الفصل الثامن عشر

حوادث السُّودان سنة ١٩٢٤

زاد اهتمام الرأي العام المصري بأمر السُّودان في سنة ١٩٢٤ لمناسبة دعوة الحكومة البريطانية «وزارة ماكدونالد والعمال» لوزارة المغفور له الزعيم الخالد سعد زغلول باشا سنة ١٩٢٤ للمفاوضة، وقد كثُر تحدُّث البرلمان والصُّحف والجمهور عن السُّودان، وتألفت في البرلمان لجنة للسُّودان برياسة حضرة صاحب العزَّة أحمد حمدي سيف النصر بك، وشعرت مصر لأول مرة بأنَّها تحيا حياة حرة مستقلة، وأنَّ أمرها بيدها، وكان لهذا صداه في السُّودان؛ إذ نشطت جمعية اللواء الأبيض، ثمَّ جمعية الاتحاد السُّوداني، وتألفت المظاهرات وهتفت بحياة سعد، وهو ما رآه السُّودان لأول مرة بعد سكون عميق فيما مضى.

وقلقت الحكومة السُّودانية لهذه الظواهر، وخشيت اضطراب الأمن، وزاد في عمق الحوادث، فشل مفاوضات سعد — ما كدونالد، ثمَّ مقتل السردار سيرلي ستاك، وترتَّب على ذلك إلغاء المدرسة الحربية بالسُّودان وسحب الجيش المصري وتأليف قوة الدفاع عن السُّودان، وإجراءات أخرى ما زالت قائمة إلى اليوم.

وقد أصبح في عنق المؤرِّخ الصادق أن يدوِّن هذه الأحداث بقدر ما وصل إليه جهده وفي طوق كتابه؛ ولهذا ندون الحوادث فيما يلي:

(١) السُّودان ومعرض ومبلي

في سنة ١٩٢٤ أقيم في ومبلي بإنجلترا معرض عظيم. وتقرر اشتراك السُّودان فيه، وكان المغفور له سعد زغلول باشا رئيسًا للوزارة، فأرسل إلى السير لي ستاك الحاكم العام للسُّودان البرقية التَّالية:

وصل إلى علمي أنَّ السُّودان سيُمثِّل رسميًّا في معرض الإمبراطُوريَّة البريطانية الذي سيُفتتح قريبًا في ومبلي، أرجو إفادتي على أي قاعدة دُعي السُّودان للاشتراك في هذا المعرض الخاص بالمستعمرات، وكيف قبلتم أن تشتركوا فيه من غير إذن الحكومة المصرية!!

فتلقى من اللُّورد اللنبي المندوب السَّامي بمصر خطابًا بأن حاكم السُّودان العام. أخبره بتلغراف دولته بشأن تمثيل السُّودان في معرض ومبلي، وأنَّه أرسل تلغرافًا بطلب المعلومات من حكومته عن جلية الأمر ومتى ورد إليه الرد أخبر دولته به حال وصوله. فأرسل المغفور له سعد باشا التلغراف الآتي إلى حاكم السُّودان:

بعثت إليكم بتاريخ ٣٠ إبريل الماضي برقية لم ترسلوا الردَّ عليها، ولقد أخبرني اللُّورد اللنبي أنكم خاطبتموه بخصوصها، وحيث إنَّ المسائل التي كلفتكم بها من شأنكم دون سواكم لنعلقها بأعمال هي من خصائصكم، فإني ما زلت في انتظار الردِّ منكم، وأرجو أن لا يتأخر الردُّ زيادة عمَّا مضى.

وفي اليوم نفسه أرسل دولته تلغرافًا إلى عبد العزيز عزت باشا وزير مصر المفوض في لندن؛ ليحتجَّ بشدة لدى الحكومة البريطانية «أولًا: على كون الحكومة البريطانية أقدمت على دعوة السُّودان رأسًا ورسميًّا للاشتراك في معرض خاص بالمستعمرات بدون علم الحكومة المصريَّة وتخطيًا لها، وثانيًا: على أن قبول حاكم السُّودان العام وقع بدون إذن سابق من الحكومة المصرية، وفي الأمرين اعتداء صارخ على حقوق مصر وعمل غير ودِّي موجه للحكومة المصرية». وقد ورد الردُّ تلغرافيًّا من الحاكم العام للسُّودان إلى دولة رئيس مجلس الوزراء بتاريخ ١٢ مايو سنة ١٩٢٤، وهذا نصُّه:

آسف أشد الأسف لتأخر الردِّ على تلغراف دولتكم الرقيم ٣٠ إبريل، وقد أبلغت المعلومات التي طلبتموها دولتكم إلى المندوب السَّامي الذي هو الطريق المعتاد للمخاطبة بين الحكومة المصريَّة وحكومة السُّودان عملًا بالإجراءات المتَّبعة. وكنت أظن أن فخامته أبلغ دولتكم المعلومات المطلوبة إلى أن وصلني تلغرافكم الرقيم ١٠ مايو. على أني علمت أنَّه قام بذلك الآن.

وإنِّي أقدِّم اعتذاري على ما بدا من عدم اللياقة في تأخير الرد على برقية دولتكم؛ الأمر الذي يرجع إلى هذا الفهم الخاطئ. وهو ما آسف له كلّ الأسف.

وبتاريخ ١٢ مايو ١٩٢٤ كذلك تلقى سعد باشا من اللُّورد اللنبي خطابًا يقول فيه:

يلزمني أن أبيِّن لدولتكم أنَّ السير لي ستاك جرى في إحالة طلب دولتكم إليَّ طبقًا للتقاليد المعمول بها. فقد كانت القاعدة المقررة في الماضي أنَّ التَّخاطب بين الحكومة وحكومة السُّودان إنَّما يكون عن طريق المندوب السامي؛ لذلك فإنِّي أظن أنَّكم توافقون على أنَّ ما صنعه السير لي ستاك لم يكن فيه أيُّ مساس بالحكومة المصرية.

وأخبره في الخطاب نفسه بالمعلومات التي تلقاها من حكومته عن دعوة السُّودان لمعرض ومبلي، وفيها يقول:

إنَّ هذه الدعوة وُجِّهت منذ أكثر من سنتين من سكرتارية تنظيم المعرض لأهميته التجارية. ونظرًا لأنَّ كثيرًا من الأموال الإنكليزيَّة تشتغل في الأعمال التِّجاريَّة بالسُّودان، وصلت الدعوة عن طريق المندوب السَّامي، وأجابها حاكم السُّودان عن الطريق عينها للإجراءات المعمول بها، وإن الحكومة البريطانية لم يكن ليخطر لها أن تطلب أخذ رأيها إذا وجهت الحكومة المصريَّة دعوة لحكومة السُّودان لتشترك في معرض تجاري شبيه بهذا يُعقد في مصر. وقد سبق أن قبلت حكومة السُّودان مباشرة ودون رجوع إلى دار المندوب السَّامي أو الحكومة البريطانية ما عرضته الحكومة المصريَّة من تخصيص حجرة لمعروضات السُّودان في المكتب المصري للتجارة والصناعة بالقاهرة، وذلك في نيويورك سنة ١٩٢٠، ومن جهة أخرى فإنَّ معرض ومبلي ليس وقفًا على الإمبراطُوريَّة، بل إنَّ فيه أشياء أخرى متنوعة ذات فائدة عامَّة، مثل صورة لمسجد فارسي ونماذج لشلالات نياجرا، ومعرض من التيبت، وأخيرًا فإنَّه موصوف في الخرائط والكتالوجات المعروضة في القسم الخاص بأفريقيا الشرقية باسم السُّودان الإنكليزي المصري، ولذلك لا محل لتساؤل الزائرين للمعرض عن اشتراك السُّودان فيه.

وقد ردَّ عليه سعد باشا في ٩ يونيو سنة ١٩٢٤ بكتاب جاء فيه:

لقد أوضحت للمستر كار قبل سفره بالإجازة، وبعده للمستر فرنس أثناء الكلام معهما في هذا الشأن أنَّه من الصعب التَّسليم بأن تكون دار المندوب السَّامي واسطة التَّخاطب الطبيعية بين الحكومة المصريَّة وحاكم السُّودان العام، فإنَّ اتِّفاقيَّة ١٩ يناير سنة ١٨٩٩، ولو أنَّه ليس هنا مجال مناقشة أصلها ولا تحديد معناها، إلَّا أنَّه من الواضح أنَّها تتعارض في معناها وفي مبناها مع النَّظرية المذكورة في خطاب فخامتكم، وفي الحقيقة إنَّه يتَّضح جليًّا من نص المادة الثالثة من الاتِّفاقيَّة المذكورة أنَّ حاكم السُّودان العام موظف يُعيِّنه ملك مصر، ويستمدُّ سلطته من هذا التَّعيين ذاته. وتنصُّ المادة الرابعة صراحةً على أنَّ كلَّ إعلان للقوانين والأوامر واللوائح يجب أن يبلَّغ في الحال إلى المعتمد البريطاني في القاهرة وإلى رئيس مجلس النُّظَّار سمو الخديوي المعظم.

وبناءً عليه فإنَّ الطريق الطَّبيعي الوحيد للتَّخاطب بين الحكومة المصريَّة وحاكم السُّودان العام إنَّما هو الطريق المباشر، وهذا ما قصده واضعو اتِّفاقيَّة سنة ١٨٩٩.

وفعلًا كانت الحكومة المصريَّة وحاكم السُّودان العام يتخابران مباشرة في غضون المدة التي تلت توقيع الاتِّفاق.

ففي سبتمبر سنة ١٨٩٩ وصل إلى الحكومة المصريَّة من الحاكم العام للسُّودان رأسًا مشروعان بقانونين للعمل بهما في السُّودان مصحوبان برجاء من الحاكم العام للسُّودان إلى رئيس مجلس النُّظَّار أن يؤيدهما أمام المجلس، ففعل ثمَّ أرسل تلغرافًا إلى الحاكم العام يخبره بالمصادقة على المشروعين بعد إدخال تعديلات معيَّنة في نصوص الأوامر التي تنصُّ على سريان العمل بهما في السُّودان.

وقد ردَّ الحاكم العام في الحال معربًا عن شكره ومؤكدًا بأنَّه سيعمل بالتعديلات التي وضعها مجلس النظار.

وبما أنَّه لم يحدث بعد اتِّفاقيَّة سنة ١٨٩٩ إمضاء أيِّ اتِّفاق آخر مغاير لها، فلا يكون هناك أيُّ مبرِّر لاتباع طريقة أخرى للمخابرة بيننا وبين حاكم السُّودان العام.

أمَّا من جهة تمثيل السُّودان بمعرض ومبلي فقد بيَّنت أنَّه بالنظر إلى الظروف التي حدث فيها لا يمكن أن يبرره الحكم الثنائي في إدارة السُّودان الداخلية، كما أوضحت أنَّه ما كان يوجد لدى الحكومة المصريَّة أيُّ اعتراض على أن يمثّل السُّودان في معرض صناعي أو تجاري بحت. وليس هذا حال معرض ومبلي، ولذلك احتججت على تمثيل السُّودان في معرض المستعمرات البريطانية.

ولا شك أنَّه كان يسرُّني ألَّا يكون تمثيل السُّودان في هذا المعرض إلَّا في نفس الموضع الذي وضعه فيه تمثيل العجم والولايات المتحدة وتيبت في المعرض المذكور.

ولستُ في حاجة لأن أزيد على ما تقدم. إنِّي آسف لأنَّ هذا الحادث وقع ونحن على أبواب المفاوضات.

نعم إنَّ مسألة السُّودان كلها سيدور البحث عليها بيني وبين المستر ماكدونالد، ولكن من واجبي أن أحتجَّ على كلّ عمل أعتبره ماسًّا بحقوق مصر.

(٢) وزير مصر في لندن والسُّودان

كان سعادة عبد العزيز عزت باشا وزير الخارجية الحالي وزيرًا مفاوضًا لمصر في لندن سنة ١٩٢٤، وقد أدبت جمعية الشَّرق الأدنى والأوسط بلندن مأدبة عشاء تكريمًا لسعادته في ليلة ٢ مايو سنة ١٩٢٤ بفندق سفواي بلندن.

وكان بين الحاضرين أغا خان وألفيكونت كودراي ومعتمد بولونيا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وإيران وسيام والسفير الألماني ورجال المفوضية المصريَّة واللادي بويل التي كانت تستقبل المدعوين واللادي هيلانة بروكلهرست والأستاذ ألن جاردنر وقرينته واللورد لامنجتون واللورد هدلي واللورد كلفورد أوف شدلاي والسر جون فوستر فريزر والسر ديان ملكولم ميلريت والسر جورج ماكولي.

وقد خصِّص لهذه الحفلة خطيبان هما اللُّورد جلايشن رئيسها ومستر أرثر بونسنباي أحد أعضاء مجلس النواب.

وقد ألقى سعادة عبد العزيز عزت باشا في الحفلة الخطاب التَّالي:

أقدم شكري إلى الجميع من صميم الفؤاد على ما أبدوه من الشعور القلبي في الإجابة على نخب مولاي صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم وأقابل بالحمد والثناء ما نلته من الشرف بدعوتي هذه الليلة، وأشكر لحضرة النبيل اللُّورد جلايشن رئيس المأدبة ولحضرة صاحب المقام الجليل مستر بونسباي ما تلطفا به من القول ولأعضاء جمعية الشَّرق الأدنى والأوسط مساعيهم التي لا تعرف الملل في تعزيز التفاهم بين بريطانيا وبلادي. وإنِّي أشعر أنَّ نجاح هذه المساعي يعود الفضل فيه إلى الودِّ الأكيد والعواطف القلبية التي تستقبلون بها ممثلي الشَّرق الأدنى والأوسط، وأعدُّ هذا الاجتماع — وأنا واثق أن مواطنيَّ يوافقونني — شاهدًا على الصداقة الموجودة الآن بين بريطانيا ومصر — هذه الصداقة التي تحتاج إليها البُلدان كلّ الاحتياج.

إنَّني لم تضعف ثقتي قط بتقاليد بريطانيا القائمة على الحرية، والتي شادت عليها بريطانيا عظمتها الحقيقية. وهذا ما حملني على أن أبقى مطمئنًّا حتَّى في أظلم السَّاعات في تاريخنا الحديث، وما ذلك إلَّا لأنَّني كنت واثقًا أنَّ العدالة لن تفارق الروح البريطانية، فلم يهزني كلّ ما حدث؛ لأنَّني كنت على يقين أنَّه لا بدَّ من أن يأتي يوم يبادر فيه الشعب البريطاني نفسه إلى إنجاز العهود التي قطعتها بريطانيا لمصر. وإنَّني الآن سعيد إذ أرى هذا اليوم قد دنا، وأنَّ بريطانيا نفسها قد مدَّت إلينا يدها بإخلاص شأن الرجل الشريف الذي يعرف قيمة الصديق، فأؤكِّد لكم أنَّنا نصافح هذه اليد وقلوبنا تفيض إخلاصًا لأنَّنا نعرف أنَّ مصر تحتاج إلى صديق مخلص بين الأمم. ونحن موقنون أنَّه إذا تأكدت صداقة بريطانية ففي وسع وادي النِّيل بأسره أن يواجه المستقبل بثقة عظمى.»

(٢-١) مصر والسُّودان

كانت مصر — وما زالت — منذ عهد محمد على الكبير مؤسِّس الأسرة الحالية المالكة، راغبة كلّ الرغبة في التَّوصل إلى تفاهم مع الدول الغربية، وقد صافحت — بوافر الشكر — كلَّ يدٍ مُدَّت إليها بإخلاص لمساعدتها على تحولها إلى دولة عصرية. والتَّاريخ شاهد كيف تمكَّن محمد علي الكبير من تثبيت ملكه وإصلاح مصر وإدخال الأساليب المدنية إلى وادي النِّيل بأسره. وليس من المجهول عندكم أنَّه قد تأسَّست في عهده الزاهر إدارة عصرية عادلة وأمرعت أراضي السُّودان، وتأسَّست المعامل حتَّى أعالي النِّيل الأزرق، وهكذا فُتح وادي النِّيل للحضارة الغربية.

وفي الوسع أن نرى ما توقعه ذلك الرجل العظيم بأعماله ووصفه اللُّورد روزمري فيما بعد بقوله: «إنَّ النِّيل هو مصر ومصر هي النيل.» بما رواه الدكتور ريشارد لبسيوس حوالي سنة ١٨٤٢ مؤكِّدًا أنَّ محمد علي كان شديد الرَّغبة في إرسال البعثة إثر البعثة إلى أن يعثر على جميع منابع النِّيل الأبيض. ولكن تحقيق هذا المشروع الجليل قد تُرك لينجزه حفيده إسماعيل الذي أدرك الحقيقة التي فاه بها دلكاسه السياسي الفرنسوي المشهور مشبهًا البلاد بعضو طبيعي حائز في داخله على خصائص النمو وطرائقه وحدوده التي يستطيع ضمنها وحدها أن يبلغ التَّقدُّم الصحيح، فإكراه أي بلد على تسليم قسم حيوي من كيانها العضوي لا يمكن أن ينتهي عاجلًا أو آجلًا إلَّا بمأساة لا مردَّ لها.»

(٢-٢) عهد إسماعيل

وقد كتب مراسل جريدة التيمس في مصر سنة ١٨٧٦ يقول:

إنَّ في مصر حركة تقدم عجيبة، فقد بلغت من التَّقدُّم في سبعين سنة كما تقدمت بلدان كثيرة أخرى في خمسمائة سنة، وبعد هذا بسنتين ألقى مستر مستر فرنسيس كوب خطبة في جمعية الفنون نقلتها جريدة التيمس في شهر مارس سنة ١٨٧٨ أشار فيها إلى عهد إسماعيل فقال: «من الأعمال المجيدة التي يخلدها التَّاريخ لهذه الأسرة الخديوية إلغاء النخاسة من الأقطار الحاكمة فيها». وقد أصاب إسماعيل بقوله: «إنَّ بلدي لم تعد من أفريقيا، فنحن الآن جزء من أوروبا.»

فأعظم ما نسعى ونطمح إليه هو أن نجدِّد مجد مصر ونُعيد بناءها على أساس حديث ونجعلها جديرة بشهرتها القديمة، فتنةً لجميع ناظريها رحبة الصدر لجميع زائريها ممتنةً لجميع الذين ساعدوها على السير في سبيل التَّقدُّم والتَّجدد، وبهذا نبلغ الغاية المنشودة التي سعى إليها محمد علي الكبير.

إنَّنا قد نلاقي بعض العقبات في سبيلنا، ولكن أية دولة في هذا العالم الذي هو الآن في دور التَّحول والتَّبدل تستطيع أن تكون بمعزل عن المصاعب رغم المساعي الخارقة التي يبذلها أعظم رجال الدول الآوربية. فإذا وقع لمصر مثل هذه الأمور فهي ترجو أن ينظروا إليها بعين التساهل، متذكِّرين أنَّ البداية صعبة في كلّ شيء، وأنَّ الأمة التي تشعر بواجبها وتَتُوق إلى تحمُّل نصيبها من المسئولية؛ لتكون عاملًا من عوامل السلم والوِفاق، تستحقُّ التَّشجيع، وتكون جديرة بأن يُنظر إليها باحترام.

(٢-٣) مبادئ الإنصاف

ليس من الممكن الحصول على السلم والرخاء إلَّا على أساس الإنصاف والإخلاص، وهذا المبدأ هو أعز المبادئ لقلب العنصر الإنكلسكوني. أو ليس هذا هو نفس المبدأ الذي بشَّر به كونفشيوس وبوذا وموسى وعيسى ومحمد؟ إنَّ الطبيعة البشرية واحدة في كلّ مكان في الشَّرق والغرب. إنَّ المبدأ البريطاني القائم على الإنصاف هو أسمى ما تدور عليه أحوال الأمل بذلك — فإنَّني واثق أنَّ منافعه لا تتناول بريطانيا ومصر فقط، بل أستطيع أن أؤكد أنَّ العالم كله يستفيد من تفاهم ودِّي دائم بين الأمتين؛ لأنَّ مصر تصبح وهي مستقلة مسالمة حلقة اتصال معنوية للوفاق والإخاء الصحيح بين الشَّرق والغرب.

(٢-٤) تمهيد السبيل للمفاوضات

وهل لي أن أقول على ذكر الإنصاف كم هي الفوائد التي يستفيدها الفريقان اللذان سيجريان المفاوضات بالنيابة عن البلدين لو امتنعت الصحف والجمهور عن المجازفة في إيجاد جو يثير الريب والشكوك وينجم عن النَّظر إلى أي أمر بنظارة ملونة؟

وبما أنَّني أعلق اهتمامًا عظيمًا على اجتماعنا هذه الليلة، فسأبسط لبني قومي مقاصدكم الشريفة، وأنا واثق بأنَّ مصر كلها تقدِّر موقف جمعيتكم حق قدره، ويكون جلالة مولاي الملك العظيم أول من يقدِّر حُسن نيتكم وصفاء سريرتكم، ولن يفوت زغلول باشا رئيس حكومتنا أن يلاحظ بسرور عظيم ما جرى من التَّقدُّم نحو تحسين التَّفاهم بين بلدينا.

فعسى أن نحتفل في المستقبل القريب بالتاريخ السعيد الذي تعقد به معاهدة بين إنكلترا ومصر تسجل بها صداقة وسلم دائمان شريفان بين البلدين مؤسسان على الاحترام وحسن النية المتبادلين.

تعرف أنَّ مصر تحتاج إلى صديق مخلص بين الأمم، ونحن موقنون إذا تأكدت صداقة بريطانيا ففي وسع وادي النِّيل بأسره أن يواجه المستقبل بثقة عظمى.

(٣) خطبة أخرى لعزيز عزت باشا

وألقى عبد العزيز عزت باشا وزير مصر المفوض خطبة في مأدبة أدبتها له جمعية القطن في منشستر ظهر يوم ٤ يونيو سنة ١٩٢٤ فافتتحها بإبداء الشكر والامتنان للإكرام الذي لقيه من الجمعية بدعوته لزيارة منشستر وقال: «إن جلالة مولاي المعظم المحبوب لا بد أن يقدر الإكرام الذي يقابل به ممثله في إنكلترا حق قدره»، ثمَّ تكلَّم فيها عن مسألة السُّودان فقال:

فالمصالح إذن تقرِّب ما بيننا وهي سياسية واقتصادية معًا. فالضرورة تقضي على مصر بأن تزيد إنتاجها من القطن. ويجب أن تكون إنكلترا في حالة تخولها أن تشتري محصولنا، ولكي تبلغ مصر تلك العناية يجب أن لا يُعيقها ولا يعرقل سيرها الذين تدخلوا في شأنها وكان تدخلهم — ولا شك — لمساعدتها كما قالوا في وعودهم وعهودهم الصريحة، بل يجب أن يتركوها حرَّة تتقدم ضمن حدودها الجغرافية الطبيعية التي هي حق لها. وأعني بالحدود الجغرافية الطبيعية وادي النِّيل كله الذي تتألَّف منه من منابعه إلى البحر المتوسط وحدة كاملة لا تقبل التجزئة. فالمصلحة الحيوية والجغرافية والاقتصادية والفنية والحربية التي هي جسم عضوي قائم بنفسه تأبى انفصال أي عضو من الأعضاء التي يتألف منها هذا الجسم. وهذه حقيقة يعرفها ويعترف بها جميع رجال الدولة عندكم.

إنَّ مصر لا تطلب شيئًا خارجًا عن هذه الحدود، ولا تستطيع أن تستغني عن أي عضو من جسمها السياسي أو الاقتصادي.

وقبلما نظر مؤسِّس الأسرة المصريَّة الحالية المالكة محمد علي الكبير جد صاحب الجلالة مولاي الملك فؤاد المعظم إلى حالة البلاد وتعهدها بعين عنايته وحوَّل أنظمة الرَّي من حالتها الطبيعية إلى حالتها الفنية الراقية، كان المزارعون يحصلون على ما يحتاجون إليه من المياه بوسائل فطرية بسيطة للمزروعات الصيفية أو لمزروعات الفيضان، ولم يكن القطن من بين هذه المزروعات. فقضت حكمة المصلح الكبير بإدخال زرع القطن إلى مصر بعد إتقان وسائل الرَّي، فكان منبع الثروة لمصر وجعلها على اتصال وثيق بلانكشير. وأصبحت أيضًا تحتاج كلّ الاحتياج إلى المهندس البارع لخزن المياه وتنظيمها وتقديم ما يحتاج إليه محصول القطن منها، فانصرف الاهتمام إلى إنشاء مشروعات عظمى من الأحواض والقناطر والسدود، وتمَّ إنشاء كثير منها حتَّى الآن، وما زال الباقي تحت الإنشاء. ومشروعات الرَّي هذه منتشرة على طولي مجرى النيل: وجميعها متوقف بعضها على البعض الآخر ومتصل بعضها بالآخر؛ ممَّا يقضي بجعلها تحت سيطرة سلطة واحدة وإدارتها. ومن الواضح أن هذه السلطة التي تدير بيدها مصالح حيوية خطيرة تستطيع أن تقوى على فعل كلّ شيء. فكل خطأ ترتكبه عن عمد أو غير عمد في تنفيذ سيطرتها التي توزع بها ماء الحياة على النفوس يؤدي إلى عواقب مهلكة تصيب أرواح الشعب الخاضع لتلك السيطرة وأملاكه.

إنَّكم تعرفون — ولا شك — أهمية السلسلة الفقرية للهيكل الجسدي. وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام مهمَّة. فإذا حُرم الجسم من أحد هذه الأقسام؛ بل من جزء يسير منها أصبح مشلولًا طول الحياة.

ويمكن أن تُقسَّم مصر أيضًا إلى ثلاثة أقسام: السُّودان والنوبة ومصر السُّفلى؛ فإذا تدخلتم قهرًا في أي من هذه الأقسام الثلاثة فإنَّكم تشلوننا. ولكن إذا سعيتم إلى حرماننا من قسم حيوي كالسودان فإنَّ حياتنا برمَّتها تبيد.

إنَّ رجال السِّياسة يرسمون خطوطًا على الخرائط ويلوِّنونها بألوان مختلفة ويلعبون بالألفاظ وفاقًا لما تصوره لهم مخيلاتهم، ولكن الطبيعة تأبى أن تتقيَّد بشيء من ذلك، ولا تلبث في كلّ حين أن تُثبت وجودها.

وليس ثمت مجال للاختلاف في أن تسلم قلب مصر ومنبع دم الحياة الذي يجري في عروقها يفضي إلى شل لأعصابها وتعريضها للاعتلال والفناء. ولكن مصر واثقة بأنَّ اتضاح حقوقها المقدسة سيزيل جميع الاختلافات في شأن سيادتها العملية المطلقة في السُّودان. وهذه السِّيادة العملية على إحدى مقاطعاتها الطبيعية التي تحتوي حاجاتها من المياه تخوِّل مصر أن تكون قوية بمركزها متقدمة بنشوئها ونشاطها ثابتة في شؤونها السياسية، وبذلك تكون عاملًا عظيمًا للسلام في مجتمع الأمم.

إنَّ مصر المتمتِّعة بالثقة والعطف من جميع الشعوب الأوروبية عامة ومن بريطانيا خاصَّة تستطيع أن تقيم الدليل على أنَّها تخدم الإنسانية بأسرها خدمة لا شك فيها.

إنَّ مصالحكم في وادي النِّيل هي مصالح تجارية واقتصادية. أمَّا نحن فمسألتنا فيه مسألة حياة أو موت. فمصر بلاد لا ترويها الأمطار. ولا بُدَّ لنا أيضًا من أن نهتم لمسألة سكانها الذين يزداد عددهم على الدَّوام، فهؤلاء السُّكان لا يحتاجون إلى العمل وتوفير وسائل العيش فقط في الوقت الحاضر، بل إلى منفذ ينفذون إليه في المستقبل.

إنَّ لكم مستعمرات عديدة يستطيع أن يهاجر إليها الذين يزيدون عمَّا تحتمله بلادكم من السُّكان، أمَّا نحن فلنا سوداننا الذي هو إحدى مقاطعاتنا، وهو يحتوي على أراضٍ شاسعة تكون منفذًا طبيعيًّا شرعيًّا يجلو إليها الذين يزيدون من سُكَّان مصر ويستثمرونها. ومن الطَّبيعي أن يذهب السُّكان الذين يزيدون في قسم من مملكة واحدة إلى قسم منها، حيث يكونون بين قوم منهم يدينون بدينهم ويتكلَّمون لغتهم ويعيشون في مثل مناخهم. وعلينا أن نضع موضع الاهتمام بنوع خاص أنَّ معظم الأراضي المجاورة صحراء قاحلة.

فإذا كنتم توافقونني على رأيي وتنظرون إلى مصالح مصر الحيوية بما تنظرون به إلى المصالح البريطانية من حسن النية متمسِّكين بمبادئ حرية التجارة وحرية التبادل التي نشرتها منشستر قبل كلّ مدينة أخرى في العالم الذي طالما ظهرت عليه دلائل حبِّ الذات، ففي وسعنا حينئذٍ أن نوفِّق بين مصالح بلدينا على المبادئ المقبولة التي تُبنى عليها المصالح التِّجاريَّة والاستقامة والصداقة.

لقد اعتادت الشعوب في هذا الزمن — وياللأسف — أن يتَّجر بعضها بالبعض الآخر بدلًا من بذل تضحيات متقابلة تُوجِد جوًّا تسود فيه الثقة والعلاقات الودية المنتجة على المصالح. وقد أظهرت الحرب العمومية وما عقبها من قلب التجارة بأسرها رأسًا على عقب أن جميع المخاصمات التي سارت إلى أقصى مداها وأهلكت النَّسل وبدَّدت الثروة الوطنية، ليست ممَّا تستثمر فيها الأموال استثمارًا صالحًا؛ لأنَّ القوات المبيدة التي أطلقتها أحقاد الشعوب المختلفة قد أوقعت المشروعات التِّجاريَّة في الفوضى والاضطراب، وأصابت الشعوب نفسها بمثل ذلك. فالسياسة العملية الصحيحة هي التي تقضي بأن يوضع رأي الفريق الآخر موضع النَّظر، وأن تحقق المقاصد الأساسية التي تلغيها الشعوب الأخرى. فجميعها تود أن تعيش وتتقدم بانيةً مستقبلها على قواعدها الوطنية الخاصة.

ولا تزهو الحياة وتتقدم إلَّا عندما تُدرس المصالح المتقابلة درسًا وافيًا. وهذه الحقيقة الجوهرية كانت — وما زالت — معدودة من بين المبادئ التي تُنادي بها مدينة منشستر الممتازة.

ويجب أن تذكروا أنَّكم تعاملون في مصر شعبًا قديمًا فخورًا بماضيه غيورًا على مستقبله متَّحدًا لبلوغ النجاح وللقيام بالعهود التي تفرضها عليه المعاهدات، راغبًا في أن ينشئ معكم صلات تجارية واقتصادية قائمة على الاستقامة مقدمًا على ذلك جميع الضمانات التي تنطبق على الشرف والكرامة بين الشعوب المتحاربة.

(٤) السُّودان في برلمان ١٩٢٤

صرح المغفور له سعد زغلول باشا رئيس مجلس الوزراء بمجلس النواب المنعقد يوم الاثنين ٢٢ يونية سنة ١٩٢٤١ بالتَّصريح التَّالي، بمناسبة بعض الحوادث التي جرت في السُّودان وقتئذٍ.

كلمة المغفور له سعد زغلول باشا
أيُّها السادة

تحركت مسألة السُّودان اليوم ولم تكن الحكومة مستعدَّة لأن تقول رأيها فيها، ولكنِّي مع ذلك يُمكنني أن أصرِّح لحضراتكم بأنَّ الحكومة تشارككم كلَّ المشاركة في شعوركم بالنسبة للسُّودان «استحسان وتصفيق طويل»، بل تنظر بعين المقت لكلِّ عمل من شأنه أن يفصل السُّودان عن مصر «تصفيق».

والإجراءات التي تتمُّ الآن في السُّودان — كما قال حضرة العضو المحترم عبد الرحمن الرافعي بك — على نوعين:
  • الأول: وثائق تكتب واجتماعات تعقد لإظهار الولاء للحكومة الإنكليزيَّة والرغبة عن الحكومة المصرية.
  • والثاني: هو منع الذين يريدون أن يقدموا ولاءهم للحكومة من الحضور هنا.

فأما القسم الأول وهو عقد الاجتماعات أو اختلاس الثِّقة لأجل إعلان الامتنان من الحكومة الإنكليزية، فهذا نصرح هنا وفي كلّ مكان بأنه باطل، ولا يعتبر حجة علينا «تصفيق».

إذا قدمت هذه الأوراق أمام أي محكمة أو أي هيئة وحصل التَّمسك فيها، فلسان مصر يقول: إنَّها أوراق باطلة لأنَّها لم تؤخذ بالحرية المطلقة، وإنه يجب قبل التَّمسك بها أن يكون السُّودان خاليًا من كلّ حكومة أجنبية «تصفيق استحسان».

أنا في تصريحي هذا منضم إليكم فيما أعلنتم من أن هذه الوثائق وهذه الأوراق وهذه الاجتماعات لا قيمة لها مطلقًا، وهذا كافٍ «أصوات بدون شك».

وأمَّا فيما يتعلَّق بالقسم الثَّاني ألا وهو منع السُّودانيين المخلصين. وكلهم — فيما أظن — مخلصون لنا ممتنون من حكمنا راغبون في بقائنا بالسُّودان كإخوان لهم وبصفة بلادهم جزءًا لا يتجزَّأ من مصر. فهذه الإجراءات تعلن بصفتنا حكومة. وبصفتنا مجلس نواب. نعلن لجهات الاختصاص استنكارنا لما يكون صحيحًا منها واحتجاجنا عليها «تصفيق».

وأنا ممتن من أنَّ لكم بهذه الوزارة ثقةً تامَّةً بأن تتخذ جميع ما في وسعها لحفظ حقوق مصر في السُّودان «تصفيق».

والآن أجيب حضرة العضو المحترم أحمد رمزي بك على قوله «ماذا تفيد المفاوضات في هذا الجو المضطرب»، نعم إنَّ المفاوضات في جو مضطرب ربما لا تفيد، ولكن يجب علينا ألَّا نكتفي بالكلام فيما بيننا، بل يجب أن نعلن أمام كلّ إنسان، سواء كان إنكليزيًّا أو غير إنكليزي بأنَّ لنا حقوقًا في السُّودان نريد استخلاصها «تصفيق».

فإذا تمكنت من الذهاب إلى المفاوضة فلا أقول: إنَّ السُّودان غير مملوك لنا؛ بل أقول: إنَّه ملكنا، وإنَّه جزء لا يتجزأ من مصر، ويجب أن يُردُّ لنا «تصفيق». وأقيم الدليل على هذا، والدليل تعلمونه حضراتكم ويعلمه كلّ واحد منا ويحفظه كلّ مصري. فإن نجحنا فبها ونعمت، وإلَّا وإلينا الاحتجاج وعملنا كلّ ما يعمله شعب مهضوم الحقوق لاستخلاصها «تصفيق».

أنا لا أخشى المفاوضة فهي محادثات كسائر المحادثات أباشرها واثقًا بنفسي وواثقًا بأنِّي لا أقبل نتيجة من نتائجها إلَّا إذا كانت متفقةً مع حقوقكم وأمانيكم «تصفيق».

واذا كنت أرى دخولي فيها لا يُضيِّع علينا حقًّا ولا يكسب غيرنا حقًّا ضدنا أدخل فيها وأكون قد خدمت بلادي بهذا الدخول، ولكنِّي لا أخرج منها إلَّا ظافرًا بحقوقنا كلها أو حافظًا حقوقنا كلها «تصفيق».

ولا يمكنني أن أصرِّح لكم الآن بأن وقت المفاوضات قد دنا أو لم يدنُ؛ لأنَّه يوجد أمور تتوقف عليها المفاوضة. فإذا تمَّت هذه الأمور وتحققت دخلتُ المفاوضات مزوَّدًا بثقتكم ومعتمدًا على الله في نجاحها. ا.ﻫ.

(٥) قرار المجلس

ثم تلا السكرتير النائب نص اقتراحين: الأول مقدَّم من حضرة النائب المحترم الأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي، وهذا نصه:

على أثر التلغراف الذي ورد لمجلس النواب من الوفد السُّوداني الذي عزم على الحضور إلى مصر للإعراب عن ولاء السُّودانيين لمصر وتمسكهم بالارتباط بها، وعلى أثر الأنباء الواردة من السُّودان عن المناورات المصطنعة التي يُقصد منها الاعتداء على حقوق مصر والسُّودان — يعلن المجلس عطفه على السُّودانيين جميعًا لتمسكهم الوثيق بارتباطهم بمصر، ويعلن استنكاره للمناورات المصطنعة التي يقوم بها دعاة الاستعمار في السُّودان، ويعلن تمسك الأمة المصريَّة بمبدئها الخالد، وهو أنَّ السُّودان جزء لا يتجزأ من مصر.

والاقتراح الثَّاني مقدم من حضرتيْ راغب إسكندر أفندي وحسين هلال بك وهذا نصه:

بعد سماع التَّصريحات الحكيمة التي أبداها حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء بخصوص الإجراءات غير الشرعية القائمة في السُّودان للسعي في فصل السُّودان عن مصر يكرِّر المجلس ثقته التَّامة بالوزارة، ويطلب الانتقال إلى جدول الأعمال.

فوافق الأعضاء على الاقتراحين بالإجماع.

وقد ورد تلغراف على رياسة مجلس النواب جلسة ١٩ يونيو سنة ١٩٢٤، وهذا نصه:

الخرطوم في ١٧ يونيو.

نحتج باسم الأمة السُّودانية ونسخط مُرَّ السُّخط على سياسة التطويق التي استعملت لمنع الوفد من السفر لعرض وثائق ولاء السواد الأعظم من الأهلين لمليك البلاد، ونطلب بإلحاح تدخل الحكومة في الأمر بكل ما أوتيت من إقدام وعطف لإيقاف ضروب التنكيل، وإن الأمة المصريَّة قاطبة مسئولة أمام التَّاريخ عن كلّ نازلة تحل بخدام العرش المصري أينما كانوا. وأن سفينة يدير دفتها سعد يستحيل أن تصطدم بصخر مهما كانت الزوابع والظلام. الإمضاءات.

وفي تلك الآيام وصل إلى حضرة صاحب العزة أحمد حمدي سيف النصر بك رئيس لجنة السُّودان البرلمانية وقتئذ هذا التلغراف:

قُبض على الملازم الأول زين العابدين أفندي أمس مساءً وهو في الخرطوم.

(٦) مقتل السردار لي ستاك

بينما كان الفريق السر لي ستاك باشا سردار الجيش المصري والحاكم العام للسُّودان خارجًا من مكتبه في وزارة الحربية، قاصدًا إلى منزله في الساعة الثَّانية بعد ظهر يوم الأربعاء ١٩ نوفمبر سنة ١٩٢٤ أطلق عليه «أفندية» مجهولون عدة طلقات نارية من مسدسات كانوا مسلحين بها.

وقد أصيب السردار برصاصة في بطنه وبرصاصتين أخريين في يده ورجله، وأصيب الكابتن كامبل ياوره برصاصة في صدره، كما أصيب السائق — وهو إنكليزي — برصاصة في فخذه، وقد توفي السردار متأثرًا بجراحه في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخمسين من مساء يوم ٢٠ نوفمبر سنة ١٩٢٤.

(٧) الاحتفال بجنازته

وفي الساعة العاشرة والدقيقة العاشرة من صباح يوم السبت ٢٢ نوفمبر سنة ١٩٢٤ أطلق سبعة عشر مدفعًا من حديقة الأزبكية إيذانًا بخروج النَّعش من الكنيسة الإنكليزيَّة بشارع فؤاد الأول، وتحية له.

وبدئ الموكب بثلة من فرسان البوليس الإنكليزي، تليها كوكبة من فرسان الجيش المصري، ثمَّ مدفعية جبلية مصرية، ثمَّ بلوك من الأورطة السابعة المصريَّة المشاة تتقدمها موسيقاها عليها شارة الحداد، ثمَّ كوكبة من فرسان الجيش الإنكليزي، فمدفعية إنكليزية، فكوكبة أخرى من الفرسان الإنكليز، فمدفعيتان إنكليزيتان، فأورطة من المشاة الإنكليزيَّة منكسة البنادق، وعلى علمها شارة الحداد، وعلى موسيقاها السواد، وهي تعزف في مسيرها نغمًا محزنًا، ففرقة من سلاح الطيران الإنكليزي، فجميع ضباط البوليس المصري، فضباط البحرية المصريَّة، فجميع ضباط الجيش المصري بأقسامه، فضباط البوليس المصري الإنكليز، فحكمدار بوليس الإسكندرية وضباطه المصريون والإنكليز، فضباط الجيش البريطاني، فضباط فرقة الطيران.

فنعش الفقيد على مركبة مدفع تجرُّها ستة من الجياد الصافنات، ويتقدمها فارسان إنكليزيان، وقد لفَّ النَّعش في علم بريطاني، وعليه إكليل من الأزهار وقبعة الفقيد، ووراءه ضابطان بريطانيان يحمل أحدهما على يديه وسادة من الحرير منضدة عليها نياشين، فجواد الفقيد، فجموع المشيعين وفي مقدمتهم فخامة المارشال اللنبي وإلى يمينه حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء نائبًا عن حضرة صاحب الجلالة الملك، فحضرات أصحاب السمو الأمراء، فحضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد زغلول باشا وإلى يمينه حضرة صاحب المعالي أحمد زيور باشا رئيس مجلس الشيوخ، وإلى يساره حضرة صاحب المعالي أحمد مظلوم باشا رئيس مجلس النواب، فحضرات أصحاب الدولة والمعالي الوزراء بملابسهم الرَّسمية جميعًا، فوزراء الدولة المفوضون، فالقناصل فأعيان الجالية البريطانية ومندوبو الجاليات الأجنبية، فمندوبو المصارف والشركات. فأعضاء مجلس الشيوخ والنواب، فوكلاء الوزارات، فمحافظ القاهرة ومدير الجيزة، وهيآت المحافل الماسونية، فرؤساء مصالح الحكومة، فالمستشارون الملكيون، فحضرات العلماء، فالرؤساء الروحيون، فرئيس محكمة الاستئناف الأهليَّة ومستشاروها، فرؤساء المحاكم وقضاتها، فالنائب العمومي ورجال النيابة، فنقابة الصحافة المصرية، فرجال القضاء الشرعي، فموظفو الوزارات والمصالح، فالأعيان والتجار، وكانت أسراب من الطائرات الإنكليزيَّة تحلق في الجو في أثناء سير الموكب متابعة إيَّاه في سيره ومنتشرة في جو القاهرة.

وقد اجتاز الموكب ميدان الأوبرا فشارع قصر النِّيل فميدان سليمان باشا فميدان الإسماعيلية، وكان في هذا الميدان عدد كثير من السيارات المسلحة، فوصل الموكب إلى المقبرة الإنكليزيَّة في الساعة الثَّانية عشرة.

وحمل النعش ثمانية من الجنود الإنكليز، ومن ورائهم فخامة المارشال اللنبي. وبعد أداء صلاة الجنازة أطلقت المدافع تحية وتكريمًا للفقيد.

وقد بلغ عدد الأكاليل التي أهديت نحو مائة كان من أجملها الإكليل الذي أرسله حضرة صاحب الجلالة الملك.

هذا وقد عطلت يوم تشييع الجنازة البنوك والمحال التِّجاريَّة الكبيرة، وأغلقت جميع المخازن التي مرَّ بها الموكب، وكانت كلها مُنكَّسة الأعلام، كما نُكِّست الأعلام المرفوعة على دور الحكومة ومصالحها.

(٨) الإنذار البريطاني عن مقتل السردار

في مساء ٢٢ نوفمبر سنة ١٩٢٤ زار اللُّورد اللنبي بملابسه الرَّسمية في جمع عسكري بريطاني رسمي جنوده سواري ملأوا شارع مجلس النواب، دولة سعد زغلول باشا رئيس مجلس الوزراء في مكتبه بالمجلس، وتلا الإنذار التَّالي بالإنكليزية، وسلَّمه إلى سعد باشا:

القاهرة في ٢٢ نوفمبر سنة ١٩٢٤
إلى صاحب الدولة سعد زغلول باشا إلخ …
يا صاحب الدولة

أقدم لدولتكم من قبل حكومة صاحب الجلالة البريطانية البلاغ التَّالي:

إنَّ الحاكم العام للسُّودان وسردار الجيش المصري الذي كان أيضًا ضابطًا في الجيش البريطاني قد قتل بكيفية فظيعة في القاهرة.

فحكومة جلالة الملك تعدُّ مقتله هذا الذي يعرض مصر كما هي محكومة الآن لازدراء الشعوب المتمدينة، نتيجة طبيعية لحملة عدائية ضد حقوق بريطانيا العُظمى وضد الرعايا البريطانيين في مصر والسُّودان. وهذه الحملة القائمة على إنكار الجميل إنكارًا مقرونًا بعدم الاكتراث للأيادي التي أسدتها بريطانيا العُظمى لم تثبط من جانب حكومة دولتكم. وقد أثارتها هيئات على اتصال وثيق بهذه الحكومة.

وقد أفهمت حكومة جلالة الملك دولتكم منذ أكثر من شهر إلى العواقب التي لا بد من أن تنشأ عن هذه الحملة إذا لم تُوقَف. ولا سيما فيما يتعلَّق بالسودان. ولكن هذه الحملة لم توقف. والآن لم تعرف الحكومة المصريَّة كيف تمنع اغتيال حاكم السُّودان العام، وأظهرت أنَّها غيرُ قادرة على حماية أرواح الأجانب أو أنَّها قليلة الاهتمام بهذه الحماية.

فبناءً على ذلك تطلب حكومة جلالة الملك من الحكومة المصرية:
  • (١)

    أن تقدم اعتذارات كافية وافية عن الجناية.

  • (٢)

    أن تتابع بأعظم نشاط وبدون مراعاة للأشخاص، البحث عن الجُناة، وأن تنزل بالمجرمين — بدون مراعاة لأشخاصهم وأعمارهم — أشد العقوبات.

  • (٣)

    أن تمنع من الآن فصاعدًا وتقمع بشدة كلّ مظاهر شعبية سياسية.

  • (٤)

    أن تدفع في الحال إلى حكومة جلالة الملك غرامة قدرها نصف مليون جنيه.

  • (٥)
    أن تصدر في خلال أربع وعشرين ساعة الأوامر بإرجاع جميع الضبَّاط المصريين ووحدات الجيش المصري البحتة من السُّودان مع التعديلات التي تنشأ عن ذلك وتعيّن فيما بعد.
    figure
    الفيكونت أدموند هنري اللنبي المندوب السَّامي البريطاني في مصر والسُّودان من ١٩١٩–١٩٢٥.
  • (٦)

    أن تُبلِّغ المصلحة المختصة أن حكومة السُّودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة من ٣٠٠٠٠٠ فدان إلى عدد غير محدود على نسبة ما تقتضيه الحاجة.

  • (٧)

    أن تَعدل عن كلّ معارضة لرغبات حكومة جلالة الملك في الشؤون المبيَّنة بعد فيما يتعلَّق بحماية المصالح الأجنبية في مصر.

وفي حالة عدم تلبية هذه المطالب في الحال تتخذ حكومة جلالة الملك على الفور التدابير المناسبة لصيانة مصالحها في مصر والسُّودان.

وإنِّي أنتهز هذه الفرصة؛ لأؤكِّد لدولتكم مرة أخرى احترامي الفائق.

«الإمضاء» اللنبي فيلد مارشال المندوب السامي

يا صاحب الدولة

إلحاقًا ببلاغي السَّابق أتشرَّف بإعلام دولتكم من قبل حكومة صاحب الجلالة البريطانية أن مطالبها الخاصَّة المتعلقة بالجيش في السُّودان وحماية مصالح الجانب في مصر هي كما يأتي:
  • (١)
    بعد ما يسحب الضبَّاط المصريون والوحدات المصريَّة البحتة للجيش المصري تحول الوحدات السُّودانية التابعة للجيش المصري إلى قوة مسلحة سودانية تكون خاضعة وموالية للحكومة السُّودانية وحدها وتحت قيادة الحاكم العام العُليا، وباسمه تصدر العرائض «البراءات للضباط».
    figure
    سير لي ستاك.
  • (٢)

    إن القواعد والشروط الخاصَّة بخدمة الموظفين الأجانب الذين لا يزالون في خدمة الحكومة المصريَّة، وتأديبهم وخروجهم من الخدمة، وكذلك الشروط المالية لتسوية معاشات الموظفين الأجانب الذين اعتزلوا الخدمة، يجب أن يُعاد النَّظر فيها طبقًا لرغائب حكومة جلالته.

  • (٣)

    من الآن إلى أن يتم اتِّفاق بين الحكومتين بشأن حماية المصالح الأجنبية في مصر تحافظ الحكومة المصريَّة على مركز المستشار المالي والمستشار القضائي. وتحترم سلطتهما وامتيازاتهما كما نُصَّ عليها عند إلغاء الحماية، وتحترم أيضًا النِّظام والاختصاصات التي للمكتب الأوروبي في وزارة الداخلية كما حُدِّدت بالقرار الوزاري، وتنظر بعين الاعتبار الوافي إلى المنشورات التي يمكن أن يقدمها مديره العام فيما يتعلَّق بالشؤون الداخلة في اختصاصه.

وإنِّي أغتنم هذه الفرصة لأؤكد لدولتكم مرة أخرى احترامي الفائق.

٢٨ نوفمبر سنة ١٩٢٤
المندوب السامي
الإمضاء: اللنبي فيلد مارشال

(٩) بلاغ رسمي

في ٢٥ الجاري تلقَّت الحكومة بواسطة فخامة المندوب السَّامي البريطاني تلغرافًا واردًا من الضبَّاط وضباط الصف والجنود بالطوبجية المصريَّة في الخرطوم ذكروا فيه أنَّه صدر لهم أمر نائب حاكم السُّودان العام بمغادرة السُّودان في الحال، وأنَّ الجنود البريطانية قد أحاطت بهم من كلّ جانب. وأضافوا إلى ذلك أنَّ ذخيرتهم وهي عشرون خرطوشة لكل بندقية ومقدار قليل للمدافع كانت غير كافية للدفاع ضد قوات كبيرة مسلحة بمقادير لا حدَّ لها من الذخيرة، فضلًا عن أنَّ مستودعات الذخيرة المصريَّة ما زالت من يوم فتح السُّودان تحت يد السلطات البريطانية، ولكنهم أصروا على أن لا يغادروا السُّودان إلَّا بأمر جلالة الملك أو يموتوا عن آخرهم بعد أن يستنفذوا ذخيرتهم.

ولمَّا اطلع مجلس الوزراء على هذا التلغراف تفاوض مليًّا في الأمر، وقرَّر في جلسة خاصة ضرورة الإسراع إلى منع سفك الدماء بغير جدوى وتجنب كلّ عمل من شأنه المساس بحقوق البلاد. وقد عهد مجلس الوزراء — بناءً على ذلك — إلى وزير الحربية في توجيه الرسالة الآتية إلى الضبَّاط وضباط الصف والجنود بالجيش المصري في السُّودان:

عهدنا فيكم الشجاعة والولاء، ولا يداخلنا أي شك في أنكم مستعدون جميعًا لإراقة آخر نقطة من دمائكم في خدمة جلالة الملك وفي سبيل الوطن. على أنَّنا نأمركم بأن تكفُّوا عن مقاومة الإجراءات التي اتخذها نائب حاكم السُّودان العام لإخراجكم بالقوة من الأراضي السُّودانية، فإنَّه ليس من وراء هذه المقاومة سوى سفك الدماء بغير جدوى، وبما أن الحكومة المصريَّة قد احتجت احتجاجًا صريحًا على هذا العمل الذي نُفِّذ بالقوة القاهرة، فعودتكم لا يترتب عليها أي مساس لا بحقوق الوطن ولا بشرفكم العسكري.

والغرض من هذه التَّعليمات الصادرة من وزير الحربية اللواء صادق يحيى باشا لا من جلالة الملك، كما زعمت وكالة روتر، إنَّما هو منع سفك الدماء بغير جدوى ودفع كوارث جديدة عن الوطن.

وقد أرسلت الحكومة المصريَّة برياسة حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا ردًّا طويلًا مسهبًا عن الإنذار البريطاني مع وزير خارجية مصر في يوم ٢٣ نوفمبر سنة ١٩٢٤. ومضمون هذا الرد هو إنكار مسئولية الحكومة في حادث السردار وإجابة بعض الطلبات ورفض البعض الآخر.

فأرسل المندوب السَّامي الكتاب التَّالي ردًّا على ردِّ الحكومة المصرية:

حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا رئيس مجلس الوزراء

ردًّا على رسالة دولتكم بتاريخ اليوم؛ أتشرَّف بأن أبلغكم أنَّه نظرًا إلى رفض الحكومة المصريَّة تلبية مطالب حكومة جلالة الملك الواردة في الفقرتين الخامسة والسادسة من بلاغي المقدم أمس أرسلت التَّعليمات إلى حكومة السُّودان بما يلي:
  • أولًا: أن تخرج من السُّودان جميع الضبَّاط المصريين والوحدات المصريَّة المحضة في الجيش المصري مع التَّغييرات المعينة التي تترتَّب على ذلك.
  • ثانيًا: أنَّها مطلقة الحرية في زيادة المساحة التي تروى في الجزيرة من ٣٠٠ ألف فدان إلى حدٍّ غير محدود وفاقًا لما تقضي به الحاجة.

وستعلمون دولتكم، في الوقت المناسب، العمل الذي ستتخذه حكومة جلالة الملك، نظرًا إلى رفض دولتكم قبول المطلب السابع الخاص بحماية مصالح الأجانب في مصر.

وإنِّي أسجِّل أن الحكومة المصريَّة قد قبلت فيما قبلتْه من المطالب، المطلب الرابع. فحكومة جلالة الملك تنتظر أن يدفع لي مبلغ نصف مليون جنيه قبل ظهر الغد.

وإنِّي أنتهز الفرصة لأجدِّد لدولتكم وافر احترامي الأكيد.

اللنبي. فيلد مارشال: المندوب السامي
وفي الساعة العاشرة قبل ظهر يوم الاثنين ٢٤ نوفمبر سنة ١٩٢٤ وقَّع حضرة صاحب السعادة علي الشمسي أفندي «باشا» وزير المالية تحويلًا ماليًّا بمبلغ ٥٠٠ ألف جنيه قيمة التعويض الذي طلبته الحكومة البريطانية في إنذارها، والذي قرَّرت الحكومة المصريَّة دفعه ورفعه إلى حضرة صاحب الدولة سعد باشا، فأرسله إلى دار المندوب السَّامي مع الكتاب الآتي:

يا صاحب الفخامة:

ردًّا على مذكرتكم المؤرَّخة أمس وإلحاقًا بمذكرتنا المؤرخة ٢٢ الجاري أتشرَّف بأن أرسل إليكم طي هذا تحويلًا على البنك الأهلي المصري بمبلغ خمس مئة ألف جنيه.٢

أمَّا فيما يتعلَّق بالإجراءات المبيَّنة في الفقرتين الأولى والثانية من مذكرة فخامتكم، فإنَّ الحكومة المصريَّة تتمسَّك بجميع ما أبدته من التَّصريحات في المذكرة المؤرخة ٢٢ الجاري، وتحتجُّ احتجاجًا صريحًا على ما اتخذته حكومة صاحب الجلالة البريطانية من القرارات، وهي ترى أن لا مسوِّغ لها، وتعتبرها مناقضةً لما لمصر من الحقوق المعترف بها — وتفضلوا فخامتكم بقبول عظيم احترامي.

رئيس مجلس الوزراء
سعد زغلول

(١٠) احتلال جمارك إسكندرية

أرسل المندوب السَّامي البريطاني قبل ظهر يوم الاثنين ٢٤ نوفمبر سنة ١٩٢٤ الكتاب الآتية ترجمته إلى رئيس الوزارة المصرية:

حضرة صاحب الدولة إلخ …

بالإشارة إلى الكتاب الذي أرسلته إليكم أمس أتشرَّف بأن أبلغ دولتكم أنَّه كتدبير أول أعطيت التَّعليمات إلى قوات جلالة ملك بريطانيا بأن تحتل جمرك إسكندرية.

وإنِّي أنتهز هذه الفرصة لأكرِّر لكم عهود احترامي الفائق.

اللنبي فيلد مارشال، المندوب السامي

وقد احتلت الجنود الإنكليزيَّة الجمارك فعلًا. وقد رفع حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا رئيس مجلس الوزراء كتابين إلى جلالة الملك يطلب فيهما الاستعفاء، وهما:

١

مولاي

أتشرَّف بأن أرفع لجلالتكم أنَّي لم أقبل مسئولية الوزارة إلَّا لخدمة البلاد وتنفيذًا لمقاصدها السَّامية، ولكن الظروف الحالية تجعلني عاجزًا عن القيام بهذه المهمة الخطيرة؛ ولهذا أرجو من مكارم جلالتكم أن تتفضلوا بقبول استعفائي مع زملائي من الوزراء، وإنِّي وإيَّاهم مستعدون على الدَّوام للعمل على ما يرضيكم أدام الله علينا نعمة رعايتكم العالية وأدامكم مؤيَّدين بالعز والإقبال، وموضع كلّ إكبار وإجلال.

٢٣ نوفمبر سنة ١٩٢٤
شاكر نعمتكم: «سعد زغلول»

٢

مولاي

تشرَّفت من يومين بأن عرضت لجلالتكم شفهًا عزمي وعزم زملائي على الاستقالة، وشرحت الأسباب التي حملتنا عليها. وفي الساعة ٦ من مساء أمس قدمت عريضة الاستعفاء وألححتُ في قبولها. وطوعًا للأمر الكريم انتظرت إلى اليوم، وعقب التشرف بهذه المقابلة فورًا وردني خطاب من فخامة اللُّورد اللنبي ينبئني فيه بأنه أعطى أوامر لحكومة السُّودان:
  • أولًا: أن تُخرج من السُّودان جميع الضبَّاط المصريين والوحدات المصريَّة المحضة في الجيش المصري مع التغييرات المعينة التي تترتب على ذلك.
  • ثانيًا: أنها مطلقة الحرية في زيادة المساحة التي تروى في الجزيرة من ٣٠٠٠٠٠ فدان إلى ما لانهاية.

وزاد بأنه سيبلِّغ الحكومة في الوقت المناسب العمل الذي ستتخذه حكومته لحماية مصالح الأجانب في مصر، وبأنَّه يطلب دفع مبلغ الخمسمائة ألف جنيه قبل ظهر اليوم، فأرسلت الحكومة إلى فخامتة تحويلًا على البنك الأهلي بهذا المبلغ مصحوبًا بكتاب يشتمل على الاحتجاج ضد هذه التصرفات.

ثم تشرَّفت بمقابلة جلالتكم، وكرَّرت الالتماس بقبول الاستعفاء. وعقب خروجي من حضرتكم الشريفة تلقيت خطابًا من جنابه بأنَّ أول عمل اتخذته حكومته هو أن أمرت قوة عسكرية بريطانية باحتلال جمارك الإسكندرية.

إزاء هذه الاعتداءات المتكررة على استقلال البلاد وحقوقها لا يسعني إلَّا الإلحاح على جلالتكم لتتفضلوا بالإسراع في قبول الاستعفاء؛ لأنَّ هذا فيما أري قد يكون خير وسيلة لوقاية البلاد من الشرور المتوالية.

ولا زلتُ الداعي على الدَّوام بالتوفيق لجلالتكم والشاكر لنعمتكم.

٢٤ نوفمبر سنة ١٩٢٤
سعد زغلول

(١١) قبول استقالة الوزارة السعدية

عزيزي سعد زغلول باشا:

اطلعنا على كتاب دولتكم المرفوع إلينا بتاريخ ٢٣ نوفمبر سنة ١٩٢٤ المتضمن استقالتكم من مهمتكم. وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم شاكرين لكم ولحضرات الوزراء زملائكم إخلاصكم وما أديتموه من الخدمات أثناء قيامكم بأعباء منصبكم.

صدر بسراي عابدين في ٢٧ ربيع الثَّاني سنة ١٣٤٣ / ٢٤ نوفمبر سنة ١٩٢٤ رقم ٧٦ سنة ١٩٢٤.

فؤاد

وقد تألفت خلفًا للوزارة السعدية وزارة برياسة حضرة صاحب الدولة أحمد زيور باشا وزيرًا للداخلية وللخارجية مؤقتًا، وأحمد محمد خشبة بك «باشا» وزيرًا للمعارف العمومية وللحقانية مؤقَّتًا، وعثمان محرم بك «باشا» وزيرًا للأشغال العمومية، ومحمد السيد أبو علي باشا وزيرًا للزراعة، ومحمد صدقي باشا وزيرًا للمالية، ونخلة جورجي المطيعي بك «باشا» وزيرا للمواصلات، ومحمد صادق يحيى باشا وزيرًا للحربية والبحرية.

(١٢) المكاتبات المتبادلة بين وزارة دولة زيور باشا ودار المندوب السامي

١

من المندوب السَّامي إلى حضرة صاحب الدولة أحمد زيور باشا رئيس مجلس الوزراء.

ياصاحب الدولة ردًّا على سؤالكم أتشرَّف بإحاطتكم علمًا بأن الطلبات التي يصح لي معها أن أشير على حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية بالجلاء عن جمرك الإسكندرية فيما لو قبلتها الحكومة المصريَّة هي:
  • (١)

    تقبل الحكومة المصريَّة إحالة الموظفين الأجانب الذين تسري عليهم أحكام المواد ٤ و٧ و٨ من القانون رقم ٢٨ لسنة ١٩٢٣ في التواريخ التي ستحدد طبقًا للاختيار الذي سيخوِّل لهم الحق في إبدائه قبل ١٥ يناير سنة ١٩٢٥.

    ولا يجوز أن تكون هذه التواريخ سابقة لأول إبريل سنة ١٩٢٥ ولا لاحقة للتاريخ السَّابق تقريره لخروج أولي الشأن أو لتاريخ أول إبريل سنة ١٩٢٧.

  • (٢)

    تتعهد الحكومة المصريَّة في استعمال كلّ نفوذها لدى بلدية الإسكندرية وبذل كلّ مساعدة ممكنة لها بقصد مساواة موظفي البلدية الأجانب بموظفي الحكومة المصريَّة ومجالس المديريات والمجالس البلدية والمحلية فيما يتعلَّق بأحكام القانون رقم ٢٨ سنة ١٩٢٣ والبندين الأول والثالث من هذه المذكرة.

  • (٣)

    في حالة استعمال هؤلاء الموظفين لحق الاختيار المنصوص عليه في البند الأول، يمنح الموظفون منهم — الذين لم يكن لهم بعد حق في المعاش ولكنهم قد يكتسبون هذا الحق إذا ظلوا في الخدمة لغاية أول إبريل سنة ١٩٢٧ — معاشًا يقوم مقام المكافآت المنصوص عليها في قانون المعاشات، ويحسب هذا المعاش طبقًا للقواعد المقررة في المادة السادسة عشرة من ذلك القانون كما عدِّلت فيما بعد ولكن بدون مراعاة لأحكام المادة العشرين التي تشترط خدمة خمس عشرة سنة يحسب عنها المعاش. وفي هذه الحالة يخفض في الملحق رقم ٢ من القانون رقم ٢٨ سنة ١٩٢٣ عامل مدة الخدمة إلى ٦.

  • (٤)

    يسري حكم المادة ٢٠ من القانون رقم ٢٨ سنة ١٩٢٣ على كلّ موظف أجنبي من موظفي الحكومة يكون في المعاش أو يحال في المستقبل إلى المعاش. ويقرر لذلك مدة معقولة للاختيار.

  • (٥)

    يوضع قلم الموظفين الأجانب وموظفوه كما هو منظم الآن تحت المراقبة الإدارية للجنة تؤلَّف من المستشار المالي رئيسًا ومن عضوين أحدهما أجنبي.

  • (٦)

    تراعي الحكومة المصريَّة مراعاة تامة رأي المستشار المالي فيما يطرأ حتَّى أول إبريل سنة ١٩٢٧ من الخلاف الجوهري بشأن شروط خدمة الموظفين الأجانب أو شروط إحالتهم على المعاش.

  • (٧)
    يعترف باستقلال Autonomie المستشارين المالي والقضائي فيما يتعلَّق بمكتبيهما ضمن حدود القوانين واللوائح.
  • (٨)

    تقبل الحكومة المصريَّة نص البند الثالث من المذكرة الثَّانية التي أرسلت إلى سلف دولتكم بتاريخ ٢٢ نوفمبر الماضي.

وإني أغتنم هذه الفرصة لأجدِّد لدولتكم فائق احترامي.

القاهرة في ٣٠ نوفمبر سنة ١٩٢٤
الإمضاء: اللنبي فلد مارشال السامي

٢

إلى حضرة صاحب الفخامة المندوب السَّامي البريطاني
يا صاحب الفخامة:

أتشرَّف بإحاطة فخامتكم علمًا بأني تسلَّمت المذكرة التي تكرمتم بإرسالها إليَّ في هذا اليوم، وذكرتم فيها المطالب الثمانية التي علقت حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية إخلاء جمرك الإسكندرية على قبول الحكومة المصريَّة لها.

وأتشرَّف بأن أخبر فخامتكم بأنَّ مجلس الوزراء قد فوضني في إبلاغ فخامتكم أنَّ الحكومة المصريَّة قبلت هذه الشروط بأكملها بدون قيد، مذعنة في ذلك إلى حكم الضرورة ومدفوعة بالرغبة الأكيدة في المسألة وحق التفاهم.

وتفضلوا يا صاحب الفخامة بقبول فائق احترامي.

القاهرة في ٣٠ نوفمبر سنة ١٩٢٢
رئيس مجلس الوزراء
الإمضاء: أحمد زيور

٣

إلى حضرة صاحب الدولة أحمد زيور باشا رئيس مجلس الوزراء
عزيزي الرئيس

رغبة في اجتناب كلّ تفسير يؤدي إلى تجاوز الغرض الذي ترمي إليه الفقرتان ٦ و٧ من مذكرة حضرة صاحب الفخامة المندوب السَّامي المؤرخة في هذا اليوم بشأن سلطة المستشارين المالي والقضائي، أتشرَّف بأن أعطي دولتكم الإيضاحات الآتية:

تأمل حكومة حضرة صاحب الجلالة أن تراعي الحكومة المصريَّة بتمام الاعتبار وبروح المودة، في علاقاتها ذات الصفة شبه السياسية مع هذين المستشارين، كلّ رأي يُبديه أحد هذين الموظفين ضمن حدود اختصاصاته. وعلى أنه من المفهوم أن لا يكون لسلطتهما أي مساس بما على الوزارة من المسئولية الدستورية.

ومن البدهي أنه لا يجوز أن يترتب على هذه الإيضاحات ما يضرُّ بالتحفظات ذات الصبغة السياسية والصبغة العامَّة التي سبق أن أبدتها حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية.

وتفضلوا يا عزيزي الرئيس بقبول مزيد التحيات.

القاهرة في ٣٠ نوفمبر سنة ١٩٢٤
الإمضاء «كلارك كار»

٤

إلى جناب المستر كلارك كار المستشار بدار المندوب السامي
عزيزي المستر كار

تسلمت كتابكم المؤرخ ٣٠ نوفمبر سنة ١٩٢٤ الذي تكرمتم بأن أعطيتموني فيه التَّصريحات الآتية اجتنابًا لكل تفسير يؤدي إلى تجاوز الغرض الذي ترمي إليه الفقرتان ٦ و٨ من مذكرة حضرة صاحب الفخامة المندوب السَّامي المؤرخة في ذات اليوم فيما يتعلَّق بسلطة المستشارين المالي والقضائي.

تأمل حكومة حضرة صاحب الجلالة أن تراعي الحكومة المصريَّة بتمام الاعتبار وبروح المودة، في علاقاتها ذات الصفة شبه السياسية مع هذين المستشارين كلّ رأي يُبديه أحد هذين الموظفين ضمن حدود اختصاصاته. على أنه من المفهوم ألَّا يكون لسلطتهما أيُّ مساس بما على الوزراء من المسئولية الدستورية.

ومن البدهي أنَّه لا يجوز أن يترتب على هذه الإيضاحات ما يضرُّ بالتحفظات ذات الصبغة السياسية والصبغة العامَّة التي سبق أن أبدتها حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية. وقد أحطت علمًا بهذه الإيضاحات وأثبتها.

وتفضلوا يا عزيزي المستر كار بقبول مزيد التحيات.

القاهرة في أول ديسمبر سنة ١٩٢٤

رئيس مجلس الوزراء
الإمضاء: أحمد زيور

(١٣) القبض على الجناة في مقتل السردار

وقد ألقي القبض على عبد الفتاح عنايت الطالب بمدرسة الحقوق، وعبد الحميد عنايت الطالب بمدرسة المعلمين العليا، وإبراهيم موسى الخراط بالعنابر، ومحمود راشد أفندي المهندس بالتنظيم، وعلي إبراهيم محمد البراد بالعنابر، وراغب حسن النجار بمصلحة تلغراف الحكومة، وشفيق منصور أفندي المحامي، ومحمود أحمد إسماعيل الكاتب بوزارة الأوقاف، ومحمود صالح سواق سيارة أجرة؛ متَّهَمين بالتآمر على قتل السردار. وأحيلوا إلى محكمة جنايات مصر برياسة أحمد عرفان باشا.

وقد صدر الحكم في الساعة العاشرة من صباح يوم الأحد ٧ يونية سنة ١٩٢٥، وهو يقضي بإعدام المتهمين الثمانية وبحبس محمود صالح سائق السيارة التي فرَّ فيها الجناة بعد ارتكاب الجريمة سنتين مع احتساب مدة الحبس الاحتياطي وكانت تزيد على ستة أشهر. وكان يمثل النيابة سعادة محمد طاهر نور باشا النائب العام يومئذ ووكيل الحقانية اليوم، وقد أبدلت الأشغال الشاقة المؤبدة من حكم الإعدام بمرسوم ملكي بالنسبة لعبد الفتاح عنايت، ولا يزال إلى اليوم في تنفيذ العقوبة، ورفضت محكمة النقض الطعن في الحكم.

هوامش

(١) راجع مضبطة مجلس النواب عن الجلسة المذكورة.
(٢) كان إلزام الحكومة المصرية بدفع هذا المبلغ موضع انتقاد شديد في مصر وفي إنكلترا ذاتها، وعزا بعض الإنكليز فرض هذه الغرامة إلى غضب اللورد اللنبي وتسرعه؛ لأنَّ الكرامة البريطانية كانت توجب الاكتفاء بالمطالب الأدبية فقط. وأخيرًا خصص هذا المبلغ باسم اعتماد خاص لذكرى سير لي ستاك للقيام بأعمال خيرية بالسودان الذي نصب الفقيد «نفسه له». وقد أنشئ من ذلك معمل أبحاث بالخرطوم تذكارًا لستاك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤