقعده من النار عاد إلى مصر.»

تلك الحالة التي تُصورها هذه الأحاديثُ هي ما حدا ببعض الباحثين الأوروبيين — في ذلك الزمان — إلى الاعتقاد بأن أول واجب على الحاكم المصلح في البلاد الشرقية هو أن يَهدم البناء القديم؛ فلا خير فيه لأهله، وأن ينبذ تلك العلوم والمعارف التي طلبوها مئات السنين دون أن يحققوا بها لأنفسهم أو للإنسانية نفعًا، ثم ينشئ بعد ذلك معاهد جديدة تُعلَّم فيها العلوم الأوروبية باللغات الأوروبية، قال بذلك قائلون منهم في المغرب الإسلامي، وقد دخل في حكم الفرنسيين وفي الهند البريطانية، وليس أوضح في بيان هذه المشكلة الإسلامية الكبرى مما جرى في الهند سنة ١٨٣٥.

اشتد الخلاف في تلك السنة بين أعضاء لجنة التعليم على ماذا تكون عليه خطتها، أتستمر الحكومة على ما جَرَتْ عليه حتى ذلك الوقت من الإنفاق على المعاهد القديمة التي تدرس فيها معارف الوثنيين بالسنسكريتيه ومعارف المسلمين بالعربية والفارسية، أم تعدل عن ذلك وتخصص المال لإنشاء معاهد جديدة تدرس فيها العلوم الأوروبية باللغة الإنجليزية؟ انقسم الأعضاء إلى فريقين: فريق انتصر للسياسة القديمة وعُرف أصحابه باسم المستشرقين أو أنصار الثقافة الشرقية، وفريق انتصر للسياسة الجديدة وعُرف أصحابه باسم أنصار الثقافة الغربية، وتولى زعامة الفريق الثاني الكاتب المشهور «ماكولي» وكان إذ ذاك في الهند يعمل في جمع القوانين، وقد فوضت إليه الحكومة رياسة لجنة التعليم وأَعَدَّ للدفاع عن قضيته مذكرة مشهورة، اعترف فيها ماكولي بجهله اللغات الهندية واللغتين العربية والفارسية، ولكنه استعاض عن ذلك بأن قرأ كل ما تيسرت له قراءتُه مما نقل من آداب تلك اللغات إلى اللغات الأوروبية، وتحدث في أمرها مع أهل العلم بها من الأوروبيين، وقال: إنه لم يجد من المستشرقين مَنْ ينكر أن ما يحمله رف واحد من الكتب الأوروبية يساوي كل آداب الهنود والعرب، وحتى دواوين الشعر التي هي أفضل ما في تلك الآداب هي دون الشعر الأوروبي في نظره، ثم إذا انتقل الباحث إلى التصانيف التي تتعلق بجمع الحقائق واستخلاص النواميس الكونية فإنه لا يستطيع إلا إيثار التصانيف الغربية من هذا النوع، مثل هذا يقال عن كتب التاريخ والأخلاق والطبيعة وغيرها.

ثم تساءل: أَمَا والأمرُ كذلك، أيجوز لنا أن نفضل على تعليم العلم الصحيح باللغة الإنجليزية تعليمَ لغات لا تؤدي إلى علم خليق بهذا الاسم؟ أيجوز لنا ألا نعلم العلم الصحيح والفلسفة الصحيحة والتاريخ الصحيح وأن نشجع من أموال الدولة طلب نوع من الطب يستحي بيطار إنجليزي أن ينسب إليه، ونوع من الفلك يثير قهقهة البنات في مدرسة إنجليزية ريفية، ونوع من التاريخ هو عبارة عما جرى لملوكٍ طولُ قامة الواحد منهم ثلاثون قدمًا وعمر الواحد منهم يزيد على ثلاثين ألف سنة، ونوع من الجغرافيا تتكون من وصف بحار من العسل أو من الزبدة؟ وكيف يحق للمشرفين على حكم الهنود من الإنجليز أن يفعلوا هذا والتاريخ كفيل بهدايتهم السبيل السوي؟

فهذه الأمم الأوروبية نفسها في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر أدركتْ أو أدرك زعماؤها أن لغاتها الوطنية لا تفتح لها خزائنَ العلوم والآداب، بل إنها لن تدرك بغيتها إلا بدراسة ما خَلَّفَه اليونان والرومان باليونانية واللاتينية، فأقبلوا على تلك الدراسات القديمة، وكانت ثمرة هذا الإقبال النهضةَ الأوروبية المشهورة. وهذه الروسيا في القرن السابع عشر، أحس ملكها العظيم «بطرس الأكبر» بما هي عليه من التأخُّر فعمل على إنهاض أُمَّته عن طريق إنشاء أرستقراطية مستنيرة متحضرة بحضارة الغرب، لا عن طريق تشجيع رعيته على الاستمرار في خزعبلاتها وصرف العمر في تقرير مسائل من نوع «هل خلق الله العالم يوم ١٣ سبتمبر أم لا.»

وقد رَدَّ المستشرقون على «ماكولي» بحجج يزينها رجحان العقل وبُعد النظر واتساع أفق التفكير، فأشاروا إلى تَأَصُّل الحضارة والثقافة في أرض الهنود، وإلى أَنَّ علومهم وآدابهم ليست السخافات التي صورها «ماكولي» ثم قرروا أن البريطانيين قد قطعوا على أنفسهم عهدًا باحترام عادات الهنود ونُظُمهم الاجتماعية، فكيف يجوِّزون لأنفسهم أن يَهْدِموا ما تعهدوا باحترامه، وبينوا أن إحياء العربية والسنسكريتيه هو بالضبط مقابلٌ لإحياء اللاتينية واليونانية في تاريخ الثقافة الأوروبية، وختموا كلامَهم بالحجة الدامغة، وهي: أنْ لا خير لأمة في إبعادها عن الجو الروحي الذي نَمَتْ فيه نفسها، وأن نظم التربية والتعليم إن لم تقم قواعدُها على ثقافة القوم بقيتْ أمرًا سطحيًّا، لا نفع فيه ولا دوام له.

هذه أوجه تلك المشكلة العامة، أوضحنا شيئًا من عموميتها واختلاف الآراء فيها، فكيف واجهها محمد علي؟ اتخذ بين المستشرقين والمستغربين خطة وسطًا، يدلك على ذلك أن «ماكولي» استشهد بما علمه محمد علي في مصر لتأييد ما ذهب إليه من ضرورة تعليم العلوم الحديثة، كما أن خصوم «ماكولي» من أنصار الثقافة الشرقية استشهدوا أيضًا بمحمد علي لتأييد ما ذهبوا إليه من ضرورة وصل حاضر الأُمَّة بغابرها، فقالوا — وكان حقًّا قولهم: إن مصلح مصر يعلم العلوم الحديثة، ولكنه يعلمها باللغة العربية وإن التعليم الذي صح أن يوصف بأنه التعليم القومي وهو التعليم المنتشر في قرى مصر وحواضرها قد أبقاه محمد علي على أوضاعه المألوفة.

أي أن محمد علي واجه مشكلة الثقافة عمومًا ومسائل التربية والتعليم خصوصًا بروح الاعتدال وتغليب المنفعة على النظريات، فتجنب الإملاء على الناس كما تجنب الفصل بين نظم ونظم، فلم يخلق «ثنائية» في معهد التعليم بل تمت تلك الثنائية في أيام الجيلين الحاضر والسابق من المصريين، وبرضاء أبناء الجيلين الحاضر والسابق تمامًا فكان الانقسام إلى معسكري القديم والجديد، ولم تَعْرِفْ أيام محمد علي «الشهادة» مفتاحًا وحيدًا لولوج معهد ما، كما أنها لم تعرف إلا ثقافة عربية إسلامية في كل مكان، أضاف إليها إعدادًا فنيًّا في أمكنة معينة.

وأثبت محمد علي أمرًا أساسيًّا آخر، هو: أن التربية والتعليم شأنٌ من شئون الدولة، تتكفل به مهما كلفها، وأن زمان ترك شئون التعليم للأفراد والطوائف تقوم به أو تهمله قد انقضى، ولكنه ترك للأفراد وللطوائف قدرًا عظيمًا من الحرية، هو أثمن ما خلفه في سياسته التعليمية.

•••

تلك السياسة التعليمية كانت — فضلًا عما ترمى إليه من نشر الاستنارة العامة — أداةً مهمة من أدوات خلق الفنيين من رجال الأرستقراطية المحمدية العلوية، وتلك الأرستقراطية قد أَلْمَمْنا بمهمتها في نظر محمد علي، ونصيبها في اصطناع قوة الحديد والعلم والمال.

والمال — بأعمِّ معانيه — يُنال بتنمية الموارد للإنتاج، وقد رأينا فيما سبق كيف رفع محمد علي تنمية الموارد واستغلال المرافق إلى مرتبة عرفان نعمة الله — سبحانه وتعالى — وحمده عليها، ينمى الموارد؛ لأنه لا يستطيع أن يحتمل رؤية الخراب أو الصائر إلى الخراب، وينميها لأنه يريد أن يُعلِّم وأن ينشئ جيوشًا وأساطيل ليُحيي عالمًا راكدًا ليوقظ أممًا من سبات الدهور، ولا يطلب شيئًا لنفسه، فذوقه ذوق البساطة الأنيقة، تملأ العيون هيبته بإشعاع من خلقه وخلقه متلائمًا مع اختفاء الجواهر والألوان، تلك هيئتُهُ في رُكُوبه وفي منزله، يفيض على مَنْ حوله من سحر الحديث وأدب المجلس ما بهر القريب والغريب وفعل في النفوس ما لا تفعل أبهة الحراس والحاشية والهيئات المبهرجة والسيوف المنتضاة، قال مرة لزائر أجنبي: انظر ماذا ترى حولي من هيئة الباشوات؟ لم يبقَ منها الكثير: بعض القواسين، أصحاب العصي المفضضة وبعض الدواوين، ولكن نقش خاتمي كان دائمًا: «محمد علي».

فطلب المال للعمران (أو كما كانوا يقولون إذا ذاك للعمارية)، ولقوة المال ويهمنا — جريا على خطتنا — أن نضع سياسته الاقتصادية موضعها الصحيح في التطور الإسلامي.

حدد الأستاذ ماسينيون المثل الأعلى الإسلامي في أُمور الاقتصاد على الوجه الآتي قال: «إن الإسلام له ميزة إقامة مساهمة الأفراد في موارد بيت مال الأمة على قاعدة المساواة وإنه يكره التبادل الطليق من كل قيد، واكتناز المال للأعمال المصرفية البحتة، واقتراض الدولة للمال، وفرض المكوس على السلع اللازمة للحياة، وهو — من الجهة الأخرى — يؤيد حقوق الأب والزوج وحق الملكية وتنمية المال للتجارة، فيقف في الواقع موقفًا وسطًا بين الرأسمالية والشيوعية.»

ولا ينبغي أن نفهم الجزء الأخير من قول الأستاذ على وجه التحديد الحرفي أو الضيق، فإن مراد الأستاذ أن يقول: إن المثل الأعلى الإسلامي يؤكد الناحية الاجتماعية أو مصلحة الأمة في حكمه على نواحي الجهود الفردية الاقتصادية، ولا يرجع ذلك إلى بقية بقت عن اعتبار المال عرضًا زائلًا، وأن الباقيات الصالحات خيرٌ عند الله وأبقى فحسب بل يرجع أيضًا إلى توكيد مصلحة الجماعة، ومن ثم كان استنكار فرض المكوس على لوازم المعيشة، ومن ثم المحاولات العديدة لتحديد السعر العادل والأجر العادل في المعاملات، هذا من ناحية.

وأما من الناحية الأُخرى فالموقفُ الإسلاميُّ يشبه الرأسمالية في طور من أطوارها من حيث عدم قيام الدولة بالمشروعات الاقتصادية وتركها الحرية (المحدودة طبعًا بحدود ضرورة المراقبة وحماية المصالح العامة) للجماعات والأفراد، فليس للدولة الإسلامية — كما كانت — خطة تنمية الموارد وزيادة الإنتاج على ما نألفه الآن، إلا من حيث التدخُّل في أوقات الأزمات أو المجاعات لحفظ الأرواح أو التدخل لصيانة موارد الخزانة بصيانة المنشآت العامة وقطع دابر الفتن والبغي أو ما تقتضيه مصالح التجارة الخارجية من المفاوضات والاتفاقات مع الدول الأجنبية أو ما يلجئ إليه إسراف أصحاب السلطان وجشعهم من اتخاذ الحيل والألاعيب لملء الخزانة (بالمعنى الحرفي) كأنواع المصادرات والتلاعب بالسكة ودخول السوق للمتاجرة، وما إلى هذا كله.

وشئون الزراعة وما يتصل بها لها مقامٌ خاص في الاقتصاد الإسلامي في بعض أقطار الإسلام كمصر والعراق والهند، فالزراعةُ يتوقف عليها قوت الرعية، والأموال المفروضة على الأرض الزراعية مربوطةٌ عليها عطاءاتُ الأجناد، سواء أكانوا أحرارًا كما في صدر الإسلام أم عبيدًا أو في حكم العبيد كما هو الحال فيما بعد، فاكتسبت الزراعة وأرض الزراعة وأهل الزراعة؛ وضعًا خاصًّا جامدًا في الاقتصاد الإسلامي، أخرج الزراعة وأرض الزراعة من نطاق التجارب والتبادُل الحر، وأخرج أهلها من نطاق التمتُّع بالأهلية الكاملة وأدخلهم في نطاق الأدوات البشرية، قصرت الزراعة بصفة أساسية على إنتاج ما يلزم لغذاء الأهليين وملبسهم وامتنع التفكير فيما عدا ذلك (كالإنتاج الزراعي للتصدير للخارج مثلًا) حذر نقصان الضروريات، وامتنع التداوُل الحر في الأرضين حذر نقصان الغلة وتأثر أرزاق الأجناد بذلك، وخضع الفلاحون لنظام مقيد لحريتهم، معطل لشخصيتهم خضوع الجندي للقانون العسكري، فأَمْرُ الفلاح وأَمْر الجندي سواء في نظر المصلحة العامة.

لهذه الأسباب جمدت الزراعة على الحالة التي اطمأنَّ المجتمع بالخبرة والواقع إلى أنها الحالة الملائمةُ لظروف التربة والمناخ وما إليهما من عوامل الإنتاج الزراعي، وانعدم التداوُل الحر في الأرضين ونشأ التزام الأموال المفروضة على الأرض الزراعية، وتولى الملتزمون تنفيذ قانون الفلاحة، والباحثون في تاريخ الاقتصاد الزراعي المصري يغفلون عادة عن الوجه الصحيح لتحديد موضوعهم، فيدورُ كلامهم عادة على محاولات لا تُجدي للبحث عن نظريات للملكية مختلطًا بأحكام مستخرَجة من التاريخ الأوروبي أو من القانون المدني النابليوني، وهذه الأشياء وأشباهُها لا تتصل بالموضوع فهو — كما رأينا — أعمُّ من نظريات الملكية ومن طرق جمع الضرائب ومن تاريخ حاصلاتٍ زراعية بعينها، وهو — كما رأينا — نظامٌ خاصٌّ لا يستند إلى تشريع إسلاميٍّ بعينه، بل تَكَوَّنَ وتَجَمَّدَ لِيلائم ظروف البيئة الطبيعية والاجتماعية — وهو في الجملة — نظام واجبات «لا نظام حقوق».

تحطيمُ هذا النظام الذي خلقتْه أجيالٌ عديدة جدًّا من الحياة المصرية تم على يد محمد علي، وسهل عليه التحطيم لأن القوة التي وُجد من أجلها النظام والتي كانت تقف دائمًا دون مَسِّهِ كانتْ قد تلاشتْ في وقت محمد علي، ذلك أن الأصل — كما شرحنا — رَبَطَ أرزاق الأجناد على الأموال الأميرية المفروضة على الأطيان، ولما ضعف أمر الأجناد في العهد السابق للفتح الفرنسي تطرق الضعف والاختلال للنظام الزراعي كله، فاختل أمرُ الضرائب، ووَضَعَ كل من يستطيع يدَه على ما يستطيع من الأرضين أو من الحقوق الأميرية، وخرجت مساحاتٌ واسعةٌ من نطاق الضرائب لتكون رزقًا إحباسية وهكذا. حقيقة بقي من النظام: جمودُ الزراعة على ما هي عليه، منع التداول الحر في الأرض، وقانون الفلاحين، ولكن كان قد زال عنه حُماتُه الطبيعيون: الأجناد.

وأول ما مَسَّهُ محمد علي كان في مرحلة الفحص والتحقيق عن الحقوق الأميرية، وبخاصة في شأن الأموال الأميرية، وكشف له التحقيق عن ضرورة وضع حَدٍّ لتشتيت السلطان، فقَرَّرَ إلغاء نظام التزام الأموال على الأرض مع بعض التعويض للملتزمين عن خسارة حقوق مكتسبة، وأدى ذلك إلى عودة الأرضين لولي الأمر وإتالة المباشر بالفلاحين، ثبتهم فيما كان في أيديهم وزادهم على توالي الزمن حقوقًا في أراضيهم، وإن بقوا طوال مدته على خضوعهم القديم لقانون الفلاحة، وتصرف في مساحات واسعة بالإنعام على رجال أرستقراطيته وأفراد بيته بشروط مختلفة أيضًا أهمها شرطُ الإصلاح والاستغلال.

واستطاع محمد علي بذلك أن يُشرف على تنفيذ السياسة الزراعية الجديدة التي رسمها، والتي كانت ترمي إلى عدم الاكتفاء بإنتاج ما يحتاج إليه السوق المحلي فقط، بل ترمي أيضًا إلى إنتاج حاصلات للتصدير، وبخاصة القطن المصري الجديد.

أما التداوُل الحر في الأرضين فلم يتم في عهده؛ لما سنشرحه بعد قليل، ولكن تغيرتْ طريقة النظر إلى الأرض تَغَيُّرًا تامًّا عما كانت عليه الحالة، وكانت الممهدات للنتائج التي ظهرت فيما بعد وأَخَصُّها نزولُ الأرض في سوق البيع والشراء وشَتَّى أنواع المعاملات والاستغلال.

والظاهرُ من كل هذا أن محمد علي أحدث ثورةً أو انقلابًا في نظامٍ عتيدٍ، وهذا صحيح لحد ما، ولكنه ليس بالصحيح في أمر أساسي يشترك فيه التنظيم الجديد والنظام القديم؛ فكلاهما يقوم على قاعدة واحدةٍ وإن اختلفتْ وسائلُها لبلوغ الهدف، هذه القاعدة لا تزال في عهد محمد علي كما كانت في النظام القديم: إن شئون الزراعة لها من المقام في الاقتصاد القومي ما يجعلها على حدة، وإن خطورة تلك الشئون لَمِمَّا يَستدعي هيمنة خاصة من جانب الدولة عليها.

حقيقة بطل في عهد محمد علي ربط أرزاق الأجناد بها، ولكن لا تزال هناك من الأسباب القوية ما يحمل على الاحتفاظ بالسيطرة التامة عليها؛ فهي لا تزال — كما كانت قديمًا — مصدر القوت اللازم للحياة، وهي — كما كانت قديمًا — مصدر أهم موارده من حيث الضرائب، وزاد على هذا في أيامه أنها أصبحت أهم مصدر لتغذية التجارة الخارجية، وزاد على هذا أيضًا اعتقادُه بأن الاستمرار في سياسة التحسين والإصلاح يقتضي بقاءَ الهيمنة في يده ولو إلى حين، وهذا يقتضي بقاءَ قيود الفلاحة على أهلها.

وقد قام محمد علي في — سبيل تنمية الثروة الزراعية — بصيانة منشآت الري والصرف وتجديدِها، ولم يكتفِ بهذا بل أحدث الانقلاب الكبير المعروف في نظام الري المصري، ومجمل تاريخ هذا الانقلاب ينحصر في تدبير حل لمسألتين: الأولى؛ زيادة الإنتاج الزراعي، الثانية: ضرورة تدبير ماء لري القطن — على الأَخَصِّ — في غير زمن الفيضان، ولمنع الماء من أن يَفيض على حقول القطن في زمن الفيضان. فالمسألةُ إذن هي ضبط النيل — كما نقول الآن — على وجه جديد، وكان حله الأول حفر الترع الطويلة العريضة العميقة؛ يجري فيها الماء معظم أيام السنة، وترتب على ذلك الحاجة الشديدة إلى تطهير مستمر شاق.

وقد وصف لنا المهندس لينان دي بلفون في تاريخه للأعمال العامة في عهد محمد علي ما استلزمه هذا التطهير من جهد وما قاساه الفلاحون من الشدة في أدائه، واتجه التفكير إلى تخفيف هذا العناء ببناء قناطر الدلتا، ولم يتم بناؤها في عهد محمد علي، وحتى عندما تم بناؤها لم تكن في حالة تسمح لها بأداء عملها على الوجه المقدر لها، ولجأ الخديو إسماعيل لاستخدام الآلات الرافعة، وعلى كل حال فقد بدأ محمد علي سياسة الري الدائم التي سارتْ عليها مصر منذ تلك الأيام.

وأمر الاحتكارات الصناعية يُشبه أمر السياسة الزراعية؛ في كونها ابتدأتْ من أجل زيادة موارد الخزانة، ثم تحولت إلى خطة عمرانية جريئة لإدخال الصناعة الكبرى بمصر، وهاك مثالًا من الاحتكار الصناعي في أول مراحله — كما جاء في الجبرتي، قال: «وفي أواخر سنة ١٢٣٢ حجر وضبط جميع أنواع الحياكة، وكل ما يصنع بالمكوك، وما ينسخ على نول أو نحوه من جميع الأصناف، من إبريسم وحرير أو كتان، إلى الخيش والحصير في سائر الإقليم المصري.

وانتظمتْ لهذا الباب دواوين ورتبوا لذلك كُتَّابًا ومباشرين بالنواحي والبلدان فيُحْصُون ما يكون موجودًا على الأنوال بالناحية من القماش والأكسية الصوفية المعروفة بالزعابيط والدفافي ويكتبون عدده على ذمة الصانع، حتى إذا تم نسجه دفعوا لصاحبه ثمنه بالفرض الذي يفرضونه وإن أرادها صاحبُها أخذها من الموكلين بالثمن الذي يُقَدِّرُونه بعد الختم عليها من طرفيها بعلامة الميري، فإن ظهر عند شخص شيءٌ من غير علامة الميري أُخذ منه وعُوقب وغرم، ويطوف الموكلون بمباشرة الأنوال على النساء اللاتي يغزلن الكتان فيشترون ذلك بالثمن المفروض ويُسلِّمونه للنساجين ثم تُجمع أصناف الأقمشة في أماكن للبيع بالثمن الزائد …» إلى آخره.

ثم حدث بعد هذا العدولُ عن هذا وأشباهه والشروعُ في تشييد المنشآت الصناعية الكبرى المجهَّزة بالآلات الجديدة، والتي بفضلها تَمَكَّنَ محمد علي من كسوة جيشه وتسليحه وبناء أُسطولٍ ضخم في الإسكندرية، فعل هذا في وقت قيام أصحاب مذهب «مانشستر» البريطانيين الداعين إلى ضرورة تخصص كل إقليم بما يصلح له بحكم الطبيعة، فلا ينبغي للإقليم الزراعي بطبيعته أن يحاول أن يكون صناعيًّا وهَلُمَّ جَرًّا، وكانوا قومًا يكرهون تولي الدولة القيام بأي مشروع صناعي، كما تحمسوا أشد التحمس للتبادل التجاري الطليق، فلا عجب أن كره من زار منهم مصر (مثل: كوبدن المشهور أو الدكتور بورنج) سياسة محمد علي الصناعية، بل وبينوا له أن الأولى به أن يصرف جهده في تنمية ما تصلح له مصر (كزراعة القطن مثلًا)، كما أن شراء المصنوعات المتقنة من أوروبا يكلفه أقل من صنع مثيلاتها في بلاده، وأظهروا نواحي الضعف في إدارة المصانع وانتقدوا توجيه الأيدي العاملة من الحقول للمدن.

والواقع أن كل هذا واضح لمحمد علي وضوحه لزواره الأجانب، والرد عليه ليس عسيرًا؛ فإن هناك اعتباراتٍ تتعلق بسلامة الوطن يهون بجانبها حسابُ الربح والخسارة، وهناك مصلحةٌ قوميةٌ في تنويع الإنتاج وفي تكوين الصناع الماهرين، تقتضي تنمية الصناعة مهما كلف ذلك، هذا من حيث الاعتبارات القومية العامة، أما من حيث هذه المنشآت الصناعية بالذات فقد ثبت أنها لم تصرف الأيدي العاملة عن الحقول، حقيقة كانت أزمة الأيدي اللازمة في الريف مستمرة طول عهده، ولكن ذلك لا يرجع للصناعة الجديدة وإنما يرجع للتجنيد، أما تَوَلِّي الدولة المشروعات الصناعية فتفسيره أنه — في ظروف مصر إذ ذاك — إن لم تقم بها الدولة فلا يقوم بها أحد.

والصناعة الكبرى لم تخفق في مصر — كما يتوهم الكثيرون — إن الذي حدث كان عدولُ محمد علي عن الاستمرار في منشآته الصناعية بعد إنقاص جيشه ومحو أسطوله.

ولكن الصناعة الكبرى الحرة ظلت على شيء من الحياة، والجذوة التي أشعلها لم تخمد، بل ظلت في انتظار من يُشعلها من جديد.

وكان في تدبير محمد علي أن يضيف الإنتاج الصناعي إلى الإنتاج الزراعي؛ لتنمية مادة التجارة المصرية الخارجية، وقد أدرك إدراكًا عجيبًا أن موقع بلاده فريد في نوعه، ووجوب استغلال ذلك الموقع كل الاستغلال، ولنسمع تعبيره عن هذه الحقيقة في وثيقة من وثائق حكمه: «إنه بالنسبة لموقعها الجغرافي إقليم ومرسًى لأهالي بلاد المسكونة البالغ نفوسها ٦٠٠ مليون تقريبا.»

أما وهذا شأن التجارة الخارجية؛ فكان مما لا بد منه أن تتولاها الحكومة، وأن يوليها العناية الكبيرة والإشراف الدقيق، كان لا بد من ذلك في زمانٍ انعدمتْ فيه الأدواتُ اللازمة للمعاملات التجارية الكبرى، فأين المصارف التي تموِّل التاجر، بل أين الأموال اللازمة لهذا التمويل، وأين أدوات النقل والتأمين، بل وأين أدوات تحديد الأسعار متصلة بمثيلاتها في الأقطار الأخرى، فلا غنًى إذن في ذلك الطور من نمو مصر عن مباشرة ولي الأمر شئون التجارة الكبرى وخاصة أنه استطاع بتلك المباشرة أن يوجه الاستيراد نحو حاجاته الأساسية.

أتُريد مثالًا لطريقة محمد علي وأهداف محمد علي؟ عندما صدر «القطفة» الأولى من القطن الجديد إلى لانكشير كان ذلك بواسطة بيت بريجز المستقر في مصر وإنجلترة، وقد كلف بيت بريجز أن يخصم على ثمن بيع القطن نفقات تعليم الشبان المصريين بإنجلترة واسكتلندة وإصلاح سفينة حربية له في إنجلترة، ألا ترى الجمع بين الحديد والعلم، ألا ترى أن الوسيلة المال؟ هذا شأن التجارة الخارجية يغذيها الإنتاج الزراعي الجديد وَقِسْ على ذلك معاملاته مع مرسيليا وتريستا ومع بمباي وامتدادها للأقطار الأفريقية والجزيرة العربية وأقاليم العالم العثماني.

وقد فهم التجارة الخارجية على وجهها الصحيح، أنها تقوم على تبادُل المنافع، ولكنه كان حريصًا على أن يحدد هو وجه انتفاعه منها، لا أن يحدَّد له، أو قل: إنه كان حريصًا على أن ينفع وأن ينتفع ولكن لا على أن يُستغل، وقد فهم أيضًا العناصر السياسية في نمو العلاقات التجارية، فأدرك أنها طريقٌ من طُرُق استرداد الشرق احترامَه لنفسه وثقته في نفسه، واحترام النفس والثقة في النفس مظهرُ تلك «المحافظة على شرف الناموس» التي ذكرها رفاعة ضمن صفات محمد علي، والتي قلنا: إنها جماع خلقه.

تحيي التجارة الخارجية — محوطة بشروطه وضماناته — قيمة العالم العثماني، وهذا الإحياء يكسبه وسائل الأخذ والعطاء، يُمَكِّنُه من أن يساوم مساومة القوي السخي، وأن ينال نظير ما يعطي وكان لا يهاب الأخذ والعطاء، ولا يخشى نُمُوَّ العلاقات وتوكيدها، ولا يختفي وراء كثبان صحاري مصر حذر عواقب الاتصال والمخالطة، فعل الضعفاء، بل يعامل ويخالط — مرفوع الرأس — وبيده ما يحافظ به على شرف ناموسه تمام المحافظة؛ ففي يده قوة الحديد.

•••

ولم تكن القوة في نظره إلا وسيلة لا غاية، لم تكن إلا آلة العيش الكريم، فقد كان بطبعه كارهًا لسفك الدماء، مُؤْثِرًا للاعتدال، لا يضع سيفه حيث يَكفيه سوطُه، ولا سوطه حيث يكفيه لسانه (كما قيل عن عَلَم آخر من أعلام الإسلام)، قال رفاعة — مفلسف النهضة: «وقد كان السلف لا يعملون شيئًا إلا أن تتقدمه النية الخالصة، ومع ذلك فقد نص العلماء أَنَّ من حج بنية التجارة كان له ثوابٌ بقدر قصده للحج، فكذلك الفاتح لمملكة إذا نوى إصلاح حالها وتربية أهلها وتهذيب أخلاقهم وإسعادهم وتنعيم بالهم وتحسين أحوالهم برفع الظلم عنهم، كما يقضي به حسن الظن في حق المرحوم محمد علي، وكما هو الواقع فهو مثابٌ قطعًا، ولو داخله قصد منفعة دنيوية مما لا يفارق الملوك من حب المحمدة في غالب الأحيان.»

ثم مضى رفاعةُ في عرض سريع لحروبه، وانتهى به إلى الملاحظة الدقيقة، وهي أن تلك الحروب «لم تكن مِنْ محض العبث، ولا من ذميم تعدي الحدود؛ إذ كان جُلُّ مقصوده تنبيهُ أعضاء ملة عظيمة، تحسبهم أيقاظًا وهم رُقود»، لم يعبث بالقوة ولم يَلْه بالحرب وبالعسكرية، بل الأمر كله جد وكله أعباء.

فقد حَلَّ محمد علي مشكلة تكوين القوة العسكرية على الوجه الذي أَوْجَدَتْه الديمقراطية الفرنسية وليدة الثورة الفرنسية؛ أي التجنيد العام، وسوَّى بذلك أمرًا استعصى على الحكومة الإسلامية منذ صدور الإسلام، فمن استخدام لأهل المناطق الجدباء إلى جمع العبيد بيضًا وسودًا، حاولت الحكومة الإسلامية هذا الحل أو ذاك، وكان سرَّ اضطرابها وتزعزُع كرسيها ونفاد مواردها، وجال فكر محمد علي في المشكلة واهتدى إلى اقتباس الحل الفرنسي، واستخدم للتدريب ضباطًا أوروبيين وأنشأ معاهد الدراسات العسكرية، ولكن ذلك الجيش المصري الأول لم يكن — كمثيله الفرنسي — وليد الفكرة الديمقراطية القائمة على المشاركة التامة في الحقوق والواجبات.

بل أضاف محمد علي عبء الجندية على الأعباء الأخرى التي حملها الفلاح المصري، ولكننا لا نستطيع أن نقول: إن جيلنا نحن قد جعلها بعدُ خدمة قومية عامة، فلنكنْ في نقدنا حذرين! ولعل حمل الفلاحين المصريين وحدهم أعباء الجندية واستحقاقهم وحدهم شرف المباهاة بالانتصارات الإبراهيمية كانا باعثين على اتجاه التفكير السياسي المصري في أطواره التالية لعصر محمد علي نحو تقرير المساواة في الحقوق.

ولما كان نطاق السياسة المحمدية العلوية العالم العثماني كله؛ فقد ظهرت له أهمية القوة البحرية أجلى ظهور، عرف ضرورتها، سواء أكان ذلك للحماية أم للعمل السياسي، فبذل أموالًا جمة لشراء السفن وتسليحها وجَمْع رجال البحر القُدامى، وإعداد الجُدُد، ولما تحطم ذلك الأسطول الأول في خليج نافارينو استقر رأيه توًّا على بناء أُسطول جديد في دار الصناعة بالإسكندرية، كان له نصيبُه في حروبه مع حكومة السلطنة.

وخط بحرية محمد علي غير خط الجيش، تلك اختفت بعد حوادث سنة ١٨٤٠، ونستطيع أن نتصور كيف حز هذا في نفسه، وقد شهد بعينيه في ساعات الفجر والضحى والزوال وفي أيام الحر والقر؛ كُتَلَ الخشب والحديد ولَفَّات الحبال والقماش تتحول في أيدي صُنَّاعه المصريين غلايين وفرقاطات، وكان يوم إنزال السفينة في البحر كاملةَ العدد والعدة من أيامه المشهودة.

والجيش بقي، إلى أن صدر دكريتو من مادة واحدة في سنة ١٨٨٢ والمادة هي: إلغاء الجيش المصري.

•••

رأي أصحاب الاشتراكي سان سيمون في محمد علي مصطنع الحديد والمال والعلم، محقق الحلم الذي حلموه، فاتحة العصر الذهبي الذي رجوه، أشادوا بالرجل الذي جمع في يد واحدة السيف والآلة، واتخذ منهما معًا أداة واحدة، الذي خلق من آلات القتال وآلات الإنتاج نظامًا واحدًا منسجمًا، قال رئيسهم انفانتان: «في أوروبا القوة السياسية تكافح القوة الصناعية، أما في مصر فلا كفاح، ففيها مَنَعَ امتزاج القوتين عن المجتمع الفتنَ والاضطراب، يسيطر ولي أمرها على الزراعة والصناعة والتجارة والعلوم والفنون والجيش والبحرية، وبهذا يستطيع أن يكبح جماح عناصر الجمود أو الرجعية وأن يُطلق العنان للقوى المنتجة»، هذا رأي، وهذا الفيلسوف بنتام يبدي إعجابه بالحاكم المسلم الذي حرر نفسه من خزعبلات الماضي وأوهامه، ويشير عليه «بتطعيم» نُظُمه بشيء من «البنتامية»: في نظم الحكم وفي طرق تدريب ولي العهد، بذلك يكتسب لمنشآته قوة على مغالَبة الأيام.

وليس محمد علي بالرجل الذي لا يعرف للفلسفة حقها أو للفلاسفة قدرهم، على قلة ممارسته لبضاعتهم، والواقع أنه أقام على المعنويات أكثر مما أقام على الحِسِّيَّات (شأن الرجال العمليين)، وأن دوافعه وحوافزه كانت كلها أخلاقية: الكرامة، الجد، الرفعة، العمران، إيقاظ الهمم، إلا أن تعبيره هو عن عمله أصدق وأبسط من تعبير أنفانتان، قال في حديث مع بوالكمت:

لقد وضعت يدي على كل شيء، ولكن لكي أجعل كل شيء مثمرًا.

والمسألة مسألة إنتاج، وإذا لم أقم به أنا، فمن يقوم به غيري؟ أين الذي كان يقدم الأموال اللازمة ويشير بالخطط التي تتبع والمزروعات التي تُزرع؟ أين الذي كان يستطيع أن يأخذ الناس (ولو على الرغم عنهم) بطلب العلوم والمعارف التي ترتب عليها تفوُّق أوروبا؟ أتعتقد أن أحدًا في هذه المملكة خطر له أن يجلب القطن والحرير والتوت؟ لا أحد، كان لا بد لي أن أقود هذه البلاد قيادة الأطفال، وإن تركها لنفسها يسلمها للفوضى التي أخرجتْها منها.

وقد نَوَّهَ المُنوِّهون بتمكُّن محمد علي من القيام بكل ما قام به بدون أن يستدين، وقد كان مُعاصروه يتوقعون له الإفلاسَ المالي سنة بعد أخرى، وفي كل سنة لا يحدث ما توقعوه، تلك حقيقة تستحق التنويه، وقد نسبوها إلى أنه «كان لا يُخرج القرش قبل أن يعرف أين سيضعه»، وهذا صحيح، ولكن الأمر أعمقُ من شئون التدبير المنزلي، لم يستدن محمد علي ولم يفلس؛ لأنه حرم نفسه ورعيته من أكثر أرباحه وأرباحهم، من الكد في الزراعة والصناعة والتجارة، فكان شأنه شأنَ المشتغل بعمل صناعي يضيف ربح كل سنة لرأس المال أو ينفقه في إضافات وتحسينات ولا يُمسك منه إلا قدرًا يسيرًا، هذا هو السر، نذكرُه لنذكرَ معه محمد علي وجيل محمد علي من الفلاحين المصريين بالشكر وعرفان الجميل؛ فقد شقوا لنسعد، وكَدُّوا لنهنأ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤