الفصل الثاني والعشرون

اتفاق بين مصر وإنكلترا سنة ١٩٢٩

ننشر فيما يلي نص الاتِّفاق الذي عُقد بين الحكومة المصريَّة «ممثلة في وزارة حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا» والحكومة الإنكليزيَّة ممثلة في «اللورد جورج لويد» مندوبها السَّامي البريطاني عن ضبط ماء النِّيل وتوزيعه بين مصر والسُّودان.

(١) مذكرة رئيس الوزارة إلى المندوب السامي

يا صاحب الفخامة:

  • (١)

    تأييدًا لمحادثاتنا الأخيرة أتشرَّف بأن أبلغ فخامتكم آراء الحكومة المصريَّة فيما يختص بمسائل الرَّي التي كانت موضع مباحثاتنا.

    إنَّ الحكومة المصريَّة توافق على أنَّ البتَّ في هذه المسائل لا يمكن تأجيله حتَّى يتيسَّر للحكومتين عقد اتِّفاق بشأن مركز السُّودان. غير أنَّها مع إقرار التسويات الحاضرة، تحتفظ بحريتها التَّامة فيما يتعلَّق بالمفاوضات التي تسبق عقد مثل ذلك الاتِّفاق.

  • (٢)

    من البيِّن أنَّ تعمير السُّودان يحتاج إلى مقدار من مياه النِّيل أعظم من المقدار الذي يستعمله السُّودان الآن.

    ولقد كانت الحكومة المصريَّة دائمًا — كما تعلم فخامتكم — شديدة الاهتمام بعمران السُّودان وستواصل هذه الخطة، وهي لذلك مستعدة للاتفاق مع الحكومة البريطانية على زيادة ذلك المقدار بحيث لا تضر تلك الزيادة بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية في مياه النِّيل، ولا بما تحتاج إليه مصر في توسعها الزراعي، وبشرط الاستيثاق بكيفية مُرْضية من المحافظة على المصالح المصريَّة على الوجه المفصَّل بعدُ في هذه المذكرة.

  • (٣)

    وبناءً على ما تقدم تقبل الحكومة المصريَّة النتائج التي انتهت إليها لجنة مياه النِّيل في سنة ١٩٢٥ المرفق تقريرها بهذه المذكرة، والذي يُعتبر جزءًا لا ينفصل من هذا الاتِّفاق. على أنَّه نظرًا للتأخير في بناء خزَّان جبل الأولياء الذي يعتبر — بناءً على الفقرة الأربعين من تقرير لجنة مياه النِّيل — مقابلًا لمشروعات ريّ الجزيرة. ترى الحكومة المصريَّة أن تُعدَّل تواريخ ومقادير المياه التي تؤخذ تدريجيًّا من النِّيل للسُّودان في أشهر الفيضان كما هو مبين بالبند ٥٧ من تقرير اللَّجنة بحيث لا يتعدى ما يأخذه السُّودان ١٢٦ مترًا مكعبًا في الثَّانية قبل سنة ١٩٣٦. وأن يكون من المفهوم أنَّ الجدول المذكور في المادة السَّابق ذكرها يبقى بغير تغيير حتَّى يبلغ المأخوذ ١٢٦ مترًا مكعبًا في الثَّانية، وهذه المقادير مبنيَّة على تقرير لجنة مياه النِّيل؛ فهي إذن قابلة للتعديل كما نُصَّ على ذلك في التَّقرير.

  • (٤)
    ومن المفهوم أيضًا أنَّ الترتيبات الآتية ستراعى فيما يختص بأعمال الرَّي على النيل:
    • (١)

      أنَّ المفتش العام لمصلحة الرَّي المصريَّة في السُّودان أو معاونيه أو أي موظف آخر يعينه وزير الأشغال تكون لهم الحرية الكاملة في التعاون مع المهندس المقيم بخزان سنار لقياس التصرفات والأرصاد كي تتحقق الحكومة المصريَّة من أن توزيع المياه وموازنات الخزَّان جارية طبقًا لما تمَّ الاتِّفاق عليه.

      وتسري الإجراءات التفصيلية الخاصَّة بالتنفيذ والمتفق عليها بين وزير الأشغال ومستشار حكومة السُّودان، من تاريخ الموافقة على هذه المذكرة.

    • (٢)

      ألَّا تُقام بغير اتِّفاق سابق مع الحكومة المصريَّة أعمال ريّ أو توليد، ولا تتخذ إجراءات على النِّيل وفروعه أو على البحيرات التي ينبع منها، سواء في السُّودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية، يكون من شأنها إنقاص مقدار الماء الذي يصل إلى مصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على وجه يُلحق أي ضرر بمصالح مصر.

    • (٣)

      تلقى الحكومة المصريَّة كلّ التسهيلات اللازمة للقيام بدراسة ورصد الأبحاث المائية (هيدرولوجيا) لنهر النِّيل في السُّودان دراسة ورصدًا وافيين.

    • (٤)

      إذا قررت الحكومة المصريَّة إقامة أعمال في السُّودان على النِّيل أو فروعه أو اتخاذ أي إجراء لزيادة مياه النِّيل لمصلحة مصر، تتَّفق مقدمًا مع السلطات المحلية على ما يجب اتخاذه من الإجراءات للمحافظة على المصالح المحلية. ويكون إنشاء هذه الأعمال وصيانتها وإدارتها من شأن الحكومة المصريَّة وتحت رقابتها رأسًا.

    • (٥)

      تستعمل حكومة جلالة ملك بريطانيا العُظمى وشمال أيرلندة وساطتها لدى حكومات المناطق التي تحت نفوذها لكي تسهل للحكومة المصريَّة عمل المساحات والمقاييس والدراسات والأعمال من قبيل ما هو مبيَّن في الفقرتين السابقتين.

    • (٦)

      لا يخلو الحال من أنه في سياق تنفيذ الأمور المبيَّنة بهذا الاتِّفاق قد يقوم من وقت لآخر شك في تفسير مبدأ من المبادئ أو بصدد بعض التفصيلات الفنية أو الإدارية، فستعالج كلّ مسألة من هذه المسائل بروح من حسن النية المتبادل. فإذا نشأ خلاف في الرأي فيما يختص بتفسير أي حكم من الأحكام السَّابقة أو تنفيذه أو مخالفته ولم يتيسر للحكومتين حلُّه فيما بينهما، رُفع الأمر لهيئة تحكيم مستقلة.

  • (٥)

    لا يُعتبر هذا الاتِّفاق بأي حال ماسًّا بمراقبة وضبط النَّهر، فإنَّ ذلك يحتفظ به لمناقشات حرة بين الحكومتين عند المفاوضة في مسألة السُّودان.

وإنِّي أنتهز هذه الفرصة لأجدِّد لفخامتكم فائق احترامي.

القاهرة ٧ مايو سنة ١٩٢٩

رئيس مجلس الوزراء: محمد محمود

(٢) رد فخامة المندوب السامي

ياصاحب الدولة

أتشرَّف بأن أخبر دولتكم بأنِّي تسلَّمت المذكرة التي تكرمتم دولتكم بإرسالها إليَّ اليوم.
  • (١)

    ومع تأييدي للقواعد التي تمَّ الاتِّفاق عليها كما هي واردة في مذكرة دولتكم، فإنِّي أُعبِّر لدولتكم عن سرور حكومة جلالة الملك من أنَّ المباحثات أدَّت إلى حلٍّ لا بدَّ أنَّه سيزيد في تقدم مصر والسُّودان ورخائهما.

  • (٢)

    وإنَّ حكومة جلالة الملك بالمملكة المتحدة لتشاطر دولتكم الرأي في أنَّ مرمى هذا الاتِّفاق وجوهره هو تنظيم الرَّي على أساس تقرير لجنة مياه النِّيل، وأنَّه لا تأثير له على الحالة الراهنة في السُّودان.

  • (٣)

    وفي الختام أذكِّر دولتكم أن حكومة جلالة الملك سبق لها الاعتراف بحق مصر الطَّبيعي والتاريخي في مياه النِّيل، وأقرر أنَّ حكومة جلالة الملك تعتبر المحافظة على هذه الحقوق مبدأً أساسيًّا من مبادئ السِّياسة البريطانية، كما أؤكد لدولتكم بطريقة قاطعة أن هذا المبدأ وتفصيلات هذا الاتِّفاق ستنفَّذ في كلّ وقت أيًّا كانت الظروف التي قد تطرأ فيما بعد.

وإنِّي أنتهز هذه الفرصة لأجدِّد لدولتكم فائق احترامي.

القاهرة في ٧ مايو سنة ١٩٢٩
لويد المندوب السامي

(٣) تقرير لجنة مياه النيل

أمَّا تقرير لجنة مياه النِّيل الذي يُعتمد عليه في هذا الاتِّفاق فسببه أنَّه كان مقررًا أن تكون مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة ٣٠٠ ألف فدان، فلمَّا قتل السردار وَرَد في الإنذار الذي أُرسل إلى الحكومة المصريَّة زيادة المساحة إلى مقدار غير محدود، فأجاب سعد باشا على ذلك أن هذه المسألة سابقة لأوانها، فردَّ اللُّورد اللنبي أنَّه أرسل تعليمات إلى حكومة السُّودان يُطلق لها فيها الحرية في زيادة المساحة التي تُروى بالجزيرة إلى حدٍّ غير محدود تبعًا لما تقضي به الحاجة. ولمَّا تولى زيور باشا رياسة الوزارة أرسل إلى اللُّورد اللنبي مذكرة قال فيها: «إنَّ الإجراءات المنوَّه عنها بمذكرة ٢٣ نوفمبر أحدثت في البلاد أشد المخاوف، وإنَّ الحكومة المصريَّة كانت في جميع المفاوضات في الماضي متمسكة أشد التَّمسك بحقوقها بمياه النيل.» ولفت نظره إلى إعادة النَّظر في مسألة ريِّ الجزيرة.

فأجابه اللُّورد اللنبي أنَّ حكومة جلالة الملك تحت تأثير هذه الاعتبارات ودليلًا على حسن مقاصدها تأمر حكومته بعدم تنفيذ التَّعليمات السَّابقة، وأن تشكل لجنة من الاختصاصيين تكون مأموريتها درس المسألة ووضع القواعد التي يمكن بمقتضاها تنظيم حالة الرَّي بطريقة تراعَى فيها مصالح مصر حق المراعاة وبدون اعتداء على حقوقها الطبيعية والتاريخية.

وهكذا تألفت اللَّجنة من المستر كنتر كريموز والمستر ماكجريجور وعبد الحميد سليمان باشا.

(٣-١) تأليف اللجنة

في ١٧ فبراير بدأت اللَّجنة أعمالها، وزارت قناطر الدلتا وأقلام مصلحة الطبيعيات، ثمَّ زارت سد رشيد، وانتقلت بعد ذلك إلى الصعود في النِّيل، فكانت لها رحلة بحث تناول فيما تناول سد سنار وترع الجزيرة، والمكان الذي سيُقام فيه سد جبل الأولياء وخزَّان أسوان وقناطر إسنا، والمكان الذي اختير لإقامة قناطر نجع حمادي والحياض المجاورة لسوهاج.

وفي خلال رحلاتها، وأثناء انعقاد جلساتها بالقاهرة، كانت تفحص الكثير من أرصاد مصلحة الطبيعيات ومصلحة الرَّي، وتقابل عدة من كبار الموظفين في مصر وفي السُّودان، فتتبيَّن آراءهم في الأمور ذات الصلة بمهمتها حتَّى إذا رجع أعضاؤها إلى القاهرة — وكان ذلك في آخر مارس — عكفوا على الإحصائيات يفحصون منها ما أُعدَّ لهم، ويطلبون غيره من المعلومات التي رأوا وهم يبحثون أن لا مناص من الوقوف عليها.

في هذه الفترة الدقيقة أخذت صحة رئيس اللَّجنة تبعث القلق في النفوس، ووجد جنابه عناءً شديدًا في مباشرة عمله، ثمَّ اشتدت عليه الوطأة فتوفي في ٢١ مايو.

استدعى مرض الرئيس وموته وقف أعمال اللَّجنة وهي على وشك الفراغ من مهمتها، فعوَّلت الحكومتان على تكليف المندوبين عنهما أن يستأنفا البحث الذي عطلته يد القدر زمنًا، وأن يُقدِّمَا التَّقرير النهائي.

(٣-٢) تقرير اللجنة

بدأت اللَّجنة تقريرها بنظرة تاريخية عن ريّ السُّودان فقالت:

لمَّا استقرت أمور السُّودان بعد فتحه في سنتي ١٨٩٦–١٨٩٨ احتاج إلى طلمبات لري مساحات يسيرة فيه فرُخِّص له بإقامة هذه الطلمبات بعد موافقة الحكومة المصريَّة، ثمَّ زادت على توالي الأيام مساحة الأراضي التي خولت هذا الحق. ومن الطلمبات ما رُكِّب لتجربة زراعة القطن، ومنها ما جُعل لزراعة الحبوب.

وليس من المساحات الواسعة في السُّودان ما هو قابل للرَّي الصناعي سوى الجزيرة، وهي منطقة مثلثة بين النِّيل الأزرق والنيل الأبيض، رأسها عند الخرطوم، وتمتد جنوبًا إلى سكة الحديد من سنار إلى كوستي. أمَّا ما عدا هذه المنطقة من أراضي السُّودان فهو ممَّا يُروى بالأمطار وممَّا لا يقبل الري الصناعي. فُكر في إمكان ريّ جزء من هذه الجزيرة منذ سنة ١٩٠٥، وفي سنة ١٩١٣ أعد مشروع لري ١٠٠٠٠٠ فدان منها بواسطة ترعة تستمد ماءها من التَّصرف الطَّبيعي للنيل الأزرق، مع إنشاء قنطرة عند مكوار للوصول إلى المناسيب المطلوبة، وكان الرأي إذ ذاك أنَّ المشروع يمكِّن من زراعة القطن دون الإضرار بمصر. لكن تبيَّن من زيادة الخبرة بأمور الزراعة ومن تقصير النِّيل على خلاف العادة في فيضان سنة ١٩١٣–١٩١٤ بطلان هذا الرأي، وثبت أنَّه لابد في المشروع من خزَّان، وأن الاقتصار على قنطرة موازنة لا يُجدي نفعًا. أمَّا إذا أنشئ الخزَّان فيمكن زيادة المساحة إلى ١٠٠٠٠٠ فدان دون حاجة إلى أخذ مياه النَّهر في دور انخفاضه. وهذه الزيادة في المساحة ضرورية لتغطية الزيادة في نفقات الخزَّان. وقد أُفرغ المشروع في قالبٍ جديد روعيت فيه هذه الاعتبارات، غير أنَّ الحرب حالت دون الاستمرار فيه.

وكانت الحكومة المصريَّة في الوقت نفسه تفكر في سد على النِّيل الأبيض عند جبل الأولياء لغرضين؛ كبح جماح الفيضانات العالية التي يخشى إضرارها بمصر، وتخزين المياه لتنتفع بها مصر في فصل الصيف، وهو مشروع أخَّرته الحرب أيضًا وإنْ نفِّذ فعلًا شيء منه في سنة ١٩١٧ وما بعدها إلى سنة ١٩٢٠.

ولقد قابلت مصر استئناف العمل في هذين المشروعين بعد الحرب بمناقشات علنية عنيفة وانتقاد مر، وكانت حملاتها في هذا السبيل موجهة على الأخص إلى الطعن في صحة المعلومات التي أسِّست عليها المشروعات، فكانت النتيجة أن أُلجِئَت الحكومة المصريَّة في يناير سنة ١٩٢٠ إلى تكوين لجنة للتحقيق عرفت بلجنة مشروعات النِّيل، وكان أعضاؤها ثلاثة اختارتهم حكومة الهند وجامعة كمبردج والولايات المتحدة، وجعل اختصاص هذه اللَّجنة إمداد الحكومة المصريَّة بالرأي في المشروعات التي وضعتها وزارة الأشغال العمومية تبقى بها زيادة ضبط ماء النيل ضبطًا يعود بالفائدة على مصر والسودان، وطالبت الحكومة اللَّجنة بمعالجة المسائل الآتية على الأخصِّ، وهي:
  • (أ)

    فحص المعلومات الطبيعية التي أُسِّست عليها المشروعات وإبداء الرأي فيها.

  • (ب)

    صلاحية الطريقة التي بها يُقسَّم بين مصر والسُّودان ما يترتب على هذه المشروعات في أدوار تنفيذها من زيادة في كمية المياه الممكن الانتفاع بها.

  • (جـ)

    إبداء الرأي فيما تتحمَّله مصر وما يتحمله السُّودان من نفقات المشروعات ونفقات اللجنة. والمشروعات التي نحن بصددها مبيَّنة في كتاب نشرته الحكومة المصريَّة عنوانه «ضبط النيل»، وهي السدَّان اللذان تقدَّم ذكرهما، وقنطرة في الوجه القبلي، ومشروع الاحتفاظ بمياه النِّيل في منطقة السدود وخزانات البحيرات الكبرى.

نشر تقدير لجنة مشروعات النِّيل في سنة ١٩٢١ فقرر صحة المعلومات التي اتخذت أساسًا للمشروعات وأشار بتنفيذها. غير أن الحكومة المصريَّة قررت في مايو سنة ١٩٢١ أن يقف العمل في سد جبل الأولياء وما يتبعه لِمَا رأت من جسامة النفقات التي قدرت له. أما حكومة السُّودان فأخذت برأي اللَّجنة وقرَّرت المُضي في مشروع ريّ الجزيرة.

ولم تستطع الأغلبية في لجنة مشروعات النِّيل أن تشير بشيء في إشكال تقسيم الماء الذي لا يزال مباحًا، ولم يكن للجنة رأي في هذا الإشكال سوى ما أبداه مستر كوري العضو الأمريكي في اللجنة. على أن آراءه لم يُعمل بها.

ولمَّا رأت الحكومة البريطانية الحال التي أدَّت إلى تشكيل لجنة مشروعات النِّيل تعهدت في فبراير سنة ١٩٢٠ بألَّا تزيد مساحة المنزرع في الجزيرة على الثلاثمائة ألف فدان إلَّا برأي الحكومة المصرية. وبهذا القيد نفِّذ مشروع ريّ الجزيرة.

(٤) الموقف الحاضر

يتكون القسم المعجل من المشروعات المبيَّنة في كتاب (ضبط النيل) من ثلاثة مشروعات هي:
  • (أ)

    سد جبل الأولياء، والغرض منه زيادة الماء الذي تنتفع به مصر.

  • (ب)

    سد مكوار أو سد سنار على التسمية الحالية، وتتبعه ترع تروي ٣٠٠٠٠٠ ألف فدان في الجزيرة.

  • (جـ)

    قنطرة عند نجع حمادي.

فالمشروعان الأول والثالث لم ينفذ منهما شيء لأسباب هي: الحرب أولًا ثمَّ الصعوبات المالية وغير المالية.

ثانيًا: أمَّا المشروع الثَّاني فتمَّ واستعمل في يولية سنة ١٩٢٥، وزادت نفقاته كثيرًا عمَّا كان مقدَّرًا لها. فحكومة السُّودان وهي المسئولة عن عواقبه المالية راغبة في زيادة المساحة التي يرويها هذا المشروع كي تقلل من خطر التعرض لفشله ماليًّا وتُوجِد لمصادر الثروة في السُّودان مجالًا أوسع.

كان من أهم الاعتبارات في برنامج هذه المشروعات الثلاثة وجوب إنجازها، بحيث تستعمل كلها في آنٍ واحد، لكن الأمر الذي لا مندوحة لهذه اللَّجنة أن تواجهه هو: أنَّ حكومة السُّودان قد فرغت من أعمال الرَّي الصناعي اللازم لثلاثمائة ألف فدان في الجزيرة، وتريد أن تخطو بعد ذلك خطوة أخرى. على حين أن مصر لم تُوفَّق بعد إلى تنفيذ نصيبها من برنامج المشروعات الأول، غير أن الحكومة المصريَّة قد قطعت في الفترة التي انقضت منذ عطلت أعمال اللَّجنة شوطًا لا بأس به في سبيل تنفيذ مشروعاتها؛ إذ أقرت سد جبل الأولياء وإنشاء قناطر نجع حمادي، وخطت خطوة في سبيل تنفيذ مشروع السدود.

أمَّا فيما يتعلَّق بالثلاثمائة ألف فدان فقد تغيرت الحالة بالمكاتبات التي دارت بين الحكومة المصريَّة والحكومة البريطانية في سنة ١٩٢٤ وسنة ١٩٢٥. ومن هذه المكاتبات المذكرتان الأخيرتان اللتان أعقبهما تكوُّن هذه اللَّجنة، وتجدهما في الذيل من هذا التَّقرير.

بهاتين المذكرتين فُكَّت القيود التي وضعت في سنة ١٩٢٠ لتحديد الثلاثمائة ألف فدان على أن يُبحث من جديد عن طريقة لتسوية مسألة التَّوسع في ريِّ أراضي الجزيرة.

(٥) اختصاص اللجنة

كانت مهمة لجنة مشروعات النِّيل في سنة ١٩٢٠ فحص مشروعات معينة وإبداء الرأي فيها، ومن هذه المشروعات ما كان العمل جاريًا فيه، ومنها ما كان موضع النَّظر في وزارة الأشغال العمومية. أمَّا اللَّجنة الحالية فلم تبلغ مهمتها هذا المبلغ من التَّخصص؛ إذ لم يُطلب منها سوى أن تقترح أسلوبًا للرَّي تراعي فيه كلَّ المراعاة حقوق مصر ومصلحة مصر. فهي على هذا قد أُطلقت من كلِّ قيد في اختيار ميدان عملها وتحديد وجهة أبحاثها ومدى هذه الأبحاث والمنهج الذي تسلكه في وضع قراراتها.

إن المعلومات المجتمعة في كتاب ضبط النِّيل والمشروعات التي بحثت فيه قد تناولت مجالًا واسعًا جدًّا هو ما يمكن أن يصل إليه الرَّيُّ من التَّقدُّم إذا نُفِّذت سلسلة من المشروعات فيما بين البحيرات الأفريقية الكبرى والبحر الأبيض المتوسط، وتصدَّت للمنتظر في المستقبل البعيد كما تصدَّت للميسور في زمن قريب. وقد أيَّدت لجنة مشروعات النِّيل ذلك كله. أمَّا اللَّجنة الحالية فلم تتعرض لمثل هذا التَّوسع الذي يأباه ضيق الوقت المحدد لها ولم ترَ أنَّها مطالبة بالخوض في القواعد التي تتَّبع في قسمة الماء بين الفريقين المنتفعين به، بل اقتصرت على بسط الاعتبارات التي كانت رائدها في استنباط آرائها.

إنَّ السوابق نادرة في هذه المسألة، مسألة قسمة الماء، والعرف فيها غير مطَّرد، وهذه اللَّجنة لا تعرف نظامًا عامًّا متَّبعًا ولا عرفًا مقررًا يمكن أن يُجعل قاعدة للفصل في مسألة الماء الذي يشترك في الانتفاع به وحدات عدة. على أن الحالة التي نحن بصددها لا تخلو من عوامل خاصة بين تاريخية وسياسية وفنية من شأنها أن تجعل القواعد المتبعة في غير النِّيل غير صالحة في حالة النِّيل والتقيد بها غير وجيه. ولما تأملت اللَّجنة الأحوال التي اكتنفت تشكيلها، ونظرت في ماضي المسألة التي تعالجها وفي دورها الحالي، استقر رأيها على أن تجعل غايتها إعمال الحيلة في استنباط تسوية ممكنة التنفيذ لا تغفل ما يلزم لحالة الرَّي القائمة الآن، ولا تتعارض مع برنامج التَّوسع الذي تسمح به الحالة الراهنة والحالة التي تَجِدُّ في المستقبل القريب، على ألَّا يكون في هذه التسوية مساس ما بالحالة في المستقبل البعيد.

هذه التسوية ترمي إلى تفسير المذكرة التي أشرنا إليها في الفقرة الأولى من هذا التَّقرير بعبارات فنية بيِّنة لا يتسرب إليها غموض. وقد جاء في تلك المذكرة أنَّ الحكومة البريطانية مع عظيم اهتمامها بتقدم السُّودان لا تنوي مطلقًا الافتئات على ما لمصر من الحقوق التاريخية والطبيعية في مياه النيل، تلك الحقوق التي تعترف بها اليوم كما كانت تعترف بها في الماضي سواءً بسواء.

واللَّجنة كلها أمل أنَّ آراءها التي تتمشى فيها هذه الروح، والتي لم تكن إلَّا بعد استيعاب الموضوع من الوجهات الفنية تكون — إذا صحت العزيمة على الوئام والتعاون — أساسًا مقبولًا لتقدم الرَّي في المستقبل وضمانه إلى الأبد لكلِّ ما هو قائم الآن من الحقوق المكتسبة.

(٦) مشروع ريّ الجزيرة

قد بينَّا من قبل أنَّ أهم ميدان لترقية الرَّي في السُّودان هو أراضي الجزيرة، وعلى ذلك فالأحوال المحيطة بمشروعات الرَّي في هذه المنطقة لها صلة ذات شأن بالمسألة التي نيطت باللجنة لتسويتها؛ لذا آثرت اللَّجنة قبل الاستمرار في أبحاثها أن تقول في هذا المشروع كلمة تتحرى فيها شيئًا من التفصيل.

الغرض من هذا المشروع ريُّ مساحة من الأراضي الصالحة للزراعة قدرها ٣٠٠٠٠٠ فدان ثلثها يُزرع قطنًا في مدة أولها يولية وأغسطس، وآخرها لا يكون بعد ١٥ إبريل، وثلث آخر يزرع مواد غذائية من أغسطس وسبتمبر إلى نوفمبر في حالة زراعة الذرة وإلى يناير في حالة زراعة اللوبيا. أمَّا الثلث الباقي فيبقى بورًا، ومن ١٦ إبريل إلى ١٥ يولية تكون الأرض خالية من الزراعة، ولا يحتاج إلى الماء إلَّا للقدر اللازم للأهالي في معيشتهم وللقطن دون سائر الحاصلات الزراعية الشأن الأكبر، سواء من وجهة الماء اللازم له ومن وجهة الثمرات الاقتصادية للمشروع.

من ١٦ يولية إلى ٣١ يولية يرفع منسوب ترعة الجزيرة تدريجيًّا من الحد اللازم للأهالي إلى الحدِّ اللازم للرَّي، وفي هذه الفترة عينها يرفع منسوب الخزَّان بالضرورة. ومن ٣١ يولية تستمد الترعة ماءها حسبما تقتضي الزراعة، ويكون أقصى تصرفها ٨٤ مترًا مكعبًا في الثَّانية، وفي شهر نوفمبر يرتفع الماء في الخزَّان حتَّى يصل إلى منسوب التَّخزين المقرَّر، وفي هذه الحالة يكون استمداد الماء من النَّهر بمقدار بمقدار ١٥٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية، وذلك لمدة ٣٠ يومًا، وينتهي ريّ اللوبيا أثناء النِّصف الأول من يناير ويقتصر الرَّي على القطن وحده. بُني هذا المشروع على التقديرات المدونة في كتاب ضبط النِّيل، وهي تدل على أنَّ الماء اللازم لري زراعة القطن في تلك المنطقة يمكن أخذه من النِّيل الأزرق لغاية ١٨ يناير دون إضرار بمصر حتَّى في الفيضانات الشاذة في تقصيرها كفيضان سنة ١٣–١٩١٤. أمَّا بعد ١٨ يناير فلا مناص من أخذ الماء اللازم لري القطن من الخزان؛ لهذا روعي في وضع المشروع أن يكون في الخزَّان كمية المياه التي يتطلبها (حسب التَّقدير ومع مراعاة الضائع) ريُّ القطن إلى ١٥ إبريل وحاجة الأهالي من ١٥ إبريل إلى ١٥ يولية.

وثَمَّ قيدٌ آخر غير ما تقدم من القيود الخاصَّة بالوقت الذي يستمد فيه الماء من التَّصرف الطَّبيعي للنيل الأزرق وبكمية هذا الماء، ذلك القيد هو تحديد الأرض التي تزرع في الجزيرة بثلاثمائة ألف فدان بمقتضى التعهد الذي قدمناه في الفقرة (١٥) من هذا التَّقرير. فلا تبين بالفعل أن المُقنَّن المائي أقل ممَّا قدِّر أولًا لما كان سبيل إلى الانتفاع بالماء الفائض في زيادة المساحة المنزرعة.
figure
مشروع الجزيرة.

(٧) اعتبارات عامة للجنة

جرت العادة في مصر من قديم باعتبار السنة الزراعية فصلين كلٌّ منهما نحو ستة أشهر في أحدهما يستعمل في الرَّي كلُّ تصرُّف النِّيل الطَّبيعي مضافًا إليه الماء المخزون في أسوان، وفي هذا الفصل يسد كلٌّ من فرعي النِّيل متى سمحت الحالة بذلك. وفي الثَّاني ينساب ماء النِّيل في البحر الأبيض بمقادير كبيرة جامدة بضعة شهور.

وقد وضع مشروع ريِّ الجزيرة الذي تمَّ في يونية سنة ٩٢٥ بحيث لا يستمد الماء من التَّصرف الطَّبيعي إلَّا في الفصل الثَّاني من فصلي الزراعة في مصر، وبحيث يستمده من خزَّان سنار في زمن انخفاض النيل. هذه القاعدة تقرُّها اللَّجنة، وقد سلَّم بها رجال حكومة السُّودان، وهم في هذا الفصل لا يتشبَّثون إلَّا بالماء اللازم لري مساحات يسيرة بالطُّلمبات عملًا باتفاق قديم أقرَّته الحكومة المصرية. على هذا رأت اللَّجنة أن تكون فاتحة أعمالها تقسيم السنة تقسيمًا دقيقًا إلى فصلين، مسترشدة في ذلك بتدبير الأحوال الحاصلة في أول الفيضان وآخره، وهما الوقتان اللذان فيهما تتغير الأحوال.

فإذا قسمت السنة على هذا النحو أصبح من الميسور أن تستأثر مصر في شهر الانخفاض بكل التَّصرف للنيل إذا ما كان منه حق للسُّودان بحكم نظام الطلمبات المتفق عليه كما قدمنا، ثمَّ ينظر في إيراد الماء أثناء الباقي من السنة للاهتداء إلى القدر الذي يصح أن يكون للسُّودان، مع مراعاة ما تحتاج إليه مصر في توسعها الزراعي، ويبقى أمام اللَّجنة النَّظر في موضوعين أقل شأنًا هما الرَّي بالطُّلمبات وري الحياض في السُّودان ووضع القيود لها.

تلك هي الخطَّة العامَّة التي التزمتها اللَّجنة في تكوُّن آرائها، ولا غنى في هذا المقام عن بيان بضع قواعد وأساليب بحث اتَّبعتها اللَّجنة وهي تعالج بالفعل المسألة المطروحة أمامها، فنقول: إنَّ العملية الأساسية هي تقسيم السنة إلى فصلين وعلى الأخص تحديد الوقت الذي يكفُّ فيه السُّودان عن أخذ الماء من التَّصرف الطَّبيعي للنَّهر عند سنار. ولقد ذهب كتاب (ضبط النِّيل) إلى أن يكون هذا الوقت متفقًا مع البدء في تفريغ خزَّان أسوان، فوضع خزَّان سنار ليمد ترعة الجزيرة بالماء اللازم لها بعد ١٨ يناير، وهو التَّاريخ الذي يقابل في أسوان البدء في تفريغ الخزَّان في سنة ١٩١٣–١٩١٤، وهي سنة الانخفاض الخارق للعادة. ولقد أقرت أغلبية اللَّجنة هذه الطريقة، غير أنَّها أشارت بجواز تغيير هذا التَّاريخ تبعًا لحالة النِّيل في كلِّ سنة على أن يكون ذلك بعد يوم ١٨ يناير عادة، رأت اللَّجنة ذلك أولى من جعل التَّاريخ المذكور ثابتًا لا يتغير تبعًا لحالة الفيضان في سنة ١٩١٣–١٩١٤، وقد كانت حالة شاذة.

ليس من رأي هذه اللَّجنة اعتبار وقت البدء في تفريغ خزَّان أسوان مقياسًا صحيحًا للدلالة على انتهاء مدة زيادة التَّصرف على المطالب، فقد يجوز مع انتهاء مدة هذه الزيادة ألَّا يبدأ بتفريغ الخزَّان، بل يحتفظ بمائه زمنًا ما توقعًا لشدة الحاجة إليه فيما يلي من الشهور. لهذا الاعتبار رأت اللَّجنة ألَّا تأخذ بهذا المقياس، بل تأخذ بانتهاء مدة الزيادة فعلًا حسبما يعلم من تصرُّف الترع والموازنة على قناطر الدلتا وإقامة سد دمياط وسد رشيد.

فكرت اللَّجنة فيما إذا كانت تبني آراءها على الحالة الشاذة التي كانت في سنة ١٩١٣–١٩١٤، أو على معدل مجموعة من السنين، أو تضع مقياس تدرج بمقتضاه يقدَّم التَّاريخ الذي نحن بصدده ويؤخَّر تبعًا لحالة كلِّ سنة، ونظرت إلى أرصاد الفيضانات فرأتها تتناول أكثر من ٩٦٠ سنة ليس فيها سوى أربعة فيضانات بلغت من التقصير مبلغ فيضان سنة ١٩١٣–١٩١٤. ومع تسليمها بعدم إغفال مثل هذه الفيضانات لاحتمال حدوثها لا ترى اتخاذها أساسًا يُبنى عليه مشروع ما، وكذلك ترى أن العمل بجدول التَّدرُّج لا يخلو من تعقيد، وأن التغيرات التي تعتري مناسيب النِّيل ليست من الخطورة بحيث تأبى التَّقيد بتاريخ وسط يصطلح عليه، فقرَّرت الأخذ به وتطبيقه على السنين المنخفضة لترى ما يترتب عليه من نتائج. ولم يفت اللَّجنة التسليم بالحاجة إلى ترتيب خاص للفياضانات التي تكون من قبيل فيضان سنة ١٩١٣–١٩١٤.

ولقد فكَّرت اللَّجنة فيما إذا كان ينبغي لها وهي تعالج مسألة التَّوسع في ريِّ السُّودان أن تجمع إلى اعتبار المساحات التي تروى اعتبار كمية الماء التي تستعمل في أوقات معينة، فلقد سبق — كما قدمنا في الفقرة ٢٦ — تحديد مساحة المنزرع في الجزيرة بثلاثمائة ألف فدان مع القيود التي توجبها بطبيعة الحال سعة الخزَّان ويقتضيها تحديد الوقت الذي فيه يتسنَّى أخذ الماء من المنصرف الطَّبيعي ومقدار هذا الماء.

لكي تتسنى معالجة هذا الموضوع على الوجه الصحيح يجب أن تكون الأرصاد المتعلقة به مبنية على المواسم ومقادير الماء، فلا بد إذن من تدوين الأرصاد المتعلقة بتشغيل الخزَّان وكمية الماء التي تستمدها الترعة الرئيسية يوميَّا؛ لأنَّ هذه الأوقات ومقادير الماء هي خير ما يُستأنس به في فرض القيود التي لا غنى عنها في ضبط العمل بأية طريقة يهتدي إليها كنتيجة لاقتراحات اللجنة.

أمَّا تحديد المساحة، فلن يكون وسيلة لضبط الماء المستمد من النَّهر إلَّا إذا اشترط معه التقيد بأنواع الزراعة وبدورة زراعية خاصة، ثمَّ إنَّ تحديد الزراعة يجرُّ إلى فروض لا بدَّ فيها من التَّوسع في التَّقدير وأخذ بالأحوط. وهذا التَّوسع وما ينطوي تحته من حيطة يستلزمها الشك في سعة الخزَّان وفي الماء الضائع وفي الماء اللازم لكل نوع من أنواع الزراعة يحول دون انتفاع السُّودان انتفاعًا كاملًا بمياه كبيرة الفائدة، فهو يؤثر في السُّودان أثرًا غير صالح دون أن يعود على مصر بفائدة، ومن ثمَّ كان تحديد المساحة ما لم تقدر عن سعة، مدعاة للإسراف في الرَّي، وبديهي أن الإسراف فيه لا يكون في مصلحة المنتفعين به.

أخذت اللَّجنة بتلك الاعتبارات، فاستقر رأيها على أن تجعل الأوقات ومقادير الماء أساسًا لمقترحاتها دون أي أساس آخر، وهي مقتنعة بأن جهات الاختصاص لا تلقى عناءً في استنباط الوسائل التي بها يضبط سحب الماء من النَّهر ومن الخزَّان، وبشرط إيجاد هذه الوسائل لا ترى اللَّجنة من الوجهة الفنية حاجة إلى تقييد مساحة المنزرع علاوة على تقييد مقادير الماء، فإنَّ المعروف من تقاليد الرَّي يجعل في تحديد الأوقات ومقادير الماء الضمانات الكافية. أمَّا إن مست الحاجة إلى التقيد بمساحة المنزرع كما حصل من قبل، فإنَّ ذلك يكون راجعًا إلى أسباب لا تدخل في اختصاص اللجان الفنية.

بقيت مسألة لم يكن للجنة بدٌّ من التَّفكير فيها وهي تضع خطة البحث في الموضوع الذي من أجله شُكِّلت؛ ذلك أن الجزء الأكبر من أرض الصعيد يُروى بطريقة الحياض، وأكثر اعتماده على منسوب الفيضان الطَّبيعي، ولا يعتمد على القناطر إلَّا قليلًا. فكل ماء يستنزفه السُّودان إبَّان الفيضان يُحدث لا محالة في هذا المنسوب أثرًا يتبعه ضررٌ بِرَيِّ الحياض المصريَّة، فالتسليم بأنَّ لهذه الحياض حقًّا مطلقًا في مناسيب الفيضان غير منقوصة يستلزم حتمًا تحريم ماء الفيضان على السُّودان.

جال بخاطر اللَّجنة تلقاء هذه الحالة أنَّ من المتعذِّر إرجاء كلِّ تحسين في ريِّ السُّودان إلى أجلٍ غير مسمًّى أو الاندفاع بلا روية في هذا التحسين والغلو في استمداد الماء اللازم له على ما فيه من تعريض حياض الصعيد لضرر بليغ. لهذا رأت ألَّا يتشبَّث بمناسيب الفيضان إلى حد إغفال تقدم الرَّي في السُّودان، بل يقتصر في التَّمسك بها على القدر اللازم لتحديد مدى هذا التَّقدُّم وسرعة السير فيه.

وممَّا ساعد اللَّجنة على الأخذ بهذا الرأي ما قرَّرته الحكومة عقب تشكيل اللَّجنة من بناء قنطرة أخرى في الوجه القبلي وما قررته بعد ذلك من إقامة سدِّ جبل الأولياء لانتفاع مصر به، فإنَّ إنجاز هذين المشروعين يجعل مناسيب الفيضان أقلَّ أهمية لحياة مصر ممَّا لو اقتصر الأمر على مشروعات السُّودان.

وهناك مسألة أخرى عامة تستدعي أن يُفصل فيها توطئةً للبحث المستفيض في الموضوع الذي تعالجه اللَّجنة — هذه المسألة هي هل سد جبل الأولياء يكون حكمه حكمَ ترعة الجزيرة سواءً بسواء من حيث الأولوية في الحق وإن لم يكن الأول في السبق لعدم إنجاز شيء منه حتَّى الآن، ولمَّا كان سد جبل الأولياء وترعة الجزيرة من أول الأمر حلقتين من سلسلة مشروعات واحدة، فقد رأت اللَّجنة أن لا يكون لمشروعات الجزيرة ميزة على جبل الأولياء في الانتفاع بالزيادة في إيراد الماء بل يسوَّى بينهما في حق الأسبقية، وينتج عن ذلك الرأي أنَّ السُّودان ينبغي له أن لا يألو جهدًا في تسهيل مهمة إقامة سد جبل الأولياء. وقد افترضت اللَّجنة أن هذا التسهيل من جانب السُّودان كائن.

وختامًا نظرت اللَّجنة فيما إذا كان حتمًا لزامًا أن يبقى لمشروع الجزيرة الحقُّ الذي قرره له كتاب (ضبط النيل) في مقدار الماء الذي يأخذه وشروط أخذه، فلقد كان محتملًا أن بحث اللَّجنة في الإحصائيات التي تناولها (ضبط النيل) وفي إحصائيات السنين التي انقضت منذ ابتكر المشروع يقضي إلى آراء مغايرة للآراء المثبتة في ذاك الكتاب، لكن هذا المشروع لم يقرَّر إلَّا بعد بحث مستفيض من جانب رجال الرَّي في مصر ومن جانب لجنة مشروعات النِّيل، وارتبطت حكومة السُّودان بتعهدات قامت على أساس الحصة التي قررها المشروع، ومن ثمَّ بدا للجنة أن الإقدام على النقص في كمية الماء اللازم لهذا المشروع يجرُّ إلى عواقب لا تدخل في اختصاصها وهي هيئة فنية. على أن القواعد التي بُني عليها المشروع قد دلَّ تمحيصها بالأساليب التي جرت عليها اللَّجنة على أن ليس هناك كبير خلاف بين النتائج التي أفضى إليها بحث هذه اللَّجنة والنتائج التي توصل إليها من قبل.

(٨) في الإحصائيات

من المناسب قبل الخوض في تمحيص الإحصائيات أن نشرح بالإيجاز ماهية ما لدينا من الأرصاد، ونبيِّن بعض عوامل لها دخل في التقديرات المبيَّنة على هذه الأرصاد.

(٨-١) الأرصاد المائية

إنَّ مناسيب النِّيل عند القاهرة أعلاها في السنة وأدناها مدونة معروفة من سنة ٦٤١ ميلادية إلى ١٤١٥ ميلادية، ثمَّ من سنة ١٧٣٧ ميلادية إلى الوقت الحاضر لا في فترة واحدة، فهذه المناسيب إذن تتناول أكثر من ٩٦٠ سنة، ولها قيمتها في بيان دورة السنوات الشحيحة، ولقد بُدِئ برصد مقاييس النِّيل عند أسوان والقاهرة في سنة ١٨٧٠ مع رصد مقدار التَّصرف أحيانًا، ومنذ سنة ١٩٠٣ لا تزال المناسيب أمام الخزَّان وخلفه، ومقدار فتح عيونه ترصد كلَّ يوم، ولقد قدرت تصرفات النَّهر في السنين الأولى بواسطة تقنين فتحات هذه العيون، وهذا التَّقنين قد بلغ الآن مبلغًا عظيمًا من الضبط، وكذلك توزيع الماء عند قناطر الدلتا يعمل بطريقة التقنين منذ سنة ١٩١٩، والمقادير الإحصائية يتحرَّى فيها على الدَّوام التوقي من دقة الرصد وتهذيب أساليبه، حتَّى إنَّ هذه الدِّقة، وهذه الأساليب قد بلغت الآن مبلغًا عظيمًا من الإتقان، فيمكن الركون إلى تلك الإحصائيات، ولا سيَّما ما كان منها خاصًّا بالسنين السبع الأخيرة.

(٨-٢) مدة انتقال الماء

إنَّ طول النِّيل وقلة انحدار مجراه يجعلان لزمن انتقال الماء شأنًا جديرًا بالاعتبار في كلِّ ما يتعلَّق بتقدير مياهه، ولا بُدَّ من أن يكون زمن انتقال الماء هذا دائمًا على بال الباحث في هذا التقدير، فإذا رصدت للنَّهر حالة معينة في سنار مثلًا لزم حساب الوقت الذي فيه يبدو أثر هذه الحالة قبل أن ترتِّب عليها أي نتيجة. فالخلاصة أن لا بدَّ من اعتبار الزمان والمكان في رصد حالات النَّهر، وليلاحظ أنَّ زمن الانتقال غير ثابت، بل يعتريه التغير طبقًا لحالة النهر.

ولقد قامت مصلحة الطبيعيات بحساب زمن انتقال الماء بين الأماكن المختلفة عندما طلبت اللَّجنة ذلك، وهذا الحساب مبيَّن في الذيل «ب»، ومنه يتَّضح أن زمن انتقال الماء من سنار إلى قناطر الدلتا في بدء الفيضان وانتهائه قدر كما يأتي:

في يناير وفبراير ٣٤٠٠٠٠ يومًا. وفي يوليو وأغسطس ٢٦٠٠٠٠ يومًا.

أمَّا عند البحث في حالات خاصة كحالات السنين الشحيحة، مثلًا فإنَّ حساب زمن الانتقال اللازم لفحص هذه الحالات يقدر تقديرًا خاصًّا أساسه المعلومات المناسبة له.

(٨-٣) الماء الضائع

قدر كتاب «ضبط النيل» (انظر صحيفة ٢٥٣ من النسخة العربية) أن ١٢٤ وحدة من الماء عند الخرطوم تنقص بالانتقال حتَّى تصير عند أسوان ١٠٠ وحدة فقط، واللَّجنة لا ترى من الضروري ولا من الميسور في فحص الموضوع الذي بين أيديها أن تعتبر ما يضيع بالانتقال حين تنظر فيما يكون لأخذ الماء عند سنار من أثر في حالة الماء في مصر، بل تُؤْثر اللَّجنة الذهاب إلى أنَّ الماء الذي يؤخذ عند سنار يبدو في مصر أثره كله مع افتراض أنَّه لا ينقص بالانتقال، وقد يتيسر يومًا في المستقبل أن يحسب هذا الضائع بالانتقال حسابًا يكون أدنى إلى الصواب، كما يجوز أن يكون لهذا الضياع شأن أكبر من شأنه الحالي، وإذن يكون ثمَّت وجه للاعتداد به عند اللزوم.

(٨-٤) تقسيم السنة

إنَّ الفكرة الجوهرية المنطوية عليها آراء اللَّجنة هي كما سبق بيانه تقسيم السنة إلى فصلين في أحدهما تستمد ترعة الجزيرة الماء من تصرُّف النَّهر الطَّبيعي، وفي الآخر تستمده من الماء المخزون، وتترك التَّصرف الطَّبيعي لمصر خاصة، ولهذا لم تعد اللَّجنة القواعد التي قررها كتاب «ضبط النيل»، وأقرتها لجنة مشروعات النِّيل، لكنها في معالجة الموضوع، وفي بيان النتائج سلكت مناهج غير التي سلكها، وجعلت أهم أركان بحثها فحص الأحوال التي تصحب ظهور الفيضان وانقضاءه، أي حين يربو ماء النِّيل إبَّان الزيادة على المطلوب منه، وحين يقلُّ إبَّان الانخفاض عن ذلك المطلوب، وأكثر هذا الفصل من التَّقرير قد خصَّ لهذا الفحص وإبداء نتائجه وما يُبنى عليها من الآراء.

(٨-٥) زيادة النِّيل — يوليو وأغسطس

الحالة الحاصلة عند قناطر الدلتا في إبان الزيادة مبيَّنة بالرسم رقم ١ الوارد في الذيل (ح) من التَّقرير، وهي مبنية على التَّصرف خلف قناطر الدلتا ومنحنيات النَّهر، هي عن معدل السنين من سنة ١٩١٢ إلى ١٩٢٥ وعن سنة ١٩١٣ الشحيحة على خلاف العادة وعن سنة ١٩١٥ التي فيضانها أردأ الفيضانات في مدة ١٤ سنة إذا استثنينا سنة ١٩١٣. وقد روعي مقدار الماء الذي استُعمل في الرَّي خلف القناطر. وفي هذا الوقت وبين تأثير خزَّان سنار حسب برنامج الموازنة المبيَّن بالجدول رقم ٥ الوارد في صحيفة ٨٧ من كتاب ضبط النِّيل، وروعي في بيان هذا التأثير زمن انتقال الماء، وهو كما قدمنا يتغير تبعًا لحالة الفيضان.

يتضح من الرسم أنَّه في السنين المعتادة، وحين يبدو في قناطر إسنا أثر سحب الماء عند سنار يكون الماء الذي ينساب في فرعي النِّيل ١٥٠ مليون متر مكعب في اليوم تقريبًا، ويكون أثر السحب عند سد سنار ضئيلًا لا أهمية له ولو كان هذا السحب في سنة ١٩١٥ لما أضر بمصر وإن استشعرت أثره. ولو كان في سنة ١٩١٣ لاقتضى أخذ الماء من النَّهر قبل استقرار الزيادة من الفيضان بنحو ١٠ أيام، فالنتيجة التي تستخلص من هذا الرسم هي أن الترتيب الذي يقول عنه كتاب «ضبط النيل» مناسب بشرط أن تتأخر زيادة النِّيل عن وقت مجيئها في سنة ٩١٥، وذلك الترتيب يقضي أن تبدأ ترعة الجزيرة يوم ١٦ يوليو في أخذ الماء من النَّهر عند سنار بالمقادير المقررة. أمَّا في السنين الأقل فيضانًا من سنة ٩١٥ فيحتاج إلى الماء اللازم للرَّي في مصر.

تقدم في الفقرة ٤١ أنَّ اللَّجنة تشعر أنَّها إذا تصدَّت للتقليل من كمية الماء الذي سبق تخصيصه لهذا المشروع، والذي من أجله ارتبط أحد الفريقين بتعهد تكون قد تخطت حدود اختصاصها. أمَّا مسألة تأخير فتح ترعة الجزيرة أيامًا في سني تأخير زيادة النِّيل فللجنة فيها نظر آخر. ذلك أنَّ الماء في هذا الوقت يكون مطلوبًا في مصر، ولا سيَّما في زراعة الذرة، وهذه ينبغي التبكير بها كي يجود المحصول. كذلك في الجزيرة يستحسن التبكير بزراعة القطن، والمعقول أن السُّودان في كلِّ سنة تتأخر فيها زيادة النِّيل يقاسم مصر كلَّ ضرر ينجم عن تأخر وقت الزراعة.

هذا الجدول أثبت في هذا التَّقرير وجعل الذيل «د».

إنَّ حالة الفيضان في سنة ١٩١٥ يمكن أن تعتبر أردأ الحالات التي يلائمها العمل بالترتيب المقرَّر في كتاب «ضبط النيل»، كما يمكن اعتبار فيضان سنة ١٩١٣ أردأ فيضان ممكن، وقد يكفي في تحقيق الغايات التي تتوخاها اللَّجنة — تدرج يعمل به في تأخير فتح ترعة الجزيرة بنسبة تقصير الفيضان عمَّا وصل إليه في سنة ١٩١٥، ومثل هذا الجدول يمكن استنباطه من الأرقام الواردة في الذيل «ﻫ» من ذيول هذا التَّقرير، وهذه الأرقام تدل على أنه في سنة ١٩١٥ وسنة ١٩١٣، وفي التَّاريخ الذي يمكن فيه للسُّودان سحب الماء يبلغ مجموع تصرُّف النِّيل الأزرق وتصرف النِّيل الأبيض معًا ١٤٢ مليون متر مكعب يوميًّا، ومعدل التَّصرف ١٦٠ مليونًا أخذًا بالأحوط أن لا تستمد ترعة الجزيرة ماءها من التَّصرف الطَّبيعي إلَّا بعد أن يبلغ معدل التَّصرف في خمسة أيام ١٦٠ مليونًا في اليوم في سنار وملكال مع تقديم تاريخ ملكال عشرة أيام.

والواقع أنَّ اللَّجنة وإن قدمت هذا الاقتراح من باب توخي العدل والمساواة في المعاملة لا تعتقد أنَّ مصر يلحقها ضرر يُذكر إذا جرى العمل في مشروعات السُّودان على النحو المبيَّن في كتاب «ضبط النيل» بلا نظر إلى حالة الفيضان. ثمَّ إنَّ اللَّجنة كما قدمنا لا تميل إلى التعقيد الذي قد يجرُّ إلى استعمال جدول التَّدرُّج، غير أنَّها ترى حالة الفيضان في هذه المسألة بالذات عاملًا ذا أثر مباشر كما ترى العمل بهذا الجدول سهلًا، وهي لا تتوقَّع صعوبة ما في العمل به عند الحاجة إليه وهي نادرة. لهذا تشير باتباع هذه الطريقة إذا بدا لجهات الاختصاص أن لا تتقيَّد بالتاريخ الثابت وسهولة العمل به.

(٨-٦) الفيضان

إذا استقرت زيادة النِّيل في النِّصف الثَّاني من يونية كما قدَّمنا بقي النَّظر في مقدار المياه — إن وجدت — التي يمكن أن يأخذها السُّودان علاوة على المقادير المقررة لمشروع الجزيرة في كتاب «ضبط النيل» دون أن يترتب على اختصاص السُّودان بها الإضرار بمصلحة مصر أو الخروج عن القواعد التي تأخذ اللَّجنة بها. هذا وفي الرسم رقم ٢ و٣ و٤ بيان كمية المياه التي تنساب في البحر الأبيض في السنين المعتادة، وفي سنة ١٩١٥ وسنة ١٩١٣، وهما أقل السنين فيضانًا، وفي هذه الرسوم أيضًا بيان تأثير ترعة الجزيرة وملء خزَّان سنار وخزَّان جبل الأولياء. وقد وصل إلى علم اللَّجنة أن وزارة الأشغال العمومية قد وافقت على تفصيلات مشروع هذا الخزَّان بعد تنقيحه، هذا غير أنَّ اللَّجنة لم تعلم ما هي التفصيلات على وجه التحقيق.

وعلى هذا فما في الرسوم من بيان لملء الخزَّان هذا إنَّما هو افتراض من اللَّجنة الغرض الأكبر منه إظهار مقدار سعته بالنسبة لمقدار الماء الميسور في هذا الوقت. ولمَّا كان ماء النِّيل الأبيض خاليًا من الطَّمي فملؤه ممكن في أي وقت خلافًا لخزان أسوان وخزَّان سنار.

ترى اللَّجنة أنَّ ما يزداد على نصيب السُّودان من الماء ينبغي أن يكون بقدر معتدل، وإن كان الماء غير مستعمل كثيرًا في هذا الفصل. وإنما رأت ذلك لسببين: أولهما أن الضائع من المياه في سنار وجبل الأولياء مشكوك في مقداره الآن، ولا سبيل إلى تقديره بالدقة إلَّا بعد تشغيل الخزانين سنة أو سنتين، والثاني تأثير المناسيب في حياض مصر، وقد نظرت اللَّجنة في هذا الموضوع بدقة وأعدت الذيل «و» من ذيول هذا التَّقرير لتبيِّن به هذا الأثر الذي أحدثه عند السُّودان أخذ ١٠٠ متر مكعب و٥٠ مترًا مكعبًا و٢٠٠ متر مكعب أثناء فيضانات السنين ١٩١١ و١٩١٣ و١٩١٥ و١٩١٨. وقد كانت كلها فيضانات شحيحة، ولم يحسب الأثر الذي يحدثه ملء خزَّان جبل الأولياء بعد تعديله، ولكن من الواضح أنَّ أثر هذا الخزَّان في مصر يكون أكبر كثيرًا من أثر سحب المياه عند سنار حسب التَّقدير الحالي.

ومن الاعتبارات ذات الشأن التي لها دخل في هذه المسألة أن مياه الرَّي اللازمة لترعة الجزيرة لا تبلغ حدها الأقصى في أغسطس وسبتمبر، أي في وقت بلوغ الفيضان أقصاه، كما يُؤخذ من تجارب الرَّي بالطُّلمبات والقطن في السُّودان أن يزرع في أواخر يولية وأوائل أغسطس، ونظرًا لهطول الأمطار في هذا الوقت لا يحتاج إلى الريَّة الثَّانية إلَّا في أواخر سبتمبر. أما زراعة المواد الغذائية فتأتي بعد القطن. وعلى هذا فترعة الجزيرة مهما بلغ أقصى التَّصرف المقرَّر لها في زمن الفيضان لا يأخذ في الواقع إلَّا مقدارًا أقل من هذا التَّصرف في وقت ملء الحياض في مصر.

من المسلَّم به أن خزَّان جبل الأولياء ومشروع الجزيرة يترتب عليهما حتمًا انخفاض المناسيب في الصعيد، وهذا يستتبع صعوبة في ملء الحياض، وسيكون لهذين المشروعين مثل هذا التأثير في حياض السُّودان، واللَّجنة غير ميَّالة إلى أن تخوض غمار البحث في هذه المناسيب لتقرر إلى أي حدٍّ يمكن اعتبار المحافظة عليها حقًّا مقررًا.

على أن هذه المسألة قد تناولتها اللَّجنة على اعتبار أنَّها هيئة من المهندسين دعيت للاستئناس برأيها في مسألة عملية، وهي على هذا الاعتبار ترى أن ما يكون في النِّيل الأعلى من أعمال هندسية لتحسين الرَّي والاحتفاظ بالماء يجب ألَّا يتغيَّر إلى أجلٍ غير مسمى بمسألة مناسيب التَّصرف الطَّبيعي في النِّيل الأدنى، وأنَّ السُّودان يجب أن يتقيَّد في تحسين ريِّه لسرعة محدودة حتَّى يتيح لمصر فرصة اللحاق به، وهذا يكون بإنجاز الأعمال التي جعلت من نصيبها في البرنامج الأصلي.

ومع مراعاة ما جاء في الفقرة السابعة ترى اللَّجنة مستطاعًا في زمن الفيضان أن تؤخذ عند سنار المقادير الإضافية المبيَّنة بالجدول الآتي على أن يكون أخذها من أول أغسطس؛ فإنَّ أول أغسطس عند سنار يقابل تقريبًا ٢٥ أغسطس عند قناطر الدلتا، وفي هذا التَّاريخ تكون زيادة الفيضان قد توطدت وترع الوجه البحري قد وصلت إلى منسوبها الكامل، وتشير اللَّجنة بأن يكون أخذ هذه المقادير الإضافية تدريجيًّا بقدرٍ لا يزيد على ما في الجدول الآتي:

أقصى التَّصرف مقدرًا بالمتر المكعب في الثَّانية
السنة المقرر في البرنامج الأول «ضبط النيل» المقدار الإضافي المقترح المجموع
٢٥–٢٦ ٨٤ ٨٤
٢٦–٢٧ ٨٤ ٨٤
٢٧–٢٨ ٨٤ ٨٤
٢٨–٢٩ ٨٤ ٨٤
٢٩–٣٠ ٨٤ ١٢ ٩٦
٣٠–٣١ ٧٤ ٢٤ ١٠٧
٣١–٣٢ ٨٤ ٣٦ ١٢٠
٣٢–٣٣ ٨٤ ٤٨ ١٣٢
٣٣–٣٤ ٨٤ ٦٠ ١٤٤
٣٤–٣٥ ٨٤ ٧٢ ١٥٦
٣٥–٣٦ ٨٤ ٨٤ ١٦٨

ملاحظة: أقصى التَّصرف ٨٤ مترًا مكعبًا في الثَّانية في أغسطس وسبتمبر وأكتوبر ونوفمبر و٨٥ مترًا مكعبًا في ديسمبر.

ترى اللَّجنة أن ملء خزَّان سنار في مثل سنة ١٩١٣ قد يحتاج فيه إلى الخروج عن الخطَّة المقررة في كتاب «ضبط النيل» إذا كانت ترعة الجزيرة تأخذ المقادير الإضافية التي تقترحها، وأن يُنظر بدقة في برنامج ملء خزَّان أسوان في جميع السنين التي من هذا القبيل، ثمَّ يُعدَّل طبقًا للحالة، ولا تتوقَّع اللَّجنة صعوبة في تطبيق هذه الطريقة على خزَّان سنار.

ومقادير المياه اللازمة لملئه صغيرة بالنسبة إلى مقادير خزَّان أسوان، ولا ترى ضرورة لأن تقترح طريقة خاصة لهذا. بل تؤثر التَّخلي عنه إلى جهات الاختصاص تنظر فيه عند الحاجة.

(٨-٧) انخفاض النِّيل — يناير وفبراير

خصصت اللَّجنة وقتًا طويلًا في النَّظر فيما إذا كان ١٨ يناير هو اليوم الذي يصح جعله حدًّا لانتهاء زيادة النِّيل، وحاولت الاهتداء إلى تاريخ صحيح كما ترى في الذيل «ز» وبيان التواريخ المرافقة له، مسترشدة بمطالب الترع وتناقص مقادير الماء المار في قناطر الدلتا وسد رشيد ودمياط.

يمكن صرف النَّظر عن السنين الماضية البعيدة؛ إذ لا يصح الركون إليها وتطبيق حالتها على الأحوال الحاضرة، ولا يمكن اعتبار سنة ١٩١٧–١٩١٨؛ لأنَّها كانت خارقة للعادة إذا استمر الفيضان طول فصل الصيف، وإذا جعلنا السنين الباقية مجموعتين تبين لنا أنَّ الزيادة انقطعت في التواريخ المبيَّنة بعد:
تواريخ قناطر الدلتا التواريخ المقابلة لها في سنار
٢١ فبراير ٨ يناير
٢١ فبراير ٨ يناير

ففي المجموعة الأولى من السنين، وهي التي تدلنا على الأحوال الحاصلة عند تهيئة مشروع الجزيرة تأتي الطريقة التي تتبعها بتاريخ عند سنار هو نفس التَّاريخ الذي ارتآه واضعو المشروع، أي ١٨ يناير. لكن المجموعة الثَّانية تقضي أنَّ هذا التَّاريخ ٨ يناير.

ولكيما يزيد الموضوع تمحيصًا دعت اللَّجنة الدكتور هرست مدير مصلحة الطبيعيات، ومستر بوتشر مدير قناطر الدلتا إلى البحث في أصول هذا الوقت من السنة، على أن يستقل كلّ منهما عن الآخر ويتبع أصلح الطرق في رأيه، وطلبت منهما أن يختبرا صحة هذا التَّاريخ الذي قرره كتاب «ضبط النيل» ١٨ ياير. ثمَّ ينظرا إلى أي تاريخ يسمح ما يفصل من الماء بعد تشغيل جبل الأولياء بأن تعطى الجزيرة المقادير الإضافية التي تراها اللَّجنة ميسورة في فصل الفيضان، والغرض من مراعاة تأثير جبل الأولياء التمشي مع الرأي الذي تضمنته الفقرة ٤، وهو البحث عن وجود الماء الكافي لجبل الأولياء وما يتبعه من توسيع نطاق الرأي في مصر قبل أن تُعطى الجزيرة نصيبها من الماء.

ولقد بنى دكتور هرست بحثه على أرقام سنة ١٩٢٠، وهي من حيث الماء في شهر فبراير أقل السنين الست من سنة ١٩١٩–١٩٢٠ إلى سنة ١٩٢٤–١٩٢٥، وتجد الطريقة التي اتبعها والنتائج التي اهتدى إليها مبيَّنة في الذيل (ح) والرسم رقم ٥ الموافق له. ورأي مستر هرست هو أنَّ ترعة الجزيرة في الأحوال الحاضرة — أي بغض النَّظر عن خزَّان جبل الأولياء — يمكن أن تُعطي المقادير المقررة لها في «ضبط النيل»إلى ٢٢ فبراير في قناطر الدلتا، وهو يقابل ٢٠ يناير في سنار، فإذا اعتبر خزَّان جبل الأولياء دون مقدار الضائع كان هذا التَّاريخ ١٢ يناير في سنار، ويكون ٨ يناير إذا عمل حساب هذا الضائع. أما المقادير الإضافية للجزيرة فقد رأت اللَّجنة إمكان إعطائها للسُّودان إلى أول يناير في سنار إذا غُضَّ النَّظر عن الضائع، وإلى ٢٧ ديسمبر إذا عمل حساب هذا الضائع.

أما مستر بوتشر فقد اتبع طريقة غير هذه، وهي موضحة في الذيل (ي)، أساسها معدل السنوات الست من سنة ١٩١٨ إلى ١٩١٩ إلى سنة ١٩٢٣–١٩٢٤، والأرصاد في هذه السنين كما قدمنا غاية في التفصيل والصحة، ومما يجدر التنبيه له مقارنة هذه السنين بمعدل عدد من السنين أكبر، والذيل (ي) يدلُّ على أن معدل كمية الماء في ديسمبر ويناير من هذه السنوات الست يعادل ٩١ في المئة من نظيره في العشرين سنة الأخيرة، كما يدلُّ على أن السنوات الست كلها أقل من معدل العشرين سنة، ورأي اللَّجنة أن هذه السنوات تصلح أساسًا للتقدير.

لا تعلم اللَّجنة الطريقة التي تتَّبع في الانتفاع بالماء المخزون في جبل الأولياء، ورأى مستر بوتشر أنَّ هذا الماء يزيد في ماء مصر أثناء الصيف نحو ٢٢ في المائة، فافترض مثل هذه الزيادة في الماء اللازم كمصر في غير فصل الصيف أيضًا، والشك قائم في وقوع ذلك بالفعل، لكن لا نزاع في أنَّ هذا الافتراض يجعل التَّقدير في مصلحة مصر. وعند تشغيل كلّ من خزَّان سنار وخزَّان جبل الأولياء يوجد في الماء ما يسد المطالب كلها إلى ١٠ فبراير، وهو يقابل ٧ يناير في سنار، كما يدلُّ عليه الرسم رقم ٦ المعمول به في هذا التَّقدير، ويبقى بعد ذلك ٤٠ مليونًا، وهي الآن تنساب في البحر.

وفي هذا الرسم أيضًا بيان الأثر الذي يُحدثه سحب مقدار إضافي من الماء قدره ٨٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية بعد سحب المقرَّر لترعة الجزيرة بمقتضى كتاب (ضبط النيل)، وبعد زيادة المنزرع من أراضي مصر على أثر إنشاء جبل الأولياء، ولا يغيبنَّ عن الأذهان أنَّ هذا القدر الإضافي يمكن سحبه إلى ٥ فبراير في قناطر الدلتا، وهو ما يُقابل ٢ يناير في سنار دون التَّعدي على الماء المستعمل للآن في الرَّي، ويبقى بعد ذلك تصرُّف قدره ٧٥ مليون متر مكعب للملاحة في مصر وقت سد ترعها.

لبيان الحالة في هذا الفصل من السنة وعلاقتها من حيث الوقت بالحالة في سنار بطريقة أخرى قد أعد الرسم رقم ٧، وفيه التَّصرف اليومي لفرعي النِّيل في يناير وفبراير في السنوات ١٩١٣–١٩١٦ و١٩٢٠–١٩٢٣، وهي أقل السنين فيضانًا. كذلك بيَّن فيه مقادير الماء الذي يخزن في أسوان. فالرسم إذن يصور الحالة في هذا الفصل تصويرًا لا بأس بمبلغه من الكمال، وقد أثبت فيه أيضًا التاريخان ٣١ ديسمبر و٢٨ يناير، كلاهما عند سنار، وروعي في إثباتهما ما يلائم من زمن انتقال الماء.

وليلاحظ أن كلًّا من التَّقدير المذكور في الفقرة «٦٠» فيما يتعلَّق بالسنين الماضية البعيدة والتقدير الأول الذي عمله مستر هرست، كلاهما ينزع إلى تأييد الترتيب الذي جعل ترعة الجزيرة يستمد الماء من النَّهر إلى ١٨ يناير. وفي كلٍّ من هذين التَّقريرين قد غض النَّظر من تأثير خزَّان جبل الأولياء، على حين أن ما جاء بالفقرة ٤٠ من أن مشروع الجزيرة لا يختص بأولوية في الحقوق يقتضي أن لا يقل جبل الأولياء، وأن يعمل حساب المشروعين معًا. في هذه الحالة يكون التَّاريخ على حساب مستر هرست ٨ يناير. واللَّجنة وإن أخذت بالرأي الذي أبدته في الأولوية لا تقبل أن تذهب إلى حد القول بتطبيق هذا الرأي على الماضي، وجوب تعديل أساس كلِّ مشروع ثمَّ تبعًا لما يجدُّ من قاعدة أو معلومات أو طريقة تقدير.

ولنرجع إلى تقدير مستر بوتشر، ويوجه النَّظر إلى أهمية إقامة السدين في هذا الوقت من السنة. هذه العملية تستدعي مقادير عظيمة من الماء بها يبقى في فتحة السد تيار يكفي لسد ماء البحر عن مجرى النَّهر. والسد الآن يكون في فبراير في أغلب السنين، لكن تشغيل خزَّان جبل الأولياء ومشروع الجزيرة ستنجم عنهما زيادة الماء المأخوذ من النَّهر، ولم يقم السدان قبل موعد إقامتهما الآن، فلا مندوحة عن أن تؤخذ المقادير اللازمة لصد ماء البحر من الماء المخزون.

ومتى بُكِّر بإقامة السدين أمكن الانتفاع بالماء المستعمل الآن في صد ماء البحر في شؤون الرَّي في هذا الوقت، والواقع أنَّ هذا القدر داخل في اﻟ ١٤٠ مليونًا التي ذكرناها في الفقرة ٦٤ وقلنا إنَّها في متناولنا بعد ٧ يناير (تاريخ سنار)، وهو التَّاريخ الذي فيه أثر تعجيز الماء عن المطلوب. والترتيب المقرَّر في (ضبط النيل) يقتضي أن يكون لمشروع الجزيرة من ماء النَّهر ٦٩ مليونًا أو ما يقرب من أن يكون بالضبط نصف اﻟ ١٤٠ مليونًا التي في يدنا، وعلى هذا فيتغير زمن إقامة السدين، وهو على تقدير مستر بوتشر يصحب التَّوسع في الرَّي لا محالة. لا يكون القسط الأول من الماء اللازم للجزيرة مستمدًّا من الماء المستعمل الآن في ريّ مصر، وإن كان هذا القسط يؤخذ من تصرّف النَّهر حتَّى ١٨ يناير، واللَّجنة ترى في هذا التَّقدير تأييدًا للرأي القائل بعدم تغيير التَّاريخ الذي تقرر، وهو ١٨ يناير فيما يتعلَّق بمشروع الجزيرة.

أمَّا التَّاريخ الذي إليه يمكن سحب المقادير الإضافية فنتائج البحثين متفقة فيه اتفاقًا لا بأس به؛ إذ هو في أحدهما ٢٨ ديسمبر وفي الثَّاني ٢ يناير (سنار)، ورأي اللَّجنة أن يبقى سحب المقادير الإضافية إلى ٣١ ديسمبر، ويهمُّنا في هذا المقام أن نبيِّن أنَّ التطهير وغيره من الأعمال تقتضي في مصر سدَّ الترع كلَّ سنة قبل نهاية ديسمبر، وفتحها في أوائل فبراير. أمَّا التواريخ التي فيها فتح الترع فعلًا فتتوقف على الفراغ من الأعمال التي لأجلها سدت الترع. وسد الترع هذا ضروري في كلِّ سنة، ولا بُدَّ من حصوله في هذا الفصل لأنَّ أحوال القطر تأبى حصوله في غيره؛ فهو إذن من أخص مظاهر الرَّي في مصر. وفتح الترع بعد سدها كما قدمنا هو الذي يعلل سرعة اختفاء زيادة الماء في مصر في فبراير، كما يعلل حصول نقص الماء في تاريخ يكاد يكون ثابتًا. لهذه الاعتبارات ترى اللَّجنة أن ترعة الجزيرة لا تأخذ من ماء النَّهر مقدارًا ما إضافيًّا بعد الوقت المقابل لفتح الترع في مصر.

إنَّ الترتيب الذي بمقتضاه تستمد ترعة الجزيرة المقادير المقررة لها في (ضبط النيل) من تصرُّف النَّهر الطَّبيعي إلى ١٨ يناير، ولا تستمد مقادير إضافية بعد ٣١ ديسمبر. هذا الترتيب قد يزداد وضوحًا إذا تبين الحد الذي لا يتعدَّاه السُّودان في سحب الماء من النَّهر في يناير بكميات الماء من غير اعتبار ليوم ١٨ يناير بالذات. ولقد قررت (ضبط النيل) للسُّودان ١١٧ مليون متر مكعب إلى ١٧ يناير، والذي تراه اللَّجنة أن لا يأخذ السُّودان في شهر يناير أكثر من هذا المقدار على أن لا يستأنف أخذ الماء من التَّصرف الطَّبيعي للنَّهر حتَّى ١ يولية كما بينا في الفقرة ٤٩. وعلى هذا فمن أول يناير إلى ١٥ يوليو يقتصر السُّودان على أن يأخذ من التَّصرف الطَّبيعي — وهو النَّهر — ١١٧ مليون متر مكعب خلاف المقادير القليلة التي ترفع بالطلمبات، وفي هذا الوقت من السنة تستأثر مصر بما يكاد يكون جميع الباقي من التَّصرف الطَّبيعي، وهو على حسب الذيل «ك» يصل إلى نحو ١٣٠٠٠ مليون متر مكعب عدا ما هو مخزون بأسوان وجبل الأولياء، وبتأمل الموضوع بعد هذا البيان تقل بالنسبة لمصر أهمية تحديد يوم من أيام يناير لا يتعداه السُّودان في سحب المقدار المقرَّر له في (ضبط النيل)، وهو ٤٫٥ ملايين متر من النَّهر يوميًّا، لكن تحديد هذا اليوم كبير الأثر بالنسبة للسُّودان الذي ليس له من مورد في فصل الانخفاض في خزَّان سنار سوى نحو ٥٠٠ مليون متر مكعب، واﻟ ١١٧ مليونًا المقررة له من التَّصرف الطَّبيعي والمقدار القليل المخصوص للطلمبات.

قد فكرت اللَّجنة بعناية فيما إذا كانت تقترح ترتيبًا خاصًّا يعمل به في سني التقصير الشديد التي تشبه سنة ١٩١٣–١٩١٤، وفطنت إلى أن الجزيرة إذا لبثت في مثل تلك السنة تستمد ماء ريها من التَّصرف الطَّبيعي إلى ١٨ يناير، فالسودان على حسب طريقة التَّقدير المتبعة في هذا التَّقدير يكون لحدٍّ ما قد استمدَّ حاجته من ماء تحتاج إليه مصر. فلكي يحتاط للسنين التي من هذا القبيل لا بدَّ من اتخاذ مقياس أو دليل يهتدى به في أحوالها الخارقة للعادة، فيُعطى للسُّودان حصته بمقتضى جدول مدرج، كما توضع طريقة للتنبؤ بهذه الأحوال قبل وقوعها.

فكرت اللَّجنة في ترتيبات مختلفة، وبحثت فيها مع مصلحة الطبيعيات، ثمَّ نظرت إلى ضآلة مقادير المادة التي هي موضوع بحثها وإلى نُدرة السنين الشحيحة، وإلى أن الحكومة المصريَّة قد أقدمت نهائيًّا على خطة معينة لزيادة الانتفاع بمياه النِّيل، فرأت تلقاء ذلك كله أنَّ مثل هذا إنْ وُضِع لا يكون محقِّقًا للفائدة، بل هو يجرُّ إلى عناء في التنبؤ بالمستقبل من أحوال الفيضان، ويفتح باب خلاف وتشادٍّ، ثمَّ يحتمل أن لا يرجع إليه قط، واللَّجنة إذا أخذت بالحقائق الثابتة والاعتبارات العامَّة المبيَّنة في الفقرة ٤١ لا تقترح تغييرًا ما في الخطَّة الأولى التي تُجيز أن تستمد ترعة الجزيرة من التَّصرف الطَّبيعي للنَّهر إلى ١٨ يناير مقادير الماء التي تكررت لها من أول الأمر في كتاب (ضبط النيل).

لكن الاعتبارات المبيَّنة في الفقرة ٤١ لا تسري على المقادير الإضافية، واللَّجنة لم تجد بُدًّا من أن يكون للسنين الشحيحة دخل في الآراء التي تُبديها، ولو جرَّ ذلك إلى جدول التَّدرُّج ومتاعب العمل به، وإن هناك فرقًا كبيرًا بين أخذ الماء عند سنار في الثمانية عشر يومًا الأولى من يناير وبين أخذه في ديسمبر؛ لأنَّ المأخوذ في يناير قد يؤثر في كمية مياه الرَّي اللازمة لمصر، على حين أن المأخوذ في ديسمبر لا يشعر بأثره في مصر إلَّا في وقت سد الترع، وهو وقت انسياب الماء في البحر الأبيض، وليس فيه مصلحة تُراعى إلَّا مصلحة الملاحة. فالمقياس الذي يستأنس به عند التَّفكير في تحديد التَّاريخ الذي فيه ينبغي الكفُّ عن سحب الماء الإضافي من التَّصرف الطَّبيعي، هو أثر هذا السحب في الملاحة في مصر.

لا وجود لتقدير حاسم في بيان كمية الماء التي يمكن اتخاذها حدًّا أدنى لما تطلبه الملاحة في وقت ما و(ضبط النيل) يقدر لها في يناير مقدارًا من الماء يتراوح بين ١٥٠٠ و٢٣٠٠ مليون خلف أسوان، وتقرير الأغلبية في لجنة مشروعات النِّيل يشير بجعل المقدار اللازم للملاحة ١٥٠٠ مليون. وبمقتضى الترتيب المقترح في تقريرنا هذا يكون هذا المقدار كما جاء في الفقرة ٥٦ هو ٧٥ مليونًا في اليوم، أي ٢٣٠٠ في الشهر في الأحوال التي تقل بعض الشيء عن المتوسط، ولا سبيل إلى التَّمسك بهذا الحد الأدنى حتَّى في أردأ السنين، فلقد نزل التَّصرف في يناير سنة ١٩١٤ إلى ٤٠ مليونًا في اليوم عند قناطر الدلتا بل إلى أقل من ذلك.

ولقد اهتدت اللَّجنة إلى ترتيب آخر لطريقة بحث غير الطريقة التي تقدم ذكرها؛ ذلك أنَّ التَّصرف الطَّبيعي للنَّهر كما هو ظاهر من الرسم رقم ٦ بمعدل مليون متر مكعب في اليوم في آخر يناير عند القناطر يقابله آخر ديسمبر هو على وجه التقريب ١٤ مليونًا في اليوم، وعلى هذا فكل ما وقع في مصر في السنين الماضية يقع مبكرًا بأربعة عشر يومًا، وإذن يمكن الاتِّفاق على جدول تدرُّج بمقتضاه يقدم تبعًا لطبيعة الموسم تاريخ الكشف عن سحب المقادير الإضافية حتَّى يصير هذا التَّاريخ في السنين التي تشابه سنة ١٩١٣–١٩١٤ يوم ١٨ ديسمبر بدل ٣١ ديسمبر، وهو اليوم المحدد للسنين المعتادة.

يمكن اعتبار مجموع التَّصرف الطَّبيعي في أسوان في شهر ديسمبر مقياسًا يستدل به على حالة النِّيل، ولدينا لتحديد الأحوال التي يسري عليها تاريخ ٣١ ديسمبر تقديران؛ أحدهما الوارد ذكره في الفقرة ٦٣ يدلُّ على أن هذا التَّاريخ كان ينبغي أن يكون ٢٨ ديسمبر في سنة ١٩١٩–١٩٢٠، والثاني التَّقدير الوارد ذكره في الفقرة ٦٢، وهو يدلُّ على أن هذا التَّاريخ ٢ يناير، ولقد كانت جملة التَّصرف في ديسمبر من سنة ١٩١٩–١٩٢٠، ٤٤١٠ مليونات كما هو ظاهر من الذيل (ي). أما في السنوات الست التي اتُّخِذت أساسًا للتقدير الثَّاني، فقد بلغ معدل التَّصرف ٤٨٦٠ مليونًا، وإنه يناسب أن تجعل بداية جدول التَّدرُّج الذي تقترحه نحو ٤٧٠٠ مليون، ونهايته ٢٨٠٠ مليون، وهي جملة التَّصرف في سنة ١٩١٣–١٩١٤، فيكون التَّاريخ الذي يجعل حدًّا لاستمداد السُّودان القدر الإضافي، أي ٨٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية هو ٣١ ديسمبر في جميع السنين الشحيحة يقدم التَّاريخ بنسبة ٣ أيام عن كلّ ٤٠٠ مليون من الفرق ٤٧٠٠ مليون، ومقدار التَّصرف الفعلي للنَّهر في ديسمبر.

قد لا تخلو المقادير المترتبة على جدول التَّدرُّج هذا من تقريب يسير، لكن هذا الجدول قد استنبط من المعلومات التي بين أيدينا، وبني على الاعتبار الوحيد الذي يمكن مراعاته في هذا الفصل من السنة، وهو مطالب الملاحة غير الممكن تحديدها على وجه الدِّقة، وهذا الجدول يتَّفق مع الأرصاد، ويحقق غاية ترمي إليها اللَّجنة، وهي وضع نظام لماء السُّودان يمكن أن يتمشَّى مع طوارئ هذا الفصل التي لا يصح أن يسلم منها أحد الطرفين. وهذا سيضطر السُّودان إلى الاستمرار في السحب من النَّهر إلى آخر ديسمبر، على أن يرد ما زاد عن حقِّه فيما بعد حين يتسنَّى الحكم على حالة السنة.

لدينا اعتراضان خطيران على جدول التَّدرُّج هذا: الأول أنَّه قد يفتح باب الخلاف في الأرقام التي بني عليها، وقد يكون التقيد بتاريخ ثابت لا يحتمل الخلاف خيرًا من الأخذ بطريقة إذا استحسنت من الوجهة النظرية فهي قابلة من الوجهة العملية لأن تجرَّ إلى تشادٍّ بين الفريقين الآخذين بها، والثاني — وهو يعزز الأول — أن جدول التَّدرُّج هذا مبني على التَّصرف الطَّبيعي في أسوان، ومتى كان على النِّيل قبل أسوان خزانان آخران يشتغلان، فإنَّ تقدير التَّصرف الطَّبيعي في أسوان يكون أمرًا عسيرًا تدخل فيه عدة عوامل غير يقينية، لكن جدول التَّدرُّج مع ذلك كله هو خير وسيلة ترى فيها اللَّجنة ضمانة لتشغيل ترعة الجزيرة فيما يتعلَّق بالتوسع الزراعي على النحو الذي يلائم السنين الشحيحة.

(٩) الرَّي بالطُّلمبات وري الحياض في السُّودان

قدمنا في فقرة من الفقرات الأولى من هذا التَّقرير أنَّ ما يُروى بالطُّلمبات وما يُروى بطريقة الحياض من أراضي السُّودان قليل المساحة لا يعدُّ في موضوع بحثنا عاملًا من العوامل الكبيرة. لكنَّه مع هذا ينطوي على اعتبارات لها قيمة، وقد فكرت اللَّجنة فيها عامًا، ولا سيما في موضوع الرَّيِّ بالطلمبات.

قبل سنة ١٩٠٤ رخص للسُّودان — بعد موافقة الحكومة المصرية — بإدارة طلمبات تكفي لري ٢٠٠٠ فدان ريًّا دائمًا. ولما أُنشئ خزَّان أسوان في تلك السنة زيدت تلك المساحة ١٠٠٠٠ فدان، ثمَّ زيدت ١٠٠٠٠ أخرى بعد تعلية الخزَّان في سنة ١٩١٢؛ وإذن تكون جملة الأرض المسموح بريها بالطُّلمبات ريًّا دائمًا ٢٢٠٠٠ فدان، غير أنَّ هناك شيئًا من الخلاف في حقيقة مساحة هذه الأراضي منشؤه أنَّ بعض المستندات قد يؤخذ منها أنَّ اﻟ ١٠٠٠٠ فدان التي أُبيح ريُّها عند إنشاء الخزَّان يدخل فيها ما كان مسموحًا بريه قبل ذلك، على حين أنَّ غيرها من المستندات قد يُؤخذ منه أنَّ هذه اﻟ ١٠٠٠٠ فدان هي المسموح بريه بعد إنشاء الخزَّان خاصة. نعم إنَّ الفرق بين الاعتبارين ليس بذي شأن كبير. ولكن من رأي اللَّجنة أن تتفاهم جهات الاختصاص في هذه المسألة تجنُّبًا للخلاف في المستقبل.

ولقد أبدى المندوب البريطاني في اللَّجنة رأيًا في هذه المسألة، وهو أنَّه يصح قياسًا على ما كان في الماضي أن لا ترى الحكومتان البريطانية والمصرية ما يمنع من زيادة المساحة التي تُروى بالطُّلمبات ريًّا دائميًّا ٢٠٠٠٠ فدان بعد أن يتم سد جبل الأولياء. لكن هذه مسألة غير هندسية لا تكاد تدخل في موضوعات بحثنا على ما بيَّنا من أمرها في فقرة سابقة من هذا التَّقرير، فالبحث فيها يُثير مسألة أخرى هي: هل للسُّودان — بسبب موقعه الجغرافي لا غير — حقُّ السحب في التَّصرف الطَّبيعي للنيل في وقت تعجيزه.

وممَّا ينبغي التنبيه له أنَّ الرَّي الدائمي يجرُّ — لا محالة — إلى أخذ الماء في وقت انخفاض النَّهر، ومع أنَّ مساحة ما يُروى فعلًا في فصل الصيف كانت دائمًا أقل كثيرًا من المساحة المرخَّص بها فإنَّ هذا الاقتراح يُبيح للسُّودان سحب مياه تنتفع بها مصر الآن، ولكن اللَّجنة امتنعت من أن تُبدي رأيًا قاطعًا، ورأيها: أنَّ تسوية هذه المسألة من غير تدخل هيئة فنية أمر ليس بعزيز على الحكومتين البريطانية والمصرية؛ نظرًا لضآلة المقادير التي يقتضي ذاك التَّوسع المحدود في الرَّي الدائمي بالطُّلمبات أخذها من النِّيل في زمن انخفاضه.

وفوق هذا الرَّي الدائمي الذي ذكرنا أُبيحَ للسُّودان — بأمر من وزارة الأشغال المصريَّة — أن يرفع الماء بالطُّلمبات من ١٥ يولية إلى آخر فبراير (باعتبار تاريخ السُّودان) من غير تحديد المساحة، وحتى وقتنا هذا بلغ المنزرع بمقتضى هذه الإباحة نحو ١٦٠٠٠٠ فدان. ولقد دلَّ تمحيص الحالات الراهنة — كما هي مبسوطة في هذا التَّقدير — على أن موسم الفيضان — وهو الموسم الملحوظ في تلك الإباحة — لا يمكن اعتباره ممتدًّا إلى ما بعد نهاية ديسمبر (تاريخ سنار). وعلى هذا فالرفع بالطُّلمبات في زمن الفيضان، ينبغي طبقًا للقواعد التي أخذت بها اللَّجنة أن يقف في هذا التاريخ، ولكن الأحوال الزراعية تجعل الرَّي بالطُّلمبات قليل الجدوى إذا قُيِّد بهذه القيود، ومن ثمَّ لم تجد اللَّجنة مندوحةً عن النَّظر في وضع خطة للرَّي النِّيلي بالآلات في السُّودان يعمل بها في المستقبل، وتُراعى فيها القواعد المأخوذ بها في هذا التَّقرير والأحوال الراهنة لمياه النيل.

الحل القريب تعويض الماء الذي يُستعمل للرَّي النيلي بالطُّلمبات بماء من المخزون في سنار، والتَّعديل في طريقة تشغيل الخزَّان يأتي بكمية إضافية يمكن تخصيصها لهذا الغرض، وهي غير داخلة في المقادير المقرَّرة لمشروع ريِّ الجزيرة. ولقد كانت الخطَّة الأولى لتشغيل ترعة الجزيرة — وقد بيَّنا هذه الخطَّة من قبل — أنْ تبقى جارية من ١٥ إبريل إلى ١٥ يولية، وتستمد من مياه الخزَّان الماء اللازم للأهالي في المنطقة المنزرعة، ولا بُدَّ في هذه الحالة إذن من أن يبقى منسوب الخزَّان بطبيعة الحال عند الحدِّ اللازم لإمداد ترعة الجزيرة بهذا القدر من الماء، ومنسوب التِّرعة بالنسبة لمنسوب النَّهر الطَّبيعي يقتضي في هذه الحالة أن يُحبس في الخزَّان على الدَّوام نحو ١٥٠ مليون متر مكعب من الماء، ولو أنَّ الماء اللازم للأهالي يُرفع بالطُّلمبات لأمكن إطلاق هذا القدر المحبوس في الخزَّان ليجري في النَّهر ويعوِّض ما يُؤخذ منه بالطُّلمبات بعد انتهاء موسم الفيضان، أي بعد آخر ديسمبر (تاريخ سنار).

ولا بدَّ من حبس هذا القدر ثانية في النَّهر في شهر يولية حتَّى يتسنَّى إعداد ترعة الجزيرة للموسم القادم، والرسم رقم (١) يدلُّ على أنَّه في الفيضانات العادية أو العالية لا يوجد أثر ذو بال في حالة المياه بمصر وفي الزمن القابل. وفي سني الفيضان المتأخر كثيرًا يمكن تأخير البدء بالموازنة في خزَّان سنار على حسب الترتيب المقترح في الفقرة ٥١ كي يعيد المقدار المسحوب قليلًا يمكن إغفاله، وهذا ليس بعزيز على جهات الاختصاص، واللَّجنة تشعر بأنَّ ما يطرأ أحيانًا من الحالات الشاذة يجب أن لا يتخذ ذريعة لنبذ الوسائل التي تلائم الأحوال المعتادة ولا تأباها السنون الرديئة، وعلى هذا فالذي تراه اللَّجنة أنَّ الطلمبات التي تعمل في موسم الفيضان إلى آخر فبراير يمكن أن يستمر التَّوسع التدريجي في الترخيص بها كما كان الحال في الماضي ما دام الماء الذي ترفعه بعد آخر ديسمبر يمكن تعويضه بالكيفية المتقدمة.

(٩-١) ري الحياض في السُّودان

في السُّودان حياض مساحتها نحو ٨٠٠٠٠ فدان. لكن لا يُغمر منها إلَّا جزء يسير.

هذه الحياض — فيما هو معلوم — غير صالحة لتحسين يذكر، وليس لها من الوجهة الزراعية كبير قيمة. ذلك أنَّ أراضيها عالية وطبيعتها تأبى ملأها من الترع الآخذة من النِّيل على مسافات بعيدة كما هو الحال في مصر. هذه الحياض سينالها شيء من الضَّرر بسبب سحب الماء عند سنار وجبل الأولياء. لكن القضايا التي تقدمت عند الكلام في حياض مصر تصدق هنا، واللَّجنة لا تعدُّ ريَّ حياض السُّودان ركنًا كبيرًا من أركان الموضوع الذي تعالجه، ولا تجد داعيًا لأن تُدلي بآراء فيه خاصة.

(١٠) الخُلاصة والكلمة الختامية

يمكن تلخيص أهم آراء اللَّجنة فيما يأتي:
  • (أ)

    يجب أن تختصَّ مصر بالانتفاع بتصرُّف النِّيل الطَّبيعي من ١٩ يناير إلى ١٥ يولية (تاريخ سنار)، مع مراعاة ما سيذكر بعد عن طلمبات السُّودان.

  • (ب)

    لترعة الجزيرة أن تبدأ باستمداد مائها من التَّصرف الطَّبيعي للنَّهر في يوم ١٦ يولية على أن يرفع منسوبها حتَّى يصل في ٣١ يولية إلى منسوب الرَّي المقرَّر طبقًا للجدول الذي وُضِع لهذا الغرض في كتاب (ضبط النيل)، والمُثبت هنا في الذيل «د»، بشرط أن يكون معدَّل مجموع التَّصرف عند سنار وملاكال قد وصل إلى ١٦٠ مليون متر مكعب في اليوم أثناء الخمسة الأيام السَّابقة، مع تقديم تاريخ ملاكال عشرة أيام.

  • (جـ)
    من أول أغسطس إلى ٣١ ديسمبر يمكن لترعة الجزيرة أخذ المقادير الآتية بعدُ من النَّهر، مع التزام التَّدرُّج المبيَّن بالجدول الوارد في الفقرة ٥٧ من هذا التَّقرير، وهذه هي المقادير:
    • من أول أغسطس إلى ٣٠ نوفمبر ١٦٨ مترًا مكعبًا في الثَّانية.

    • من أول ديسمبر إلى ٣١ ديسمبر ١٦٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية.

    وبشرط أنَّ جملة التَّصرف الطَّبيعي للنَّهر في ديسمبر عند أسوان إذا قلَّت في أي سنة عن ٤٧٠٠ مليون متر مكعب تُؤخذ من التَّصرف الطَّبيعي ٨٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية أثناء شهر ديسمبر كله، والباقي يؤخذ من التَّصرف الطَّبيعي إلى تاريخ يتقدم عن آخر هذا الشهر بمقدار ثلاثة أيام لكل ٤٠٠ مليون متر مكعب تنقصها جملة التَّصرف الطَّبيعي في تلك السنة عن اﻟ ٤٧٠٠ مليون متر مكعب.

  • (د)

    لترعة الجزيرة أن تأخذ في شهر يناير أكثر من القدر الذي قرَّره لها كتاب (ضبط النيل)، أي ٨٠ مترًا مكعبًا في الثَّانية، من أول الشهر المذكور إلى ١٥ منه، و٥٢ مترًا مكعبًا في الثَّانية من ١٦ إلى ١٨ من هذا الشهر، فتكون جملة المقرَّر لها ١١٧ مليون متر مكعب.

  • (هـ)

    (تمام ملء خزَّان سنار ورفعه من المنسوب اللازم لملء الترعة إلى منسوب التَّخزين المقرَّر يكون في نوفمبر طبقًا للبرنامج المقرَّر في كتاب ضبط النيل.

  • (و)

    كلُّ توسيع في الرَّي بالطُّلمبات أثناء الفيضان يقوم به السُّودان إلى آخر فبراير يجب اعتبار مائه مستمدًّا من خزَّان سنار بعد ٣١ ديسمبر، وبعبارة أخرى يطلق من الماء المخزون في هذا الخزَّان على سبيل التَّعويض لمصر مقدار من الماء يساوي بالحساب المبنيِّ على المعلومات الأكيدة ما استعمله السُّودان في زيادة المساحة المنزرعة، ويجب تشغيل خزَّان سنار بكيفية تضمن تدبير هذا القدر اللازم لتعويض مصر.

  • (ز)

    بعد آخر فبراير يقتصر عمل الطلمبات في السُّودان على الرَّي الدائمي المبيَّن بالفقرة ٨١.

(١٠-١) الكلمة الختامية

تتوقَّع اللَّجنة مسَّ الحاجة من وقت لآخر إلى إعادة النَّظر في المسائل التي تناولها التَّقرير، وهي ترى احترام كلّ نظام للرَّي قائم أمرًا لازمًا عند كلِّ نظرة مستقبلة في هذه المسائل، وترى على الأخص وجوب أن لا يعدو السُّودان في استمداد الماء من التَّصرف الطَّبيعي في يناير اﻟ ١١٧ مليون متر مكعب المقررة له في كتاب (ضبط النيل) عدا ما هو مقرر الآن من حقوقه في الرَّي بالطلمبات. أمَّا سوى ذلك من مطالبه إلى يولية فيكون تدبيره من ماء الخزَّان أو غيره من أعمال تدبير المياه.

ولقد قدَّرت اللَّجنة حقَّ القدر احتمال حاجة مصر في المستقبل بسبب توسيع نطاق ريِّها إلى أعمال ريٍّ تنشأ في السُّودان وما جاوره كأوغندا وكينيا وتانجانيقا. وعند اللَّجنة أنَّ لمصر من هذه الناحية أن تعول على المساعدة التَّامة تلقاها من القائمين بالأمر في السُّودان فيما يتعلَّق بالمشروعات فيه ومن الحكومة البريطانية فيما يتعلَّق بما جاوره من الأقطار.

لم تألُ جهدًا في التماس قاعدة للرَّي عملية التَّطبيق ولا في توقُّع ما قد ينشأ في المستقبل من صعاب، ولا في الاحتياط لهذه الصعاب ما أمكن الاحتياط. وهي لا يفوتها أن المستندات لا تخلو من نصوص قد تكون عند التَّطبيق غامضة لا يسهل تأويلها، ولا أن المسائل التي هي من قبيل مقادير الماء الذي يجري في نهر أو ترعة، أو يمر من عيون خزَّان أو يضيع بالتَّبخُّر أو التَّشرب لا يمكن أن تسلم من خلاف في حقيقة أمرها. ولكنَّ اللَّجنة لا ترى في مهمتها اقتراح طريقة خاصة يستأنس بها في مثل ذاك الغموض والخلاف، بل يُخيَّل إليها أنَّ ذلك لا يدخل في اختصاص هيئة فنية. لكنَّها تحب أن تثبت هذا المقام رأيًا — وتثبته بقوة — ليس للاتفاقات مهما أحكمت واحتيط في نصوصها للخلاف أن تحجب عن الفريقين الثقة والتعاون وما لهما من شأن خطير في كلِّ ما له صلة بالنيل ومياهه.

وختامًا؛ ترجو اللَّجنة توجيه النَّظر إلى أهمية المُثابرة على دراسة هذا النَّهر وتدوين الإحصائيات عنه تدوينًا منظمًا. وإنَّنا نرى نظامًا مائيًّا محكمًا قائمًا، وبقاؤه على الدَّوام قادرًا على أداء الغرض المقصود منه أمر ضروريٌّ لا غنى عنه فيما يجدُّ من تحسين الرَّي. وفي تنفيذ النُّظم المقترحة في هذا التَّقرير على الوجه الصحيح، بل لا غنى عنه في تنفيذ أيِّ أنظمة أخرى يمكن استنباطها.

تحريرًا بالقاهرة في ٢١ مارس ١٩٢٦.

إمضاء
المندوب المصري: عبد الحميد سليمان
المندوب البريطاني: ر. م. ماكجريجور

(١٠-٢) رأي الأمير عمر طوسون

في كتاب إلى حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا بالاعتراض على ما جاء في خطبته التي ألقاها بالمنصورة من أن منطقة السدود يقع بعضها في السُّودان وبعضها في الأملاك البريطانية. نشرته الجرائد المصريَّة بتاريخ ١٦ نوفمبر سنة ١٩٢٨، وها هو:

حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا رئيس مجلس الوزراء.

اطَّلعنا على خطبة دولتكم بالمنصورة، ولفت نظرَنا منها قولُكم عند ذكر جبل الأولياء: «ولقد درست وزارة الأشغال هذا الموضوع من مدة بعيدة، واسترشدت في درسها بكبار الفنِّيين حتَّى انتهت إلى وضع برنامج شامل لتحقيق مطالب الرَّي تضمن إقامة خزَّان بمنطقة جبل الأولياء في السُّودان، وشق قناة لتحويل مجرى النِّيل من منطقة السدود التي يضيع فيها كثير من الماء في غير جدوى، وهذه المنطقة يقع بعضها في السُّودان وبعضها في الأملاك البريطانية، ثمَّ خزَّان بحيرة ألبرت الواقعة في الأملاك البريطانية» — إلى أن قلتم — «ولو سلمنا بنظرية القائلين بوجوب وقف أعمالنا على النِّيل الخارج عن الحدود المصريَّة لتمشَّى حكم هذا التعطيل ليس على جبل الأولياء فقط لوقوعه في السُّودان الذي لا ننكر سيادتنا عليه. بل تتناول بالأولى مشروعات أعالي النِّيل بما فيها منطقة السدود الذي تقدمت وزارة الأشغال للقيام بالأعمال فيها بطلب مليون ومائة ألف جنيه في سنة ١٩٢٥، وأقرَّها مجلس الوزراء على هذا الاعتماد، كما أقرَّه البرلمان في سنة ١٩٢٦ في حين يعلم الجميع أن من هذه المنطقة ما يقع في السُّودان المصري، ومنها ما يقع في الأملاك البريطانية.

هاتان هما النقطتان اللتان لفتتا نظرنا بنوع خاص في خطبة دولتكم؛ ذلك أنَّ منطقة السدود المذكورة جميعها داخلة ضمن حدود السُّودان المصري القديم حسب ما كان عليه قبل الثَّورة المَهديَّة، وكذلك مخرج النِّيل من بحيرة ألبرت نيانزا المراد عمل السد فيها لجعل تلك البحيرة خزانًا هو أيضًا جزء من مديرية خط الاستواء المصريَّة، ظل محكومًا بمصر حتَّى آخر عهد أمين باشا، وهو آخر مدير لتلك المديرية السُّودانية المصريَّة إلى نهاية الحكم المصري الفعلي للسُّودان. وقد شمل الحكم جزءًا من شواطئ هذه البحيرة، وأقام فيه المعاقل العسكرية التي بقيت حتَّى شاهدها ستانلي في سياحته المشهورة عندما توجَّه إلى هذه الجهة لتخليص أمين باشا ظاهرًا ولمحو الآثار الباقية لمصر بتلك المنطقة في الحقيقة. ثمَّ توجَّه الكابتن لوجارد إلى هناك، واستخدم الجنود المصريَّة المتروكة فيها باسم الشركة البريطانية الأفريقية الشرقية، واستولى على أوغندة والقسم الجنوبي من مديرية خط الاستواء، وبسطت الحكومة البريطانية حمايتها على البلاد. ثمَّ عقدت بعد ذلك مع مصر معاهدة سنة ١٨٩٩. ولو احترمت هذه المعاهدة كما تدَّعي لكان أول واجب عليها إرجاع هذه البلاد وجعلها تحت إدارة حكومة السُّودان، حيث إنَّ هذه المعاهدة تشتمل عموم الأراضي التي يتكون منها السُّودان المصري القديم كما كان عليه قبل الثَّورة المهدية. ولكنَّها لم تفعل هذا الواجب ولم تراعه في تطبيق هذه المعاهدة، وهذا لا يجعلنا نعتبر عملها الذي استندت فيه إلى القوة وحدها عملًا شرعيًّا. فإنَّ إنكلترا التي أخرجت مارشان من فاشودة بحجة أنَّها جزء من السُّودان المصري ما كان ينبغي لها بعد ذلك أن تسلخ جزءًا منه لنفسها، وهذه الحجة لا تزال إلى الآن باقية. وإنَّنا كتبنا إلى دولتكم هذا محافظة على حقوق مصر وبيانًا للحقيقة. وتفضلوا دولتكم بقبول مزيد سلامنا.

١٤ نوفمبر سنة ١٩٢٨
الإمضاء: عمر طوسون

(١٠-٣) النيل في عهد قدماء المصريين

يقول الأديب محسن عبد الفتاح حسين:

كان قدماء المصريين يطلقون على نهر النِّيل اسم «حابي» “Hapi”، وهم لم يعرفوا مكان منبعه الحقيقي، وكانوا في تراتيلهم وتسبيحاتهم إلى إله النِّيل يصفونه ﺑ «الإله المختفي» و(غير المرئي)، وأنَّ مكانه السري غير معروف. والنهر الذي يشرف عليه هذا الإله (وهو نهر النيل) كانوا يعدُّونه جزءًا من النَّهر أو المحيط السَّماوي الكبير الذي تسير عليه قوارب إله الشمس كلَّ يوم. وكانوا يعتقدون أنَّ هذا النَّهر السماوي يحيط بجميع بقاع الأرض، ولكنَّه ينفصل عنها بسلسلة من الجبال، وأن على ناحية من هذا النَّهر يُوجد عرش أوزيريس تبعًا لنص من نصوصهم الدينية، وبجانبه فتحة في سلسلة الجبال ينحدر منها فرع من النَّهر السَّماوي ويسيل على الأرض، وكانوا يقولون: إنَّ المكان الذي يظهر فيه النِّيل هو عند الشلال الأول، ولكنْ في العصور الأخيرة من عهدهم كانوا يقولون: إنَّ النِّيل يرتفع وينبع من بين جبلين قريبين من جزيرة أنس الوجود، وقد أسمى هيرودوتس هذين الجبلين (كروفي) و(موفي)، وهذان الاسمان محرَّفان عن الأصل المصري وهو (كور حابي) و(مو حابي)، ومعناهما على الترتيب (كهف حابي) و(ماء حابي).

وكان قدماء المصريين يطلقون على كلٍّ من نهر النِّيل وإله النِّيل الاسم (حاب) أو (حابي)، الذي كان يُنطق في العصور الأخيرة (حوفي) أو (أوفي)، ومعناهما معروف. أمَّا في عصور الأسر الأولى فكان إله النِّيل يُسمَّى (حابور)، ومعناه (حابي الكبير).

والاسم (النيل) الذي يعرف به نهر القطر المصري ليس من أصل مصري، ولكنَّه في الغالب مأخوذ من الكلمة السامية «نهر، نهال» التي حرَّفها الإغريق إلى نهيلوس بالإغريقية وفيلوس باللاتينية، ومنها جاءت كلمة النيل.

ولمعرفة اعتقاد المصريين في قوة إله النِّيل تقرأ هذه التسبيحات — المقدمة لنهر النِّيل — وهي مكتوبة على ورقة من البردي محفوظة في المتحف البريطاني:

لك الإكرام يا حابي، إنَّك تظهر لكي تجعل مصر تعيش، إنَّك تروي الحقول التي خلقها رع، وتمد جميع الحيوانات بالحياة، وعندما تنزل من السماء فإنَّك تمد الأرض بالمياه بدون انقطاع، إنَّك صديق الخبز وكل ما يشرب، إنَّك تمدُّ الحبوب بالقوة وتجعلها تنمو وفيرة، إنَّك تملأ كلَّ مكان بالعمل — إنَّك سيد السَّمك، إنَّك خالق الحنطة والشعير، إنَّك حامي الفقير والمحتاج، وأنت إذا قهرت في السماء فإنَّ الآلهة ترتمي على وجوهها ويهلك الرجال وتموت النساء، وعندما تظهر على الأرض فإنَّ صيحات الفرح تملأ الهواء ويصبح جميع الناس سعداء؛ لأنَّ كلَّ شخص سينال طعامه، وكل سن ستمد باللحم «أي إنَّ الإنسان سيكون غنيًّا حتَّى إنه سيأكل اللحم»، وأنت الذي تملأ مخازن المنازل بالأطعمة ومخازن الغلال بالحبوب، وتساعد الفقير والمحتاج، إنَّك أنت الذي تجعل الحشائش تنمو وتجعل كلَّ إنسان غير محتاج للآخر.

وفي قطعة أخرى من هذه التسبيحة أيضًا قالوا: إنَّ الإله غير ممثل في تمثال، وإنَّ صوره ليست مرئية «فليس هناك مكان كبير يسعه. وأنت لا تقدر أن تعمل له صورة «أي تتخيَّله» في قلبك». وهذه الكلمات ترينا سبب قلة تماثيل هذا الإله. وفي الحقيقة إنَّ تماثيل إله النيل، كبيرة أو صغيرة، نادرة جدًّا.

أمَّا من حيث عبادة النِّيل فقد كان هناك احتفالان مهمَّان. أولهما في شهر يونيو، ويسمَّى «ليلة الدَّمعة Qorb en Hatiu»؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ في مثل هذا الوقت من السنة تبكي إيزيس ذاكرة نحيبها وندبها الأول على جثة زوجها وأخيها أوزيريس، فتسيل دموعها في النَّهر فتسبب زيادة مياهه وارتفاعها، وهكذا ينشأ الفيضان. وهذه العقيدة كانت لا تزال موجودة حتَّى بضع سنين مضت، ولكن في شكلٍ معدَّل، فكان المصريون — إلى منتصف القرن الماضي — يقيمون احتفالًا في اليوم الحادي عشر من شهر بؤونة «١٧ يونيو» يسمى «ليلة النقطة». ففي هذه الليلة كانوا يعتقدون أن هناك نقطة تسقط في النِّيل وتسبب زيادة مياهه وفيضانها. أمَّا الاحتفال الثَّاني فكان في منتصف شهر أغسطس، وهو ما يماثل الآن احتفال «العقبة» أو «قطع الخليج». فكانوا يبنون في الخليج سدًّا من التُّراب يبلغ ارتفاعه ٢٣ قدمًا، وعندما يصل منسوب مياه النِّيل إلى هذا العلوِّ، يأتي العمال قُبيل شروق الشمس في اليوم التَّالي لوصول المياه إلى ٢٣ قدمًا، ويُزيلون قليلًا من التراب من على قمة السد، ثمَّ يُؤتَى بقارب يركب فيه البعض ويجرفون تجاه السدِّ الذي يكون قد ضعف لإزالة قليل من التراب من على القمة، فينكسر وينقطع فتمر مياه النِّيل بقوة جارفة أمامها السد. وهذا الاحتفال يُشبه الاحتفال الذي يقوم به أهالي رأس البر ودمياط تمام الشبه.
ولم يكن النِّيل طبعًا يرتفع كلَّ سنة الارتفاع المطلوب، فكانت تنشأ من ذلك التَّحاريقُ وتتسبَّب المجاعات عنها. ففي عصر الملك زوسر — من الأسرة الثالثة — حدث أن انخفض النِّيل سبع سنوات، فنشأت من ذلك مجاعة هائلة نتج عنها أنَّ الجار كان يسرق جاره، وكان الشُّبَّان لا يقدرون على السير، والرجال الأقوياء يسقطون على الأرض من شدة الجوع، والعجائز يتمدَّدون على الأرض على ظهورهم منتظرين الموت، وتقول قطعة الصخر المنقوش عليها هذه القصة: إنَّ الملك زوسر كتب إلى حاكم إقليم الشلال الأول، لأنَّهم — كما ذكرت — كانوا يعتقدون أن النِّيل يرتفع من هناك، يطلب منه أن يسأل الإله خنوم Khnum، إله الشلال، لماذا يسمح بحدوث هذه الأشياء؟ وتستمر النُّقوش فتقول: إنَّ الملك زوسر عوَّل أخيرًا على زيارة جزيرة أنس الوجود، حيث قابله الإله خنوم الذي قال له: إنَّ سبب انخفاض النِّيل هو أنَّ الناس أهملوا عبادة آلهة الشلال. فوعده الملك بأنه سيعنى بذلك، وأنَّه سيأمر بتقديم القرابين إلى المعابد بانتظام. وقد وفَّى الملك بعهده؛ فارتفع النِّيل وغطَّى الأرض وسبب ازدياد ثروة البلاد. وهذه الرواية مأخوذة من نقوش على قطعة حجر من عصر البطالسة وُجِدت في جزيرة عند الشلال الأول. ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤